بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 12 أبريل 2015

نشرية القدس العدد 171 .

تحميل العدد 171 .


الوحدة العربية بين دعاتها وأعدائها .. (8) .

لنبدأ في هذه الحلقة من حيث انتهينا : لماذ فشلت الحركة القومية ونجحت الحركات الدينية في الوطن العربي ..؟ وهو سؤال  ذو شقين كما يبدو .. شق عن الفشل ، والشق الآخر عن النجاح .. مما يوحي بأن المسألة محسومة على هذا الوجه الذي يسير في اتجاه التراجع الجماهيري عن الولاء للمشروع القومي واتخاذها بديلا عنه المشروع الذي يعادي وحدة الامة ، وبناء نهضتها ، وهو غير صحيح .. اذ أن المجتمعات رغم أنها تتأثر سلبا أو ايجابا أثناء تطوّرها بواقع الناس ، فتشهد تسارعا أو ركودا خلال حركتها ، الا أن ذلك التأثر لا يمكن أن يقود الى نتائج مضادة لاتجاه تطور المجتماعت ، والواقع القومي هو تلك الحصيلة التي أفضى اليها اتجاه االتطور منذ قرون ، فلا يمكن أن يكون المجتمع العربي استثناءا ، ولا بد أن يعود مطلب الوحدة بأكثر حدة في المستقبل رغم كل العقبات الموجودة حاليا وذلك لعدة اسباب أهمها :      
ـ أولا : لأن المشروع القومي هو المشروع الوحيد الجامع ، الذي يمكن أن تحتمي به كل الكيانات الصغيرة ، وهو المشروع الوحيد أيضا ، الذي يستطيع أن يستوعب كل المتناقضات ، ويحافظ على التنوّع والاختلاف ، دون أن يشعر أي طرف بالهيمنة أو بالتهميش في أطار وحدة المجتمع والمصير القومي ، في ظل دولة قومية موحدة ، هي دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية ..
ـ وثانيا : لأن كل المشاريع المطروحة وأولها المشروع الديني هي مشاريع طائفية ، تفتيتية ، لا تؤدي في النهاية الا الى التفرقة والتقسيم ، إما على أسس ايمانية عند المتطرفين (مؤمنين وكفار مثلما يحدث الآن لبعض الجماعات في سوريا والعراق) أو دينية (مسلمين ومسيحيين ، .. كما حدث في السودان خلال فترة حكم الاخوان ، أو كما يحدث في لبنان منذ عقود مضت ) ، أو على أسس مذهبية ( سنة وشيعة وعلويين ويزيديين .. كما يحدث الآن في العراق واليمن وسوريا ) ، وهكذا الى ما لا نهاية .. على غرار الصراع الطائفي الذي امتد ـ عند البعض ـ منذ الفتنة الكبرى في عهد الخلافاء الراشدين الى اليوم ، بنفس الأحقاد ، ونفس الثارات ، ونفس الأساليب وكأن العالم لم يتغير أبدا ..           
ـ وثالثا : فان المجتمع العربي الذي ظل يواجه موجات الغزو والهيمنة منذ قرون ، لا يمكن ان يكون استثناءا ، فيفرّط  في أمنه واستقراره وثرواته التي تمثل مصدر عيشه حاضرا ومستقبلا .. وبالتالي فانه سيكتشف حتما ـ حتى ولو طالت معاناته ،  بأن التفتيت والتجزئة عاجزين عن توفير تلك الشروط اللازمة لبقائه وتطوّره ، وسيكون مطلب الوحدة اختيار الضرورة ان لزم الأمر، ولو بين أقطاره الأكثر فقرا ، وصراعات ، وتخلفا ..     

قد يتسائل البعض لماذا المقارنة بين الحركات الاسلامية والحركة القومية في حديث عن المشروع القومي ..؟
وقد يتساءل البعض الآخر لماذا لا يتم التقارب بين المشروعين في الوطن العربي ، لتحقيق الوحدة في اطارها القومي ومضمونها الاسلامي ..؟                                                                      
 قد تكون كل هذه الاسئلة مشروعة .. غير أن الهوّة بين المشروعين قد زادت في الآونة الأخيرة ، وبالتالي فان فرص التحالف بينهما باتت ضعيفة الى ابعد الحدود باعتبار الطبيعة الانعـزالية للحركات الاسلامية ، وتطرف شرائح كبيرة منها كما هو حاصل الآن في أماكن متفرقة من الوطن العربي .. فضلا عن ولائها لقوى اقليمية رجعية ، وقوى أخرى دولية معادية لمصالح الأمة ، الى جانب خياراتها الاقتصادية الليبرالية التي تتعارض مع خيارات الحركة القومية ..  

والواقع  فان الحديث عن النجاح والفشل ، يمكن أن يأتي في اطار محاولة الفهم لما يحدث في المجتمع العربي من تقلبات ، قد يرى فيها البعض حسما وانتصارا نهائيا ، وهو غير صحيح .. فالحلول الأكثر تخلفا ، يمكن أن تكون أكثر رواجا في فترة من الفترات .. مثلما حدث في المجتمعات الأوروبية التي عرفت اسوأ أنواع التخلف والتطرف حتى غرقت في تلك الحروب والصراعات الدموية التي راح ضحيتها  عشرات الملايين من البشر .. انتهت كلها بتوحيد أممها ، ثم بانتقالها الى قيادة العالم في مجالات العلم والتكنولوجيا والديمقراطية وحقوق الانسان .. 
( القدس ) . 

* لا مصيبة أعظم من الجهل .

* من أساء سمعا أساء اجابة . 

حاصر حصارك بالجنون وبالجنون
ذهب الذين تحبهم .. ذهبوا ..
فإما أن تكون
أو لا .. لا تكون  ..
حاصر حصارك لا مفر ..
اضرب عدوك لا مفر ..
حرٌ وحرٌ وحرٌ ..
( محمود درويش ) .
معقول أن نحارب الارهاب بكل الوسائل الممكنة ، الاعلامية والتعليمية والاقتصادية والتنموية .. بل لعل ذلك هو المطلوب فعلا في اطار سياسة شاملة ومحكمة للقضاء على تطرف  الفكر الوهابي المشوّه للاسلام  .. غير أن محاربة هذا التطرف بتطرف من نوع آخر، هو أمر غير مقبول وغير معقول مهما كانت الحجج والمبررات .. اذ ان المبالغة في تهميش القيم الدينية والحضارية للمجتمع من خلال البرامج التلفزية المنحطة ، والمبالغة في اشاعة التفسخ الحضاري من خلال التهريج الممنهج الذي تقوده بعض القنوات الفضائية في تونس ، هو أرضية ثانية لتطرف من نوع آخر ، أنتج كل الخراب الذي عانى منه المجتمع ، لكنه في المقابل  لم يفلح  ـ منذ التسعينات ـ  في استئصال ظاهرة التطرف الديني الهدّام ..   

» أنا الرّائد طيار رشاد ششة ... من سلاح الجو الملكي السعودي ... أطلب الإذن بالهبوط ... أطلب الهبوط لأمر مهم وخطِر. أكرّر: الأمر مهم وخطير   . «    
كان ذلك هو نص الاتصال الذي تلقاه برج المراقبة في مطار ألماظة (في القاهرة) من طائرة غامضة اخترقت المجالَ الجوي المصري، من ناحية البحر الأحمر، صباح يوم الثلاثاء 2 تشرين الأول 1962.  سُمِح للرائد ششة الذي كان يقود طائرة شحن عسكرية سعودية (أميركية الصنع من طراز «فيرتشيلد 123 ب») بالنزول، في مطار ألماظة ، برفقة معاونيه الملازم طيّار أحمد حسين ، والفني محمد أزميرلي . وبعد تفتيش طائرتهم، تبيّن أنها محمّلة بعشرين صندوقاً ضخماً، وبداخل كل صندوق اثنا عشر مدفعاً رشاشاً ، بالإضافة إلى مئات من الصناديق التي تحتوي على ذخائر حربية . وكانت كل تلك الصناديق تحمل رمزا واضحا: كَفان تتلاقيان ... وكان ذلك هو تماماً رمز المعونة الأميركية الخيرية للدول الفقيرة !
وقال أفراد الطاقم السعودي للسلطات المصرية إنهم يطلبون لجوءا سياسياً في مصر، لأنهم عصوا أوامر عسكرية صدرت لهم من رؤسائهم، وقضت بأن يطيروا من جدة إلى نجران في جنوب المملكة على حدود اليمن ، حيث عليهم أن يسلّموا حمولتهم، ويعودوا من جديد ليكرروا الرحلة المشحونة « بالمعونة الأميركية الخيرية» ثلاث مرات كل يوم . وقال الثلاثة إنهم شكّوا أولاً في طبيعة هذه الشحنات ، وفي الأطراف التي ستتلقاها منهم، ثم إنهم تحققوا أنّ الصناديق المموّهة بشعار المعونة الأميركية ، ما هي إلا أسلحة تجهّز كي يجري تسريبها إلى ميليشيات يمنية متمردة على سلطات صنعاء ، ولكي تكون وقوداً ضرورياً في إشعال حرب أهلية بين اليمنيين. وقال الثلاثة إنهم يأبون أن يُجعلوا وسيلة في إراقة دماء أبناء اليمن ، وإنهم يفضّلون أن يكونوا سبباً في فضح المكر السعودي السيّئ ضد جيران فقراء.
في الغد ، الأربعاء 3 تشرين الأول 1962، تكرر ما حصل بالأمس في ألماظة ، إنما هذه المرّة في مطار أسوان، حيث طلبت طائرة شحن عسكرية سعودية (من الطراز الأميركي نفسه) الإذن بالهبوط بحمولتها. وكان على متنها الرائد طيار محمد عبد الوهاب، والملازم طيار محمد علي الزهراني.
وبعد خمسة أيام ، في 8 تشرين الأول ، جاء دور طائرتين سعوديتين مقاتلتين، لجأتا بدورهما إلى مطار الماظة. وكان على متن الأولى الرائد طيار محمد موسى عواد، وعلى متن الثانية الرائد طيار عبد اللطيف الغنوري                    .
كان جميع هؤلاء الطيارين سعوديي الجنسية. ولقد أبوا أن يتحملوا وزر المشاركة في عدوان أسرة طاغية لنصرة أسرة ظالمة ضد شعب مظلوم.
مملكة السيف ومملكة الخناجر :
لم تكن العلاقة جيدة يوما بين آل سعود وآل حميد الدين الذين لطالما حكموا اليمن بأسلوب عزَلهُ خلف حجاب ثقيل من القمع والتجهيل والإفقار (1) حتى قام عليهم انقلاب عسكري يوم 26 أيلول 1962 أطاح مملكتهم المتوكلية. ولقد تحاربت الأسرتان الملكيتان في الماضي طويلاً، وكادتا بعضهما لبعض كثيراً، وكرهت كلتاهما الأخرى، وتوجستا من بعضهما بعضا دائماً. ثمّ استقرت الأحوال بينهما باردة بعد سلسلة حروب تلتها «اتفاقية صلح» بين السلالتين عام 1934. على أنّ الترفع السعودي الممزوج باحتقار لليمنيين ظل على حاله لم يتبدل، وكذلك بقي حقد آل حميد الدين الممزوج حسداً.
ولعل الضغينة بين السلالتين قد بدأت يوم خُيّل لعبد العزيز آل سعود في أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين، أنه يستطيع أن يوسّع حدود مملكته جنوباً من دون أن يثير حفيظة بريطانيا التي كانت قد حرّمت عليه التفكير في المساس بمحمياتها على شاطئ الخليج. وكان من بين الأسباب التي دغدغت مطامع عبد العزيز أنّ بلاد اليمن لم يكن عليها - على خلاف غيرها - وصيٌ أجنبي يذبّ عنها. فقد اتبع الإمام يحيى حميد الدين، عن حكمةٍ أو عن تصلب، سياسة النأي بنفسه عن الوصاية والأوصياء : أتراكاً كانوا، أو أعراباً، أو أحباشاً ، أو انكليزا                      ...
كانت غزوة اليمن، في ربيع عام 1934، آخر حروب عبد العزيز التوسعية . فقد وجّه نحو الجنوب جيشين سعوديين بقيادة ابنيه الأميرين سعود وفيصل. وكانت الخطة أن يلتف الجيشان حول اليمن ، في حركة كماشة للاستيلاء على هذه المملكة المعزولة الممتدة من عسير حتى حدود محمية عدن البريطانية . وكان ظن السعوديين أن غزوتهم ستكون نزهة للفارق الضخم في التسليح بين الفريقين . لكنّ المفاجأة التي لم تخطر لأحد، هي أنّ رجال جبال صعدة ببنادقهم القديمة لقّنوا جنود آل سعود درساً قاسياً في التكتيك وفي استثمار الجغرافيا، وفيما تقدّم جيش الأمير فيصل عبر سهل تهامة على ساحل البحر الأحمر بلا صعوبات تذكر؛ وقع الجيش السعودي الرئيسي في حملة اليمن، في سلسلة لا تنتهي من الفخاخ والكمائن الجبلية التي استنزفت رجاله، وشلّت حركته، وأعاقت تقدمه، بل أغلقت عليه حتى إمكانيات تقهقره ! ولم يكن جيش الغزاةالسعوديين الذي قاده الأمير سعود متعوّداً إلاّ القتال في سهول الصحراء، مما ألحق به في حرب الجبال هزيمة نكراء                              .
ولم يبق لعبد العزيز سوى أن يرضى بمغنم جيزان ونجران اللتين تنازل عنهما حاكمهما الشريف الإدريسي واستولى عليهما فيصل، وأن يطوي بقية أوهامه في بلاد اليمن، ويلعق جراحه، ويرسل ابنه خالد للتفاوض على شروط فك الاشتباك، وعقد اتفاقية سلام مع ممثلي الإمام يحيى. وجرى ذلك فعلاً، في الطائف، في شهر أيار 1934. وهناك توافق الطرفان على أن تكون خطوط فض الاشتباك بين الجيشين خطاً رسمياً للحدود بين البلدين، وعلى ألا يعتدي أحدهما على الآخر مستقبلاً، وأن «يكون التعاون بينهما على البِر والتقوى، بدلاً من أن يكون على الإثم والعدوان».
ولقد كان لافتاً كيف أنّ الإمام يحيى حميد الدين، وهو حاكم يابس الرأس، قبِل التنازل لآل سعود عن مقاطعتين لطالما عدّهما امتداداً طبيعياً لمملكته، برغم أنه لم يخسر المعركة العسكرية تماماً، بل إن خصومه هم الذين وحلوا في جبال اليمن. ولعل تفكير الرجل حينذاك كان منصرفاً نحو مسألتين : الأولى، أن يصرف فوراً عن بلاده أذى حملات سعودية كان لا بد أن تتوالى عليها. وكان يحيى يدرك جيداً أنّ جيوش الوهابيين، برغم خسارتها ، أكبر من جيشه عدداً، وأكثر عتاداً، وأوفر مالاً، وأغزر خبرة وتجربة. وأمّا المسألة الثانية التي فكّر فيها إمام اليمن، فهي أنه لن ينام أبداً على ضيم، وأنه سيستفيد من الزمن حتى تنشغل مملكة السيف عنه بشواغلها الأخرى، ثمّ إنه لا بد أن يقتنص فرصة سانحة لينقض بخنجره على عدوه، فيبلغ ثأره، ويورده قبره ، ويشفي صدره                  .
وفي صباح يوم 15 أيار 1935 (بعد عام بالتمام والكمال على اتفاقية الطائف) كان الملك عبد العزيز يطوف بالكعبة مصحوباً بولي عهده سعود، وفجأة داهمه ثلاثة رجال بخناجرهم وكادوا أن يذبحوه لولا أن تداركه سعود الذي دفعه أرضا ليحميه من الطعنات. وجُرح سعود في كتفه، وجُرح عبد العزيز في ساقه جرّاء قطعة رخام طيّرها رصاص حراسه الذين قتلوا المهاجمين. ثمّ تبيّن لاحقاً من التحقيقات أن الثلاثة كانوا جنوداً يمنيين، جاؤوا من تلك الجبال التي تعوّدت أن تقتص من أعدائها، ولو بعد حين !            
استنفار وهابي لنجدة حكم شيعي :
 استمرّ الحال بين آل سعود وأسرة حميد الدين فاتراً ثلاثة عقود أخرى، حتى اصطدمت السلالتان بتغيير دراماتيكي خطير، وذلك حين أعلنت إذاعة صنعاء في صباح يوم 26 أيلول 1962، حدوث «ثورة» في البلد، أسقطت الملكية وأئمتها، وأعلنت قيام الجمهورية العربية اليمنية                   .
لم يرض آل سعود عن هذا الوضع المستجد أبداً. فقيام الجمهوريات وإسقاط الملكيات في معقلهم بشبه الجزيرة العربية خط أحمر دونه فك الرقاب. وفجأة تذكّر السعوديون أنّ الإمام محمد البدر بن أحمد بن يحيى حميد الدين ما هو إلاّ الحاكم «الشرعي» لليمن، ويجب ألّا ينازعه منازع في مُلكه. وكذلك صدرت الفتاوى الوهابية عاجلة تتوالى وتزعم بأنّ الخروج على حكم الإمام (الشيعي/ الزيدي) يعد تمرداً آثماً على ولي الأمر الشرعي، وأنه يجب على كافة اليمنيين النفير لرد هذا الخطر الصائل على بيضة الدين وعلى أرواح العباد وأرزاقهم، وأنه يلزم على ساسة الأمّة التوحد والوقوف صفاً مرصوصاً لردع هذا التمرد الآثم ، ومقارعته بالحزم المناسب                         .
ولقد زاد اعتراف الجمهورية العربية المتحدة (مصر) بشرعية النظام الجمهوري الجديد في اليمن بعد يومين من انبثاقه، من سعار المملكة السعودية. وحين أعلنت وزارة الخارجية المصرية في بيانها أنّ القاهرة مستعدة لمساعدة اليمن وشعبه بما يمكّنهما من دخول العصر الحديث، وحين أعلن الاتحاد السوفياتي الأمر نفسه بعد أيام قليلة، فإنّ هياج السعوديين بلغ أقصاه. لقد كانت «المؤامرة الناصرية الشيوعية» على المملكة واضحة جلية لا لبس فيها في عيون آل سعود. وكان لا بد للرياض أن تتحرك بحزم ... بعاصفة من الحزم !
لجأ إمام اليمن إلى السعودية فارّاً من صنعاء التي ثار جيشها عليه. واحتفى السعوديون بهذا الطريد احتفاء بالغاً لم يألفه منهم حين كان مليكاً على بلاد وعباد . ولقد جاء الرجل إلى آل سعود مستنجداً بنخوتهم وشهامتهم العربية حتى يعيدوه إلى الحكم على أسنة حرابهم . وأجابه أهل النخوة والشهامة أن « أبشر» . وكذلك استقر المقام بالإمام البدر في نجران يدير منها عمليات حرب عصابات ضد الحكم الجديد . وسريعاً ما بدأ يتدفق عليه مَدَدُ الطائرات السعودية المحمّلة بصناديق المعونة الأميركية الخيرية ، وبالذهب اللازم لشراء الذمم، وبالريالات  ... وبدأ السعوديون يجمّعون حلفاً يساندهم في حربهم على اليمن. وكان لا بد لهذا الحلف أن ينال مباركة أميركا ، لكنّ واشنطن كانت مشغولة تلك الأيام بأزمة الصواريخ الكوبية، فلم يكن في إدارة الرئيس كينيدي بالٌ واسع لسماع وَلـْوَلات آل سعود الشاكية من المدّ الناصري (الشيوعي) الذي يسعى لكي يطوقهم من كل جانب . ولجأ السعوديون إلى حلفائهم القدامى الإنكليز ليعينوهم في هذه المحنة الجديدة .. وبدت للندن أسبابها الخاصة لقبول مساعدة آل سعود ، فمصالحها في محمية عدن قد تتضرر بعدوى الدعاوى الرائجة في ذلك العصر كوجوب فرض الاشتراكية ونظام التأميم ، والنداء إلى وحدة القومية الدعاوى الرائجة في ذلك العصر كوجوب فرض الاشتراكية ونظام التأميم، والنداء إلى وحدة القومية العربية ، والسعي إلى التحرر من الاستعمار... وكان كل ذلك صداعا عانته لندن منذ سنوات في أزمة قناة السويس، وهي تخشى أن يلحق بها في باب المندب أيضاً. وهكذا بدأت القوات البريطانية المتمركزة في جنوب اليمن سلسلة من التحرشات والاستفزازات العسكرية للنظام الجديد في صنعاء، وبلغت الأمور ذروتها حين قصف البريطانيون مدينة البيضاء من دون أن يكون هناك موجب أو سبب. وشعرت الحكومة اليمنية، وقد هالها حجم التآمر السعودي ضدها في الشمال، والتآمر البريطاني في الجنوب، أنّ من المفيد لها أن تطلب عون أصدقائها المصريين هي الأخرى. وكذلك بدأت طلائع من الجيش المصري بالوصول فعلاً إلى اليمن في تشرين الأول   1962 .
كان ظهور مصر على مسرح أحداث اليمن بمثابة الصاعق الذي فجّر كل الحنق المكبوت في صدور آل سعود. ورأى حكام الرياض أنّ اليمن شأن سعودي محض، ولا يجوز للغرباء المصريين أن يحشروا أنوفهم فيه، وأنّ «التلاعب باليمن» تلاعب بأمن السعودية نفسها. وهذا أمرٌ لن يمرّ!
وأرسل الرئيس الأميركي جون كينيدي رسائل رسمية، في 17 تشرين الثاني 1962، يبلغ فيها أطراف الأزمة اليمنية (2) مبادرة للحل تقضي بانسحاب القوات المصرية المساندة للنظام اليمني الجديد على مراحل، وإنشاء نظام فض اشتباك من الأمم المتحدة، وإيقاف المدد السعودي الأردني بالأسلحة للملكيين في اليمن، وتعهد الجمهورية اليمنية احترام الالتزامات الدولية ليطمئن جيرانها، مع تعهد أميركي بالاعتراف بالجمهورية اليمنية إذا التزم كل الأطراف هذه المقترحات.
ولقد وافقت مصر على مبادرة كينيدي، وأبت السعودية، ومانعت بريطانيا. وفي خطوة عُدّت رداً على «الحرد» السعودي البريطاني، أعلنت الولايات المتحدة اعترافها القانوني بالجمهورية العربية اليمنية، يوم 19 كانون الأول 1962. وطار صواب الرياض، ورأى حكامها أنّ الحل الأميركي للصلح في اليمن، ومن ثمّ الاعتراف بالنظام الجمهوري الجديد، ما هو إلاّ انحيازاً كاملاً «للمحور الناصري – الشيوعي» على حساب محور حلفائها التقليديين في الشرق الأوسط. وأخذت الهلوسات بالسعوديين كل مأخذ، فتوهموا أنّ أميركا ربما تسعى «للغدر بهم»، فتبدّل أحلافها معهم، بحلف جديد مع عبد الناصر. وكتب جهابذة آخرون في صحف تموّلها السعودية أن إدارة الرئيس كينيدي إدارة ضعيفة جداً وجاهلة فهي لا تدرك حقائق الأمور في المنطقة، وأمّا الرئيس الأميركي فهو غرّ ومتردد ويريد أن يتفادى كل مواجهة مع المحور الناصري. وأنّ الحل هو أن تقلع الرياض شوكها بنفسها، وأن تأخذ زمام الأمور بيدها بحزم ... وكان كل ذلك كتلة من الهُراء !
المرتزقة لفك محنة البروستاتا :
وأخذ السعوديون يلتفتون نحو اليمين ونحو الشمال بحثاً عمّن يؤازرهم على اليمن. ولقد لجأوا إلى حليفهم الباكستاني فلم يتحمس الحليفُ للمشاركة في عدوان على بلاد بعيدة عنه، وليس له فيها مصالح تذكر. ولكنه بالمقابل وعدهم بالنصرة إن تعرضت الأراضي السعودية نفسها للعدوان. ولجأ السعوديون إلى شاه إيران فوعدهم بدعم لوجستي واستخباري لمصلحتهم، لا أكثر من ذلك. ثمّ طرق الجماعة باب الفرنسيين فوعدوهم أيضاً بالمساندة اللوجستية من قاعدتهم في جيبوتي. ولم يستنكف آل سعود أن يطرقوا الباب الإسرائيلي أيضاً. وبالفعل فقد استعان رئيس الاستخبارات السعودية كمال أدهم (وهو أيضا صهر الملك فيصل بن عبد العزيز) بصديقه سمسار السلاح السعودي عدنان خاشقجي، حتى يجسّ له نبض إسرائيل، وما يمكنها أن تساعد به السعودية في حربها اليمنية. والتقى خاشقجي في باريس، في أوائل سنة 1963، شمعون بيريز الذي كان يشغل وقتها منصب مساعد وزير الدفاع الإسرائيلي. واتفق الطرفان السعودي والإسرائيلي على التعاون في اليمن «على البرّ والتقوى» (3!
ولقد شاركت إسرائيل في حملة التحالف السعودي على اليمن، وتولت طائراتها المنطلقة من المستعمرة الفرنسية جيبوتي، إنزال عتاد عسكري لجيوب المتمردين والمرتزقة الأجانب في الجبال. وكان الاسم الرمزي لعمليات إسرائيل في التحالف ضد اليمن، هو «مانغو». ولم تكتف تل أبيب بهذا العون للسعودية، بل إنها أرسلت فرق كوماندوس قوامها جنود من اليهود اليمنيين الذين هاجروا لإسرائيل. وذلك كي يسهل عليهم، بعد أن ينفذوا عملياتهم الخاصة، أن يذوبوا في المجتمع الذي سبق لهم أن عاشوا فيه وألِفوه (4)   .
على أنّ السعوديين وجدوا حليفاً عظيما في شخص حسين ملك الأردن. فالرجل قدّم خدماته طوعاً وفوراً. وعرض الشريف الهاشمي أن يشارك السعوديين في مجهود الحملة على اليمن، كتفا بكتف. وكذلك اصدر حسين أوامره لقائد سلاح الجو الملكي الأردني سهل حمزة بأن يشارك طياروه النشامى في مهمة نقل العتاد الحربي إلى معسكرات الملكيين اليمنيين في نجران، بعدما تعفف طيارون سعوديون عن أداء هذه المهمات القذرة الساعية لخلق حرب أهلية في اليمن. وفي يوم 12 تشرين الثاني 1962، تلقى الملك الأردني حسين صفعة مذلة جداً. فقد هبطت في مطار القاهرة طائرة أردنية من طراز «دي هافيلاند هورن»، وكان على متنها قائد سلاح الجو الأردني اللواء سهل حمزة بشحمه ولحمه. وكان مطلب حمزة الوحيد هو اللجوء السياسي إلى مصر                         .
وفي اليوم التالي ، 13 تشرين الثاني، هبطت في مطار القاهرة أيضاً طائرتان أردنيتان من طراز «هوكر هنتر» يقودهما الطيّاران تحسين صيمة وحربي صندوقة. وكان قرارهما هما أيضاً أنّ المنفى أفضل لهما من المشاركة في حرب عدوانية على بلد عربي                      .
ولم يستسلم آل سعود لخذلان طياريهم (5)، ولا لخذلان طياري الشريف الهاشمي. اتجهت مساعيهم نحو طرف جديد يقبض، ويحقق المراد من دون أن يؤنبه وجع ضمير، أو التزام بقضايا أمّة. وكان ذلك الطرف جموعاً كبيرة من المرتزقة الذين استعان بهم الحكم السعودي في قضاء حوائجه بالسر والكتمان. ولم يكن عويصاً على من اكتنزوا أكواماً من المال لكنهم صاروا يعانون «البروستاتا»، أن يستأجروا من يواقع نيابة عنهم!
وهكذا بدأت تتألف منظمات خاصة للقتال بأجر (هي أقرب إلى الشركات الأمنية). وبزغت في هذا المجال أسماء مثل المرتزق الفرنسي بوب دينار (6)، والميجور الإنكليزي جون كوبر الذي تسلل مع قوة خاصة من مساعديه إلى منطقة الجوف. وكان قد ترك الخدمة في جيش بلاده، وكوّن شركة ًخاصة أخذت تجتذب إليها قدامى المحاربين الأوروبيين من أجل القتال في اليمن، بمبالغ قدّرت صحيفة «الأوبزرفر» في تحقيق لها نـُشر في عدد يوم 9 أيار 1964، أنها تراوح بين 400 و500 جنيه استرليني في الشهر، تدفعها المملكة السعودية. وولـّى المستأجـِرون وجوههم صوب باريس كذلك حيث كان فيها كثر من مقاتلي «منظمة الجيش السري» الذين أغراهم، فضلاً عن المال، حب الانتقام من عبد الناصر، والثأر منه لدعمه جبهة التحرير الجزائرية                          .
ولقد استمرت الحرب السعودية تــُـدمي ظهور اليمنيين سنين، ولكنها لم تنته إلى شيء. فلا المَلِك الفار عاد إلى صنعاء من جديد، ولا شرعيته المزعومة أغنت عنه شيئاً، ولا المرتزقة المأجورون أفادوا في تغيير مقادير الأمور في اليمن. وفي نهاية المطاف، اضطرت المملكة السعودية نفسها إلى أن تعترف بالجمهورية اليمنية، وأنفها صاغر.
   
هوامش :   
 
(1) كان حكم نظام أسرة حميد الدين موغلاً في التخلف. وإلى حدود الستينيات من القرن العشرين، لم يكن في اليمن كلية علمية واحدة، ولم يكن فيها مستشفى مجهز واحد، بل لم يكن في البلاد طبيب مؤهل واحد، ولا مهندس مجاز، ولا طريق معبّد صالح، ولا حتى مؤسسات إدارة مدنية منظمة !

(2) بعث الرئيس جون كينيدي برسائل إلى كل من عبد الناصر، والملك حسين ، والأمير فيصل آل سعود، وعبد الله السلال رئيس اليمن يشرح فيها عناصر مبادرته لحل أزمة اليمن . يمكن مراجعة نسخ من تلك الوثائق في كتاب «سنوات الغليان» لمحمد حسنين هيكل، طبعة مركز الأهرام للترجمة والنشر ص. 640.

(3) اعترف تاجر السلاح السعودي عدنان خاشقجي بوقائع لقائه الأول مع شمعون بيريز في باريس عام 1963، في شهادته أمام لجان فرعية الفها الكونغرس الأميركي سنة 1987، للتحقيق في ما عُرِفَ بقضية «إيران غيت »  .

(4) محمد حسنين هيكل ، «سنوات الغليان»، ص. 669 -670 .

(5) منذ أن عصى الطيارون السعوديون أوامر الأسرة المالكة لهم، فهِمَ الأمراءُ أنّ من واجبهم أن يتحمّلوا مسؤولياتهم القتالية بأنفسهم . وهكذا ألزِمَ كثير من الأمراء السعوديين بأن يتدربوا على قيادة المقاتلات الحربية. وحالياً فإن ثلاثة ًمن أصل كل خمسة طيارين مقاتلين في سلاح الجو السعودي، هم من أمراء آل سعود. ولعل الهدف من هذه الخدمة العسكرية الإلزامية هو أن يكون سلاح الجو السعودي في يد الأمراء إذا حانت لحظة عصيبة في يوم ما.  

(6) اشتهر بوب دينار في حرب اليمن باسم «الإمام جعفري». والرجل ذو تاريخ حافل منذ دخل إلى السجن في فرنسا في أواسط الخمسينيات، بتهمة محاولة اغتيال رئيس وزرائها منداس فرانس، وحتى تنظيمه لسلسلة انقلابات في جزر القمر أشهرها عام 1978 حيث تسلم السلطة مؤقتاً في البلد، قبل أن يعيد إلى الحكم الرئيس المخلوع أحمد عبد الله. ثمّ لمّا اختلف دينار مع عبد الله فإنّ المرتزق قتل الرئيس   .


    
 







في يوم 9 أبريل  1985، كانت  سناء  محيدلي تقود سيارة بيجو بيضاء اللون وعند حاجز عسكري لقوات الاحتلال الصهيوني في منطقة “ باترجزين ” حيث الطريق نحو الجنوب اللبناني ، تفجرت السيارة التي كانت تحمل بداخلها 200 كيلو جرام مواد متفجرة ، متسببة في مصرع 50 جنديا صهيونيا على الاقل بين قتيل و جريح ..
   



 
في صباح 9 افريل عام 1948، وفي تلك القرية الهادئة القريبة من القدس ، تحول الرجال إلى قتلى وأصبح خروجهم بلا عودة ، وانتشرت جثث النساء في القرية ، حتى الأطفال الرضع لم يرحمهم الاحتلال فتحول لعبهم إلى صرخات ألم ورعب حيث وقعت مذبحة دير ياسين ” التي حولت القرية إلى جهنم مملوءة بالصراخ وانفجار القنابل ورائحة الدم والبارود والدخان ..

داهمت عصابات “شتيرن” و”الأرجون” الصهيونية القرية الفلسطينية في الساعة الثانية فجراً، وتوقع المهاجمون أن يفزع الأهالي ويبادروا بالفرار من القرية ، وهو الهدف الرئيسي من الهجوم ..

انقضّ الارهابيون الصهاينة على القرية تسبقهم سيارة مصفّحة ، لكنهم فؤجئوا بنيران القرويين التي لم تكن في الحسبان وسقط منهم 4 قتلى و32 جريحا ، طلب اثرها المهاجمون المساعدة من قيادة “ الهاجانا ” في القدس .. وسرعان ما جاءت التعزيزات ، وتمكّن المهاجمون من استعادة جرحاهم وفتح الأعيرة النارية على القرويين دون تمييز بين رجل أو طفل أو امرأة ، وقال شهود عيان إن إرهابيي العصابات الصهيونية شرعوا بقتل كل من وقع في مرمى أسلحتهم ، وبعد ذلك أخذ الارهابيون بإلقاء القنابل داخل منازل القرية لتدميرها على من فيها ، حيث كانت الأوامر الصادرة لهم تقضي بتدمير كل بيوت القرية العربية وتهجير أهلها ...
وهكذا استمرت المجزرة الصهيونية حتى ساعات الظهر .. واتضح بعد وصول طواقم الإنقاذ أن الإرهابيين الصهاينة قتلوا 360 شهيداً معظمهم من الشيوخ والنساء والأطفال ..


تمهيد : ساد نمط التفكير الأسطوري ( اللا عقلاني ) في الشعوب والقبائل التي تسود المنطقة التى سيظهر فيها الإسلام لاحقا ، ثم جاء الإسلام فهدى الناس إلى إعمال العقل ، وأنشأ المسلمون نتيجة ذلك أنماطاً متعددةً من التفكير العقلاني الذي لا تناقض الأيمان أو الوحي- وإن كانت تناقض ( بالتأكد ) نمط التفكير الأسطوري- ومن هذه الأنماط : الفلسفة الاسلاميه،علم الكلام،التصوف، علم أصول الفقه … ) . وعندما حدث للمجتمعات المسلمة توقف التقدم الحضاري أو بطئه؛ ظهرت بعض خصائص التفكير الأسطوري في بعض أنماط تفكير ألشخصية المسلمة ، وليس في أغلب أو كل أنماط التفكير فيها؛ أي أن الشخصية المسلمة لم ترتد إلى نمط التفكير الأسطوري (كما يرى بعض المستشرقين)؛ لأن هذا النمط من أنماط التفكير يناقض الإسلام الذي يشكل الهيكل الحضاري لهذه ألشخصية، بل تحولت إلي شخصية يختلط فيها التفكير العقلاني مع التفكير الأسطوري( يمكن أن نطلق عليه نمط التفكير شبه الاسطورى أو شبه العقلاني )، بفعل الخلل الذي أصابها نتيجة عوامل ذاتية وموضوعية متفاعلة. فالتفكير الفلسفي مثلاً كنمط من أنماط التفكير العقلاني ازدهر في مراحل التقدم الحضاري للمجتمعات المسلمة، وعندما بدأت هذه المجتمعات تتخلف تخلُّف التفكير الفلسفي؛ إذ أن الفلسفة نشاط معرفي حضاري مما أفسح المجال لظهور بعض أنماط التفكير الأسطوري.ويمكن إيضاح هذا التحول بالرجوع إلى خصائص التفكير العقلاني     ( الفلسفي مثالا له) وبيان موقف الإسلام منها : العقلانية : من خصائص التفكير العقلانيالفلسفي” العقلانية ، أي استخدام ملكة الإدراك (المجرد) كوسيلة للمعرفة، إذ الفلسفة هي محاولة إدراك الحلول الصحيحة للمشاكل الكلية المجردة. والقرآن يدعو إلى العقلانية التي لا تناقض الدين والعلم (أي التي لا يتناقض فيها استخدام الإدراك المجرد أو العقل مع استخدام الوحي والحواس كوسائل للمعرفة ) ، لذا فقد ورد في القرآن مادة عقل وما اشتق منها تسعة وأربعون مرة، ومادة فكر ثمانية عشر مرة، ومادة فقه عشرون مرة ومادة أولي الألباب ستة عشر مرة   .
المنطقية : ويتصل بالخصيصة السابقة أن التفكير العقلاني ”الفلسفي” يستند إلى المنطق ،بما هو القوانين (السنن الإلهية) التي تضبط حركة الفكر الإنساني،  ذلك أن الفلسفة لكي تصل إلى حلول صحيحة لمشاكلها ،يجب أن يستند إلى القوانين أو السنن الإلهية التي تضبط حركة تحول الطبيعة وتطور الإنسان وحركة الفكر ..  
وقد أشار القرآن إلى عدد من قوانين المنطق حيث نجد على سبيل المثال الإشارة إلى قانون عدم التناقض ( اما" أ " أو " لا أ " ) كما في قوله تعالى (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيرا) (الإسراء 82).
 الشك المنهجي ( النسبي ) : من خصائص التفكير العقلاني ” الفلسفي ” الشك المنهجي أو النسبي ، وهو شك مؤقت ووسيلة لا غاية في ذاته ، إذ غايته الوصول إلى اليقين، أي أن مضمونه المنهجي عدم التسليم بصحة حل معين للمشكلة ،إلا بعد التحقق من كونه صحيح ، ويمكن أن نجد نموذجاً لهذا النوع من الشك في القرآن فى قوله تعالى ( فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين ) . والشك المنهجي يختلف عن كل من الشك المذهبي والنزعة القطعية . فالشك المذهبي أو المطلق دائم وغاية في ذاته أي أن مضمونه المنهجي قائم على أنه لا تتوافر للإنسان إمكانية حل أي مشكلة . وقد عبر القرآن هذا الشك المرفوض بالريب ( أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا ) . أما النزعة القطعية فتقوم على التسليم بصحة حل معين، دون التحقق من كونه صادق أم كاذب ،وقد وجه القرآن الذم لهذه النزعة في عدة مواضع كما في قوله تعالى : (قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباؤنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون ) .
الموقف النقدي : والتفكير العقلاني ” الفلسفي ”  قائم على الموقف النقدي ، الرافض لكل من القبول المطلق والرفض المطلق ، والقائم على أن كل الآراء ( بما هي اجتهادات إنسانية) تتضمن قدراً من الصواب والخطأ ، وبالتالي نأخذ ما نراه صواباً ونرفض ما نراه خطأ، وقد أشارت النصوص إلى هذا الموقف النقدي كما في قوله تعالى : ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) . وقول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) (لا يكن أحدكم إمعة يقول أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسئت بل وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم )     .
آه يا سناء القهر يا بنت الأنين
يا ضربة الناس الغلابه الموجوعين
يام العيون المغرمين
أبصر بمين
يا هل ترى بعد الوطن بتحبي مين ؟
ردي على الاحباب .. يا زهرة العنّاب
إن كان دعاكي الهوا
وإن كان فتحتي الباب
آه يا سناء الرعد يا بنت الحسوم
يا نجمة متحيرة  بين الغيوم ..
باسأل وأنا من كسفتي ف نص الهدوم
قلبك صغير يا حبيبتي ع الهموم
وازاي قدرتي تعشقي .. وطن فسيح
مطعون جريح
الدنيا طلعت للقمر .. وهو متكتف كسيح ..
يا هل ترى قلبك محيط .. ولاّ انتي يا بنت المسيح ..؟
آه يا سناء الورد يا بنت الربيع ..
يا أغلى زهره اتفتحت هذا الربيع ..
ورق ورق ورق
وقعدت ألوًن في الورق
عصافير ورق  .. أشجار ورق
أزهار ورق .. أنهار ورق ..
 قــُـصر الكلام جبت الربيع
ونقشت منٌه ع الورق
طرّزت بالياسمين
طرٌحه وعشر فساتين
ونظمت عقد الفل
لجلِك يا ست الكل
وفردت غصن البان .. على قدك الفتان
ورسمت بالحنه  .. شباك على الجنة
طليت من الشباك .. قابلوني ألف ملاكك
رافعـين على الأعناق
أنا  الشهيدة  سناء ..


2) نصرة فلسطين                       :
تحتل قضية فلسطين مكانة هامة في وجدان الشعب التونسي ، فمنذ صدور قرار التقسيم عام 1947، دخلت تونس من شمالها إلى جنوبها بمدنها وأريافها في جوّ من التحمّس والحميّة الدينية والقومية والتنادي لنجدة فلسطين والقدس لما لهما من دلالة رُوحيّة ودينية عند شعب متدّين لم تزده الاعتداءات الاستعمارية إلا تشبثا بهويته العربية الإسلامية وبمقدساته التي في طليعتها القدس(44) .
نشأ حب فلسطين الأرض والشعب والقضية لدى التونسيين في البيت وفي الشارع و في المدرسة.. فأهل تونس يرون فلسطين في قلوبهم، ويدركونها في عقولهم، ويتحرقون شوقاً لتحريرها من نير الاحتلال الصهيوني، لذلك وقفت تونس مواقف مشرفة إلى جانب قضية فلسطين، واحتضنتها .. دون أن تدّخر جهداً في دعمها، ومساندتها للشعب الفلسطيني في كفاحه المشروع من أجل تحرير أرضه واسترجاع حقوقه، وإقامة دولته المستقلة على أرضه ، وعاصمتها القدس الشريف          .
لم يتوقف الدعم التونسي لقضية فلسطين على الجوانب السياسية والإعلامية، بل تجاوز ذلك ليصل إلى استشهاد العديد من التونسيين على أرض فلسطين وامتزاج الدم التونسي بالدم الفلسطيني على أرض تونس.
بالأمس القريب امتزج الدم الفلسطيني بالتونسي جراء الغارة الإسرائيلية على مدينة حمام الشط، فسقط تونسيون شهداء من أجل فلسطين، وتوحّد هذا الدّم كما توحّد الشعبان، فشكل ذلك صورة رائعة "لِوَطَنَين بقلب واحد، وفوق أرض واحدة"، فصار التونسيون يتنافسون من أجل نيل شرف خدمة قضية فلسطين العادلة.. انطلاقاً من محبة خالصة ومودة خاصة بين الشعب الواحد في البلدين.
لذا كانت التّعبئة السيّاسية والنفسيّة كجزء من التعبير عن الذات وإرادة التحرّر ونجدة أخوة في الإسلام والعروبة، وفي الواقع كانت هذه التعبئة والمساندة لفائدة فلسطين من كلّ الوطنيّين في الدستورين الجديد وخاصة القديم، كذلك من دوائر جامع الزيتونة من مدّرسين وطلبة ومن مختلف الجمعيات الثقافية . 
وقد اعتمدت حملة مساندة فلسطين على كلّ الوسائل المتاحة من الاجتماعات والتجمّعات الحاشدة في الساحات والجوامع في العاصمة وفي داخل البلاد إلى النّداءات على المنابر لنصرة الفلسطينّيين ودحر الصهاينة وأعداء الإسلام، والكتابة في الصحف وتوزيع المناشير .. الخ     .
ففي يوم 4/12/1947 تجمّع أكثر من 3000 شخص في جامع صاحب الطّابع وساحته من طلبة الزيتونة ومدرسيها ومن التّجار والموظفين وأعضاء الجمعيّات الثقافية والمناضلين الوطنيين وبعض النسوة تحت شعار "من أجل فلسطين العربية" ترأسه الشيخ الفاضل بن عاشور. وقد كان الافتتاح بخطاب المدّرس بالزيتونة الشيخ محمّد الشاذلي بالقاضي الذي أعلن: "إنّ واجب المسلمين الآن هو التوحد من أجل إعانة إخوانهم في الأراضي المقدسة لأنهم قادرون على جمع المال أكثر مما يفعله الصهاينة ومن يدعمهم وخاصة انجلترا وما فعلته منذ وعد بلفور"، وقد حذّر الشيخ بالقاضي من أنّ الخطر الصهيوني لن يقف عند فلسطين فخطره يهدّد مكّة والسّعودية والأرض العربية ليختم بنداء لجمع التبرّعات وتجنيد المتطوعين لإنقاذ فلسطين لأنّ المسلم يحرّم عليه دينه أن يترك اليهود يعبثون بالأراضي المقدّسة.
ونبّهت الكلمات الأخرى للخطر الاستعماري الذي يخيم على شمال إفريقيا ويهدّد فلسطين، وطالبت بالتنادي لإعانة إخوانها الفلسطينيين لأنهم عندما ينتصرون في فلسطين، ننتصر في تونس، وكانت تدخلات الشخصيات اللاّحقة في التوجه نفسه (الحبيب شلبي، الفاضل بن عاشور، محمّد بوشربيّة ، محمّد الشاذلي النّيفر، عبد الرحمن الخليفي وكلهم من شيوخ الزيتونة) . وقد انتهـى التجمع بالنداء للوحدة وجمع التبرّعات وتجنيد المتطوّعين وتحذير اليهود في تونس من مغبّة دعم  الصهاينة في فلسطين والدعوة لمقاطعتهم .
وفي 5/12/1947، كان التجمّع بجامع الزيتونة أضخم، إذ جمع 6 آلاف شخص ليستمعوا للخطباء ودعواتهم للتضامن، وحضره أمين عام الحزب الحرّ الدستوري الجديد صالح بن يوسف الذي ضمّ صوته للنّداء لنصرة فلسطين.   
ففي يوم 4/12/1947 تجمّع أكثر من 3000 شخص في جامع صاحب الطّابع وساحته من طلبة الزيتونة ومدرسيها ومن التّجار والموظفين وأعضاء الجمعيّات الثقافية والمناضلين الوطنيين وبعض النسوة تحت شعار "من أجل فلسطين العربية" ترأسه الشيخ الفاضل بن عاشور . وقد كان الافتتاح بخطاب المدّرس بالزيتونة الشيخ محمّد الشاذلي بالقاضي الذي أعلن: "إنّ واجب المسلمين الآن هو التوحد من أجل إعانة إخوانهم في الأراضي المقدسة لأنهم قادرون على جمع المال أكثر مما يفعله الصهاينة ومن يدعمهم وخاصة انجلترا وما فعلته منذ وعد بلفور"، وقد حذّر الشيخ بالقاضي من أنّ الخطر الصهيوني لن يقف عند فلسطين فخطره يهدّد مكّة والسّعودية والأرض العربية ليختم بنداء لجمع التبرّعات وتجنيد المتطوعين لإنقاذ فلسطين لأنّ المسلم يحرّم عليه دينه أن يترك اليهود يعبثون بالأراضي المقدّسة.     ونبّهت الكلمات الأخرى للخطر الاستعماري الذي يخيم على شمال إفريقيا ويهدّد فلسطين، وطالبت بالتنادي لإعانة إخوانها الفلسطينيين لأنهم عندما ينتصرون في فلسطين، ننتصر في تونس، وكانت تدخلات الشخصيات اللاّحقة في التوجه نفسه (الحبيب شلبي، الفاضل بن عاشور، محمّد بوشربيّة ، محمّد الشاذلي النّيفر، عبد الرحمن الخليفي وكلهم من شيوخ الزيتونة) . وقد انتهـى التجمع بالنداء للوحدة وجمع التبرّعات وتجنيد المتطوّعين وتحذير اليهود في تونس من مغبّة دعم  الصهاينة في فلسطين والدعوة لمقاطعتهم .
وفي 5/12/1947، كان التجمّع بجامع الزيتونة أضخم، إذ جمع 6 آلاف شخص ليستمعوا للخطباء ودعواتهم للتضامن، وحضره أمين عام الحزب الحرّ الدستوري الجديد صالح بن يوسف الذي ضمّ صوته للنّداء لنصرة فلسطين .  
ونشرت الصّحافة التونسية أخبار فلسطين وحيثياتها، والنداءات لإغاثة العرب لها، وقد برز من جملة حاملي لواء فلسطين الشيخ محمّد الصّادق بسيس (1914-1978) هذا الوطني الإسلامي الدستوري الناشط والذي تفرّد منذ الثلاثينات بمواقفه الداعمة للقضيّة الفلسطينية ولاقى السجن من أجلها حتى إنّه كان يُلقّب منذ الثلاثينات "بالشيخ الفلسطيني"               .
نورد هنا فقرة من مقال له كأنموذج على خطاب هذا العلم في تاريخ الوقوف إلى جانب فلسطين إذ كتب في جريدة الزّهرة ليوم 24/10/1947 تحت عنوان" ليصرخ شباب تونس لبيك يا فلسطين، يقول: " إنّ العالم العربي بموقفه الحاسم بجانب فلسطين ، مؤيّداً، ناصراً، مقدّماً بالنفس والمال والأقلام والمهج والأرواح سيقطع دابر الصّهيونيّة ويطاردها في كلّ مكان ويدخل معها في دور المحنة الأخيرة، دور الحياة أو الموت، إنّ تونس العربية المسلمة تصرخ أمام النّاس جميعا بأنّها ستؤدي واجبها في الدّفاع عن عروبة فلسطين كاملاً غير منقوص، فشبابها على أكمل استعداد للمشاركة في الدّفاع وتنفيذ أوامر القائد الأعلى لجيش التحرير وجيش الإنقاذ ، محمّد أمين الحسيني . وقد سببت حركيّة هذا الشيخ لفائدة فلسطين وخطابه المعادي للاستعمار والصّهيونية انزعاجاً كبيراً للسلّطة الاستعمارية في تونس حيث عمدت إلى  إيقافه بتهمة جمع التبرعات في الطريق العام دون ترخيص وأقرت مثوله أمام المحكمة في 25/6/1948 وقد أثار ذاك القرار موجة من التنديد والمساندة لمحمّد الصادق بسيس من تونس إلى فلسطين حيث تدخّل الشيخ الأمين الحسيني لفائدته لدى الحكومة الفرنسية فتراجعت السّلطة عن قرار محاكمته هذه المواقف والدعاية المختلفة من شيوخ الزيتونة وطلبتها ومن الوطنيّين في مختلف التنظيمات والجمعيات والصّحافة أثمرت دعما ماديّاً ومعنويّاً محسوساً(45). 
التحركات الشعبية لنصرة فلسطين :
تزامناً مع موجة المساندة لفلسطين والتنديد بقرار التقسيم من العالم العربي والإسلامي جدّت في تونس تحرّكات عدّة مماثلة ما فتئت تتصاعد في نسقها مع تحوّل المصادمات بين العرب والصّهاينة إلى حرب فعليّة وإعلان تأسيس الكيان الصهيوني في15/5/1948 و"ما إن تمّ الإعلان عن قرار التقسيم الأممي في 29/11/1947 حتى دخل جامع الزيتونة وفروعه في إضراب عام، وتمت الدعوة كذلك إلى إغلاق المحلاّت بالعاصمة والمدن التونسية الكبرى. فقد بدأ إضراب طلبة جامع الزيتونة يوم 12/10/1947 وتواصل إلى حدود 4/12/1947 متبوعاً بإضراب التّجار التونسيين. أما بداخل البلاد فقد بدأ الإضراب مع فرع جامع الزيتونة بصفاقس يوم 2/12/1947 بأمر من رئيسة الطّاهر النيفر، كما أضرب فرع جامع الزيتونة بالقيروان بداية من 3/12/1947 وفروع سوسة ومساكن بداية من  4/12/1947"  وقد كان إضراب التّجار بإغلاق محلاّتهم بتونس العاصمة وقابس والقيروان وسوسة وببقية البلاد. إلى جانب الإضراب تنادت الجمعيات الدّاعمة لفلسطين والشباب الزيتوني والكشفي إلى تطبيق أمر مقاطعة التجّار اليهود ومحلاّتهم وفرضه أحياناً بالقوة على التونسيين من المسلمين وذاك لتمثّل مناصري فلسطين الصّراع على إنّه صراع بين اليهود والمسلمين، وإنّ تعاطف يهود تونس مع يهود فلسطين لهو حجة على ذلك                  .
لذا تزامنت مقاطعة التّجار اليهود بإضرابات طلبة الزيتونة ومظاهراتهم وكانت مقاطعتهم شاملة في كامل أنحاء البلاد تقريباً، مقاطعة دكاكين ومتاجر اليهود وكذلك قاعات السينما وكل مؤسساتهم، كلّ ذلك كانت تصحبه مناوشات بين الطّرفين وعداء متبادل يغذّيه واقع البؤس والجوع العام المستشري وصورة اليهودي المرابي بين الواقع والتضخيم.
لم تكن نصرة فلسطين بالتّحمس والخطاب فحسب ، بل تداعت كلّ القوى الوطنية والاجتماعية لجمع التّبرعات لفائدة القضية وذلك رغم الظروف الصّعبة القائمة حينذاك من آثار الحرب وجرّاء سنوات الجفاف والآفات الطبيعية المتتالية، حيث كانت تضرب البلاد المجاعة في عديد المناطق واستشراء الغلاء والسّوق السّوداء والبطالة وهجرة الجياع إلى المدن، وقد اضطلع بجمع التبرعات كلّ من لجنة الدّفاع عن فلسطين برئاسة محمّد الصّادق بسيّس ولجنّة إغاثة فلسطين التي يقودها الدكتور أحمد بن ميلاد وكذلك الحزبين الدستوريين والإتحاد العام التونسي للشغل بفروعه والجمعيات الشبابيّة، وقد تميّز مدرّسو الزيتونة أكثر من غيرهم في هذا النّشاط التضامني شأن الشيوخ محمّد الصّادق بسيّس والشاذلي بالقاضي والطيب التليلي مما عرّضهم للتبعات. وكانت التبّرعات تجمع مالاً و مصوغاً أو عن طريق بيع بعض الصّور الآتية من ساحة القتال في فلسطين لمقاومين أو متطوّعين، وقد بلغت قيمة التبرّعات التي جمعها التونسيون لفائدة فلسطين حتى أوّل تشرين الأول/ أكتوبر 1948 ما يزيد عن سبعة ملايين فرنك أُرسلت عن طريق مكتب المغرب العربي أو مباشرة.
لكن أكبر فيض للتضامن مع شعب فلسطين كان هبّة المئات لافتدائها بدمائهم بالتطوع للقتال على أرضها(46) .
التطوع للدّفاع عن فلسطين                               :
تقول مراسلة لأحد الشباب الوطنيين التونسيين من طرابلس إلى أحد مسؤولي حملة التطوّع بتونس وهي تعود لشهر أيار/ ماي 1948: "على طول طريقي نحو طرابلس كان يعترضني المئات من التونسيين متوجهين لفلسطين للتطوع في صفوف المجاهدين العرب. كل هؤلاء المتطوعين كانوا في حالة ماديّة يرثى لها ورغم ذلك كان يحدوهم شعور وطني حاد بالقضيّة الفلسطينيّة وكلّهم يعتقدون راسخاً أنّ المعركة من أجل فلسطين هي الخطوة الأولى لتحرير إفريقيا الشمالية كاملة. لقد شقوا عشرات الكيلومترات على الأرجل لبلوغ طرابلس وتعرّضوا لكلّ المخاطر عند اجتيازهم الحدود والعديد منهم تمّ إيقافهم وتعرّضوا للإهانات والتّعذيب. لقد تحدّثت مع الكثير من هؤلاء المتطوّعين وحكوا لي عن مشاق مغامرة الطريق خاصّة وأن الكثير منهم كانوا كباراً جدًّا أو صغاراً جدّا، لحمل السّلاح   .
كانت هناك في العاصمة وفي المدن الداخلية مكاتب تستقبل المتطوعين وتحوّلهم حتى الحدود مع طرابلس في الجنوب، لكن يبدو أنّ الكثيرين هبّوا فرادى أو في مجموعات صغيرة لعبور الحدود دون وعي بالصعوبات التي تعترضهم وقلوبهم تهفو للقدس والاستشهاد في سبيلها .            
وهناك تقرير من المقيم العام الفرنسي بتاريخ 22/7/1948 يفيد أنّه حتى 20/7/1948 أحصت المصالح الأمنية عدد 2676 تونسيّاً متطوّعًا إمّا وقع  .....
حجزهم في الحدود مع طرابلس أو وقع إيقافهم قبل اجتيازها. لكن كم وصل مصر وكم وصل فلسطين؟ غير معروف بالضّبط، لكن تقريراً آخر من المقيم العام بتاريخ 17/5/1949، أي بعد إعلان تأسيس الكيان الصهيوني وإيقاف الحرب على جلّ الجبهات تقريباً، كان هناك 188 تونسيّا لا يزال عالقاً في طرابلس وتعمل السلطات على ترحيلهم إلى تونس(47). لكن إذا أضيف العشرات الذين نجحوا في الوصول إلى ساحة المعارك بفلسطين فيقدر عدد المتطوّعين الإجمالي بثلاثة آلاف تونسي وهو رقم كبير مقارنة مثلاً بعدد متطوّعي البلدان المغربيّة الأخرى، إذ مثلاً لم يقع إحصاء حتى تموز/ جويلية 1948 إلاّ 110 جزائريين و25 مغربيّاً كانوا قادمين للتطوّع لفلسطين(48)، مروراً بتونس، وطبعاً يمكن أن يكون وصل آخرون فلسطين من أبواب أخرى وغير معروف عدد المتطوّعين من ليبيا .
في دراسة للتوزيع الجغرافي من حيث أصول المتطوّعين يفيد تقرير 22 تموز/ جويلية آنف الذّكر أن العدد الأكبر كان من المراقبة المدنيّة لتونس العاصمة (657 متطوّعاً) تليها صفاقس مع ظهيرها بـ 276 متطوّعا ثمّ سوسة والسّاحل بـ 256 متطوّعاً، وأخيراً قابس وبقية الجنوب بـ 222 متطوّعا مع ضعف واضح لمشاركة سكان الوسط التونسي وشماله (49).
 ككل الذيّن وهبُوا حياتهم للجهاد في فلسطين، وفيما بعد لتحرير تونس، كان المتطوّعون من الفقراء والمعدمين في غالبيتهم ( حرفيّين، عمّال، فلاّحين فقراء، عاطلين ، شباب ...) وفي العيّنة التي وقع فرزها من مصالح الإقامة العامة وفي التقرير ذاته لشهر حزيران/ جوان تبيّن إنّه كان من بين المتطوّعين 73 من قدماء المحاربين أي 3% من المجموع، أمّا المثقّفون فكانوا قلّة لا تتجاوز نسبتهم 5% وهم أساساً من طلبة الزيتونة أو قدمائها إن كانوا في الجامع الأكبر في العاصمة أو من فروعه بالداخل.
يذكر المقيم العام في تقريره لـ 15/7/1948 أنّ الفرقة الأولى التونسية الطرابلسيّة تمكنت فعلاً من بلوغ بيت لحم ودخلت في معارك خلال النّصف الأوّل من شهر حزيران / جوان مع القوّات الصّهيونيّة واستشهد من التّونسيّين 11 متطوّعاً كما تذكر المصادر أنّ آخرين سقطوا في ساحات الشرف على أرض فلسطين منهم علي بن صالح التونسي (استشهد بيافا في 28 نيسان / أفريل 1948)  وعبد الحميد الحاج سعيد وبلقاسم عبد القادر ومحمّد التّونسي ، وثلاثتهم استشهدوا في ماي 1948 جنوب القدس أمّا أحمد إدريس فقد استشهد قرب مستعمرة راحات راحيل يوم 21 أكتوبر 1948(50) ، وهناك بعض المصادر تشير إلى سقوط أكثر من 1500 شهيد تونسي من أجل فلسطين في نضالات فصائل الثورة الفلسطينية...
كما جاء أهل المغرب العربي الكبير إلى فلسطين دفاعاً عن الأقصى وفلسطين، ومنهم من أصبح من سكان القدس، ومدن فلسطينية عديدة، مثل عائلات: (المغربي، الجندوبي، الهرماسي.. وغيرها)  .
لقد أثبت التونسيون كعرب ومسلمين حضورهم في تبنّي القضيّة الفلسطينية والتضحية من أجلها بدافع الوعي بالهوية الواحدة وبالعدو الواحد وإنّ النّاظر للسنوات اللاّحقة منذ نكبة 1948 يلحظ دون عناء تواصل الرّوح ذاتها رغم تنكر البعض وتعب الآخرين                     .
هوامش :
    (44) د.عميرة عليّة الصغيّر، الشعب التونسي في نصرة فلسطين 1947-1948، المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية.
(45) د.عميرة عليّة الصغيّر، المصدر السابق.
(46) د.عميرة عليّة الصغيّر، المصدر السابق.
(47) تقرير جون مونس 17/5/1949، أرشيف الإقامة العامة (R,198, FR; c1871(1), D 1,FF. 44-351).
(48) تقرير جون مونس، 22/7/1948.
(49) المصدر السابق.

تمر يوم 9 أفريل من هذا العام الذكرى الثانية عشرة لسقوط  عاصمة القطر العربي الاكثر تقدما والاكثر ولاء للقضايا القومية بغداد ، عاصمة الرشيد ، ومنارة العلم والحصضارة في الوطن العربي ، قديما وحديثا ، جراء الغزو الأمريكى الغاشم  للعراق ، الذي تم تحت مزاعم نشر الديمقراطية وبذريعة امتلاك أسلحة دمار شامل ، فيما حمل في طياته حربًا ضروسًا ، تسببت في مقتل وإصابة نحو مليون عراقي، وتهجير نحو 7 ملايين، فضلاً عما خلفته  من الأيتام والأرامل والمعوّقين والمعتقلين .
واستمر الاحتلال الأمريكى للعراق تسع سنوات ، تم خلالها تدمير هياكل الدولة العراقية بالكامل .. كتدمير البنى التحتية الاقتصادية ، والمرافق الحيوية ، التي تخص حياة المواطنين  اليومية ، كما تم تدمير العديد من المدن والقرى العراقية بدعوى محاربة الإرهاب وملاحقة الإرهابيين او ملاحقة أتباع صدام حسين، كما حدث في الفلوجة وتلعفر والخالص والقائم وبعقوبة، فقد تم تدمير هذه القرى والبلدات بالمدفعية والصواريخ والقنابل الفسفورية وقنابل النابالم الحارقة .
وتم إطلاق يد الشركات الأمنية لإثارة الرعب في نفوس المواطنين، وترويعهم لمجرد الاشتباه أن أحدهم يشكل خطرًا عليهم ، وكذلك تم إطلاق يد المليشيات الطائفية في القتل على الهوية، وتصفية كبار الضباط والعلماء وأساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين بدعوى أنهم موالون للنظام السابق .
وغضت النظر عن جرائم مليشيات إيران التي كانت ترسل مجموعات إرهابية إلى بعض المحافظات للقيام بأعمال إرهابية، واستهداف شخصيات وطنية وشيوخ عشائر، وتفجير مساجد وحسينيات لإثارة الفتنة الطائفية في البلاد بهدف تحويل الأنظار عن الثورة الشعبية السلمية وخلط الأوراق، ثم تشديد القبضة الأمنية للقوات الحكومية الموالية للاحتلال ، وإجهاض الثورة.
فيما شهدت السنوات التسع للاحتلال العديد من انتهاكات حقوق الإنسان في العراق، تمثلت في وفاة عشرات السجناء والمعتقلين بسبب التعذيب القاسي المفضي إلى الموت ، وارتفاع عدد حالات الإعدام ، حيث كان يتم الحصول على"الاعترافات" تحت التعذيب.
السيطرة على النفط :
وفي مقابل جميع هذ الانتهاكات سيطرت أمريكا على ثروات العراق ، وفي المقدمة منها النفط ، حيث هيمنت الشركات الأمريكية والغربية على الثروات النفطية العراقية بصورة مطلقة ، وهيمنت الولايات المتحدة الأمريكية على القرار السيادي للعراق ، بعد أن جرى تكبيله باتفاقيات أمنية واقتصادية ، ورغم إعلان أمريكا الانسحاب من العراق بعد إدارة الرئيس الأمريكى أوباما إلا أنها تعمدت أن تجعل من العراق ساحة للقتل والعنف الطائفي، باعتماد المحاصصة الطائفية البغيضة .
وفتح أبواب العراق أمام المليشيات الإرهابية المسؤولة عن التفجيرات الإجرامية الدموية التي يتعرض لها العراقيون الآمنون على امتداد أرض الوطن ، فغاب عنه الأمن والاستقرار، وتفشى الفساد السياسي والاداري، وسرقة المال العام ، وعم الفقر، والتسلط ، وساد التناحر بين أطراف العملية السياسية ، ووضعت منظمة الشفافية الدولية العراق في خانة أسوأ الدول الغارقة فى الفساد بين دول العالم  .. ( نافذة مصر ) .
" العرب لا يستطيعون الآن أن يقبلوا أن يكونوا ذيلاً لسياسة بريطانيا ، أو أن تملى عليهم سياستهم من لندن ، فهذا أمر لم يعودوا يستطيعون قبوله . ويجب أن يعلم علم اليقين أن أي نظام دفاعي يفرض من الخارج ، لن تكون له أية قيمة إذا انهارت الجبهة الداخلية ؛ فالجبهة الداخلية هي التى ستحمي المصالح الحقيقية للعرب.
  الزعيم الراحل جمال عبد الناصر .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق