الوحدة العربية بين دعاتها وأعدائها .. (21) .
2 ـ الازمة
..
منذ أكثر من نصف قرن والحركة
القومية تمرّ بالتقلبات ، والتمزق التنظيمي والصراعات الحادة ، إما على الكراسي
والحكم في بعض الأقطار ، او حول من يمثل
المشروع القومي ليمتد تنظيميا وفكريا على كامل الساحة العربية .. في الوقت الذي
كان يجري فيه الإعداد للإجهاض على المشروع بالكامل ، وعلى الحركة القومية التي
تمثله دون تمييز بين فصائلها ومرجعياتها
.. حيث كان أعداؤها جميعا يتعاملون معها على أساس أنها حركة واحدة برموز
مختلفة .. مما أدى على المدى الطويل الذي غاب فيه الوعي طويلا أيضا ، إلى انحسارها والإجهاض عليها في بعض المواقع ، مثل العراق بعد الغزو الأمريكي
الغاشم .. بل وتحوّل جزءا كبيرا من قادتها إلى دواعش بسبب القهر والعذاب الناجم عن
سياسة الاستئصال التي طالت العديد منهم على مدى عشر سنوات أو أكثر ...
ولعل ما يزيد في طعم
المرارة أكثر، هو تواصل الأزمة من خلال تلك النقاشات العقيمة والخلافات المقيتة :
- حول مدى ضرورة الوحدة التنظيمية على المستوى القومي في المرحلة الراهنة ، عند
البعض ممن يعتمدون على " سياسة المراحل" ، مكتفين بالعمل في تنظيماتهم
القطرية ..
- وحول من يتولى انجاز تلك الوحدة المنشودة
، عند الذين يرفضون أسلوب الصفوة الذي يمكن ان يؤدي ـ في نظرهم ـ الى ولادة
تنظيم مشوّه بكل العاهات التي عرفتها التجارب الحزبية في الواقع العربي ، فيحرصون
على اتباع اسلوب الاعداد الفكري والتنظيمي .. وهي المهمة التي يصعب تقييمها في
الوقت الراهن في ظل غياب الجهة المخولة لتقييم المرحلة خلال مدة محدودة ..
- وحول
من هو القومي الذي سيساهم في بناء هذا الصرح
التنظيمي على المستوى القومي ، بالنسبة لمن يعتمد على التصنيف "
المجهري " الذي يدقق في كل كبيرة وصغير من افكار القوميين ، حيث يتهم على
سبيل المثال من يقول على صفحة التواصل الخاصة به بأن بشار ديكتاتور أو العكس ، ويتحوّل
عدوا للبعض أو للبعض الآخر حسب تقدير كل واحد
لتلك الجزئيات الدقيقة في المواقف ، رغم أنهم لا يختلفون في قراءتهم للوضع
بشكل عام ..
- وحول كيفية انجاز الوحدة التنظيمية بدون توفر الحد الأدنى للوحدة الفكرية ،
بالنسبة للذين لا يعترفون بامكانية
الالتزام برأي أو بموقف أو ببمارسة ، وهم لا يوافقون عليه ، حتى من أجل تحقيق
المصلحة القومية ، فلا يعطون الاهميية لما يمكن أن يضيفه التفوق التنظيمي في ظل
الاختلاف ، على التشتت في غياب الوحدة الفكرية المزعومة ، اذ أن الاتفاق على رأي
واحد ، وموقف واحد ، وممارسة واحدة ، امر
مستحيل مهما كانت درجة التجانس الفكري في
أي تنظيم ، ويبقى الالتزام بالديمقراطية
وشروطها الملزمة ، مع الصبر والتنازل من أجل توفير اسباب النجاح للمشروع القومي هو المحك لاختبار درجات الصدق والولاء عند القوميين ..
وهذا من ناحية .
أما من ناحية أخرى فانه من
الثابت أن مشروع النهضة لاي أمة من الأمم لا ينجزه ، ولا يحسمه ولا ينهيه جيل واحد
أو جيلين خلال فترة زمنية محدودة ، بل هو مسيرة أجيال متعاقبة على مدى عقود طويلة
من الكفاح ومراكمة التغيير .. فلا بد اذن
من تعاقب الخبرات ، وتغيير الاساليب النضالية ، وتباين الآراء ..
ولذلك فلا شك أن أزمة
العمل القومي لها صلة بكل هذه الجوانب المهمّة التي تنعكس بدورها على النواحي
التنظيمية ، فتعكس بالضرورة التناقض الحاد بين واقع التشتت والتشرذم للحركة
القومية وغاياتها المستقبلية المتمثلة في الوحدة .. !!
لكنها
وهي على تلك الصورة تتحول الى معضلة أكبر تعيق امكانية البحث المشترك عن حلول مشتركة
، تمكنها من ايجاد آليات للخروج من الأزمة ، التي يجتهد فيها كل بطريقته ، وبمعزل
عن اجتهادات الآخرين ، فلا تتحول تلك الأفكار الى حلول عملية ولا تؤدي الى اي
تغيير.. لتتواصل الأزمة مثلما هي في الواقع منذ خمسة عقود أو أكثر ..
فلا
غرابة اذن في اختلاف الآراء ، واختلاف التشخيص ، واختلاف المواقف من الأزمة
ذاتها ..
والواقع
فان المتتبع لبعض الاجتهادات في قراءة أزمة الحركة القومية تعترضه كثير من
التصورات التي تختلط فيها أحيانا الخلفية القومية بالخلفية الاقليمية ، على غرار الآراء
التي يعتقد فيها أصحابها بأن الأزمة تكمن في تنزيل بعض القوالب الجاهزة ـ كما
يقولون ـ إلى خطط عملية تحوّل الجمود
الفكري إلى حركة .. وهو تشخيص قد يصلح لمعالجة واقع بعض الفصائل القومية على
المستوى القطري ، ولكنه لا يتصل بمشكل التشتت التنظيمي على المستوى القومي ،
فالحركة القومية ـ
ببساطة ـ لا تعوزها الحيلة في الاهتداء الى الديمقراطية كأسلوب علمي تتحوّل به أي فكرة ، وأي موقف فردي الى أفكار ومواقف جماعية
يتحمل فيها الجميع مسؤوليتهم في مدى ملاءمتها للواقع والظروف حتى تكون مقبولة
وفاعلة على الوجه الأمثل ، حينما تكون حركة واحدة ذات استراتيجيا واحدة واهداف
واحدة الخ ...
وهكذا فان واقع الحال ، يقول
أن الحركة القومية بالمفهوم القومي للكلمة غير موجودة ، وهي لم تكن موجودة في أي
مرحلة من المراحل السابقة ، منذ إطلاق
المبادرة التي نادى بها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر سنة 1963 لبناء الحركة
العربية الواحدة اثر فشل مباحثات الوحدة الثلاثية في ذلك الوقت ، إذا استثنينا تلك
المحاولة في نهاية الستينات ، والتي تحولت إلى قضية معروفة باسم التنظيم الطليعي
في بداية حكم السادات ..
فكيف ستتحقق الوحدة
الفكرية والحركية إذا كانت القاعدة العريضة للقوميين لا تنتمي لأي تنظيم من التنظيمات
الموجودة في كل قطر ؟ وأن البقية المتبقية ممن ينتمون إلى الفصائل القومية في
دولهم لا يعلمون حتى بما يحصل في الأقطار
الأخرى إلا من خلال ما تنقله إليهم وسائل الإعلام المعادية .. ؟ فلا يوجد بينهم أي
نوع من أنواع التنسيق ، أو الاتصال ، أو التشاور ، أو السعي لتوحيد الممارسة ، مما
يجعلهم في غربة كاملة ، واختلاف في المواقف ، وأحيانا في صراع وتصادم وعداء حتى
وهم في نفس القطر .. !!
لا غرابة أيضا حينما نرى
هذا العجز بين صفوف القوميين ، في ظل
الخطر الداهم على الأمة من كل الجهات ..
والسبب لا يخفى على الجميع : وهو أن الواقع القومي لا يمكن أن تفعل فيه إلا حركة تتماها وتتلاءم طبيعتها وخصائصها مع خصائص مجتمعها .. تماما مثلما تتلاءم أي نبتة مع ظروفها البيئية وتربتها التي تنبت فيها ..
والسبب لا يخفى على الجميع : وهو أن الواقع القومي لا يمكن أن تفعل فيه إلا حركة تتماها وتتلاءم طبيعتها وخصائصها مع خصائص مجتمعها .. تماما مثلما تتلاءم أي نبتة مع ظروفها البيئية وتربتها التي تنبت فيها ..
وهو ما يعني أن الفشل
يعود بالأساس إلى حجم التناقض عند القوميين
بين المنطلق والغاية من جهة ، وبين الأسلوب والممارسة في الواقع من جهة ثانية ، إضافة إلى عدم الامتثال لشروط الديمقراطية كاملة وبالخصوص في مرحلة التنفيذ التزاما برأي الأغلبية ، حيث يستحيل على الحركة القومية أن تتطور بدونها ، وهي تسعى لأن تبلغ أهدافا
يصل مداها في أدق تفاصيلها إلى تغطية كل جوانب الحياة ، لشعب يمتد على مساحات
مترامية الإطراف بين المحيط والخليج .. وهي مجبرة على أن تستقطب منه إلى صفوفها ما
يكفيها من المؤمنين والملتزمين والمجندين لتحقيق تلك الغايات والأهداف العظيمة ،
وهم ينحدرون من مستويات متفاوتة معيشيا
ومعرفيا ، ومن أوساط مختلفة جغرافيا وثقافيا ، ولهم معتقدات متباينة دينيا ومذهبيا
الخ ..
وما الجديد في هذا كما يمكن أن يقول البعض ..؟؟ ألا يكاد ما قيل في
هذه النواحي أن يتحول مجرد التذكير به في بعض الأحيان إلى تهمة جاهزة بالجمود والتكلس والسلفية
القومية وغيرها .. ؟
بلى ..
ورغم ذلك لا يستحق أحد
أن توجه إليه تهمة ، لأنه لا يوجد إلى حد الآن من هو فوق النقد ، أو من هو في وضع
أفضل من الآخرين .. ولم يرتق بعد أي طرف من القوميين إلى مرتبة يكون فيها أعلى
درجة في سلم الممارسة لكي يشيطن غيره ، أو يخوّنهم ، أو يتهم ولاءهم ويشكك فيه ..
والحال أنهم جميعا في وضع شبيه بوضع
الأجسام السابحة في الفضاء الرحب ـ والتي لم تسمح
عندهم قوانينها بعد ، بأن يتحول
أحدهم إلى مركز تنجذب إليه كل الأجسام الأخرى مثلما يقع عادة في الطبيعة ، حتى ولو كان في قلب العروبة
مصر .. !!
وقد يرد البعض متحججا
بظروف التجزئة ، والامكانيات .. الخ ، وهو صحيح .. غير أن الخطوة التي تسبق الالف
ميل لا تزال غائبة ، والحجج هي نفسها دائما .. حتى صارت الظروف هي التي تقود
القوميين و ليس العكس .. كما صار الفكر مطبوعا بطابع اقليمي واضح لدى الكثيرين ..
والواقع
أن الحسابات الحالية المعتمدة في الحكم على الظروف ، هي بالاساس حسابات القياس على
واقع الفصائل محدودة الامكانيات مقارنة بامكانيات التنظيم الواحد .. تماما مثلما تختلف الإمكانيات القومية في دولة
الوحدة ، عن إمكانيات الدول الإقليمية ولو مجتمعة في زمن التجزئة الحالية .. ولذلك
يخطئ الاقليميون في الأقطار العربية التي تتخوف من الوحدة باعتبار ما يمكن أن
تسلبه ـ في نظرهم ـ من الإمكانيات التي يستحوذ عليها كل قطر .. وهو جهل وخلط تام
بين مفهوم التنمية والتطور في ظل التجزئة
التي تجعل الأقطار عاجزة عن التقدم
، فلا يصيب إمكانياتها الا الإهدار والنقص
باستمرار ، وبين مفهومها في ظل الوحدة حينما تتحول تلك الإمكانيات المحدودة إلى
إمكانيات قومية ضخمة ، لا تتوقف .قدراتها على استخراج الثروة وبيعها خاما في الأسواق العالمية ، بل على خلق
ثروات تحويلية جديدة ، تمنحها إمكانيات مضافة تساوي قيمتها تقريبا قيمة الفارق بين
التجزئة والوحدة ، كما نراها ونحس بها حينما نقارن حالنا بحال الدول القومية
المتقدمة ..
إن ما تحتاجه الحركة
القومية فعلا هو الخروج من العزلة والجمود وتحويل تلك الأنا والعقلية الحزبية الضيقة إلى عقلية طليعية متطلعة للحركة العربية الواحدة ، ولو
بمبادرات بسيطة ، تؤدي إلى كسر القطيعة والجفاء من خلال عدة صيغ ممكنة قد تكون
بايجاد قنوات تنظيمية دائمة للتنسيق ،
والتشاور ، وتبادل الخبرات ، والسعي الى توحيد المواقف من القضايا المحلية
والقومية ، مع التفكير المشترك في إيجاد أفق جديدة للعمل القومي على المستوى
الإعلامي ( قناة فضائية للحركة القومية )
، نشرات دورية تهتم بالقضايا الفكرية والسياسية على المستوى القومي ، مواقع الكترونية خاصة بالحركة القومية ،
ومتعددة الاختصاصات تهتم بكل الجوانب الفكرية والسياسية والدينية ، والاجتماعية
والتاريخية ، والعلاقات الدولية والتنظيمات السياسية وغيرها من القضايا لتقديم
رؤية شاملة على مواقف الحركة القومية ، حتى لا تصل إلى الجماهير من أطراف معادية ،
هي لا تذكرها قي الأصل إلا من أجل تشويهها .. وكمثال حي على ذلك الاعلام على شبكة المعلومات ..
أجل ..
فالاعلام يعتبر ركيزة اساسية بالنسبة لاي مشروع ، سواء
في مجال الاقتصاد ، والتجارة والأعمال ، أو في مجال السياسة والفكر والدعاية الحزبية ..
وفي هذا الصدد فان الاعلام على الشبكة العنكبوتية بات
سلاحا ذو اولوية يستخدمه السياسيون في التعريف بافكارهم ، والترويج لمشاريعهم ..
وفي نفس الوقت لافشال المشاريع المنافسة لهم على الساحة ..
ولذلك ، فان من ابرز الاحتياجات الغائبة منذ عقود بالنسبة للفكر القومي
التقدمي ، هما :
* الموسوعة الفكرية .
* والترجمة .
فالأولى تمكن أي باحث عن المعلومة في مجال الفكر القومي
، من الوصول الى غايته وبين يديه ـ على الأقل ـ مقاربة أو تعريف يصدق فيه
الحكم على الأفكار ـ وهي نابعة من أصحابها ـ لكي تكون حجة عليهم ، فهما وشرحا
وتأويلا .. في حين أن ما يحدث في الواقع هو العكس تماما ، حيث يقدم الفكر القومي
بشكل عشوائي ، غير دقيق في أحسن الأحوال ، مشوه في أغلبها ..
فالإنسان حينما يدخل إلى البحث على الشبكة العنكبوتية
على كلمة محددة مثل " القومية " ، سيكون الأمر أمامه مفتوحا في غالب
الأحيان على : المعلومة الخاطئة ، والتشويه ، والخلط .. فالمعلومات كثيرة ،
ولكن غثها دائما يغلب عن سمينها ، باعتبار عدم حيادية الجهة التي تقدم المعلومة
وانعدام تخصصها .. وحتى إذا أراد الباحث تنويع الاختيارات فانه لا يجد من ضمنها
تعريفا مسايرا لتطور الفكر القومي ، واجتهاداته ومراجعاته من ناحية ، ولا مستجيبا
لبنائه المفهومي الداخلي ، الثري والدقيق من ناحية اخرى ..
أما ما تقدمه نتائج البحث المتوفرة من مصادر غير ذات صلة
بالفكر القومي ، والغير محايدة أو المعادية له في أغلب الأحيان ، من حيث المفاهيم
والمضامين فهي عادة تلك التعريفات الهدامة والمشوهة لهذا الفكر ، حيث لا تقف على
تفاصيله الدقيقة ، سواء من حيث سياقه
التاريخي ، الذي يجب فيه الفصل بين مختلف مراحل التطور الانساني ، القبلي منه
والشعوبي والقومي .. أو من حيث تجاربه التاريخية التي تختلف من مجتمع الى آخر ،
ومن مرحلة تاريخية الى أخرى .. أو من حيث المضامين والمفاهيم والافكار والخلفيات
التي بني عليها الفكر القومي كفكر انساني متطوّر باستمرار ، ويتأثر برواده من
المفكرين والسياسيين في المجتمعات القومية على المستوى العالمي ..
ولعل من الظلم الكبير الذي يتلقاه الفكر القومي التقدمي
في الوطن العربي هو تقديمه للعامة من خارج مصادره الاصلية ، في ظل الفراغ الذي
يوجد على شبكات البحث العنكبوتية ، فياتي تقديمه مشوها مظللا منفرا للعامة ، حينما
يقدم احيانا كفكر متعصب في التعريفات الماركسية ، أو كفكر لا ديني وعلماني مناهض
للاسلام ، ومناقض لدعوته في التعريفات الدينية المتطرفة .. أو كفكر انقلابي ، لا
ديمقراطي ، استنادا الى بعض التجارب التاريخية التي يزج بها دائما خارج سياقها
التاريخي ، في معارضة الفكر القومي وتشويهه ، دون الاخذ بالمراجعات والاضافات
العميقة والتطوّر الحاصل على المستوى المنهجي للفكر الذي يستحيل على دارسيه فهمه
فهما عميقا دون التعرف على الاسس الفلسفية التي بنيت عليها منطلقاته وغاياته
واساليبه النضالية .. وهكذا يتسرب كثيرا من الخلط والتشويه سواء في علاقة
الظاهرة القومية بالظاهرة القبلية والشعوبية ، وبتطور المجتمعات الانسانية عموما
.. أو في علاقة هذه الظواهر الانسانية بالأديان ، أو بأنماط الحكم وغيرها من
المضامين الاجتماعية التي تطرح داخل المجتمعات .. كما ان اغلب التعريفات المتاحة
على الشبكة العنكبوتية ، تقدم الفكر القومي في اطاره العام الذي يقف عادة عند
التجارب القومية الاوروبية ، والتجارب العربية التاريخية المرتبطة بالسلطة
السياسية ، والتي تذكّر المتلقي دائما بالسلبيات ، والاخطاء والهزائم .. ولعل من
أشد الحيل والمغالطات المتبعة لتشويه الفكر القومي ان تقدم تلك التجارب على
اساس ارتباطها بالفكر ، وليس في اطار المسؤولية الواقعة على السياسيين ، والواقع
انه لو كان ذلك الربط صحيحا لصدق أيضا على التجارب الاسلامية في مختلف فترات دولة
الخلافة ، ولأصبح الإسلام مدانا لمجرد فشل المسلمين ، قياسا على تلك الاحكام التي
يصدرونها على الفكر القومي ... !!
أما الثانية ، التي يجب ان يتنبه اليها المهتمون بمستقبل
الفكر القومي ، وهي الترجمة ، التي لا يستطيع بدونها الفكر أن يحلق في الأفق
العالمي بتلك الاسس الفلسفية التي لم تتح لها الفرصة الى حد الآن مثلما اتيحت
لغيرها من الأفكار حينما كان يتلقفها الفلاسفة والمفكرون في أوانها ، وهي منشورة
باللغة الانقليزية أو الفرنسية ...
وهكذا في ظل الواقع الراهن لا يبقى امام الفكر القومي من فرصة للانتشار على
المستوى العالمي ، الا بطريقتين :
اما باحداث هزة قوية في الوطن العربي تغير الواقع
وتقلب موازينه وموازناته جميعا ، فيلتفت الغرب بجدية لدراسة اسسه الفكرية ..
أو بحركة واسعة في مجال الترجمة تؤدي بالفكر الى اقتحامه للمدارس الاكادمية والجامعات في العالم ليرتد الينا وقتها مفروضا على الاقليميين الذين يحاصرونه الآن ، ويمتنعون عن تدريس منهجه ، والتعريف بأسسه الفلسفية التي تقارع أعتى النظريات وأكثرها انتشارا في العالم ، والحال اننا نرى افكارا بسيطة ، تافهة ، متداولة على نطاق واسع في برامج التعليم ..
أو بحركة واسعة في مجال الترجمة تؤدي بالفكر الى اقتحامه للمدارس الاكادمية والجامعات في العالم ليرتد الينا وقتها مفروضا على الاقليميين الذين يحاصرونه الآن ، ويمتنعون عن تدريس منهجه ، والتعريف بأسسه الفلسفية التي تقارع أعتى النظريات وأكثرها انتشارا في العالم ، والحال اننا نرى افكارا بسيطة ، تافهة ، متداولة على نطاق واسع في برامج التعليم ..
سيقول البعض ان كل هذه
الخطوات لا يمكن ان تكون عملية وناجعة الا
تحت اشراف تنظيم موحد ياخذ بعين الاعتبار كل هذه النواحي المهمة ويضع لها الخطط
والوسائل العملية والامكانيات اللازمة لانجاحها واستمرارها ، وهو صحيح نسبيا ..
وسيقول آخرون أن ظروف
الحركة القومية ـ وهي على هذه الحالة ـ تغنيها عن أي اعباء مضافة الى أعبائها
القطرية ، باعتبار طبيعة المرحلة التي يمر بها الواقع القومي الذي أصبحت فيه مهمة
الحفاظ على الكيانات القطرية مكسبا للقوى القومية ، وهو ليس صحيحا بالكامل ..
وسيقول غيرهم أن مهمة
الحركة القومية في الوقت الراهن هي تحرير الأوطان ، وبناء دولة المؤسسات التي
تمكـّـن الجماهير العربية من التعبير الحر عن ارادتها ، وستكتشف ـ وقتها ـ الطريق الصحيح الى الوحدة وهو غير صحيح بالمرّة
..
وفي النهاية سيقول البعض
الآخر ـ لا شك سيقولون ـ أن الاسلوب العلمي الوحيد لبناء التنظيم القومي هو الذي
ينبثق من القاعدة الجماهيرية على اسس ديمقراطية سليمة وليس على اسس توافقية بين
قيادات الفصتائل القومية الخ .. وهو رد قائم بالاساس على الخلط وسوء الفهم ..
فالأول صحيح نسبيا ، لان انجاز المهمات المذكورة لا يحقق النجاعة
المطلوبة الا تحت اشراف آداة
تنظيمية تتولى التفكير والتخطيط ورصد الامكانيات فضلا عن التسيير والمتابعة وتنفيذ
المهام الخ .. غير أن هذه المهمّات تعدّ جزءا يسيرا من الالتزام تجاه الواجب
القومي الذي يجب ان تتحمّل فيه كل الاجيال مسؤولية وضع اللبنات الاساسية للحركة
العربية الواحدة في كل مرحلة من المراحل .. وأوّلها فك العزلة ، وإشاعة الروح
القومية العالية في صفوف القوميين ، عملا بتلك المقولة الشهيرة : " مسافة الالف ميل تبدأ بخطوة .."
أما الغير صحيح بالكامل
فهو القاء المسؤولية على الظروف التي تمر بها الامة العربية والحركة القومية في آن
واحد ، وهما وان كانا يعانيان من الضعف والاستهداف من كل الجهات ، الا أن ذلك
يعطي مبررا أكبر للتفكير في الخروج من
حالة التشتت والتشرذم واهدار الطاقات ، حيث يستحيل مواجهة تلك التحديات ـ في حدها
الأدنى ـ الا بوحدة القوى القومية التقدمية الممكنة في هذه المرحلة ..
ولكن الغير صحيح بالمرة
، هو الادعاء بأن تفرغ الاحزاب القومية لبناء الدولة " الاقليمية الديمقراطية
" سيؤدي بالضرورة لكشف المشكلات القومية التي من بينها التجزئة ، وستختار
وقتها الجماهير العربية ـ تلقائيا ـ طريق الوحدة .. وهذا يحتوي على مغالطة كبيرة
من المغالطات التي يقع ترويجها باسم " الانتصار للديمقراطية " و"دولة
المواطنة " و" الحقوق " و" الحريات " الخ .. والواقع أن
دور مؤسسات الدولة في الكشف عن هذه المهام والحقائق يتوقف أولا وقبل كل شئ على
طبيعة القوى التي تسيّرها ، وطبيعة الحكم ، أي على جوهر الديمقراطية ، وعلى حال الامة وجودا
وعدما والقوى القومية معها في تلك المرحلة المجهولة الخ .. ولعل مثل هذه المواقف
تستند في الاصل على ما قاله الدكتور عصمت سيف الدولة في دراسة بعنوان الديمقراطية
والوحدة العربية ، من أن " الحل
القومي بسيط ، فرض الديمقراطية في الدول الاقليمية وحراستها وترك الشعب يكتشف
بنفسه من خلال الممارسة أن مشكلات تطوره وتقدمه قومية موضوعيا .. " وهذا
يعتبر ـ في أحسن الحالات ـ تأويل خاطئ ، لأن ما ذكره الدكتور كان في سياق تاكيده
على دور الديمقراطية في بناء صرح الوحدة ، وحل مشكلات التنمية والتخلف في أي مجتمع
، ولا يعني بالمرة ـ كما يؤوّل البعض ـ ان يتخلى القوميون عن دورهم القومي
ليتفرّغوا تماما للنضال الحقوقي والديمقراطي والاجتماعي في الدول الاقليمية ، بل
للتأكيد على تكامل الدور الاول والدور
الثاني ، أي للتحريض على الانخراط في المعارك اليومية التي تؤدي الى تحرير
الجماهير العربية حتى تتفرغ للتفكير في انجاز المهام القومية ، فتصبح مشكلة الوحدة
بدورها مشكلة ديمقراطية ..
أما ما يمكن ان يقوم على
الخلط وسوء الفهم تجاه أي فكرة من هذا النوع ، هو ادانة أي اسلوب لا تتوفر فيه
متطلبات العمل الاعدادي كما يفهمه البعض ، في حين ان المطلوب ، في غياب التنظيم
القومي ـ هو السعي دوما لاضعاف الاقليمية فكرا وممارسة من خلال أي مكسب يتحقق
للجماهير في أي موقع ، وفي أي مرحلة .. فتحرير الجماهير العربية من الاستبداد
وبناء ديمقراطية سليمة هو مكسب وحدوي ، والدفاع عن حقوقهم وصولا الى تحريرهم من
الاستغلال هو أيضا مكسب وحدوي ، كما أن أي خطوة لدعم المقاومة بكل أبعادها هو مكسب
وحدوي ، وهكذا .. وهو ما يؤكد ـ من هذه
الناحية ـ على أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه القوميون خلال هذه المرحلة ، مهما
كانت سلبيته وأساليبه المتبعة طالما انه يطرح كخطوة عملية لتغيير الواقع بما هو
ممكن ، وليس كبديل لما يعتبره البعض أسلوبا علميا ..
ولكن دعونا نتوقف لحظة أمام
الاعداد .. هل يتناقض الاعداد بمعناه المتداول : نشر الفكر الطليعي وتكوين الكوادر
المناضلة واعدادها لبناء الحركة العربية الواحدة ، مع مفهوم العمل الحزبي بكل مخرجاته : الخضوع للهيكلة والاطر الحزبية
والمساهمة في التعريف بالحزب واهدافه وجلب الانصار له ، والالتزام بمخططاته
وأساليبه النضالية التي يسعى من خلالها للوصول الى السلطة .. ؟؟
طبعا هذا يتوقف على الاجابة عن
الأسئلة التالية : هل العمل الحزبي يمكن
أن يقبل بغير المراكمة للمصلحة الحزبية .. ؟
وهل يمكن للعمل الاعدادي أن يتقيد بمصلحة الاحزاب وظروفها ، وامكانياتها ،
ومواقفها وأهدافها وتكتيكها .. ؟؟
الاجابة على هذا في الواقع هي من أكبر المسائل الخلافية التي يمكن تصنيفها
الى عدة وجهات نظر :
ـ منها ـ أولا ـ وجهة النظر التي تعتبر أن مهمة الاعداد قد انتهت وتجاوزتها
الظروف ، وبالتالي فهي غير معنية بالمعوقات ، ولم يعد يعنيها في القت الراهن سوى العمل على تغيير الواقع
المحلي في كل قطر ، وتوفير الديمقراطية والعيش الكريم للناس وبعدها ـ كما يقولون ـ
لكل حادث حديث .. ولكن حينما نراهم بعد
ذلك يزنون المواقف بمدى قربها أو بعدها عن مصالحهم حتى وان كانت ضد المصلحة القومية ، نعرف
ببساطة انهم لم يعودوا قوميين ..
ـ ومنها ـ ثانيا ـ وجهة النظر التي تجعل كثير من القوميين المتمسكين
بالأهداف الاستراتيجية يرفضون الالتحاق بتلك الأحزاب ، لأنهم يعتبرون أن :
الفكرة الاولى ( اهتمام الهيكل الحزبي بمصلحة غير مصلحته ) تتعارض مع طبيعة الحزب ـ أي حزب ـ بما فيها الأحزاب القومية
مهما كان ولاؤها القومي ، ودليلهم على ذلك هو واقع الأحزاب القومية في الوطن
العربي على مدى نصف قرن ، حيث لم تفلح ، في اي شئ ، لا في الاعداد ، ولا في تحقيق
الوحدة بين فصائلها ، ولا في احداث التغيير المطلوب رغم مساهمة منتسبيها الفعالة ـ
وهم مشتتون كما يقولون ـ في الحراك الاجتماعي الذي تحوّل الى ثورات حقيقية خطفتها القوى
الرجعية من أماممهم وهم ينظرون أحيانا ، أو يتنافسون ويتصارعون على المواقع في أكثر من حين .. !!
والثانية ( اهتمام الاعدادي بمشروع غير مشروعه ) تتعارض ـ في نظرهم ـ مع مهمّة الاعداد وهي تكوين جيل قومي متحرّر
من القيود والولاءات الحزبية القطرية ، وغير متوقفة غايته على الغايات الاقليمية ..
ـ ومنها ـ ثالثا ـ وجهة النظر التي لا ترى ضرورة " التخصص " في مهمّة
الاعداد ، باعتبار أن فكرة " الحركة العربية الواحدة " ذاتها هي فكرة
غير نخبوية ، وغير مقتصرة على أفكار مسبقة بعينها ، ولكنها فقط قائمة على أساس الايمان بثوابت ومرتكزات جامعة
يمكن ان تنتقل في اي وقت ، وبطريقة ديمقراطية الى واقع ملموس ، يحوّل كل الفشل
والخيبات الى واقع حي .. فهي اذن مهمّة جماهيرية بامتياز تهم كل القوميين المؤمنين بتلك الغاية
أينما كانوا ، في الاحزاب والجمعيات والمنظمات ، أو في المدارس والمعاهد والجامعات
، سواء داخل الأوطان أو في الغربة والشتات .. وفي أي مرحلة ،
سواء قبل التاسيس أو بعده ، فهو عمل مفتوح على المستقبل حتى قيام دولة الوحدة
بالوسائل الملائمة لكل مرحلة .. مما يعني باختصار أن الاعداد ليس سوى هاجسا يوميا لكل المؤمنين بالحركة العربية
الواحدة ، الذين يلزمون أنفسهم بالعمل في اي موقع للمزيد من كسب الانصار لهذا
المشروع التاريخي الذي تأخر أكثر من نصف قرن ..
ولكن ..
مثل هذا الطرح النظري سيبقى معقولا الى حين يصطدم بالواقع في اختبارين مهمّين على الاقل :
ـ الاختبار الاول يتعلق بالنوايا التي تصاحب الاعداد ، وبالخطوات التي تأتي بعده ـ عند الذين يفصلون بين المهام والأطر ـ والتي يمكن أن تكشف عنها الاسئلة التالية :
لفائدة من يقع استقطاب الأنصار .. ؟؟ هل هو لصالح المشروع القومي ؟؟ أم لصالح الأحزاب الاقليمية ؟؟
والى أي مدى يستطيع أي عنصر اعدادي أن يفصل ـ وهو يمارس مهامه الاعدادية ـ بين مضمونين مختلفين ؟؟ وهل سيقبل الاعداديون في أي حزب اقليمي بأن يختار أي عنصر من الانصار الجدد حزبا اقليميا غير حزبهم الذي ينتمون اليه ..؟؟
والى أي مدى يمكن أن يقبل أي اعدادي بالازدواجية القائمة في التواصل مع الانصار اذا اختاروا أن يكونوا :
* انصارا لا ينتمون الى نفس الحزب .
* أنصارا مستقلين عن اي حزب ..؟؟
الخ ..
لفائدة من يقع استقطاب الأنصار .. ؟؟ هل هو لصالح المشروع القومي ؟؟ أم لصالح الأحزاب الاقليمية ؟؟
والى أي مدى يستطيع أي عنصر اعدادي أن يفصل ـ وهو يمارس مهامه الاعدادية ـ بين مضمونين مختلفين ؟؟ وهل سيقبل الاعداديون في أي حزب اقليمي بأن يختار أي عنصر من الانصار الجدد حزبا اقليميا غير حزبهم الذي ينتمون اليه ..؟؟
والى أي مدى يمكن أن يقبل أي اعدادي بالازدواجية القائمة في التواصل مع الانصار اذا اختاروا أن يكونوا :
* انصارا لا ينتمون الى نفس الحزب .
* أنصارا مستقلين عن اي حزب ..؟؟
الخ ..
ـ الاختبار الثاني أكثر أهمية ، لأنه أكثر حساسية عند الانصار من الشباب القومي في الجامعة ، وهم المعروفين ـ في ساحة تونس على الاقل ـ برفضهم المبدئي والمطلق لفكرة التحزب طوال المرحلة الجامعية .. وهو موقف علمي سليم قد يكون المحك الفعلي والحقيقي لاختبار الولاء القومي بالنسبة لاي فصيل من الفصائل القومية التي تنشط على الساحة .. أي بمدى احترامها لرغبة الطلبة في الاستقلالية ، ومدى التزامها بالحفاظ على الوحدة السياسية والفكرية داخل الجامعة ، تاركة لهؤلاء الشباب حرية الاختيار في الانخراط الحزبي بعد التخرج ..
طبعا النجاح في مثل هذه المهام والاختبارات بالنسبة لاي فصيل قومي ولاي عنصر اعدادي منتمي اليه ، يتوقف على مدى وعي المنتسبين واستعدادهم لقبول مبدأ التخلي عن احزابهم حينما تتهيأ الظروف لقيام الحركة العربية الواحدة ، ومدى ادراكهم بأن دورهم كقوميين تقدميين هو العمل باستمرار على تحقيق تلك المهمة التاريخية الممكنة .. وقد يكون هذا أيضا معيارا واختبارا
لصدقهم بالنسبة للدكتور عصمت سيف الدولة حين تحدث عن المؤسسات الاقليمية وهي تسعى
لتغيير الواقع باساليبها الاقليمية قائلا في محاضرته الشهيرة " تنظيم قومي من
أجل الوحدة الاشتراكية " : " ثم يأتي المحك النهائي لصدقها فيما تعلن ،
من أنها تستهدف الوحدة الاشتراكية . باعلان موقفها الايجابي من التنظيم القومي
التقدمي ، ومحاولات بنائه .
انها ان تكون صادقة ، فلا بد من
أن تكون مدركة وجودها ، ان كان يتفق مع ضرورات ما قبل التنظيم القومي ، فانه ليس
بديلا عنه ، ولا طريقا اليه .
وعليها ان صدقت أن تعلن ، ثم
تبدأ من الآن في تحضير أعضائها لمرحلة الانتقال من منظمات الضرورة ، الى التنظيم القومي
. ولعل أفضل ما تعبر عنه عن هذا الصدق هو أن تسمح لدعوة التنظيم القومي ، بأن تطرح
على قواعدها ، وكوادرها ، وأن تبيح لمن يشاء من تلك الكوادر أن يسهم في الدعوة
اليه ، أو الاسهام في بنائه ، لأنها حينئذ ، ستكون مدركة الحقيقة ، حقيقتها ، وحقيقة التنظيم القومي . انها ليست منظمات
موازية له ، لا في المنطلقات ، ولا في الغايات ، ولا في القوى ، ولا في التركيب ،
فهو لا يناقض وجودها ، ولكن يتجاوزه .
فهي منظمات الماضي ، وهو أداة
المستقبل .. "
على أي حال فان الحركة
القومية التي عجزت ـ الى حد الآن ـ عن
بناء هيكلها التنظيمي الموحد ، فهي تستطيع على الأقل مد الجسور ، وانجاز عشرات
المهام القومية الممكنة التي تمهّد لبناء تلك الوحدة التنظيمية المنشودة ..
وفي المحصلة النهائية قد
يكون في اختلاف المواقف ، والصراعات العارضة بين الفصائل القومية ، أمر طبيعي في
ظل واقع التجزئة الذي يعيشه القوميون ، الا أن الغير طبيعي هو استمرار مثل هذا
الوضع بين صفوفهم وهم الذين عاشوا يلعنون الاقليمية ، ويتهمون أنظمتها بالخيانة
لقضية الوحدة ، وقضية فلسطين وغيرها .. ولكنهم ظلوا يقفون ـ طوال الوقت ـ على نفس
المسافة من الواقع ، فلا يغيرون منه شيئا ، ولا من أنفسهم ، حتى اذا وصل أحدهم الى
الحكم غرق في مشاكل الدولة الاقليمية لتلتف حوله مؤسساتها وأجهزتها المعادية ـ
بطبعها وطبيعتها ـ لقضية الوحدة .. فلا يعرف منها خلاصا ، الا وهو يتصرف تماما
مثلما كان يفعل الآخرون .. !!
وحتى اذا اعتبرنا فعلا
أن مثل هذا الوضع الذي تطغى عليه الخلافات والفرقة والصراعات الحزبية هي أحد
إفرازات واقع التجزئة والتشتت التنظيمي ، فان استمرارها بين الفصائل المتواجدة في
نفس القطر ، هو من اهم اسباب الفشل في الواقع القطري ، نظرا لما يسببه هذا التشتت من عزوف لدى المواطن
على الانخراط في الاحزاب القومية وهو يراها تنادي بالوحدة ، ولكنها تكرس أمامه
التجزئة في ذاتها ، تماما مثلما تفعل الانظمة الاقليمية في الواقع ، فلا يثق في
وعودها حتى لو اقتنع بأطروحاتها ..
نريد ان نقول باختصار ،
أن الواقع شيئ ، واستمراه دون محاولات تغييره الى الافضل شئ آخر ، خاصة وأن كل الجهات المعادية للمشروع
القومي تتغير وتتطور على الاقل من منظورها الخاص ، ومن جهة تقديرها لمصلحتها ، على
غرار ما نراه بالنسبة للحركات الدينية .. وقد لا يروق مثل هذا الكلام للبعض ، غير
أن الواقع لا يتغير بالرغبات ، والشعارات ، أو بالنوايا الحسنة ، والحال ان
المشكلة عمرها الآن أكثر من نصف قرن .. ولابد من وضع حد لمسألة التناقض بين طبيعة
الحركة القومية وواقعها الذي اصبح غير مقبول على أي وجه ، ومهما كانت الظروف
والعقبات .. اذ ان من بداهة الأمور ان يكون الوحدويون حركة واحدة موحدة ..
كيف .. ؟؟
بالمبادرة ، والارادة ،
والتضحية ، والصدق ، وحسن الظن بالآخر ، والحب ، والتسامح بين الاخوة ، وترجمة
الولاء القومي الى واقع معاش يربي الأجيال على روح الوحدة وسمو الهدف من خلال
المشاركة ، والتخطيط الجماعي ، والحوار المفتوح ، والنقد البناء في ظل احترام
الآراء ، وتفعيل الجدل الاجتماعي ، وبناء المؤسسات الديمقراطية ، وسن القوانين
والتشريعات الضابطة للحركة ، مع الالتزام والاحتكام الى قواعد الديمقراطية
وشروطها في سماع الراي الآخر ، والمشاركة
في طرح الحلول ، ثم الالتزام براي الأغلبيية مهما كان نوعه ، ومهما كانت درجة
مخالفته لآرائنا ، تقديرا للمصلحة القومية التي تتطلب استمرار الوحدة حتى في ظل
الممارسة الخاطئة ، رغم أن المنطق يقول
عكس ذلك ، لأن الخطأ يأتي عادة من تشتت الآراء والتمسك بالرأي الواحد ، وليس من
تعدّدها وتفاعلها ..
والواقع أن التعدد الحزبي ، هو الذي يجعل الفصائل القومية في نفس القطر ، متنافسة أحيانا ومتصارعة على المواقع
السياسية والمناصب بأكثر حدة من تنافسها
وصراعها مع الفصائل الأخرى ، وهي تحمل الى
الناس نفس المضامين والافكار تقريبا مع اختلافات لا تكاد تظهر أحيانا الا في
الصياغة .. لذلك فان الاختلاف أمر وارد ، وحاصل في الأصل كلما حدث تعدد ،
واستقلالية .. وهكذا من بديهيات الأمور مثلما للوحدة شروطها ونواميسها ، فان للاختلاف
شروطه ونواميسه ايضا ..
فإما أن يكون الاختلاف
مؤطرا في إطار تنظيمي يسمح بالحسم عن طريق الجدل الاجتماعي الذي ينتهي باتخاذ
قرارات ملزمة للجميع عن طريق تغليب رأي الأغلبية ليتم بذلك المحافظة على الوحدة
التنظيمية والسياسية بين الشركاء في التنظيم .. وإما أن يبقى الاختلاف قائما بين
الفرقاء ، بسبب الانتماءات المتعدّدة التي سيعبر من خلالها كل فرد عن ولائه الحزبي
، ليتحول وقتها مجرد الاختلاف الى تنافس " مشروع " ، سيؤدي بالضرورة الى
احتكاك حاد أحيانا بين عدّة تنظيمات مستقلة ، يسعى كل طرف منها الى تحقيق المكاسب الخاصة على حساب
كل الأطراف الموجودة على الساحة حتى وان كانت على نفس الخلفية الفكرية .. فلا يمكن
لأي طرف في ظل التعدد التنظيمي والولاءات الحزبية أن يتنازل لأي طرف آخر الا في
اطار تفاهمات ، أو تحالفات تقدّم لهما مكاسب مشتركة ، خلال مهمة من المهام
السياسية ، او مرحلة من المراحل ..
وبالتالي فان الاختلاف اذا لم يجد الأرضية الملائمة لكي يتحول إلى أفكار ومواقف
ومصالح مشتركة ، فان الوعي السياسي بالمصلحة القومية لن يكون مفيدا في تجنب
الاحتكاك الذي ينتج عن المنافسة السياسية بين الأحزاب ، فلا يؤدي بالضرورة الى
وحدة المواقف والآراء السياسية باعتبار غياب الإطار الموحد الذي يتحول فيه تنوع
الأفكار الى ثراء في المعرفة بين شركاء حقيقيين في المشروع السياسي الذي يجمعهم ..
وهكذا ، فان التشتت
التنظيمي بين القوميين يؤدي بالضرورة الى اختلاف المواقف والآراء وليس العكس .. وأن المؤسسات الجامعة
التي يمكن ان يدور فيها الجدل الاجتماعي على جميع المستويات الأفقية والعمودية ،
هي القادرة وحدها على ضمان الوحدة الفكرية والحركية ، حينما تجعل الأفكار تغادر كل
واحد منهم ثم تعود إليه أكثر غنا ، وأكثر اكتمالا ، لتضيف الى ما عنده ما يمكن أن
يضيفه الجدل الاجتماعي من قدرة فائقة على تعويض أي نقص موجود في مستوى الجدل
الفردي لكل واحد منهم ..
( القدس عدد 191 ) .