الوجود القومي بين الوحدة والتفتيت ..
ان المتتبع لمسيرة
الشعوب في جميع انحاء المعمورة ، يلاحظ نشأة الأمم وبروز هويتها القومية منذ قرون ، بعد
فترات طويلة من الصراع الدموي والمعاناة التي وقع تتويجها بالاستقرار والتعايش ، والتعاون
بين تلك الجماعات المختلفة في اطار المجتمع القومي الواحد ..
والواقع فان
الوصول إلى تلك المرحلة المتقدمة من حياة الشعوب
لم يكن ليحدث عبثا أو صدفة ، ولم يكن ليتكرر بنفس الطريقة في جميع أنحاء
العالم ، لولا تأثير السنن والقوانين
الحتمية التي جعـلت تلك المسيـرة تـرتـقي من البنى الاجتماعية البسيـطة ، والغير
مستقـرة ، متمثلة في الأسر والعشائر والقبائل ، الى البنى الأكثر تعقيدا ، وهي الأمم
المتميّـزة عن سابقاتها بعاملي الاستقرار والاختصاص بالأرض ..
وبمثل هذا تكوّن الوجود القومي العربي واكتمل ، فصار حقيقة ماثلة وملموسة ،
لا ينكره الا جاهل أو جاحد .. وبذلك كانت التجزئة الناتجة عن معاهدة سايكس ـ بيكو
تمثل عدوانا صارخا على الوجود العربي بأكمله لا بد ان يردّ ، فكان مطلب الوحدة
والسعي لتحقيقها عملا ثوريا يهدف الى إعادة
الوضع الطبيعي لأمة جزأها أعداؤها ، وزرعوا فيها كيانا غاصبا يفصل شرقها عن
غربها ... كما نصّبوا على أجزائها حكاما عملاء يحرسون التجزئة ، ويستأثرون بخيراتها
وثرواتها تاركين الأغلبية العظمى من شعوبها تحت الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم .. ولما نهضت الشعوب للاسترداد حقوقها ، وثارت على تلك الحكومات المستبدة ، تقدمت القوى الرجعـية لخلط الأوراق والانحراف بتلك الثورات عن مضامينها التحرّرية ، جاعلة منها فوضى عارمة في كل مكان ، تنذر بالمزيد من الانقسام والتفتيت .. وهو ما يجعل كل محاولة للرجوع من جديد بالوجود القومي الى الوراء ، من خلال محاولات التفتيت بأي طريقة كانت ، ولأي غرض ، هو عدوان على الوجود القومي لا بد ان يرد أيضا ، بمواجهة النزعات الطائفية والعـرقية والقبلية على غرار ما يحدث اليوم في العديد من الاقطار العربية ، تارة باسم الثورة ، وتارة أخرى باسم الاسلام ، بينما الحقيقة غير ذلك في واقع الأمر ..
( نشرية القدس العدد 158 ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق