الثورة
العرجاء ..
حينما يمر علينا تاريخ 17 ديسمبر ، نستحضر مباشرة تلك
الاحداث التي بدأت فجأة بحادثة أليمة ، سرعان ما تلتها احتجاجات محلية تصاعدت وتيرتها أولا داخل سيدي بوزيد ، ثم امتدت الى بعض الجهات المجاورة مثل بوزيان
، وبن عون ، والمزونة والمكناسي وغيرها من اطراف سيدي بوزيد .. ثم بدأت دائرة
التململ والاحتجاجات تتسع تدريجيا ، لتشمل
مدنا عديدة مثل الكاف والقصرين وصفاقس وسوسة ومدن الجنوب ، حتى وصلت الى العاصمة .. وفي هذا السياق فاننا لا يمكن ان نتذكر هذا
الشريط التفصيلي للأحداث ، دون ان نذكر أهم الشعارات المدوية التي انطلقت من سيدي
بوزيد لتتحول بعد ذلك الى شعارات تختزل أهداف الثورة بأكملها : " يسقط حزب الدستور ، يسقط جلاد
الشعب " ، و" التشغيل استحقاق يا عصابة السراق ".. بل لعل تلك
الشعارات هي التي كانت ولا تزال الى اليوم المقياس الوحيد للشرعية والوطنية في نفس الوقت ،
سواء بعد الانتخابات الاولى أو الثانية ..
حيث لا شرعية ولا وطنية بعد الثورة ـ منطقيا ـ الا بتحقيق أهدافها .. فأين نحن من
كل هذا ..؟؟
عمليا اتجهت الأمور الى التخلي تدريجيا عن اهداف الثورة
حينما تم اسقاط الشعار الأول من شعاراتها برفع العزل السياسي عن التجمعيين فعادوا
بعد فترة قصيرة الى السلطة من الباب الكبير .. وها هي تتجه حاليا الى اسقاط الشعار
الثاني بالعفو عن رجال الاعمال ورجال الدولة الفاسدين الذين تلاعبوا بالمال العام وتسببوا
في افلاس البنوك والصناديق الاجتماعية ، واشاعوا
الفساد في كل مكان وفي كل مجال ، وذلك في اطار ما يسمى بقانون المصالحة ، الذي
سيؤدي عمليا الى اسقاط كل الدعاوي الموجهة ضد رموز الفساد ومنها الاموال المهربة
والمنهوبة من طرف العصابة الحاكمة قبل الثورة .. !!
نحن اذن امام سناريو يعود بالمجتمع الى ما قبل 17 ديسمبر
، او أشد من ذلك بكثير ، من حيث طبيعة المشاكل وتفاقم الازمات الاجتماعية المختلطة
بالارهاب ، وغياب الحلول ، مع النزعة الجارفة لدى المسؤولين بالعودة الى الماضي من
خلال خياراته وسياساته ، وشيوخه ، ورموزه تحت يافطة الكفاءات .. !!
صحيح ان الثورة منحت كل فئات المجتمع فائضا من الحرية ، وغيرت كثيرا من المفاهيم المتعلقة
باسس التعامل داخل المؤسسات وفي وسائل الاعلام من خلال الترفيع من منسوب المواطنة
لدى كل فرد ، وطغيان عدة مفاهيم رسختها الثورة حتى لدى عامة الناس تتعلق بالحريات
والمساواة ، نراها احيانا تختزل في عبارات مثل " ثورة الكرامة " ،
و" ثورة الحرية " .. الا أن غياب البعد الاجتماعي للثورة في توفير الشغل
والقضاء على الفساد ، وتحقيق العدالة الاجتماعية ، يجعلها ثورة عرجاء ، محمولة على
الشعارات التي استفاد منها أعداء الثورة أكثر
من ابنائها ، وهو ما يحوّل كل الحريات المزعومة ، الى مكاسب حقيقية بيد الاقوياء ..
( نشرية القدس عدد 207 ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق