الوحدة العربية بين دعاتها وأعدائها .. (9) .
من الثابت في واقعنا
الراهن ، ان الوضع العربي لم ينتقل نهائيا إلى وضع مستقر على مشروع واحد من تلك
المشاريع المطروحة .. المتناقضة ، والمتصارعة على الدوام : القومية منها والدينية
والإقليمية والطائفية والعرقية .. خاصة وأن الصراع القائم بين تلك المشاريع ظل
يخضع ـ منذ زمن طويل ـ الى تدخلات متعدّدة الأطراف والغايات والوسائل ، هدفها
جميعا صنع المستقبل العربي الذي يتلاءم مع مصالحها ..
ولعلنا من هذه الزاوية
بالذات نقف على حقيقة ثابتة تقودنا الى فهم ما يتعلق بانتشار ظاهرة الاسلام
السياسي في الوطن العربي خلال العقود الأخيرة ، التي تقف وراءها أطراف عربية في
الداخل ، وأخرى خارجية تعمل جميعا على اضعاف الحركة القومية وتشويهها ، سواء من
خلال تحميلها مسؤولية فشل التجارب التي عاشتها بعض الأنظمة القومية في كل من سوريا
وليبيا والعراق ، أو من خلال دعم الحركات
الرجعـية المناهضة للمشروع القومي ، لتلتقي موضوعيا مع أهداف الاستعمار والصهيونية
منذ سايكس ـ بيكو الى اليوم ..
فالمتأمل ولو لجزء
يسير مما تقدمه االمملكة العربية السعودية للحركات الدينية بجميع الوانها داخل
الوطن العربي ، بدءا بحركة الاخوان المسلمين منذ الخمسينات ، الى جانب ما تقوم به
من نشاط دعوي على المستوى العالمي ، يكتشف ـ بالتأكيد ـ جوانب مهمّة ذات صلة بتنامي تلك
الظاهرة وانتشارها ..
وقد بدأ النظام السعودي يدرك مخاطر المشروع القومي الذي يهدّد وجوده الاقليمي ومستقبله ، فوجد في الوهابية خلفية ايديولوجية مناسبة لكي يظهر من خلالها في موقع المدافع عن الدين ، ويواجه بها مخاطر المد القومي المتنامي خلال الخمسينات والستينات .. وهكذا بدأ يعمل منذ ذلك الوقت على ايجاد السبل المناسبة لحماية مصالحه .. حتى وجد في وضع الاخوان الذي بدأ يشهد توترا متزايدا في العلاقة بينهم وبين ثورة يوليو ، فرصة سانحة للشروع في احتوائهم و" تسليفهم " .. فانطلق مشروع التسليف عمليا بابرام عقود الشغل والدراسة من داخل السفارة والقنصلية وعن طريق الوكلاء التابعين للمملكة العربية السعودية ، الذين عملوا على تقديم جميع التسهيلات الخاصة بالتنقل والاقامة من أجل الاستقرار في المملكة ، أين تتم عمليات الاحاطة والتكوين باشراف كبار الشيوخ والدعاة المتخصصين في مجال الدعوة داخل المساجد والجامعات والمؤسسات العامة ، وحتى في الشارع والبيت الذي تطاله العيون ، فيتأثر أهله بنماذج السلوك وطريقة المعاملات الجارية هناك ، فتتغير العادات والطباع .. وتتواصل العملية على هذا النحو سنوات طويلة ، حتى تصل الى طور الإنتاج ، فيعود هؤلاء الى أقطارهم ، متحمّسين للتنفيذ .. كل حسب فهمه ، وتأثره ، واستعداده ، ومؤهلاته ، وموقعه .. فمنهم من يتحوّلون الى" دعاة " و" شيوخ " و" علماء "، وآخرون ينشطون في المساجد والمكتبات ودور النشر والمطابع ، وبين الناس في المعاهد وفي المنابر الاعلامية .. لذلك لا بد من ضخ الأموال الطائلة التي تغطي كل هذه الأنشطة بكل ما فيها من رواتب ومكافآت ومصاريف تنقل بين العواصم وإقامة في النزل ، وسيارات فخمة ، وطباعة ونشر للمراجع الخاصة بالفكر السلفي الوهابي ، الذي يتم ترويجه باسم الإسلام ، فضلا عن النشاطات الدعوية الأخرى في إطار الجمعيات الخيرية المنتشرة في العالم وفي جميع الأقطار العربية .. وقد ظل هذا النهج متواصلا طوال فترة السبعينات والثمانينات ، حتى ظهرت الفضائيات في بداية التسعينات ليتم غزو الوطن العربي بالعشرات من الفضائيات الدعوية ومئات الشيوخ المعروفين على الساحة ، والذين تخرّجوا جميعا من المدرسة السلفية السعودية خلال تلك المرحلة .. ولعل الأمر لم يتوقف عند هذا الحد ، اذ انتشرت ظاهرة الانترنات في نفس الفترة تقريبا ، فانتقلت تلك الجهات المحسوبة على التيارات الدينية والدول المناصرة لها ، الى غزو الفضاءات الافتراضية وشبكات الانترنات بالآلاف المؤلفة من المواقع الالكترونية التي تروّج لمرجعيات خاصة ومعينة في الفقه الإسلامي ، فتصدر الفتاوي الغريبة ، وتعمل على نشر مفاهيم محدّدة للإسلام تجعل منه عدوا للقومية والاشتراكية ، بل وتجعل من مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان وحرية المرأة وحرية المعتقد واللباس والاختلاط مفاهيم "علمانية" هدّامة منافية لجوهر الاسلام ..
وفي هذا السياق نجد رصدا شاملا لظاهرة التسلف داخل
الاخوان ومراحل تطوّرها في دراسة مطوّلة للكاتب حسام تمام بعنوان : " تسلف الاخوان ، تآكل
الأطروحة الاخوانية وصعود السلفية في جماعة الاخوان المسلمين " يتحدث فيها عن
مراحل " التسلف الهادئ " التي خضع لها الاخوان المسلمون مرة أولى داخل المملكة
على يد السلفيين ، ثم مرة ثانية داخل مصر على يد المتسلفين ..
كما يشير الى القدرة على التكيف و" الكمون " للتيار السلفي داخل المجتمعات وداخل
الاخوان ، وهي المراحل التي أدت في النهاية ـ بأساليب متعدّدة ـ
الى العديد من التغيرات الجذرية على مستوى العقيدة والايديولوجيا الاخوانية .. ويقول الكاتب في سياق العرض للأساليب المتشددة المتبعة
داخل المملكة ، شديدة الاثر على الاخوان في تلك الفترة أن " المؤسسة الدينية
الوهابية كانت قادرة على ان تفرض رؤيتها الدينية لا سيما في مجال المعتقد السلفي
وعلى مستوى العلاقات الاجتماعية في مجتمع سعودي لم ينفتح بعد على تأثيرات الخارج .
فكانت تفرض على كل الأئمة والوعاظ والدعاة ومقيمي الشعائر ومدرّسي اللغة العربية
الاختبار في العقيدة الوهابية للتأكد من أن الشخص ليس أشعريا في العقيدة أو متصوفا ، بل يعتقد المعتقد السلفي ، والا
كان يتم ترحيله أحيانا ، فكان المدرس أو الامام يدرس هذا أو يتعلمه ويقوله تقية ،
بل وصل الأمر أحيانا الى فرض خلع الزي الأزهري على الدعاة والأئمة المنتدبين
باعتبار الأزهر معقل الأشعرية .. لذلك اتجهت هذه الموجة نحو تأكيد المعتقد الاخواني
السلفي باتجاه يقترب من السلفيبة الوهابية خاصة في نفسها المتشدّد تجاه الآخر
الديني حتى داخل الاطار الاسلامي .. " وبمثل هذا الأسلوب عموما "
تسربت السلفية الى الاخوان في سياق سياسي واجتماعي دقيق داخل المملكة ، فوجود
النساء والاسر الاخوانية في بيئة مغلقة نقل اليها تدريجيا المزاج السلفي وتمظهراته
الظاهرة للعيان كمثل النقاب والتشدّد في الملبس بشكل عام ، وقلت مساحات الانفتاح
على الفنون والآداب وأنماط الحياة التي كانت معروفة ومقبولة لدى الاخوان .."
وفي مقال آخر لصحيفة الحياة بتاريخ 18/ 12 / 2010 ، تحت عنوان " الإخوان المسلمون ومسارات التحول نحو
السلفية " ، يعود الكاتب الى الحديث عن نتائج تلك المرحلة فيقول أن : " الجماعة الإخوانية اليوم تميل الى السلفية
أكثر مما كانت في أي وقت من تاريخها الممتد وهي سلفية في المظهر والسلوك والفكر
والمعتقد أيضاً .. " ويضيف الكاتب أن ظاهرة التسلف شهدت تحولا جذريا من سلفية
النشأة الصوفية الروحانية على يد مؤسسها حسن البنا ، الى السلفية الوهابية التي
بدأت تظهر في مصر حتى قبل هجرة الاخوان الى السعودية من خلال التيار القطبي
المتشدّد داخل مصر الذي أدى الى أزمة 1965 .. وقد مثلت تلك الارضية ظرفا ملائما
لنشاط الدعوي الوهابي بعد عودة " الكوادر الاخوانية المتسلفة " من
السعودية خلال السبعينات والثمانينات ، حاملين معهم " المزاج السلفي العقدي
في المظهر واللباس والسلوك .. " فكان نشاطهم بعد العودة " الأهم والأكثر تأثيراً لأنه حدث داخل
مصر وعبر شباب الجامعات .. " .
وقد كان
السعي للاختراق الجماعة على هذا النحو ، هو التفسير الوحيد الذي يمكن أن نفهم من
خلاله مبررات الدعم اللامحدود الذي تقدّمه المملكة للجماعة ..
وبالفعل فقد اصبح النشاط
بين صفوف الجماعات الاسلامية محكوما بالتجاذبات الفكرية والايديولوجية التي كانت
تميل ـ حسب الكاتب ـ الى السلفية الوهابية من خلال اختراقاتها الواسعة للاخوان
، ومن خلال التسريبات الهائلة للمراجع السلفية بين صفوفهم ، فضلا عن القدرة
الفائقة للسلفية على ممارسة التخفي والكمون حتى تحقيق أهدافها ..
وهكذا كانت الساحة السياسية في مصر منذ فترة
الخمسينات الى اليوم ، ساحة مفتوحة ، لا تعكس فقط ما يحدث في الداخل من تجاذبات
سياسية داخلية خاصة بمصر وحدها ، بقدر ما كانت تعكس البعد القومي للصراع باوجه
مختلفة قد تكون موجات التدخل الوهابي خير مثال على ذلك ..
وقد ساهم في هذا ـ حسب
المؤلف ـ عدة عوامل منها الفورة البيترولية الصاعدة التي عرفتها المملكة ، وانكسار
المشروع القومي بعد غياب عبد الناصر ، وانخراط مصر السادات في سياسة الأحلاف
الرجعية مع الولايات المتحدة التي وجّهتهم لمواجهة الاتحاد السوفياتي تحت لافتة محاربة
الشيوعية ، وتراجع دور مصر البارز من المشهد الديني على المستوى العربي والافريقي
بعد شل دور الازهر في نشر الاسلام المعتدل تاركا المجال لبروز الدور الوهابي خارج
حدود المملكة بما في ذلك مصر ..
ثم يواصل الباحث
اثارة العديد من التفاصيل والجزئيات الخاصة بالمراحل التي مر بها المجتمع في مصر بشكل خاص كنموذج للنشاط السعودي الوهابي داخل المجتمع العربي عموما ، وهي اساليب
اعتمدتها الحركة الوهابية ايضا خارج مصر في العديد من الدول العربية والاسلامية الاخرى التي
وقع فيها غزو مجتمعاتها بالفكر الوهابي مثل اليمن ودول البلقان وغيرها ..
وفي جانب العلاقة بين
الاخوان والسلفية يبرز الكاتب العديد من الجوانب الحيوية التي ميزت فترات التفاعل
بينهما ، بالتعاون ، والتحالف ، والاختراق .. وهي فترة طويلة يثير فيها الكاتب العديد من
التفاصيل التي مكنت الجماعات الاسلامية من التغول على المجتمع في ظل الامكانيات الهائلة
المتاحة لها ، والتي تبين الفرق الشاسع بين وضع الحركات الاسلامية ووضع الحركة
القومية منذ تلك الفترة الى الآن ..
ولا شك أن الاستبداد
الذي عاشه المواطن العربي في ظل الحكومات الرجعية ، وتهميش الدين ، ونزعة الحكم
الفردي والاقصاء الذي عرفته كل الأقطار حتى التي حكمتها الأنظمة القومية ، ساعد
هؤلاء في الظهور بمظهر الضحية الذي يتم استهدافه لأنه متمسك بالإسلام ..
وفي
النهاية قد تكون الأرقام المتصلة بنشاط هذه الجماعات وعلاقاتها المشبوهة ، أكثر
بلاغة من التحليل ..
للحديث بقية ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق