بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 27 مايو 2012

من الوحدة الى التجزئة ..


من الوحدة الى التجزئة ..


 قدم التتار سنة 656  هـ / 1258 م  فاحتلوا بغداد ، وعاثوا  في الارض فسادا ، ثم انتقلوا الى بلاد الشام فاحتلوا دمشق سنة 699 هـ / 1301 م  و نكــّــلوا باهلها تنكيلا وكانت عينهم على مصر التي بعثوا لحاكمها برسالة شديدة التهديد ..  ... لذلك فقد  استقبلهم العرب  جميعا مسلمين و مسيحين بالاسلوب المناسب  الذي يـُستعمل عادة ضد الغزاة  ..  فاعلنوا راية الجهاد ضدهم رغم اكتشافهم منذ البداية  بان كثيرا منهم مسلمون  .. لكن ذلك لم يغيـّر في اسلوب المقاومة شيئا اذ ان الامر كان بالنسبة للعرب دفاعا عن ارضهم  وعرضهم بقطع النظر عن هوية الغزاة او دينهم ..  و قد كان ذلك  بمشاركة  و  تحريض من  رجال الدين و العلماء و المفكرين الذين كانوا يتبعون الجيوش   و يحرضون الناس على الجهاد و من بينهم الشيخ  بن تيمية رحمه الله الذي كان يتنقل مع الجيوش و يخطب  في الناس ليرفع عنهم الحرج و التردد في مواجهة التتار المسلمين عندما بدأ بعض الناس يشككون في شرعية قتال التتار لأنهم يظهرون الإسلام ، فأصدر ابن تيمية فتاويه المشهورة في وجوب قتال التتار ، وكان يقول للناس : " إذا رأيتموني في ذلك الجانب ( أي في جانب العدو ) وعلى رأسي مصحف فاقتلوني " فتشجع الناس للقتال ، وقويت قلوبهم .

عندما حدث هذا الصراع الدموي الطويل المرير بين قوتين تــُـظهر كل منهما انتماءها  لامة الاسلام لكن يصدّ احدهما عدوان الآخر عن ارضه و دياره و اهله ، كان ذلك ايذانا بمولد الامة العربية من رحم دولة الخلافة الاسلامية ، التي ما لبثت ان نشات داخلها ثلاث قوميات مختلفة و متفاوتة منذ البداية  في مراحل و اطوار التكوين ..

انه الدليل التاريخي على وحدة الامة العربية و ظهور كيانها  الذي يدافع عن  ذاته كلما داهمه الخطر الخارجي .. اذ ان التتار الذين قدموا من اقصى الشرق لاحتلال بغداد  كان كثير منهم  يعتنقون الاسلام الذي وصلهم عن طريق التجّار العرب  وهم يتنقلون للتجارة ، لكنّهم في نفس الوقت يتصرّفون كمسلمين ، فيجد من يخالطهم  في سلوكهم  وأخلاقهم الاسلامية قدوة حسنة ثم في ما يتلونه على مسامع الناس من القرآن  وفي عقيدتهم  حجة قوية ، فيدخلون في الاسلام .. لكن تلك الشعوب و من حيث  انتماءها الى كيانات  توسعية بطبيعتها ، تأتمر بامر القائد الاوحد الجبّار الذي لا يسمع لغوا و لا يقبل نقاشا  ، لم تغيـّر شعائر الاسلام المحدودة عندهم من طبعهم شيئا ، لان الاسلام لم يكن يمثل شريعة الدولة كما هي عند المسلمين ، بل اقتصر على مجرد الاعلان عن الايمان و التوحيد .. و حتى عندما صار  الاسلام رابطة مشتركة بين التتار و العرب بعد الغزو ، حين أعلنوا انتماءهم لهذا الدين بصفة رسمية ، فصار منهم الدعاة الذين يرفضون صراحة التنكيل بالعرب المسلمين  ، لم يغير ذلك شيا من طبيعة الصراع رغم ظهور بعض الآراء التي كانت تنادي باحتوائهم بدل اخراجهم و مواجهتهم كغزاة .. و هو ما يؤكد ظهور عنصر جديد غير عنصر الدين ، و رابطة اجتماعية بين الناس غير الرابطة الاسلامية  ..  فلا يمكن ان تلغي احداهما الاخرى او ان تكون بديلا عنها  ، كما لا يمكن ان تكون مناقضة لها .. انها باختصار الرابطة القومية التي  كانت تحرّك الجميع  حتى قبل ان يدركوا سر ذلك التحريك الذي جعل  بن تيمية و غيره يتخذون موقفا تقدميا و ينجزون عملا ثوريا  حين قاموا غير مترددين بالدفاع عن امتهم  ضد غزاة يدّعون انهم مسلمون ...

و قد  نشأت امة العرب جنينا في نواة صغيرة  بالمدينة المنوّرة على عهد الرسول صلى الله عليه و سلم ، ليكبر بعد ذلك بالفتوحات في اطار دولة الخلافة ،التي ا تــــسعـت مساحتها حتى وصلت حدود الصين و أجزاء من اوروبا و كامل شمال افريقيا ، لكنها لم  تسفر عن تعريب الاتراك مثلا  و الاسبان و الفرس بل ان ذلك الامر قد اقتصر على السكان الذين وقعوا جغرافيا بين المحيط و الخليج ، لسبب بسيط  ، و هو ان الاسلام  قد ادرك العرب في مراحل دون التكوين القومي على عكس بقية الشعوب التي بدأت مكوناتها القبلية تنصهـر و تتـّحد لتتشكــّــل امما ،  فتبقى متميزة عن غيرها من المكونات الاخرى حتى و هي تشترك معها في دولة واحدة على مدى قرون طويلة دون ان يسفر ذلك عن تغيير في خصائصها القومية الا بالقدر الذي لا يعـيـق تطوّرها نحو اكتمال تكوينها القومي  و التي كان  من أبرزها عنصر اللغة ..  اذ ان الشعوب التي تقدمت اشواطا نحو التكوين القومي عند قيام دولة الخلافة مثل ايران ، فانـّها لم تاخذ من لغة القرآن غير الرموز المكتوبة ، في حين اصبحت تلك اللغة لغة رسمية لجميع  المكونات الاخرى الواقعة بين المحيط و الخليج  حتى بالنسبة للقبائل الغير عربية .. وتلك من أبرز سمات  الوحدة القومية ..
واذا علمنا ان الوحدة القومية لا تكتمل الا من خلال فترات طويلة من التفاعل التلقائي الذي يؤدي الى انصهار العديد من المكونات و الكيانات المختلفة ( القبلية و العشائرية و الشعوبية .. ) التي لا بد انها تجد مصلحة في انتقالها من الكيانات المتعددة الى الكيان الواحد ، فان ذلك الانتقال يضيف مضامين جديدة ثقافية و حضارية و تاريخية يقوى بها الكيان الجديد بحكم انها مشتركة و من صنع تلك الكيانت جميعا .. لكن تلك الاضافة لا تلغي ما تقدم من خصوصيات لتلك الكيانات السابقة الا بقدر ما يتحوّل منها الى تراث ، اوالى معالم تاريخية  هي في النهاية  ثراء للحضارة القومية حتى و ان كانت سابقة عليها .. لان الحضارة القومية اذا نظرنا اليها في سياق تطور و سير بالمجتمعات البشرية الى الامام ، فانها تصبح  اضافة الى الحضارات القبلية السابقة و ليست انتقاصا  منها  ، كما تصبح تلك الحضارات  القبلية و الشعوبية القديمة و تاريخها جميعا ليس مجرد تاريخ لكل منها على حدة ، بل هو تاريخ الامة باكملها التي لم تكتمل و لم تظهر الى الوجود الا بتلك الجماعات التي انتقل كل منها من الحضارة  القبلية الخاصة عندما كانت القبائل كيانات منفصلة الى الحضارة القومية الواحدة عندما انصهرت جميعا لتصبح امة واحدة ..
هذا عن الوحدة ، اما التجزئة فهي النقيض تماما  لما تقدم  ، اي الرجوع  بتلك الكيانات و المكونات كلها أو بعضها الى الوراء كما حدث للامة العربية عندما بدأ اقتطاع العديد من اجزائها  و تقسيمها منذ وقت مبكّر في نهاية القرن الثامن عشر . حيث لم يكن احد يعرف وقتها ما يدور في كواليس السياسة الدولية القائمة على تبادل المصالح ... ولما كانت الدولة العثمانية الضعيفة في تلك الحقبة لا تقدر على الحفاظ على وحدتها الا بقدر ما تقدم للدول الاستعمارية من تنازلات ، فان الاجزاء المقتطعة من الوطن العربي كانت ثمنا  تحافض به تركيا على وحدتها القومية مقابل التفريط في وحدة العرب  و منحهم هبة للمستعمرين ..  و رغم ان الاطماع الغربية قد بدأت منذ زمن بالحروب الصليبية الا ان  الشروع  حديثا في العدوان على امتنا قد بدأ بحملة نابليون على مصر سنة 1798 ايذانا بتحويل الاطماع الاستعمارية الى حقيقة   و واقع ملموس ، تحقق جزءا منه بالمناورة  و الدهاء و اكتمل الجزء المتبقي بالقوة و العدوان ...  فكان الاحتلال الانجليزي لمصر سنة 1882 ، واحتلال الجزائر سنة 1830 و تونس سنة 1881 و والسودان في 1898 .... لتنتهي تلك اللعبة بتقسيم الوطن العربي بأكمله على موائد المستعمرين في معاهدة سايكس بيكو سنة 1916  ..  ثم لم يطل العهد بتلك الكيانات جميعا حتى اصبح كل كيان منها في مواجهة الآخر أو عدوا له .. حسب المصالح و طبيعة الانظمة و القوى التي تدور في فلكها .. ليبقى الخاسر الوحيد هو الجماهير العربية التي ظلت تعاني من تبعات تلك السياسات الفاشلة و المؤامرات على مدى قرنين كاملين ... 
 ( نشرية القدس العدد 21 ) .
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق