معارك ثورة يوليو ..
لقد خاضت
ثورة يوليو منذ السنوات الاولى معارك جدية وعلى اعلى مستوى مع قوى متعدّة في
الداخل والخارج كان ابرزها على المستوى المحلي الصراع مع الاقطاعيين ، الذين
واجهتهم الثورة دون خوف او تردد بتحديد الملكية وتطبيق قوانين الاصلاح الزراعي
الذي اصدرته الثورة بعد شهر فقط من قيامها .. كما واجهت الراسماليين وكل قوى الثورة المضادة من احزاب
رجعية وبقايا النظام الملكي .. أما على المستوى الخارجي فقد اصطدمت الثورة بالدول الاستعمارية الكبرى والصهيونية
والانظمة العربية الفاسدة .. عندما تصدّت
للاحلاف وافشلتها واولها حلف بغداد العميل لبريطانيا ، كما انّها بادرت بتقديم حل
عملي يمكّن الدول الصغيرة من اتباع سياسة مستقلّة ، حيث اسهمت في انشاء منظمة عدم
الانحياز التي استقطبت عددا كبيرا من الدول المتحرّرة حديثا كما اتّخذت خطوات
جريئة منذ السنوات الاولى للثورة في اتجاه بناء اقتصاد وطني حر وقوي ، عندما خاضت
الثورة معارك التاميم والتمصير للمنشئات العامة كالمصارف والبنوك ، ثم اتبعت طريق
التصنيع الثقيل ببناء المصانع الضخمة للحديد والصلب ، وانشاء المشاريع الحيوية
التي تساهم في النهوض بالزراعة كمشروع السد العالي .. الى جانب استرجاع الحقوق الوطنية
في اكبر مأسسة سيطر عليها وتحكّم من خلالها المستعمر في امن المنطقة ، واستغل مداخيلها لصالحه وهي قناة السويس التي
تمكنت مصر بعد استرجاعها من تمويل مشروع السد العالي العملاق الذي رفض الامريكان والغرب
عموما تمويله ...
وقد
ظلت الثورة تقاوم المؤامرات طوال ثمانية عشر سنة لم تخل فترة من خوض صراع بينها وبين
قوى في الداخل او في الخارج .. وأوّل تلك
الصراعات بدأتها قوى الداخل بقيادة الاحزاب الليبرالية التي لم تحرّك ساكنا تجاه
الملك حين كان يعبث بمقدّرات الشعب ، أو
تجاه الاستعمار البريطاني الذي كان يدير شؤون البلاد من السفارة البريطانية على مرأى
ومسمع منها .. ثم انظم اليهم الاخوان المسلمون الذين أرادوا صراحة احتواء الثورة ،
ولما فشلوا تآمروا عليها بكل الوسائل ،
بداية بمحاولة الاغتيال الفاشلة التي
نفذها الجناح العسكري للاخوان المسلمين في ميدان المنشية عندما كان جمال عبد
الناصر يلقي خطابا جماهيريا سنة 1954 .. وصولا
الى التخطيط للانقلاب والفوضى سنة 1965
..
وفي
سنة 1956 تعرضت مصر الى العدوان الثلاثي الذي اشتركت فيه فرنسا وبريطانيا واسرائيل بعد الاعلان عن
تأميم قناة السويس التي كانت تمثـّـل دولة داخل الدولة طوال فترة السيطرة الاستعمارية ..
ورغم
شراسة الهجوم العسكري ، فان مصر قد حققت نصارا سياسيا منقطع النظير بعد ان تم افشال كل مخططات الاعداء الذين ارادوا اسقاط
جمال عبد الناصر ، واستعادة السيطرة على القناة من جديد ..
وهكذا استطاعت مصر توظيف مداخيل قناة السويس في تمويل ذلك المشروع الذي رفض الغرب تمويله ، محققة بذلك تحديا تاريخيا بانجازها لاكبر مشروع تنموي دام بناؤه ما لا يقل عن عشر سنوات كاملة .. وهو ذلك الانجاز الذي حمى مصر من الفيضانات ومدّها بنظام الري العصري والدّائم بدل نظام الري الحوضي القديم حيث النقص في كمية الماء وعدم توفّـُرها كامل السنة ..
وهكذا استطاعت مصر توظيف مداخيل قناة السويس في تمويل ذلك المشروع الذي رفض الغرب تمويله ، محققة بذلك تحديا تاريخيا بانجازها لاكبر مشروع تنموي دام بناؤه ما لا يقل عن عشر سنوات كاملة .. وهو ذلك الانجاز الذي حمى مصر من الفيضانات ومدّها بنظام الري العصري والدّائم بدل نظام الري الحوضي القديم حيث النقص في كمية الماء وعدم توفّـُرها كامل السنة ..
كما خاضت ثورة يوليو معارك سياسية وديبلوماسية
حققت فيها نجاحات باهرة عندما تمكنت من افشال حلف بغداد (1955 ) الذي كان يسعى الى
جمع كل الانظمة العميلة في المنطقة ، لمواجهة
المدّ الثوري الذي اجتاح الوطن العربي والعالم خلال الخمسينات ، و بدأ يهدد وجود ومصالح القوى الاستعمارية
المتكالبية على ثروات العرب ، وخاصة عندما نجحت ثورة يوليو في تاجيج الثورات ضد
تلك الانظمة والاستعمار معا ، في كلّ من العراق وسوريا واليمن والجزائر وتونس ، وساندتها
بالمال والسلاح ، وقاتلت معها بجيوشها كما فعلت مع ثورة اليمن ..
كما حققت نجاحات لا تقل اهمية
ايضا عندما تمكنت مصر والهند ويوغسلافيا - في نفس تلك الفترة من منتصف
الخمسينات - من تأسيس منظمة عدم الانحياز
التي استقطبت اليها كل الدول المستقلة حديثا على غرار الدول الافريقية والآسيوية ،
ودول امريكا اللاتنية .. فكانت المنظمة
الجديدة قطبا ثالثا في مواجهة التبعـية
والخضوع للقوى العظمى التي تريد الهيمنة والسيطرة على تلك الدول
الناشئة .. وقد انعـقـد اول مؤتمر لها سنة
1955 بحضور 29 دولة من مختلف انحاء العالم
..
وقد
تواصلت نجاحات ثورة يوليو في نهاية الخمسينات وتحديدا سنة
1958 ، حين تمكنت الثورة من استقطاب اوسع قاعدة جماهيرية بين المحيط و
الخليج ، و قع تـتويجها بقيام اول وحدة في
التاريخ العربي الحديث بين مصر و سوريا وقيام الجمهورية العربية المتحدة .. الا ان
تلك الوحدة كانت هدفا للقوى المضادة التي
عملت جاهدة على افشالها ، الى ان تم لها ذلك سنة 1961 بايادي مجموعة انقلابية في
سوريا ثبت تورّطها مع دول عربية معادية
للوحدة مثل السعودية و الاردن و دول اخرى خارجية ..
كما
كانت فترة نهاية الخمسينات و بداية الستينات ، فترة تغيير جذري على جميع الاصعدة
حيث واجهت الثورة القوى الراسمالية التي جرّبتها طوال العشر سنوات الاولى ، و وقفت
على فشلها الذريع في حل مشاكل التنمية الى
جانب علاقاتها المشبوهة و تحالفها مع الرسمالية العالمية التي تريد ربط الاقتصاد
الوطني بنظام القروض و مشاريع صندوق النقد الدولي والخوصصة و السياسات الاقتصادية الاستهلاكية التي تحصر الاستثمار الرأسمالي في المجالات
المُـربحة للمستثمرين على حساب الفلاحة والتصنيع ... وبعد ان بدات الثورة مبكرا
بالاقطاع عندما اصدرت قوانين الاصلاح
الزراعي الاولى في 9 سبتمبر سنة 1952 و توزيع الاراضي على الفلاحين ، جاء الدور
على الراسماليين المستغلين حيث بدأت الثورة ساعية لتحقيق العديد من المكاسب للعمال
كتحديد الاجر الادنى ومنع الطرد التعسفي وتحديد ساعات العمل وتحسين ظروف العمال بتوفير
الصيانة والعلاج ، و اجبار المؤجرين على
الاعتراف بحقوق العمال أثناء العطل و الحوادث والتعويض عند الضرر ،والتقاعد ...
وصولا الى تتويج هذه المكاسب بصدور القوانين الاشتراكية سنة 1962 التي اخضعت
اقتصاد مصر للتخطيط الشامل تحت سيطرة الدولة ، بعد ان قامت بتاميم العديد من
المنشآت الضخمة التي كانت بيد كبار الملاك او بيد المالكين الاجانب على غرار كبار
الشركات والمصانع و البنوك و المصارف .. فتمكنت مصر بذلك من تحقيق اعلى درجات
النمو الاقتصادي في تاريخها ، و تحقيق الضروريات لكل فئات الشعب من تعليم وصحة وشغـل
وعيش كريم ..
ولم
تكتف الثورة بقوانين الاصلاح الزراعي الاولى بل اصدرت القوانين الثانية سنة 1961
حيث جعلت الحد الاقصى للملكية الزراعية 100 فدان بعد ان كانت 200 فدان حسب قوانين
1952 كما وقع تخفيض الملكية مرة ثالثة في قوانين 1969 حيث اصبح الحد الاقصى
للملكية 50 فدان فقط . علما وان
الاقطاعيين الذين أُخذت منهم الاراضي ، تلقوا تعويضا ماديا عنها من الدولة ،
كما وُزّعت تلك الاراضي على الفلاحين
بتسهيلات ميسّـرة على المنتفعـين ...
والغريب
ان القوى التي تتآمر على الثورة لم تكتف بما قامت به في السابق بل ظلت تخطط منذ بداية الستينات حيث كانت الثورة تقوم
بمعارك حقيقية ضد القوى الخارجية من ناحية و ضد اعداء الثورة من الاقطاعيين و الراسماليين في الداخل ، في
حين كانت قوى اخرى متمثلة في الاخوان المسلمين تحضّر وتهيّئ للفوضى بجمع الاسلحة والتخطيط
للتفجيرات التي يخطط لها تنظيمها المسلح باعتراف قادة الاخوان انفسهم ( علي عشماوي
/ التاريخ السري للاخوان المسلمين . عن
مركز بن خلدون للدراسات الانمائية ) والذي اعترف فيه بكل تفاصيل التنظيم السرّي
المسلّح الذي وقع انشاؤه ، كما اعترف باهدافه ونوع المساعدات التي كانوا يتلقونها
من دول معادية للثورة على راسها السعودية والاردن بايوائهم ومدهم بالمال والسلاح ...
لم
تهدا اذن معارك ثورة يوليو طوال عقدين من
الزمن كانت تتلقى فيهما المؤامرات تلو المؤامرات ، من قوى متعدّدة داخلية وخارجية
تعمل كلها متحالفة ، او ملتقية على نفس الاهداف ، وهي السّـعي لانهاء الثورة واسقاط
النظام .. ظهر ذلك في كل تلك المحطات ، التي كان ابرزها معركة 1967 التي ارادت من
خلالها اسرائيل والولايات المتحدة انهاء الثورة بضربة واحدة ودون مقاومة حيث قامت
اسرائيل بضرب القوات المسلحة المصرية
وخاصة الطائرات وهي جاثمة حتى لا تقدر بعدها على الرّد ، فتكون تلك الهزيمة
سببا في اسقاط النظام ، ومقدمة لفرض الاستسلام والاعتراف بالعدو .. غير ان ما كانت تخطط له اسرائيل والولايات المتحدة حصل عـكسه تماما
.. اذ ان عبد الناصر الذي توجّه بخطاب للجماهير العربية معلنا فيه مسؤوليته ، ثم تـنحّـيه
عن منصبه واعلانه عن استعداده لتحمّل
المسؤولية ، فوجئ كما فوجئ كل العالم بخروج ملايين البشر في مصر وفي الوطن
العربي يطالبون بالعدول عن الاستقالة .. وقد
تواصلت تلك المضاهرات العارمة يومي 9 و 10
جوان لتفرض على عبد الناصر التخلي عن قراره ..
وبالفعل فقد تراجع عن ذلك ، وعاد
للسلطة ، فبدأ اولا بتطهير مؤسسة الجيش ، وشرع في اعادة بناء القوات المسلحة ، ثم
دخل في حرب مفتوحة عُـرفت بحرب الاستنزاف
طوال نهاية الستينات .. الى جانب وضع الخطط المدروسة للحرب القادمة التي كانت
الثورة تنوي القيام بها سنة 1971 لولا وفاة قائدها في 28 سبتمبر 1970 .. وبذلك
دخلت مصر حرب 1973 التي حققت فيها نصرا ليس لمصر وحدها بل كان نصرا عربيا على
اسرائيل وقد بذل فيها عبد الناصر كل ما يملك من طاقات قبل وفاته ، باعتراف اغلب
القادة العسكريين ، كما أعاد ذلك النصر الاعتبار لكل مواطن عربي ، وللجنود والقادة
العسكريين ، مؤكدا صحّة تلك المقولات التي
كان عبد الناصر يردّدها دائما : ان كنا قد
خسرنا معركة فاننا لم نخسر الحرب ..
( نشرية القدس العدد 19 ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق