لماذا الحل القومي ..؟
الجواب سهل وبسيط ..وهو قائم بالاساس على
الملاحظة لما يجري في الواقع .. او كما يسمّى في ميدان البحث العلمي برصد الظاهرة
... وليس واقعنا بمعـزل عما جرى و يجري في التاريخ البشري في جميع انحاء العالم ،
حيث أصبحت الظاهـرة القومية ظاهـرة عامة لم يفلت منها اي مجتمع . ولعلّ المعـروف علميا ان الظاهرة الطبيعية
اذا تكرّرت بانتظام ، تصبح قانونا .. كذلك
الظواهـر في المجتمعات البشرية ، فانها لا
تتكرر اعتباطا او صدفة ، و انما هي تحدث كذلك بقدرة قادر .. يقول تعالى : " انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم " ..
وقد وقع ذكر الطور القبلي والشعوبي في القرآن الكريم ، وصفا للواقع القائم زمن نزول الوحي ، دون انكار
لهما .. بل تكررت الاشارة الى تعدد
الاقوام و الامم في عشرات الآيات القرآنية تاكيدا على ان ما تمر به البشرية أثناء
تطوّرها من طور الى طور ، ومن تنوّع و تعدّد ، هو من سنن الخلق التي ارادها الله
، وترشيدا للاختلاف بين الناس الذي يجب ان
يكون قائما على اساس الاعتراف بالآخر ، لان الاصل كما تشير الآية هو التعارف والتعاون وذلك جزءا من تقوى الله و
التقرّب اليه ..
لم تكن
الظاهرة القومية ظاهرة عربية لنقول انها فكرة شاذة او زائفة كما يدّعي الجاهلون ..
كما انها لم تكن
مجرّد فكرة غير ذات صلة بالواقع اذ اننا حيث ما شيّعنا بصرنا على وجه البسيطة
فاننا لا نرى الا الامم والقوميات التي تملا الارض . والواقع ان ذلك مدعاة للنظر والاهتمام
والتأمل بدل التجاهل والانكار : هل وُجد كل ذلك صدفة ام هو بتدبير محكم من لدُن
عزيز حكيم ؟ وهل هو مجرّد تنوّع ام هي آية من آيات الله يجب الوقوف عندها واحترامها واعطاءها المكانة التي تستحقها ؟
انّ الذين
يدّعون بان القومية بدعة اوروبية روّجها الاربيون لضرب دولة الخلافة ، هم لا
ينكرون فقط ظاهرة واقعية تجري تحت انوفهم ، بل يجهلون قوانين تطوّر المجتمعات ، ويزيّفون
كل الوقائع التاريخية .. اذ هم عندما
ينفون وجودها او يجعلونها فكرة وافدة ، لا يقولون مثلا كيف جاء المستعمرون الينا ليسقطوا
دولة الخلافة ، وهم مُفرزين قوميا فرنسيين وبريطانيين وايطاليين والمان واسبان ...
يتكلمون لغات مختلفة ولهم عادات مختلفة وتاريخ مختلف .. تماما كما نختلف نحن عنهم
في تلك المقوّمات التي تبرز شخصيتنا القومية ؟
ان هؤلاء يقولون ما يقولون لانّهم يجهلون ان دولة الخلافة
هي دولة امبراطورية قامت في حقبة زمنية سادت فيها الامبراطوريات .. فكانت حينها
دولة عصرية لانها تحمل كل خصائص الدول في عصرها .. ثم انتهت عندما اصبحت خارج
العصر ، شأنها شأن غيرها من الامبراطوريات وانتفت الى الابد خصائصها التي كانت
تقوم عليها لتحلّ محلّها الدولة القومية بخصائصها الجديدة .. ودولة الخلافة لن
تعود اطلاقا الا اذا عادت الامبراطورية الرومانية والبيزنطية والفارسية او اي نوع
من الامبراطوريات الجديدة !!! وهي لن تعود كذلك الا اذا عاد الاباطرة من أمثال الاسكندر
الاكبر وهرقل وهولاكو .. !!! وهي لن تعود ايضا الا اذا عاد حق الفتح الذي
كان سائدا زمن الامبراطوريات ليكون العالم
باكمله مفتوحا على الغـزو والغـزو المضاد ، واوّل شروطه ان لا تكون لاي دولة ارض
خاصة بها كما كان سائدا في تلك العصور .. !!!
ولذلك فان
هذه الافكار زيادة على كونها افكار مضحكة في هذا العصر، فانّها أيضا
أحلام و أوهام وقع حسمها نهائيا
منذ قيام عصبة الامم في نهاية الحرب العالمية الاولى ، وصولا الى ما تلاها من
تطوّرات بعد الحرب العالمية الثانية بتاسيس منظمة الامم المتحدة ، كمؤشر على تطوّر الوعي السياسي على النطاق العالمي الذي يتجسّد في الاحتكام
الى القانون الدولي لاحلال السلم العالمي
وحل النزاعات بين الدول ، رغم الحيف والهيمنة وسياسة الكيل بمكيالين التي
تتبعها القوى العظمى .. وقد كانت مثل هذه
النقلة النوعية ضرورية للايذان يقيام الدولة الحديثة على اسس قومية بالدرجة الاولى
، وهي ظاهــرة انسانية عامة اردها الله في خلقه
، وميّـز بها الشعوب ، بعضها عن بعض
، ليبقى دائما أكرمهم عند الله
اتقاهم .. وقد كان من سمات هذه المرحلة ان
تقوم تلك الدولة القومية على اساس الاختصاص بالارض بعد ان كانت هذه الخاصية غير
متوفّــرة في ما سبقها من أطوار .. ففي زمن القبائل كان الترحال هو السائد ،
فلا تهتم القبائل كثيرا بعنصر الأرض بقدر
ما تهتم بمورد الرزق المتمثل في الكلا و الماء .. اما في عصر الإمبراطوريات فقد
كانت الارض تمتد وتتقلص تحت اقدام الفاتحين في نطاق ما يعرف بحق الفتح الذي يرضى
بنتائجه الغالب والمغلوب ... لكنّ الامر
يختلف تماما في العصر الحديث .. حيث أن
الدولة القومية تقوم بالأساس على الاختصاص بالأرض أولا لتكون لكل امة أرض
محدّدة ومحدودة خاصة بها وحدها وبشعبها .. فتحرس حدودها للحفاض على امنها و سيادتها ...
كما تقوم
الدولة الحديثة ثانيا على أساس حقوق الشعوب في تقرير مصيرها و اعترافها المتبادل واحترام
بعضها البعض على اساس ما وقع الاتفاق عليه في القانون الدولي الذي اصبح يجرّم اي
اعتداء على الغير .. تلك نصف الاجابة عن
السؤال : لماذا الحل القومي ؟ اما النصف الثاني فان الحل القومي في واقعنا العربي
زيادة على كونه يمثل عودة للامر الطبيعي لامة مزّقها أعداؤها كما قال الزعيم
الراحل جمال عبد الناصر ، فانّه يمثل الحل الجذري لكل مشاكل التنمية والتخلّف معا
بما فيها من مشاكل البطالة والفقر والامية والامن الغذائي والصحّة .. وصولا الى
تحرير الارض وبناء ديمقراطية سليمة .. الخ
. وهي كلها مشكلات واقعية وصعـبة على النطاق الاقليمي ، التي لن تجد حلّها
الصحيح الا بقدر ما يتحقق لها من مكاسب تعـزّز
وحدة الامة .
لذلك فان الوحدة ستكون حتما هي الملاذ النهائي
للجماهير العربية في العقود القادمة بعد ان تستنفذ كل الامكانيات القطرية التي
ستكون جميعا فاشلة .. ولا شك وقتها انها ستختار بارادتها الحـرة ذلك
الحل الذي سيخلصها نهائيا من ندرة الامكانيات
لتتمكن بعدها من حل مشاكلها نهائيا نظرا لما تملكه امتها من امكانيات قومية
هائلة منها الثروات الطبيعية والطاقات
البشرية اللتان بهما تكون قادرة على صنع التقدم والرخاء والنهوض بالانسان ..
( نشرية القدس العدد 18 ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق