بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 10 أغسطس 2015

الوحدة العربية بين دعاتها وأعدائها .. (18) .


الوحدة العربية بين دعاتها وأعدائها .. (18)  .  


ثوابت الحركة القومية .. المحكمات :
- أولا : مدخل ..
شهدت الحركة القومية خلال النصف الثاني من القرن العشرين نشاطا فكريا واسعا ومعمقا ، شغل العديد من المثقفين والمفكرين القوميين ، وشمل العديد من الجوانب الفكرية والسياسية بالنقد الموضوعي للتجارب السابقة ، والجلد الذاتي في بعض الأحيان ، مع ما يلزم من مراجعات ، لتجاوز النقص والقصور الفكري الذي صاحب مرحلة التاسيس للتجربة القومية في الخمسينات .. وقد كان ذلك ثمرة لوعي العديد من رواد الحركة القـومية بدورها الريادي، وشعورا منهم بالمسؤولية ، واستجابة لتحديات المرحلة التي تشهد حالة من التردي والضعـف بسبب الهجمة الشرسة المنظمة التي تتعـرض لها الامة العـربية من عدة أطراف  ..
ورغم كل الشدائد والمحن التي واجهت الحركة القومية خلال تاريخها المشرق بالبطولات والتضحيات ، ورغم الانتكاسات التي تعـرضت لها ، فانها ظلت في طليعة القوى المناضلة التي تدافع عن الامة حتى هذه اللحظة .. وفي الواقع ، ليست الهجمات على العـراق وليبيا وسوريا الا تصفية حسابات قديمة مع الحركة القومية لا تزال مستمرة الى الآن ..
وقد كانت تلك المعارك التي خاضتها الحركة القومية فكريا وسياسيا وعسكريا وما صاحـبها من النقد والمراجعة ، عوامل مهمة ساعدت على  بلورة مبادئها الاساسية وأهدافها في بناء مشروعها التحرري الوحدوي الاشتراكي المرتبط بالعقيدة الاسلامية بأبعادها الدينية والحضارية .. كمشروع حضاري يستجيب للمتغيرات الظرفية في وسائله واساليبه ، ويرتكز اساسا على جملة من الثوابت التي أكّدتها كل التجارب القومية ، والتي يجب ان يلتـفّ حولها كل القوميين مهما اختـلفوا في التفاصيل والاساليب ، حتى يكونوا صفا واحدا في الدفاع عن أمتهم ضد كل من يفكر في المساس بأمنها ووحدتها وسلامة وجودها ومقدراتها ..

ـ ثانيا : الأسس الفكرية : المنهج  ..

المنهج هو تلك المقولات الفكرية الاساسية التي تساعد على فهم الواقع ، وجمع حيثياته ، وترتيب أولوياته ، اللازمة لبناء منظومة فكرية سليمة ، يهتدي بها الانسان وهو يسعى الى تغيير الواقع خلال حركته المستمرة  من الماضي الى المستقبل  .. وهكذا عُرفت المناهج  تاريخيا ووصفت بانها مثالية اذا كانت تعتمد على مسلمات تقول بأولوية الفكر على المادة .. أو مادية أذا كانت تلك المسلمات تقول باولوية المادة على الفكر .. وقد شهدت اوروبا والعالم تقلبات كثيرة وصراعات فكرية بين انصار هذه المذاهب ، انعكست على كل فروع الفكر والممارسة ، فكانت اشتراكيات مثالية طوباوية ، أو مادية " علمية " في عهد برودون وريكاردو وماركس ( ماركس ـ بؤس الفلسفة ) .. وكانت ديمقراطيات ليبرالية أو ديكتاتوريات بروليتارية في مطلع القرن العشرين .. وقد كان لا بد لهذا الجدل الميتافيزيقي أن ينتهي على يد المفكر القومي عصمت سيف الدولة الذي انطلق من تلك الملاحظة البديهية التي تقول بأن الانسان هو الكائن الوحيد الذي يجمع بين المادة والفكر .. فالافكار وحدها يستحيل وجودها خارج الانسان .. والمادة وحدها يستحيل ان تنتج افكارا .. وهكذا استنتج ان الصراع في النهاية لا يكون الا في الانسان نفسه ،  بين الظروف التي يعيشها  وتتجه باستمرار للامتداد التلقائي في المستقبل ، وبين الحاجة المادية والثقافية التي يشعر بها الانسان  ويسعى لتلبيتها ، فتكون المشكلة اصدق تعبير عن وجود ذلك الصراع الذي يعيشه  .. وهكذا يبقى الانسان عاجزا عن التطور ، طالما استمر وجود المشكلة ، حتى يتدخل بالحلول ، ثم بالعمل ، لقطع الامتداد التلقائي للظروف  ، ويغير الواقع .. انه " منهج جدل الانسان " الذي يمكن تلخيصه في مقولة واحدة : الانسان اولا ، دون حاجة الى تعريف .. ودون حاجة الى معرفة ما اذا كان المنهج مقبولا بهذه الصياغة داخل الحركة القومية ام لا .. فجدل الانسان فوق هذا هو قانون نوعي ، وفعاليته غير متوقفة على الوعي به . رغم اهمية ذلك بالنسبة لاي تغيير كان .. اذ ان الوعي به كقانون  نوعي خاص بالانسان يحوّله الى منهج للمعرفة ، يُخرج صاحبه نهائيا من أي سياق للتفكير الميتافيزيقي .. فيكسبه الثقة التامة في النفس عند  الاقدام على تغيير الواقع ، شرط أن يلتزم منظومة العلاقات بين القوانين النوعية والكلية التي حدّدها المنهج ..
والمهم الآن ان نعرف بأن الحركة القومية بجميع فصائلها تقريبا لا تختلف في التسليم بأولوية الانسان في قيادة الظروف والواقع  سواء من جهة النواحي الفلسفية أو حتى من جهة الخلفية الدينية التي تعتبر " ذلك الكائن " مفضلا عن بقية الكائنات بما ميزه الله عنها جميعا حينما خصه وحده بكل خصائص التفكير المركبة ، التي تتحول عنده الى مقدرة جدلية متفاوتة من شخص الى آخر باعتبار التفاوت في : المقدرة على التذكر ، والتصور ، والتركيب الذهني ، الذي يؤدي في النهاية  الى ابداع الافكار والحلول ..  وهي خصائص لا توجد الا عند الانسان مهما  ظهر عند بعض الكائنات من درجات الذكاء بسبب التدريب الذي يحصل عند تكرار نفس التمارين ، او خلال ظهور سلوك حيواني معين للتعبير عن الغريزة الفطرية مثل الامومة أو غيرها ..
الانسان أولا ... هي نقطة الانطلاق المنهجية التي تجعل الانسان العربي يواجه واقعه بثقة كاملة في النفس وهو يسعى الى تغييره .. فما عليه الا ان يفهم الظروف ، ويجمع القرائن العلمية والتاريخية والحضارية .. لتوظيفها في بناء مشروعه الحضاري ، دون أن يحيل امكانيات التغيير ، والنجاح والفشل على قوى فاعلة من وراء الواقع  .. وهو النهج الذي يمكن تأكيده حتى من الناحية الدينية حيث نجد في القرآن الكريم جزم مطلق بان شيئا لن يتغير الا اذا عمل الانسان نفسه على احداث ذلك التغيير .. قال تعالى في محكم تنزيله : " ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم " . صدق الله العظيم ..
وأكثر من ذلك ولمزيد من التاكيد على شيوع هذه الفكرة عند روّاد الحركة القومية نجد عند المفكر القومي ميشيل عفلق تاكيدا على الدور الريادي والقيادي للانسان الذي يجمع في ذاته بين المادة و الروح ، كما يقول في كتاباته المعروفة   " في سبيل البعث " في الفقرة الخاصة بالمناضل القومي  : "  المناضل العربي هو أساس الجماهير التي تقوم عليها حركة الثورة العربية التي نؤمن بأنها هي صانعة التاريخ ... لذلك أقول أيها الرفاق بأن الثورة ، كل ثورة ، والثورة العربية بخاصة إنما ولدت من اجل الإنسان العربي ، لان الإنسان هو الذي يصنع الحياة وهذه العودة بين الحين والآخر إلى الواقع بنظرة فاحصة نقدية هي التي ترينا إلى أي حد نجحنا في بناء هذا الإنسان الجديد ، في تنمية الإنسان العربي الذي هو أغلى ثروة والذي هو يصنع التنمية المادية ، الإنسان بصورة عامة في كل مكان وزمان هو مادة وروح لا يكفيه ولا يغنيه أن يأكل ويشبع فحسب ، وليس هذا أهم شيء في إنسانيته وإن كان شيئا ضروريا أن يأكل ويشبع ، ولكن إنسانية الإنسان الحقة إنما تبدأ بعد الشبع ، بعد الأكل ، عندما يحقق مواهبه وقدراته ، عندما ينظر إلى مهماته الاجتماعية والقومية التي تعطي معنى لحياته ، إنسانية الإنسان تبدأ عندما ينصرف إلى العمل والخلق والإبداع والنضال والى كل شيء يتجاوز شخصه ويتجاوز أنانيته الضيقة لأنه عندئذ يشعر بملء إنسانيته ، وبأنه ليس خلية عمياء في جسم أو في آلة ، وإنما هو فرد حر وجد لغاية سامية في هذه الحياة وأنه مطالب بأن يعطي لحياته معنى ساميا .. "
وهنا يبدو وكأن ميشيل عفقل يعبر بطريقته عن الصراع الجدلي الذي يعيشه الانسان خلال سعيه لتلبية حاجياته المادية والثقافية سواء في جانبها الخاص به كفرد أو في جوانبها الاجتماعية حينما يعمل على تطوير واقعه ومجتمعه فيصبح كائنا مناضلا ثوريا قائدا الخ ..
أما الانسان عند الزعيم الراحل  جمال عبد الناصر فهو المفكر والقائد والمغير باعتبار أن كل شيئ يبدأ عنده بالانسان ، اذ يقول : " إن النصر حركة ، والحركة عمل ، والعمل فكر، والفكر فهم وإيمان ، وهكذا كل شيء يبدأ بالإنسان .."
أما بالنسبة للدكتور عصمت سيف الدولة فان حركة الانسان ورغباته محددة بقوانين الجدل التي تم عرضها سابقا  ، حيث لا يمثل الانسان عنده مجرد عنصر من العناصر الموجودة في الواقع المادي ، بل انه كوحدة من المادة والذكاء ، يمثل الوعاء الجامع لمضمون الصراع بخصائصه المعروفة التي يمكن ان يختبرها أي انسان في نفسه ، فهو كلما افتقد حاجة ،  يشعر بالتناقض بين واقعه ( الذي يعبر عنه بالظروف ) وبين مستقبله ( الذي يعبر عنه بالحاجة ) ، وهو ما يؤدي الى نشوء " مشكلة "  تفقده جزءا من حريته في المجال الذي تمثله تلك المشكلة  ، وتعيق تطوره ، حتى يستطيع من خلال مقدرته الجدلية على ايجاد الحل المناسب لها ، وتنفيذه بالعمل الذي يؤدي الى حل المشكلة نهائيا باشباع تلك الحاجة .. ثم تنشا حاجة جديدة ، وهكذا الى ما لا نهاية ..  وتبعا لذلك يصبح لكل مشكلة مضمونا تحرريا ، وكل مضمون تحرري يتوقف على تدخل الانسان بالحل أولا ثم بالعمل .. وهو ما يجعل  الانسان قائدا ومطورا للواقع الخ .. 

وقد ساعد هذا التحديد المنهجي الدكتور عصمت سيف الدولة على فهم وتأويل المقولة المذكورة  لعبد الناصر معتبرا أنها  تمثل تلخيصا دقيقا لجدل الانسان لم يكن عبد الناصر ليصل اليها الا من خلال " المؤشر المنهجي الحضاري " الفاعل في شخصيته والذي يجعله يعبر ـ على السجية ، ودون افتعال كما قال ـ عن صدق انتمائه العربي .. فقد قال ـ مفسرا تلك المقولة في كتابه عن الناصريين واليهم ـ  ان " النصر يحقق ارادة اشباع  حاجة الانسان في الواقع حيث تجربة الماضي هي المحدّد لارادة اشباع الحاجة التي لا تتم تلقائيا الا بالعمل . والعمل حركة تسعى الى تحقيق فكرة مصوغة للمستقبل على اساس الايمان بقابليتها للتحقق . مصدر هذا الايمان ادراك لقوانين وسنن تغيير الواقع . . فالبداية أن يدرك الانسان مشكلته ادراكا صحيحا ، ويعرف حلها ، ثم يعمل على تحقيقه في الواقع فينتصر .. وهذا هو جدل الانسان .."


(القدس عدد 188 ) . 





















                

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق