التعذيب والاستقرار الأمني
.
د.عصمت سيف الدولة .
على مدى عامين كاملين ( من أبريل 1978 حتى أبريل 1980 ) كانت إحدى محاكم
جنايات أمن الدولة العليا في القاهرة مشغولة بنظر قضية اتهام 176 مواطنا
بأنهم حرضوا الجماهير على أحداث 18و19 يناير 1977 ، التي كان يطيب لرئيس الدولة في
ذلك الوقت أن يسميها " انتفاضة حرامية ". وكان من بين شهود الإثبات
مجموعة من كبار المسئولين في جهاز مباحث أمن الدولة ، كان من بينهم مسئول النشاط
المناهض على مستوى الجمهورية كلها ، ورئيس فرع القاهرة ، ورئيس فرع بورسعيد ،
ورئيس فرع السويس ، ورئيس فرع بنها ، ورئيس فرع الإسكندرية، ، وكان كل أولئك
يشهدون على وقائع كثيرة وخطيرة وينسبونها إلي "التحريات ومعلومات المصادر
المؤكدة "، فأتيحت ـ ربما لأول مرة أمام القضاء ـ معرفة كيف يعمل هذا الجهاز
، أعني نظام عمله الداخلي ، وهي فرصة لم تفلتها المحكمة ولم يفلتها الدفاع فاستغرق
تحقيقها عدة جلسات وملأ لأكثر من مائة صفحة من محاضر الجلسات .
خلاصة
ما قاله أولئك الضباط الكبار في التحقيق الذي أجرته المحكمة أن جهاز مباحث أمن
الدولة واحد من أجهزة عدة تتبع وزارة الداخلية وأن له مديرا هو المسئول الأول ،
وأن أي ضابط تابع للجهاز لا يعمل منفردا ولكن يعمل كجزء من جهاز متكامل ، وأن له
فروعا تتلقى منه التعليمات والمعلومات ويتلقى منها ، وتعمل تحت إشرافه وبتكليف منه
. كما تتبعه أقسام فنية كالتصوير . وأن هذا الجهاز يستقي معلوماته من مصادر عبارة
عن أشخاص رسميين وغير رسميين بعضهم يختص بالاتصال بضابط واحد وبعضهم يشترك في
الاتصال به عديد من الضباط . وأن تحريات ومعلومات هؤلاء المصادر ترد إلي الجهاز
ذاته ويتلقاها أي واحد من الضباط يكون موجودا عند ورودها . ويتولى ضباط آخرون في
مواقع رئاسية على مستوى الفرع أو على مستوى الإدارة تجميع هذه المعلومات . وهناك
تخضع للبحث وتدخل في إطار تعميمات وتحليلات من جانب الجهاز نفسه . ثم ترصد في
سجلات وملفات تثبت فيها أسماء وعناوين ومهنة الأشخاص موضوع تلك المعلومات
والتحريات وتحفظ في مركز الجهاز بالقاهرة . وعلى ضوء ما ورد في السجلات توضع خطط
جاهزة تضاف إليها تعديلات على ضوء ما يجد من أحداث . وهى خطط متكاملة على المستوى
العام .
فإذا
رأى الجهاز أن يقدم إلي النيابة بلاغا عن واقعة أو وقائع وأن يسند إلى واحد أو
أكثر أو أن يستصدر إذنا بتفتيش المساكن أو مراقبة المراسلات أو الاتصالات ، عاد
إلي السجلات يستقى منها البيانات التي يوردها في البلاغ ، وتقوم رئاسة الجهاز أو
تكلف أحد الضباط بتقديم البلاغ . هذا التبليغ يتم باسم الجهاز كله وعلى مسئوليته
وليس على مسئولية المكلف بالتبليغ .
كان
كل هذا حصيلة إجابات السادة الضباط الكبار
على أسئلة دقيقة موجهة إليهم من المحكمة لم يتدخل فيها المحامون . حتى إذا ما
أينعت ثمرة هذا التحقيق وحان قطافها تدخل الدفاع ليسأل سؤالا واحدا عما إذا كان
الجهاز يبلغ النيابة عن كل المعلومات التي لديه كما تلقاها من مصادرها وكانت
الإجابة قاطعة بالنفي . وكان ذلك كافيا للإجهاز على الاتهام الذي أقامه الجهاز
وصدور حكم شامل بالبراءة .
أقول
هذا كمدخل لحديثي عن نظرية الاستقرار الأمني وعلاقتها بالتعذيب لأنني أريد أن يكون
حديثنا على أكبر قدر ممكن من الموضوعية وذلك باستبعاد جميع ضباط مباحث أمن الدولة
كأفراد من دائرة المسئولية عن فشل أو انحراف الجهاز نفسه ، والواقع ان ما عرفته
شخصيا من واقع الدراسة والخبرة العينية والمعايشة (خلال ممارسة السجن ) هو أن ضباط
مباحث أمن الدولة كأفراد أكثر من ممتازين علما ووعيا وثقافة وخلقا ولكنهم داخل
الجهاز يتحولون الى أدوات تستجيب بسلاسة وكفاءة لحركة هذا الجهاز الخطير ، ولقد
أنشأت بعد أول تجربة احتكاك مباشرة بهم في السجون كتاب صدر عام 1973 بعنوان "
إعدام السجان " أنصفتهم فيه فرادى ثم دعوت الى إنقاذهم من جهاز هم أول ضحاياه
. ومازلت على هذا الاعتقاد الذي يتأكد مع كل تجربة جديدة .
الموضوع
إذن جهاز ضخم شامل الدولة كلها على أكبر قدر من الكفاءة في اختراق حياة الناس
ويزداد كفاءة من يوم الى يوم تبعا لما يحصل عليه من أجهزة متطورة ومعقدة لا تدع
شيئا أو أحدا قادرا على الإفلات من دائرة بصره أو سمعه . ولقد حدث منذ عامين
تقريبا أن عرض المسئول الأول عن " المرور" على شاشة التليفزيون نماذج من
مقدرته على مراقبة ومتابعة حركة المرور في العاصمة فإذا بها عين تليفزيونية مثبتة في
أماكن خفية في الميادين وأركان الشوارع على وجه ينقل إليه في مكتبه كل حركة في أي
شارع . وطبيعي أن متابعة السيارات والطرقات ليست أكثر صعوبة من متابعة البشر في انتقالهم
في الشوارع ، والعبرة بمن الذي يراد مراقبته ومتابعته .
جهاز
محكم التنظيم وذو كفاءة عالية ، هذا لاشك فيه ، جهاز لا تسمح قواعد العمل فيه لأي
فرد كائنا ما كانت رتبته ، أن يسخره لتحقيق غاية خاصة ولا أن يملى عليه غاية
يحققها . هذا لاشك فيه أيضا ، فكيف تمكن معرفة "وظيفته " التي يسخر كل
من فيه وما فيه لأدائها ؟.. بالرجوع الى " نظريته " أو " عقيدته
" تماما كما نحاول أن نعرف ما يستهدفه كل منتم الى حزب من نشاطه فنعود الى
نظريته أو عقيدته .
ولقد
تناولنا في حديث سابق ( عدد الأهالي يوم 5/10/1983 ) نظرية الإجهاض الأمني وأوضحنا
كيف تؤدى تلقائيا وبدون حاجة الى أوامر تنفيذية الى ارتكاب جرائم التعذيب والتزوير
للحصول على أدلة على وقائع لا دليل عليها مما يقبله القانون لأنها لم تقع بعد .
ونريد أن نتحدث اليوم عن الوجه الآخر لنظرية الإجهاض وعلاقتها بالجرائم ذاتها .
هذا
الوجه الآخر هو ما يسمى ، أو يمكن أن يسمى ، بنظرية الاستقرار . ولاشك في أن الذين
تابعوا ويتابعون بيانات وتصريحات وزارة الداخلية منذ أكثر من خمس سنوات يجدون
ترديدا متفاخرا لمقولة أن وظيفة أجهزة الأمن هي تأمين الاستقرار في المجتمع
وحراسته . ( نشأت نظرية الاستقرار وأعلنت وتفاخر بها وزير الداخلية السابق على أثر
أحداث 18و19 يناير 1977 ).
فنسأل
: استقرار من ؟..
أولا : إن
يكن المقصود استقرار حياة الناس في علاقاتهم الاجتماعية ، الخاصة والعامة ، فإن
مقياس الاستقرار هو اتفاق هذه العلاقات مع القواعد الآمرة الناهية المفسرة المكملة
التي يتكون من مجموعها ما يسمى " القانون " . ولما كان خرق القانون ، أي
مخالفة القواعد الآمرة أو الناهية ظاهرة اجتماعية متكررة في كل مجتمع وفي المجتمع
الواحد فأنها لن تؤثر في الاستقرار طالما كان اكتشافها وتحقيقها وتوقيع الجزاء
عليها مستقرا هو أيضا على قواعد القانون الخاص بالإجراءات الجنائية والمرافعات
المدنية . إنما تضطرب حياة الناس في
علاقاتهم الاجتماعية الخاصة أو العامة ، وتهتز قواعد الاستقرار حين يصبح اكتشاف
الجرائم والمخالفات وتحقيقها وتوقيع الجزاء عليها متوقفا على " تقدير "
جهاز أمنى يعرف كل مواطن أنه بالغ من الكفاءة حد " تلبيسه " أية تهمة
حتى لو لم يتعرض له ، أعني أنه حينما تعطي أجهزة الأمن نفسها الحق في إنشاء فهم
خاص للاستقرار ووضع مقياس خاص للاستقرار ، غير الفهم القانوني وغير المقياس الذي
صاغه القانون في قواعد منشورة يعلمها الكافة ينعدم الاستقرار ، إذ لا يستطيع أحد
من الناس وهو يمارس حياته ويدخل في علاقات خاصة أو عامة مع غيره أن يعرف مقدما أن
ما يقوم به يتفق أولا يتفق مع مفهوم الاستقرار كما تراه أجهزة الأمن ، يطابق أو لا
يطابق مقاييسها الخاصة في ماهية الاستقرار .
إن
هذا يؤدى بنا مباشرة إلي مواجهة مشكلة قانون الطوارئ الذي قيل أن مدّه ستة أشهر
أخرى يخدم هدف المحافظة على الاستقرار الذي تقوم عليه أجهزة الأمن ، ما هو الجوهري
في قانون الطوارئ الذي يدفع كثيرين الى محاولة إيقاف العمل به ويدفع أجهزة الأمن
الى التمسك به ، أنه ما جاء في المادة 3 منه .
تقول
هذه المادة :
"
لرئيس الجمهورية متى أعلنت حالة الطوارئ أن يتخذ من التدابير المناسبة للمحافظة
على الأمن والنظام العام وله على وجه الخصوص (1) وضع قيود على حرية الأشخاص في
الاجتماع والانتقال والإقامة والمرور في أماكن أو أوقات معينة والقبض على المشتبه
فيهم أو الخطرين على الأمن والنظام العام واعتقالهم والترخيص في تفتيش الأشخاص
والأماكن دون التقيد بأحكام قانون الإجراءات الجنائية .(2) الأمر بمراقبة الرسائل
أيا كان نوعها ومراقبة الصحف والنشرات والمطبوعات والمحررات والرسوم وكافة وسائل
التعبير والدعاية والإعلان قبل نشرها وضبطها ومصادرتها وتعطيلها وإغلاق أماكن
طباعتها على أن تكون الرقابة على الصحف والمطبوعات ووسائل الإعلام مقصورة على
الأمور التي تتصل بالسلامة العامة أو أغراض الأمن القومي .(3)تحديد مواعيد فتح
المحلات العامة وإغلاقها وكذلك الأمر بإغلاق هذه المحال كلها أو بعضها .(4) تكليف أي
شخص بتأدية أي عمل من الأعمال والاستيلاء على أي منقول أو عقار . ويتبع في ذلك
الأحكام المنصوص عليها في قانون التعبئة فيما يتعلق بالتظلم وتقدير التعويض .(5)
سحب التراخيص بالأسلحة أو الذخائر أو المواد القابلة للانفجار أو المفرقعات على
اختلاف أنواعها والأمر بتسليمها وإغلاق مخازن الأسلحة .(6) إخلاء بعض المناطق أو
عزلها وتنظيم وسائل النقل وحصر المواصلات وتحديدها بين المناطق المختلفة..".
هذا
كله إذا لم تكن قد وقعت أي جريمة من أي نوع كان . أما إذا كانت قد وقعت جريمة
فهناك المادة 6 التي لا داعي لذكرها لأننا نريد أن نحصر الأمر في حالة عدم ارتكاب أي
مواطن أي جريمة ، أي حالة " كل المواطنين " ماعدا المجرمين ، هؤلاء
المواطنين " الطيبون " يعيشون حياتهم اليومية الآن وهم لا يعرفون معرفة
اليقين أن هناك أجهزة " تستطيع إذا أرادت ولأسباب لا يعرفونها " أن
تبعثر حياة أي واحد منهم في أية لحظة . نقول تستطيع وهذا واضح . ونقول إذا أرادت
لأنها قد لا تريد أو قد تريد ، ونقول لأسباب لا يعرفونها لأن قانون الطوارئ لا
يلزم أجهزة الأمن بأن تبلغ فريستها بأسباب افتراسه إلا بعد افتراسه فعلا . إن
السيد وزير الداخلية يكرر دائما أن قانون الطوارئ لا يطبق إلا في أضيق الحدود .
ونشهد من خبرتنا القضائية أنه صادق . كل ما في الأمر أن كل مواطن يتمنى أن يعرف ما
هي هذه الحدود الضيقة أو حتى الواسعة " ليستقر " في حياته . وما دامت
هذه الحدود مجهولة فليس إنسانا من يزعم أنه يعيش في مصر الآن " بدون خوف
" ربما من خطأ في تقرير أو خطأ في تقدير ولو كان خطأ بحسن نية ، فنستطيع أن
نقول مطمئنين أن مجرد وجود حالة الطوارئ ونقض هدف الاستقرار ، نعني استقرار حياة
المواطنين لأن قانون الطوارئ ينقص أسس استقرار الحياة في أي مجتمع بما ينقصه من
قواعد الإجراءات الجنائية المستقرة . أما استقرار الحكومة فسيأتي دوره.
فإذا
أضيف الى هذا أن هذه السلطة الهدامة للاستقرار مخولة لجهاز له نظرية خاصة في الاستقرار
فضغث على أباله وهو مثل معناه " بلية على أخرى ".
ومع
ذلك فللشكوى حدود . ففي كل العالم توجد حالات طوارئ وقوانين طوارئ يحتملها الناس
لخطورة أسبابها . ودستورنا يبيح إعلان حالة الطوارئ ( المادة 148) متى ..؟ لخمسة
أسباب محددة نصا على سبيل الحصر : (1) وقوع حرب.(2) قيام حالة تهدد بالحرب
.(3)حدوث اضطرابات في الداخل .(4) كوارث عامة .(5) انتشار وباء ( المادة الأولى من قانون الطوارئ رقم 162 لسنة
1958 المعدل بالقانون رقم 37 لسنة 1972 ). مع ملاحظة أنه فيما عدا قيام حالة
" تهدد " بالحرب يشترط في الأسباب الأخرى أن تكون واقعة فعلا . حرب
فعليه ، أو اضطرابات فعلية ، أو كوارث فعلية أو وباء فعلي . أما إعلان حالة
الطوارئ أو استمرارها من أجل الحفاظ على " الاستقرار " حتى لا تقوم
اضطرابات متوقعة حقيقية أو وهما ، فكما أن مقطوع الصلة بالدستور والشرعية والواقع
لا علاقة له بالمحافظة على الاستقرار لأنه ببساطة إشاعة الخوف بين الناس بحجة أن
هناك ما يخاف منه في المستقبل . أي استعجال إدخال الخوف في حياة الناس قبل أن تقع
أسبابه . الخوف من استعمال سلطة الطوارئ ضدهم والخوف من الاضطرابات أو الكوارث أو
الأوبئة التي تقول السلطة أنها تتوقعها . الخوف الأول هو الضغث والخوف الثاني هو
الأبالة .
فأين
الاستقرار؟ .
ثانيا : أما
إذا كان المقصود هو " استقرار " الحكومة فهو كارثة قومية حقا نعرف
أبعادها المروعة إذا بدأنا من البداية . والبداية أن الحياة في الدولة منضبطة
بسلسلة لا نهائية ـ تقريبا ـ من تلك القواعد الآمرة الناهية المفسرة المكملة التي
تسمى في مجموعها " القانون " . لا شئ في الدولة يفلت من النظام القانوني
من أول الدستور والتشريعات واللوائح والأوامر الإدارية . المفروض ، والواقع ، أنه
ـ فيما عدا الدستور ـ تضع الحكومة بمعناها الواسع القوانين وتنفذها ، مجلس الشعب
يضع القوانين والسلطة التنفيذية ( الحكومة بمعناها الضيق ) تنفذها . وإذا حدث خلاف
حول التنفيذ تحتكم في أمره الى القضاء .
والمفروض
، وإن كان لا يقع دائما ، أن هذا النظام يكفل للحياة في الدولة أكبر درجة من
الاستقرار ، أولا لأن كل واحد يعرف أن هذه القوانين هامة وأنها كما هي مطبقة عليه
مطبقة على غيره وبالتالي فإن الحكومة غير مسئولة إذا كانت قاعدة المساواة أمام
القانون لا تناسبه . وثانيا لأن كل واحد يعرف أن هذه القوانين قد وضعت لتحقيق
مصلحة الشعب كله أو أغلبيته فلا ذنب للحكومة إذا لم تحقق مصلحته الشخصية . وثالثا
لأن كل واحد يعرف أن الدستور هو الذي يضع الضوابط والغايات التي يستهدفها القانون
فلا ذنب للحكومة إذا كانت هذه القوانين غير مرضية له بل الذنب ذنب الدستور . وهكذا
يتكون ما يسمى الرضا العام بالخضوع للقانون ما بين قبول للقانون أو قبول لتنفيذه
ولو على مضض من جانب بعض الأفراد أو أقليتهم الذين يرضون به على أمل تغييره وهو ما
يجعل قابلية القانون للتغيير استجابة " للرأي العام " عنصرا أساسيا من
عناصر " الرضا العام " الذي هو وحده أساس الاستقرار .
على
أساس هذا الرضا العام تستقر الحكومة إذن ، لأنها في كل حالات الشكوى تكون "
بريئة " مما قد لا يعجب بعض الناس من القوانين التي تصدرها وتنفذها ما دامت
تتصرف طبقا للدستور وفى حدود القانون ومستعدة دائما لتغييره استجابة للرأي العام
وتحقيقا لمصلحة الأغلبية ، فيتجه الغضب من القانون الى القانون ذاته . ويعبر عن
ذاته فيما يقال له النقد أو " المعارضة " التي تستهدف استبدال قانون آخر
به أو تعديله . ولن ينكر أحد حينئذ أنها معارضة موضوعية ، وهكذا تدور عجلة الحياة في
الدولة دورانا مستقرا على محاور ثابتة : دستورية القوانين . وقانونية التنفيذ .
وحرية المعارضة . ويستحق النظام كله أن يسمى " نظاما " أي حركة منضبطة
بقواعد منظمة لاتجاهها ومضمونها وغايتها وسرعتها .
أما
إذا رأى الناس وسمعوا ولمسوا أن التنفيذ يتم على غير أساس من القانون ، أو أن
القانون يطبق على بعضهم ولا يطبق على البعض الآخر ، أو أن القانون لا يستهدف تحقيق
مصالح الشعب أو أغلبيته بل يحقق مصالح الأقلية أو الأفراد ، أو أن القانون قد خرج
عن الضوابط والغايات المحددة في الدستور فهي " الفوضى " . والفوضى لا تعي
أن الحكومة غير مستقرة بل تعني أن النظام كله ـ بما فيه الحكومة ـ غير مستقر . هنا
يكون عدم الاستقرار راجعا الى أسباب موضوعية يعبر عنها الناس همسا أو صياحا ، خفية
أو علنا ، كتابة أو قولا ، فرادى أو مجتمعين لا حيلة لهم في هذا لأنهم يعبرون عن
اضطراب حياتهم أنفسهم التي يستحيل أن تستقر في نظام غير مستقر .
إن
حدث هذا في أية دولة فما الذي تستطيع أجهزة الأمن ، مهما كانت كفاءتها أن تفعله ؟
لا شئ ، تستطيع ، خاصة إذا توافرت لها أسباب الكفاءة ، أن تكتمه في عقول الناس ، وتدفنه في ضمائرهم
، وتحبسه على ألسنتهم وتحملهم على اجترار مرارته . لتحول دون أية اضطرابات في
المستقبل . ولما كانت تلك الاضطرابات لم تقع بعد ، ولكن أجهزة الأمن "
بكفاءتها في جمع وتحليل المعلومات " تتوقعها فإنها تبادر الى التدخل في حياة
الناس قبل أن تقع وذلك بالاعتقال والحبس ، وتكون مطالبة من القضاء بتقديم "
أدلة " على أمر لم يقع بعد . هنا يكون الاعتراف هو الدليل الوحيد الذي يمكن
الحصول عليه . ولما كان مما يجافى طبيعة البشر أن يعترفوا على أنفسهم ـ كما قالت
محكمة النقض مرارا ـ يصبح التعذيب أو التزوير ضرورة سواء أمر به أو لم يؤمر .. ويلتقي
" الاستقرار " مع " الإجهاض " ليكونا سياسة خاطئة واحدة .
و
" نظرية الاستقرار " مثل " نظرية الإجهاض " عقيمة أي أنها لا تحقق
ما تعد به ، ففرض الاستقرار الذي لا يتوافر له أسبابه الموضوعية في مجتمع عن طريق
الإجراءات الأمنية " المنكرة " يزيف الواقع . فبينما يبدو كل شئ مستقرا
وهادئا في قمة الجبل الأخضر ومنازله وحدائقه تمور وتضطرب الحمم في جوفه بعيدا عن
حتى العيون التليفزيونية . ولا يكون فرضه أو حراسته أقل خطورة على الدولة والحكومة
والشعب جميعا من إخفاء أسباب الانفجارات وإضاعة فرص معالجتها قبل أن تنفجر. وهو ما
يعني أن فرض استقرار الحكومة يساعد ـ خفية ـ على الإطاحة بالحكومة فجأة .
من يكون في ريب مما نقول فليرجع الى عشرات الأحكام التي
أصدرتها محاكم جنايات أمن الدولة العليا بعد أحداث 18و19 يناير 1977 . لقد قبض على
الألوف من المواطنين وهم في بطون الشوارع ثائرين مدمرين مقاتلين وقدموا الى محاكم
أمن الدولة العليا في المحافظات في قضايا منفصلة أطلق عليها اسم " قضايا الشغب ". ثم قبض على نحو 500
مواطنا قدم منهم 176 الى محكمة جنايات أمن الدولة العليا في القاهرة في قضية أطلق
عليها " قضية التحريض " ( التي بدأنا الحديث بها) . وبعد شهور طويلة من المعاناة صدرت عشرات
الأحكام ببراءة المتهمين ، كان أسبقها ما صدر في قضايا " الشغب " ، قامت
البراءة في كل تلك الأحكام على أساس واحد اختلفت صيغة من حكم الى حكم وتوحد معناه هو : أن الرفع
المفاجئ للدعم المقرر للسلع بالرغم من وعود الحكومة كان استفزازا لشعب أرهقه
الغلاء فلم يستطع أن يعبر عن رفضه تلك القرارات وغضبه من إصدارها إلا بالخروج إلى
الشوارع والتظاهر ضدها مما أدى إلي الاضطرابات التي حدثت ولم يكن أحد من أفراد
الشعب يقصد ما تخلل تلك الاضطرابات من حوادث . وأن مبادرة الحكومة فور بداية
الأحداث إلي إلغاء قراراتها قد جاء متأخرا ومؤكدا أنها كانت منذ البداية قرارات
خاطئة وبالتالي كان الشعب معذورا .
وبعــــد
،
إن
استقرار الحكومات أو عدم استقرارها متوقف على معطيات وأسباب أعمق من أن تصل إليها أيدي
أجهزة الأمن ، وأكثر تعقيدا من أن تفهمها " المصادر والتحريات " وأبعد
ما تكون عن اختصاص أية وزارة داخلية في أية دولة . فلماذا تكلف وزارة الداخلية
أجهزتها مالا طاقة لها به ؟ وقد قال تعالى " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها
". وقال :" فهل من مذكر "
صدق
الله العظيم .
18/10/1983 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق