الوحدة العربية بين دعاتها وأعدائها .. (17) .
لا شك أن تأخر المشروع القومي عن الانجاز
لأكثر من نصف قرن ، زاد في تباين المواقف ، وأدى الى الانقسامات الحادة في
صفوف الحركة القومية ، فكان ذلك سببا في
حصول التشرذم التنظيمي ، ونتيجة له في نفس
الوقت ..
سببا لان في غياب وحدة الموقف تغيب وحدة الصف ، فلا يحصل اتفاق ، ولا وحدة
تنظيمية مطلقا ..
ونتيجة لان وحدة الموقف والحركة لا تحصل الا في تنظيم موحد يحسم خلافاته على اساس القاعدة الديمقراطية ..
ونتيجة لان وحدة الموقف والحركة لا تحصل الا في تنظيم موحد يحسم خلافاته على اساس القاعدة الديمقراطية ..
وهكذا فانه من الطبيعي ـ في غياب المشروع القومي الواحد ـ أن لا يوجد الا تنظيمات متعددة بتعدد الساحات في كل قطر أو
بتعدد الزعامات في القطر الواحد احيانا .. وهو ما يؤدي بالضرورة الى اتساع الهوة ،
وزيادة الحساسيات حتى يصل الأمر الى مثل ماهو حاصل الآن ، مهما عوّل القوميون على النوايا الحسنة ،
والارادات الصادقة ..
لكن هل يحتاج القوميون الى الحديث من جديد عن الاسلوب ؟؟
الا يعرفون أن مشروع الحركة العربية الواحدة معلق منذ عام 1963 ..؟؟
الا يعرف كل القوميين أن وحدة الهدف من وحدة الآداة ..؟. ووحدة الآداة من وحدة
الصف ..؟؟
بلا .. ومنها نتعلم أن وحدة الصف أولا .. لكنها مستحيلة دون وضع حد ـ بطريقة
عملية ـ للتفكير بمنطق الفرقة الناجية ..
فالقوميون بكل مدارسهم الفكرية لا
يختلفون ـ من حيث المبدأ ـ على ضرورة قيام التنظيم القومي بخصائصه المعروفة : الاستراتيجيا
الواحدة ، والقيادة الواحدة .. وهم بما
يمتلكونه من قدرات فائقة على قراءة المرحلة وحيثياتها قادرون على استنباط الحلول ،
ووضع الخطط والأساليب اللازمة لقطع الامتداد التلقائي للازمة ، لو تحقق لهم شرط واحد
، هو ما يحتاجونه الآن ، متمثلا في ضبط
الحد الأدنى المتعلق بـ " ثوابت
" الحركة القومية ، لتحقيق الحد الأدنى أيضا من وحدة الصف والأهداف القومية
في مثل هذه المرحلة الحساسة التي يتم خلالها انتقال معسكر الأعداء ، من التخطيط الى التنفيذ لانهاء المشروع القومي جملة وتفصيلا ، بتفتيت المفتت ، الذي سيزيد بدوره في تفتيت
القوميين حينما يجدون انفسهم في كيانات جديدة
قائمة على أسس طائفية او عرقية أو مذهبية ، متصارعة ابدا ،
ويسعى كل منها للاحتماء بالأجنبي ولو على حساب مستقبل الكل .. بل على
الأرجح وقتها أنهم سيجدون أنفسهم تحت طائلة الإرهاب والاغتيالات والتصفيات الجسدية
على غرار ما يقع في جميع الأقطار التي دخلتها الفوضى ، وستقع عليهم وقتها جسامة
المسؤولية في حق أنفسهم وأمتهم بأكبر مما
وقعت على القادة السابقين ، لانهم لم يتعلموا
من تلك الأخطاء المدمّرة التي وقعت خلال العقود السابقة .. ويكفي أن يحاول أي قومي
تقدمي اختبار قدرته على الخيال لو قلنا : ماذا كان يحدث لو خفض القوميون في تلك
الفترة من منسوب الأنا عندهم ، مستفيدين من أخطاء وحدة 1958 ، وما تلاها من هزيمة سنة 1967، ليحققوا بعد ذلك وحدة سوريا والعراق ـ فقط
سوريا والعراق ـ تحت حكم الحزب الواحد ذو الايديولوجيا الواحدة ؟؟ هل سيكون وقتها حال
الأمة مثل حالها اليوم ؟؟ وهل يعقل أن نحمّل كل الخيبات للأعداء في حين لا نتقدم
خطوة واحدة لوضع اللبنات والأسس لتلك
الوحدة التنظيمية المنشودة .. ؟؟ الا يمكن تحقيق وحدة الصف تحت شعار "
وحدة القوى القومية " التي يجب ان
تسبق أي وحدة تنظيمية على قاعدة بسيطة : ثوابت الحركة القومية بكل ما فيها من خطوط
عريضة وفروع ان لزم الأمر .. ؟؟
فليكن ،، لكن كيف ..؟؟؟
جدلية المحكم والمتشابه ..
الحديث عن الثوابت ليس معناه ان هناك أشياء ثابتة غير متحركة ، أو أن القوميين
اذا حددوا ثوابتهم قد تقيدوا عن الحركة .. ان المقصود بالثوابت هو تلك المضامين
والاهداف التي قام عليها المشروع القومي منذ نشأته ، والتي تتحدّد بها هوية
الانسان القومية ، الاكثر شمولا ، والأغنى مضامين من معاني العروبة التي لا تلزم
اصحابها باي التزام عيني في الواقع سوى بعض المشاعر والعواطف والامنيات ، فتتحول
الى مشروع طوباوي ، مثالي اقليمي بالاساس ، لا يميز بين مفهوم العروبة بابعادها
التاريخية والحضارية ، كحصيلة لفترات طويلة من النمو والاضافة ، لم تتوقف عند
مكوناتها السابقة ، ولا عند حدود اللغة التي يمكن أن يتعلمها أي انسان في أي مجتمع
، بل تجاوزتها الى جميع التحولات الاجتماعية والحضارية التي ادت في النهاية الى
ظهور هذا الجسم الجديد المسمى بالوطن العربي .. وبين مفهوم العروبة كانتماء تاريخي
ماضوي خاص بفترات سابقة على ظهور الكيانت القطرية الجديدة التي ينحصر فيها مفهوم العروبة في اللغة المتداولة
بين مختلف الشعوب التي تسمى وقتها شعوبا عربية ..
ان المشروع القومي هو مشروع سياسي حضاري ، له منطلقات وغايات تبلورت من خلال
التجارب القومية والمعارك ، والمعاناة التي عاشتها أجيال متعاقبة في ظل البحث
المتواصل عن حلول للواقع العربي سواء في فترة التحرر من الاستعمار الأجنبي ، أو في
ظل الاستقلال الوطني للدول الاقـليمية بغـثها وسمينها ..
والواقع ان فكرة الثوابت هي بالاساس فكرة دينية جاء بها الاسلام الذي تقوم
مجمل أحكامه على مبدأ الثوابت والمتغيرات ، المعروفة عند الفقهاء ، بالمحكمات
والمتشابهات ..
قال تعالى في محكم تنزيله : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات
هـن أم الكتاب وأخر متشابهات ، فأما الذين في قلوبهم زيغ فـيـتـبـعـون ما تشابه
منه ابتغاء الفـتـنة وابتغاء تأويله وما يعلم تاويله الا الله والراسخون في العلم
. ( آل عمران /7 ) .
ويقول بن كثير في تفسيره لهذه الآية : " يخبـر تعالى أن في القرآن آيات
محكمات هن أم الكتاب ، أي : بينات واضحات الدلالة ، لا التباس فيها على أحد من الناس ، ومنه آيات أخر فيها
اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم ، فمن رد ما اشتـبه عليه إلى الواضح منه ، وحكّم محكمه على
متشابهه عـنده ، فقد اهتدى . ومن عكس انعكس .."
هـذا هو ديننا بكل بساطة . لو فهمه المسلمون على هذا الاساس البسيط الواضح لما
اقـتـتـل الناس من أجل تلك الجوانب التي تركها الشرع مبهمة مراعاة لقاعدتين أساسيتين :
* سنة الاختلاف .
* وسنة التطور .
يقول الدكتور محمد عمارة في كتابه
الاسلام والثورة : " و الاسلام كدين
ومن خلال كتابه الكريم وسنته التشريعـية العامة ، لم يحدد لمستقـبل المسلمين نظرية
اجتماعـية عامة ، ولم يشرع لمجـتمعهم تشريعا دائما بذاته ، لانه ، وهو خاتم
الرسالات ، والمقرر ان لله في كونه سننا منها سنة التطوّر، والتحوّل والتغـيـيـر ،
ما كان له ان يضع القيود المسبقة على المصالح المتجدّدة المتـغـيّــرة .."
وسبحان الله ..
فاذا كان في الدين يوجد المحكم والمتشابه تماشيا مع اختلاف البشر وتطورهم ، أفلا
يكون أولى بأن يوجد مثل هذا في السياسة ؟ وكيف
لا تقع مراعاة هذه النواحي المهمة أثناء
التعامل مع الواقع المعقد والمتغـير ..؟
أفلا يمكن بالقياس على الدين - الذي وضعـت أسسه ومقاصده لحل مشكلات الناس في
كل زمان ومكان ، وتنظيم حياتهم - أن يضبط أصحاب المرجعـية الواحدة ، والفكر الواحد
، والغايات الواحدة ، ما هو محكم ، كثوابت للفكر والحركة ، وترك المتشابه
خاضعا لتبدل الظروف واختلاف البشر ، فيكون باب الاجتهاد مفتوحا للتعامل مع
الواقع الذي يستحيل فيه حاليا امكانية الحسم في المتشابه دون ايجاد اطار تنظيمي موحد ..
ان هذه الناحية جوهـرية ومهمة لا يمكن لاي حركة سياسية تؤمن بالجدل على
المستوى الفردي ( جدل الانسان ) ـ واسع الانتشار بين القوميين في الوطن العربي ـ
وبالجدل على المستوى الاجتماعي ( الجدل الاجتماعي ) ، وتؤمن بالتـنوع والاختلاف ، أن تكون منسجمة مع طبيعتها القومية وغايتها الوحدوية ، دون الالتزام بمثل هذه الضوابط ، التي يتحدّد بها أسلوب التعامل مع رفاق الدرب
في ظل غياب وحدة الآداة .. ولعـل مـثـل هذه الدواعي والاشتـراطات ليست غـريبة عن
الفكر السياسي ، بل هي شبيهة بالحديث عن فكرة " الاستراتيجـي والتكـتيكـي
" ..
الاستراتيجي يتحدد عادة بالأهداف والغايات البعيدة والنهائية لأي مشروع سياسي
، فهو الأكثر ثباتا ، وإحكاما في ضبط الملامح العامة لذلك المشروع الذي يمكن أن تتاخر أهدافه سنينا
طويلة و عقودا مثل المشروع القومي .. أما
التكتيكي فهو بمثل ما يدل عليه الاسم ، أكثر ارتباطا بالممارسة الخاصة بالأهداف المرحلية التي لا
تتناقض مع الأهداف الإستراتيجية .. كأن تعقد المقاومة العربية مثلا ، هدنة مع
العدو دون أن يعني ذلك اعترافا به أو تنازلا له عن الحقوق الكاملة في أي مرحلة من
مراحل الصراع معه ..
بمثل هذا تقريبا ، وفي غياب " الوحدة التنظيمة " يمكن أن يتحقق الحد
الأدنى للتوافق على تلك الخطوط العامة ( المحكمات ) التي ستكون بمثابة عقد "
للشراكة الفكرية " يسمح بحصول قناعة
تقبل بمشروعية الاختلاف فيما هو أعلى من ذلك المستوى ، اللازم لتحقيق الحد
الأقصى ( المتشابهات ) ، الذي لا يمكن أن
يتحقق موضوعيا في ظل غياب عنصرين مهمين :
ـ وحدة التنظيم كاطار له خاصية احتضان الحوار اللازم لاتخاذ قرارات موحدة ..
ـ والديمقراطية كاسلوب وحيد لحسم
الخلاف ، ولها خاصية الزام المتحاورين
بالوقوف على رأي واحد وموقف واحد ، هو الذي يمثل الحل الاغلبي ..
بهذا يمكن أنهاء التشنج الذي تعاني منه الحركة القومية اليوم ، والذي لا يمكن تجاوزه الا بتحديد تلك
الضوابط التي تراعي بالدرجة الاولى الخطوط العامة في مجالي الفكر والحركة : (
المحكم ) .. في علاقة بما هو متغـيـر : ( المتشابه ) .. حتى يكون الخروج عن المحكم
، خروجا عن النهج القومي المتفق عليه .. بينما يبقى الخروج عن المتشابه أمر
طبيعي يعود أولا لاختلاف المقدرة الجدلية بين الناس بكل تفاصيلها : اختلاف المقدرة
على فهم الظروف ، اختلاف الوعي بالمشكلات ، اختلاف المقدرة على التحليل ، اختلاف
المقدرة على استحضار الماضي وتصوّر الحلول في المستقبل ، الخ .. وثانيا لغياب
الاطار التنظيمي الذي يمنح المختلفين امكانية الاتفاق على راي واحد مشترك
بينهم ..
فكيف يتحدّد المحكم بالنسبة للحركة القومية ..؟
( نشرية القدس العدد 187) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق