بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 6 مارس 2025

الدكتور عصمت سيف الدولة يتحدث عن التعذيب .

 الدكتور عصمت سيف الدولة يتحدث عن التعذيب .

جريدة الأهالي بتاريخ 3 – 10 – 1984 / تحقيق حسن بدوي .

المادة 43 من الدستور تنص على أن "كل مواطن يقبض عليه أو يحبس أو تقيد حريته باي قيد تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامة الانسان . ولا يجوز ايذاؤه بدنيا أو معنويا ، كما لا يجوز حجزه أو حبسه في غير الأماكن الخاضعة للقوانين الصادرة بتنظيم السجون ..."

ويقول د.عصمت سيف الدولة التعذيب ، بمعنى الاعتداء على المواطنين من جانب السلطة جريمة يعاقب عليها بالأشغال الشاقة اذا لم تؤدي الى الوفاة ، وبالإعدام اذا أدت الى الوفاة ، حتى لو لم يكن الجاني قاصد القتل . وبالتالي فهي خارج النظام القانوني والاجتماعي والسياسي ، وهي في نفس الوقت خروج على هذا النظام ، وبالتالي فان الظروف والعوامل التي يتم في ظلها التعذيب أو تحرض عليه هي ذات الظروف والعوامل التي تتم فيها الجرائم وتحرض عليها . أريد أن أقول أن التعذيب لا يجوز أن ينظر اليه على أنه جزء من النظام القانوني أو السياسي أو الاجتماعي ومحاكمته على هذا الأساس . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فان الذين يرتكبون التعذيب لا يخدمون أي نظام قانوني أو اقتصادي أو سياسي لأنهم ببساطة مجرمون .

.. والتعذيب أنواع .. فهناك التعذيب "المكثف" الذي قد يؤدي إلى القتل أو الإصابة بعاهات مستديمة ، أو بترك أثارا على جسد المواطن الضحية بقية عمره .. وهناك التعذيب العام الذي لم يتوقف يوما والنوع الآخر يعرفه كل مواطن ، خاصة الفلاحون وأبناء الطبقات الشعبية في نقط وأقسام ومراكز البوليس ولذلك تعتبر هذه الأماكن رمزا معاديا للشعب يخشى المواطن الاقتراب منها حتى ولو لاستخراج بطاقة انتخابية ..

ويقول د.عصمت سيف الدولة إن أخطر أسباب التعذيب تقع على المستوى الشعبي ولا يحتاج الأمر الى إقامة براهين على ما هو معروف تماما لدى الكافة من التعذيب العام السائد الدائم الذي يلقاه أفراد الشعب العاديين وخاصة الفلاحين في الأرياف ، في نقط البوليس ومراكزها ، ان هذا التعذيب العام هو أيضا جرائم . ولكن لأن الضحايا لا مثقفين ولا مفكرين ولا ساسة ، فان أحدا لا يشير اليهم ، ولم يحدث ابدا أن الجماعات الكثيرة التي تشكلت في السنوات الأخيرة للدفاع عن الحريات وللدفاع عن الديمقراطية ولحماية حقوق الانسان ولمناصرة الشعوب المقهورة قد اهتمت أقل اهتمام بالمعذبين في أرض مصر من افراد الشعب العاديين . هؤلاء المعذبون لا يشكون لواحد من سببين أو لكليهما ، الأول أن خبراتهم التاريخية بجماعة المثقفين والكتاب والساسة قد علمتهم ألا فائدة ترجى منهم في الدفاع عن غير ذواتهم ومصالحهم ، والثاني ..

الدفاع الشرعي   

يستطرد د.عصمت :

الثاني ، سبب حضاري . قد يسهل فهمه اذا ذكرت لك انه عندما وضع المشرّعون في الهند قانون العقوبات الهندي استغرقوا في وضعه أربع سنوات . منها سنتان لصياغة القانون كله ، وسنتان استغرقتهما صياغة بضعة مواد خاصة بالدفاع الشرعي . وهو الحق المقرر قانونا للفرد في ان يدافع عن نفسه بالقوة اذا لزم الأمر ضد الاعتداءات التي تقع عليه ، اذا افتقد حماية السلطة ، ومن باب أولى اذا وقعت عليه من رجال السلطة . وقد برّرت اللجنة التي استغرقت كل هذا الوقت لصياغة مواد الدفاع الشرعي صعوبة هذه الصياغة بأن المشكلة في الهند ليست الخوف من أن يتجاوز افراد الشعب حدود حق الدفاع عن أنفسهم ضد الاعتداءات عليهم ، ولكن المشكلة هي كيف يمكن تشجيع أفراد الشعب على مقاومة الاعتداء عليهم ، وهي مشكلة - كما قالوا – حضارية ، والامر كذلك في مصر ، ما لم يصل أفراد الشعب الى معرفة أن من حقهم مقاومة التعذيب حتى الموت وان يستعملوا هذا الحق في كل الظروف ستظل جريمة التعذيب متكرّرة على ضحايا صامتين.

العجز والشراسة

ولكن لماذا تلجأ أجهزة السلطة لهذا الأسلوب ؟

يجيب د.عصمت :

لما كانت الجريمة قد ترجع لأسباب عديدة ، منها ما هو اجتماعي ومنها ما هو ذاتي ، فكذلك التعذيب قد يرجع لظروف اجتماعية مثل عدم توافر الحماية الكافية لرجال الامن حتى يستطيعوا مقاومة الأوامر التي تصدر اليهم بالتعذيب دون أن يفقدوا وظائفهم ، أو أن يكون من بين هؤلاء الأشخاص مرضى يجدون لذة خاصة في التعذيب . المهم أن كل جريمة تعذيب لها ظروفها التي يجب أن تُبحث على حدة . ومع ذلك فهناك ظروف عامة قد تشجّع على التعذيب ، منها فشل الحكومات في أن توفي بوعودها المعلنة . وبالتالي خوفها من النقد الذي يكشف هذا الفشل فتلجأ لستر عورتها بكبت حرية النقد بأساليب عديدة من أول الحيلولة دون نشره الى الإرهاب الفكري ، الى الإرهاب الأمني ، الى التعذيب .. في هذه الحالة نجد أن جرائم التعذيب تتواكب في مراحل معينة وتنصب عادة على مصادر النقد الجاد من الكتاب والمفكرين والساسة ، وهي الحالة التي تثير عادة احتجاجات المثقفين والكتاب والساسة لأنهم ضحاياه المباشرين ..

المثقفون والشعب المعذّب

واذا كان لا بد من مواجهة هذه الجريمة ، فان د.عصمت سيف الدولة لا يرضى عن دور المثقفين والساسة والمفكرين المبذول حتى الان اذ يقول :

عندما سكتوا على التعذيب الذي يقع على أفراد الشعب العاديين ، فقد فقدوا إمكانية التعاطف الشعبي مع قضية التعذيب الذي يقع على بعضهم ، ودليل هذا أنهم من حين الى اخر يحاولون إقامة الدنيا واقعادها (ويحق) لإدانة التعذيب الواقع على بعضهم ، ولكن الدنيا لا تقوم ولا تقعد ، وتبقى مستقرة بفعل عدم الاهتمام بشعب المعذبين يوميا بما يشكو منه الذين يتعذبون من حين الى حين . على هذا الأساس فقط يمكن وضع حد لجرائم التعذيب بطرحه كقضية اجتماعية كما تُطرح قضايا الجرائم السائدة . ولو حُضي التعذيب الذي يقع على أفراد الشعب في نقط البوليس وأقسامها يوميا بربع اهتمام المثقفين بجرائم اختلاس المال العام والمخدرات وتجريف الأرض لصعدت جريمة التعذيب الى أن تصبح من الهموم الأولى لهذا الشعب . وبالتالي ينفتح الأمل للحد من خطورتها ثم لإنهائها ، ولنجا المثقفون والمفكرون والساسة من مخاطر التعذيب ، وهم لا ينجون من أي مصيبة أخرى الا مع الشعب . أقول هذا وأنا جد اسف لما لمسته من وصول التعذيب الاجرامي الى أن يصبح اجراما عقائديا ، بمعنى أن ترتكب الجريمة بناء على مذهب فكري أو سياسي يهدّئ من ثورة ضمير صاحبها ويوهمه بانه اذ يعذب لا يفعل شيئا أكثر من الاستجابة لعقيدة ترى في التعذيب صلاحا لضحاياه وللمجتمع كله .. اني أشير في هذا الى نظرية "الإجهاض الأمني" التي سبق أن تعرضت لها على صفحات "الأهالي" في أكتوبر 83 ، والتي بلغ من اقتناع المسؤولين بها أنهم لم يروا في التعذيب جريمة على الاطلاق .

التعذيب والاستقرار الأمني .

التعذيب بين محاكم التفتيش .. والإجهاض الأمني .


الأربعاء، 5 مارس 2025

عصمت سيف الدولة .. الفارس الأخير .

 

عصمت سيف الدولة .. الفارس الأخير .

طلال سلمان .

السفير بتاريخ 1 – 4 – 1989

كأنه في مكتبه القديم منذ بدء الزمان ، وكأنه باق فيه حتى نهاية الزمان ، لا يشهد له أو عليه ولا يؤرخ له ، وانما يحرض الانسان أن "يكون هو السيد : يغير أكثر مما يتغير ، يفعل أكثر مما تكون علة الفعل أو نتاجه" .

الوجه طيب ، وادع السمرة ، كوجه أبيك ، جدك ، عمك ، خالك ، والشيب تاج أبيض يجلل السحنة المتشحة بحزن عتيق تزيد من قتامتها نظارتان معتمتان ..

لكن العينين البراقتين ترسلان عبر القتامة التماعة الذكاء التي سرعان ما يكبحها ذلك الدهاء الموروث المتلفّع بالحذر ، فتكون النكتة أو القفشة أو التورية المتفجرة ضحكا هي المخرج السليم الذي يعيدك الى سياق الحديث الأصلي ..

حزب في كل بلد ..

فحيثما كنا نذهب ، أواخر الستينات مع بداية السبعينات ، كان عصمت سيف الدولة يخرج علينا شاهرا صمود فكره القومي وسيف الدعوة الى التجديد من داخل العقيدة لا من خارجها .

ولأنه صلب كالغرانيت فلقد كان ، ومازال ، يثير عواصف النقاش والجدل حيثما حل . بل كان مجرد ذكره أو الاستشهاد ببعض طروحاته يكفي لإثارة معركة حتى بين "رفاق الصف الواحد" بل لا سيما بينهم .

فعصمت سيف الدولة المهذب جدا ، والأصولي الى اقصى حد في "قانونيته" ، لا يتقن فن المجاملة ، متى اتصل الأمر بالموقف السياسي ، بل هو يرفض المجاملة وينقلب الى "مدع عام" يطارد "المتهمين" بالخروج على الخط حتى يستسلموا فيتوبوا ، فاذا ما اصروا المكابرة فلسوف يهربون من فضاضة هذا "الناصري" المتشدد أكثر بكثير من جمال عبد الناصر .

ولقد حارت الأنظمة ، لا سيما تلك التي نسبت نفسها الى الثورة التقدمية ، في كيفية التعامل مع هذا "القومي الشارد" لا يستوقفه اغراء ولا يهزه ترغيب ويستفزه الترهيب فيكمل فيه ملامح الفارس الأخير ، الذي لا يفقد نبله حتى وهو يتجرع الهزيمة ، ولا يكسر سيفه اذا ما حاصره العدو ، بحجة الحفاظ على شرف السلاح ، فالسلاح موجود ليحمي به شرفه هو ، وشرف السلاح من يد حامله وليس العكس .

في زمن البؤس والردة ، صار المناضلون "متهمين" ، وصار الفدائيون والثوار "قتلة" ، وعزّ إيجاد المُدافع والمحامي باسم القانون ومن داخل مضمونه الذي لا يمكن أن يكون معاديا للوطن والشعب والأمة ، فتفرغ عصمت سيف الدولة لهذه المهمة الثقيلة .

وبوعي المناضل وفهم القانوني العريق وبإيمانه العميق بمصر وثقته بالقضاء فيها ، تمكن عصمت سيف الدولة من أن يحوّل "القضايا" التي قبلها الى محاكمات لهذه الحقبة من تاريخ مصر وسائر العرب ..

رفع التهمة عن هؤلاء الذين يُحتجزون في قفص الطعن بوطنيتهم ، ورماها على من يجب أن يتحمل وزرها من الحكام المقصّرين أو الطغاة أو المفرّطين بترابهم الوطني وبتاريخهم القومي .

اليوم ، وفي مكتبه العتيق ذي الأثاث الكثيف ، وحيث يتركك ليدخل فيُعدّ لك قهوة بيده ، يمضي عصمت سيف الدولة الساعات الطوال مراجعا ، دارسا ، مفكرا ، مسجلا للملاحظات والاستشهادات والاسانيد ، تمهيدا لكتابة "مرافعة العمر" وربما "مرافعة العصر" دفاعا عن أولئك الفتية الأغرار المنتسبين الى "ثورة مصر" ، والجاري نظر قضيتهم أمام محكمة استئنافية لخطورة جرائمهم ! ..

"اريد أن أختم تاريخي بهذه المرافعة التي أظن أنها ستكون بحجم كتاب ، انني متفرغ لها ، لا اقبل اية دعوى ، ولا أفعل أو اقرأ شيئا الا ما يتصل بها من قريب أو بعيد ..

... لقد سئمت من الجدل البيزنطي الذي يلبس أحيانا لبوس النقاش العقائدي . الموضوع بسيط في نظري : حق هذه الأمة في الوجود ، وحق مصر في الكرامة ، وحق المواطن المصري في الدفاع عن ارضه وعن انتمائه القومي .

... هل انتهت الحرب فعلا  بين العدو الإسرائيلي وبيننا ؟ .. لقد جاءنا محاربا ، وكان في كل مرة يشن علينا الحرب ..

فهل نحاسب المصري اذا ما رد عنه العدوان ، اذا ما دافع عن شرف بلاده ؟ هل أطلق هؤلاء الشبان النار على بعض الإسرائيليين وبعض رجال المخابرات الامريكية من داخل حالة الحرب المعلنة والمستمرة ضد مصر أم من خارجها ؟

هل لنا الحق بمحاسبتهم على تصديهم أم تراهم هم أصحاب الحق في محاسبتنا على قعودنا واستسلامنا الذليل ؟ ! " .

عصمت سيف الدولة يقرع ناقوس النضال للأجيال التي لم تعرف من تاريخ النضال الا القلة .. وفي حين ينصرف القدامى من الميدان متسارعين ، أو يتخفون أو يختفون ، ينادي عصمت سيف الدولة للعودة اليه ..

ليس "دون كيشوت" هو . انه الفارس الأخير ، لكنه يثق بقدرة الامة على استيلاد جيل النصر .

وأهمية تنظيم "ثورة مصر" بالنسبة اليه انه قد لا يكون التعبير السليم عن قرب قدوم هذا الجيل ، لكنه اعلان بالرصاص للرفض ، والرفض أول خطوة على طريق التغيير .. على طريق النصر .


المرافعة في قضية الحزب الشيوعي .

 مرافعة الدكتور عصمت سيف الدولة في قضية الحزب الشيوعي .

القبس عدد 4623 بتاريخ 27 – 3 – 1985 .

ثمة مصادفة .. أن تجيء محاكمة مجموعة من شباب مصر بسبب معارضتهم لسياسة الرئيس الراحل أنور السادات الخاصة بالتفاوض والصلح والاعتراف بإسرائيل وتوقيع معاهدة للسلام معها .. في ذكرى مرور 6 سنوات بالضبط على توقيع تلك المعاهدة في 26 مارس 1979 .

وأمام محكمة أمن الدولة العليا في القاهرة وقف أمس واحد من أبرز المحامين المصريين هو الدكتور عصمت سيف الدولة ليعلن في مرافعته دفاعا عن المتهمين ان هذه المعاهدة أولا وقبل كل شيء خروج صريح على الدستور الذي يحرم أصلا الاتفاق والصلح مع إسرائيل بنصوص صريحة وقاطعة .

استطاع الدكتور سيف الدولة أن يحول الجلسة الى محاكمة لمعاهدة السلام "في عيدها السادس" ومحاكمة لإسرائيل ولأمريكا .. ولأنور السادات نفسه ..

وفي مرافعته دفاعا عن المتهمين قال : ان الأوراق المضبوطة لديهم تتضمن ملحمة رائعة من النضال البطولي بالرأي الصائب والكلمة الصادقة ضد مقدمات ونتائج معاهدة السلام وفيها وصفت الاتفاقيات مع إسرائيل بانها خيانة وبأنها تفريط في السيادة الوطنية .

فقد واصلت محكمة أمن الدولة العليا قي القاهرة أمس نظر القضية السياسية المسماة باسم قضية الحزب الشيوعي المصري غير المشروع والمتهم فيها أحمد نبيل الهلالي المحامي البارز وعضو نقابة المحامين وحسين عبد الرازق رئيس تحرير صحيفة الأهالي الناطقة باسم حزب التجمع وزوجته الكاتبة الصحفية فريدة النقاش واخرون . استمعت المحكمة أمس الى الجزء الأول من مرافعة الدكتور عصمت سيف الدولة المحامي دفاعا عن المتهمين والذي خصصه لتفنيد بند واحد من البنود التي قيل أن الأوراق المضبوطة لدى المتهمين قد تضمنتها وهي معارضة الاتفاق مع إسرائيل ومهاجمة المعاهدة المصرية – الإسرائيلية .

وقال الدكتور عصمت سيف الدولة : ان الحديث عما جاء في الأوراق المقدمة من مباحث أمن الدولة من نقد للاتفاق مع إسرائيل . وهو نقد كثير وحاد نافذ في الصميم ، ضروري ومهم ، لنعرف ما اذا كان مشروعا أو غير مشروع ، فيكون حديثنا عنه هو الحديث عن جوهر هذه القضية ، ذلك لأن الباعث الأساسي لصنع هذه القضية هو عدم رضا حكام ذلك الوقت عن معارضة الاتفاق مع إسرائيل وحساسيتهم المفرطة من أي نقد لمبدأ الاتفاق أو لمضمونه .

ومن هنا نستطيع أن نقول أن هذه الدعوى الجنائية هي عند الذين صنعوها دعوى تأديبية أرادوا بها أن يُروّعوا كل كلمة معارضة للاتفاق مع إسرائيل . والدليل على هذا ثابت في الأوراق . وقد اشرنا من قبل الى أن بلاغات مباحث أمن الدولة وأذونات المراقبة قد تمت على ثلاث مراحل : كانت المرحلة الأولى ما بين 11 يوليو 1978 وحتى 12 أكتوبر 1978 وهي الفترة التي دارت خلالها واستغرقتها المفاوضات التي انتهت بالتوقيع على اتفاقيات كمب دايفد في 17 سبتمبر 1978 ، وقد انتهت المفاوضات الى ما أرضى الحاكمين فتوقفت البلاغات ولم تُجدّد أذونات المراقبة وبقيت المنظمة التي تسميها مباحث أمن الدولة الحزب الشيوعي المصري قائمة كما يقول شهود المباحث دون أن يروا فيها ما يستحق التبليغ أو المراقبة .

أما المرحلة الثانية فكانت ما بين 29 مايو 1979 أي بعد سبعة أشهر من الهدوء و27 يونيو 1979 وهي الفترة التي تلت التوقيع على اتفاق 26 مارس سنة 1979 واتخذ فيها الجدل حول ذلك الاتفاق أشكالا حادة أسهمت فيها المعارضة البرلمانية والحزبية وكان فيها رد فعل الحكومة عنيفا الى درجة حل مجلس الشعب واجراء انتخابات جديدة في 7 يونيو 1979 .

وقال الدكتور سيف الدولة في مرافعته أنه في هذه الفترة الثانية التي عاد فيها الجدل حول مبدأ الاتفاق مع إسرائيل وتعارضت المواقف عادت مباحث أمن الدولة أن ثمة جريمة "جاهزة" في ملفاتها منذ 1975 يمكن استخدامها في البطش ببعض الذين يعارضون الاتفاق مع إسرائيل .

أما الفترة الثالثة فكانت من 1 أغسطس 1979 حتى رفع هذه الدعوى وتلك مرحلة تستند مباشرة الى الاتفاق المبرم مع إسرائيل . فقد رأى الذين وقعوا اتفاق 26 مارس سنة 1979 مع إسرائيل ان يلزموا أنفسهم ، لا أدري كيف ، بأن يقدموا الى المحاكمة أي مصري يناهض أو يشترك في مناهضة المصالح الإسرائيلية ثم أضافوا تعبيرا أصبح مصطلحا عند أصحابه .. على الشيوعيين هو : "النشاط الهدام"  .. بدون أن يحدّدوا في اتفاقهم ماهية الجرائم التي تعهّدوا بتقديم معارضي الاتفاق للمحاكمة عليها ..

معارضة الاتفاق .. والقضية

واستطرد الدكتور عصمت سيف الدولة في مرافعته قائلا : انه لولا معارضة الاتفاق مع إسرائيل لما كانت هذه القضية . وأضاف ام الملايين من أبناء الشعب الطيب الصبور الذي جنوا عليه بما حمّلوه من أثقال وقيود تحت عنوان "معاهدة السلام" لم تتح له فرصة من قبل ليستمع القضاء العادل الى دفاع الشعب المؤمن فشاء الله أن يختاركم لتنظروا قضيته . وشاء الله أن نكون لكم معاونين . ولا يزال التاريخ منتظرا قضاءكم العادل في أخطر قضايا مصر من خلال قضائكم فيما اذا كان ما تضمّنته الأوراق المقدمة من طعن "معاهدة السلام" ومُبرميها والموافقين عليها حقا أم بغيا . لا طبقا لأية نظرية أو أي مذهب سياسي ، بل طبقا لتلك النصوص التي لا يُتلى غيرها في محراب عدالتكم : الدستور والقانون .

لقد حُظيت معاهدة السلام التي ابرمها رئيس الجمهورية السابق (يقصد الرئيس أنور السادات) مع المؤسسة الصهيونية المسماة إسرائيل يوم 26 مارس 1979 وما سبقها وأدّت اليها اتفاقيات كمب دايفيد أكبر قدر من عناية محرّري الأوراق المقدمة من مباحث أمن الدولة في الدعوى الماثلة أمامكم . وهكذا جاءت أغلب الأوراق المقدمة متضمّنة ملحمة رائعة من النضال البطولي بالرأي الصائب والكلمة الصادقة ضد مقدمات ونتائج معاهدة السلام وفيها وصف الاتفاقيات مع إسرائيل بأنها خيانة . وبأنها تفريط في السيادة الوطنية ، وبأنها استسلام للعدو ، وبأنها تحالف مع الصهيونية ضد الشعب العربي الفلسطيني ، وبأنها تبعية للولايات المتحدة الأمريكية ، وبأنها فساد لثقافة الشعب واضرار بمصالحه . وفي الأوراق دعوة حارة منذ سنة 1978 الى مقاومة كل هذا تحت الشعار الذي عنوانه "لتسقط المؤامرة الأمريكية الإسرائيلية ولترفع رايات الوطنية المصرية" لمقاومته بالأسلوب الذي اختاره محررو تلك الأوراق وصاغوه على الوجه الاتي :

ان على طلائع هذا الشعب السياسية أن تنهض الى واجبها في مقاومة هذا التضليل وفي اضاءة الطريق للشعب مهما كانت شراسة النظام . اننا نخاطب الوفديين والاشتراكيين وأعضاء حزب الجبهة الوطنية والتجمع التقدمي ورجال الحزب الوطني القديم . نخاطب كل قيادة طبقية في موقعها النقابي أو الاجتماعي . نخاطب كل مخلص للوطن . اننا نطالب كل هؤلاء جميعا بالنهوض الى واجبهم والى تعبئة شعبنا السلمية كلها ، عمّاله وفلاحيه ومثقفيه الوطنيين وجنوده وضباطه البواسل ورأسماليه الذين لا يقبلون السحق تحت الاقدام الامريكية الصهيونية ، فلننهض جميعا لنسقط المؤامرة وننقذ كرامتنا الوطنية ونسترد لشعبنا شرفه الوطني والقومي ..

وتساءل الدكتور عصمت سيف الدولة في مرافعته قائلا : فهل في ذلك خطأ أو أنه نموذج للفعل المشروع !

واستطرد : نحتكم الى الدستور .. المقياس الوحيد للمشروعية ومصدر كل فعل أو أمر أو نهي أو قانون . نتذكر بعض الوقائع المسلمة ونذكر بعض أحكام الدستور وبعض نصوص القانون التي أبرمت في ظلها الاتفاقيات مع إسرائيل وحُرّرت في ظلها الأوراق المقدّمة (التي ضُبطت مع المتهمين) والتي حدّد أمر الإحالة فترتها الزمانية بأنها ما بين 1977 ويوم 16 مارس 1980 .

حرب 5 يونيو بإذن أمريكا

مما يدخل في نطاق العلم العام وما هو مسلم به في الوقت ذاته أنه في يوم 5 يونيو سنة 1967 شنت إسرائيل ضد مصر وسوريا والأردن حربا هجومية خاطفة ثبت أنها كانت بإذن ودعم ومشاركة الولايات المتحدة الامريكية بقيادة ليندون جونسون . وأن غايتها كانت إيقاف ثم تصفية دور مصر القيادي للأمة العربية وعزلها داخل حدود اقليمها وإيقاف وتصفية التحول نحو الاشتراكية في مصر وفتح سوقها للبضائع الأمريكية .. في النهاية تصفية العلاقات العربية السوفيتية وفرض سيطرتها على مصادر البترول في الوطن العربي .

أما بالنسبة لإسرائيل فقد كانت غايتها أن تفرض على الدول العربية وعلى رأسها مصر انهاء حالة الحرب والاعتراف بها وضمان مرور سفنها والاساطيل الامريكية في قناة السويس وكف مساعدتها للمنظمة الثورية الفلسطينية الناشئة في ذلك الوقت "فتح" ولم تكن أحلام إسرائيل لتمتد – في ذلك الوقت – الى حد تبادل السفراء والتعاون الاقتصادي والتجاري والثقافي و"الصداقة" .

وتساءل الدكتور عصمت سيف الدولة : من قال هذا ؟ وأجاب عن سؤاله قائلا : قاله رئيس الجمهورية السابق (ويقصد أنور السادات) .

قال في خطابه في أسيوط يوم 11 يناير سنة 1981 " ان أمريكا نفت ونسبت وتجاهلت ابلاغها الرسمي لنا قبل حرب 1967 بضمانها السلام وانها ضد من يبدأ العدوان ، لكن أحنا مش ناسين .. وله حساب .. ضروري له حساب .. وعلى أمريكا أن تعلم أن الذي أعطى إشارة البدء بالحرب هو الرئيس الأمريكي جونسون ولن ننساه . ان أمريكا تقف خلف إسرائيل بان لا تجلو عن أي شبر والأمريكان هم الأعداء الاصليون وليس الإسرائيليين لأن إسرائيل خط الدفاع الأول لصالح أمريكا بالمنطقة" .

وقال أمام مجلس الشعب في 11 نوفمبر 1981 : "اننا نعتبر الولايات المتحدة المسؤول الأول عن إسرائيل . ان سيل الأموال الذي يتدفق في الاقتصاد الإسرائيلي والسلاح الذي تمسك به إسرائيل يجيء كله من الولايات المتحدة الامريكية . ان طائرات الفانتوم التي أغارت على مدننا ومصانعنا وعلى مدارسنا ليست مجرد صناعة أمريكية وحسب ولكنها عطاء أمريكا لإسرائيل " . وقال في الخطاب ذاته : "ان أوضح الأهداف الامريكية في المنطقة هي : 1 – اخراج الاتحاد السوفييتي منها . 2 – عزل مصر عن الامة العربية ونحن لا نستطيع القبول تاريخيا ومصيريا بمثل ذلك لأن مصر جزء من الأمة العربية قدرا ومستقبلا . 3 – ضرب التجربة الاشتراكية في مصر ونحن نؤمن بطريقنا في التطور ونصمّم عليه الى اخر مدى " .

وتعرّض الدفاع لحق مصر دولة وشعبا في تحرير أراضيها . وعرض فقرات مطوّلة لجميع خطابات الرئيس السادات وأحاديثه الصحفية التي كان يعلن فيها رفضه التام للتفاوض مع إسرائيل أو الصلح معها أو الاعتراف بها . وقال ، ان كل هذا الذي قاله رئيس الجمهورية السابق ، عن رفض المفاوضة مع العدو المحتل في ظل الاحتلال كان مشروعا طبقا لدستور مصر . وبه كان رئيس الجمهورية السابق معبرا تعبيرا صادقا عن ولائه لليمين الدستورية التي أقسمها وكانت تسانده في موقفه نصوص القانون الدولي أيضا .

رئيس الجمهورية غير رأيه

واستطرد الدكتور عصمت سيف الدولة في مرافعته قائلا :

ان التجربة المرة .. شديدة المرارة قد ساندت ذلك الموقف المعقول المشروع دستوريا ودوليا . وبعد حرب أكتوبر 1973 غير رئيس الجمهورية السابق رأيه في شرعية المفاوضة مع العدو في ظل الاحتلال وظن - رحمه الله - أن المسالة كلها مسالة نفسية قد تعالجها المجاملة فاتصل بالعدو ورتّبا معا زيارة مذهلة في جسارتها الى القدس المحتلة يوم 19 نوفمبر 1977 كانت فاتحة المفاوضات التي جرت بعد ذلك . ثم بين سيادته بعد شهرين فقط من الزيارة أن المفاوضات مع العدو في ظل الاحتلال ليست غير مشروعة فحسب بل "مهزلة" كما عبر هو عنها في احدى خطبه .

فيما بعد غير السادات موقفه مرة أخرى وفاوض واتفق واصطلح ولكن دستور اول سبتمبر 1971 لم يكن قد تغير ، والاحتلال الإسرائيلي كشرط مسبق للمفاوضات لم يكن قد تغير . وحقيقة أن إسرائيل قد فرضت الشروط التي لم تستطع فرضها بعد هزيمة 1967 لم تتغير . كذلك لم تتغير مواقف المواطنين الذين لم يروا أنفسهم ملزمين دستوريا أو قانونيا أو وطنيا أو سياسيا أو أخلاقيا بتغيير مواقفهم أو آرائهم كلما غير رئيس الجمهورية مواقفه واراءه ، فظلوا يعبّرون عن ذات المواقف والآراء التي كان يعبّر عنها رئيس الجمهورية قبل أن يغير موقفه ورأيه .

وقال الدكتور سيف الدولة : ان من بين هؤلاء المواطنين محرر المنشور الذي قال فيه : ان معاهدة السلام هي معاهدة سلام مقابل مجرد وعد وهي صك استسلامي اذ أن على مصر أن توقع معاهدة السلام مقابل ماذا .. وعد .. مجرد وعد تضمنه الولايات المتحدة الأمريكية فهل عرف التاريخ شيئا من هذا الا في حالة دولة منتصرة تفرض شروطها على دولة مهزومة ! أليس هذا استسلاما سافرا لإسرائيل !

قول مشروع أم غير مشروع

وتساءل الدفاع : هل هذا القول مشروع أو غير مشروع ؟ ان كان الدستور وما يفرضه على كل المواطنين من واجب الدفاع عن استقلال الوطن وسلامة أراضيه هو مقياس الشرعية ومصدرها فهو قول مشروع . أما اذا كانت اراء رئيس الجمهورية هي مقياس الشرعية ومصدرها فقد كان هذا القول مشروعا حتى يوم 21 يناير 1978 تاريخ خطاب رئيس الجمهورية السابق الى مجلس الشعب ثم أصبح بعد ذلك غير مشروع . فانظروا أنتم - أعضاء المحكمة – كيف تحكمون .

واستطرد في دفاعه : ما بين مشروعية نقد قبول المفاوضة في ظل الاحتلال ومناقشة مدى مشروعية نقد الاتفاق الذي أسفرت عنه المفاوضة قفزة لا نريد أن نقفزها ، فمهما يكن التزامنا بالدفاع عن المتهمين فان التزامنا بالصدق ذو أولوية مطلقة . ولن يكون صادقا القول بأنه ما دام رئيس الجمهورية السابق قد استسلم لشروط إسرائيل بالتفاوض في ظل الاحتلال ، فان ما أسفرت عنه المفاوضة يتضمن بالضرورة تفريطا أو مساسا بسيادة مصر . ان هذال الاستنتاج اللفظي لا يصلح للتدليل أمامكم على مشروعية معاهدة السلام . هذا بالإضافة الى أنه سيكون ظلما للتاريخ ولذكرى رئيس جمهورية مصر العربية السابق أن يقال أن المفاوضة غير المشروعة قد أدت الى تفريط وتنازل غير مشروعين .

لا . العبرة هي مشروعية نفد المعاهدة أو عدم مشروعيته بما قبله في المفاوضة وارتضاه وليس بإقدامه على المفاوضة في ظل الاحتلال . العبرة بما جاء في معاهدة السلام وليس بكون هذه المعاهدة جاءت نتيجة مفاوضة غير مشروعة . العبرة بالمضمون مع التمسك بأن الشكل كان باطلا . فلنعد الى معاهدة السلام لنرى بماذا جاءت الى مصر .

وعاد الدكتور سيف الدولة يعدّد مواقف وأراء وتصريحات الرئيس السادات قبل توقيع الاتفاقية مباشرة ومنها قوله : "الطبيعي انه من غير الممكن أن يُطلب من أحد تقديم التنازلات منفردا ولكن الحقيقة تظل أننا قد أعلنا عن استعداد مخلص للوفاء بكل التزاماتنا في ظل التعريفات الخاصة بضرورات السلام وذلك بالاتفاق مع قرار مجلس الأمن رقم 242 والتسوية الشاملة لهذا القرار كما هو الحال في أي صراع اخر يتضمن توازنا دقيقا في مجموعتين من الالتزامات التي تقبل الوفاء بها ومن بينها انهاء حالة الحرب والسماح بالمرور البريء خلال مضايق تيران" . ثم قال مخاطبا مستمعيه في نادي الصحافة القومي في واشنطن : "وانني أثق في أنكم توافقونني على ذلك أيها الأصدقاء ، انه يظل على الطرف الاخر أن يُقدِم على عمل مماثل وذلك بإظهار رغبته وتحمّل التزاماته داخل اطار التسوية الشاملة وبطريقة أكثر تحديدا فهو مطالب بقبول الاتي : 1 – الانسحاب من كل الأراضي العربية المحتلة من 5 يونيو . 2 – وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه الطبيعي في تقرير مصيره . 3 – توفير الضمانات اللازمة لأمن الدول العربية" .  

يقول الدكتور عصمت سيف الدولة في مرافعته : فيما بعد غيّر رئيس الجمهورية السابق وجهة نظره . فبدون انتظار وبدون مقابل وبدون ضمان وبصرف النظر عما اذا كان الاتفاق سينفذ أو لا ينفذ تضمّنت الوثائق الموقعة يم 26 مارس 1979 المسمّاة معاهدة السلام التزاما صريحا ينفذ ويصبح أمرا واقعا فور تبادل التوقيعات على المعاهدة مضامينه هي : انهاء حالة الحرب مع إسرائيل . والامتناع عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد إسرائيل على نحو مباشر أو غير مباشر . وكفالة عدم صدور أي فعل من أفعال الحرب أو الأفعال العدوانية أو أفعال العنف أو التهديد بها من داخل مصر حتى لو لم تكن صادرة من قوات خاضعة لسيطرة مصر أو مرابطة على أراضيها اذا كانت تلك الأفعال موجهة ضد سكان إسرائيل أو مواطنيها أو ممتلكاتها والامتناع عن التنظيم أو التحريض أو المساعدة أو الاشتراك أو أي فعل من أفعال الحرب أو أفعال العدوان أو النشاط الهدام أو أفعال العنف الموجه ضد إسرائيل ومحاكمة أي مصري يقيم في أي مكان في العالم أو أي أجنبي في مصر ينظم أو يحرض أو يساعد أو يشترك في أي فعل عنف ضد إسرائيل والامتناع عن أية دعاية ضد إسرائيل ،  وفتح قناة السويس لمرور السفن والشحنات الاسرائيلية وفتح مضايق تيران للملاحة البحرية والجوية لإسرائيل .

وقال ان هذه المعاهدة أولا وقبل كل شيء خروج صارخ على الدستور . الدستور الذي يحرم أصلا الاتفاق والصلح مع إسرائيل بنصوص صريحة وقاطعة .

ولم ينته بعد د.عصمت سيف الدولة المحامي من مرافعته وتأجلت القضية لاستكمال المرافعة .



الثلاثاء، 4 مارس 2025

ملامح القرار الفلسطيني المقبل .

  ملف القبس : المحور الثاني .

ملامح القرار الفلسطيني المقبل .

د.عصمت سيف الدولة :

- اعلان حكومة فلسطينية مؤقتة الغاء فعلي لمنظمة التحرير وانجازاتها .

- استثمار الانتفاضة بتطويرها لمرحلة ثورية أكثر فاعلية وليس بيعها .

القبس عدد 5917 بتاريخ 1 نوفمبر 1988 .

يقال أن الساحة الفلسطينية تمر بحالة من "المخاض" القوي ، وتقف أمام "منعطف جذري" وهناك "ملامح" قرار قادم لم يعد سرا .. وأنه لا بد من "استثمار" فرصة الإستعاضة التي لن تتكرر قبل جيل كامل ، ويريد القائلون تشكيل حكومة مؤقته بشخصيات "معتدلة" وبرنامج سياسي "معتدل" "يكسر" الفيتو الأمريكي الصهيوني ويغتنم فرصة الوفاق الدولي لقطف الثمار بالذهاب إلي "مؤتمـر دولي" بانت إمكانيات انعقاده كبيرة .. فماذا نقول :

نقول باسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ول قوة إلا بالله ونعوذ به من شر ما خلق . إني أسمي مثل هذه التجمعات اللفظية حديثا عنقوديا إذ هو من أخطر ما يقال ولا حدّ لتأثير كلماته القابلة للانتشار والتأثير لأنها تبدو كما لو كانت معقولة فمقبولة . ويقبلها المختلفون أساسا لأنها قابلة ليفهمها كل من يشاء على ما يريد . تصفية خطر هذه الكلمات التي وضعنا أمثلة منها بين أقواس تكون بتصفية دلالة كل كلمة منها ومعرفة مفهومها بدون شوائب .

أولا : الحكومة هي المؤسسة التي تقوم بممارسة السلطة في الدولة . هذا لا خلاف عليه في علم القانون الدولي والقانون الدستوري . الدولة إذن شرط سابق ولازم لوجود الحكومة . ومع ذلك يعرف الكافة من الكهول أو الشيوخ أن خلال الحرب العالمية الثانية تشكلت في "لندن" مؤسسات محاربة حليفة للمحاربين أسميت حكومات المنفى لتجميع المقاتلين وتوجيههم في كل دولة أخلتها الدولة النازية . كما يعرفون أنه في مرحلة الإنتقال من الثورة المنتصرة إلى إعلان الإستقلال تكونت في الجزائر حكومة مؤقتة لتتلقى من فرنسا الإعتراف بانتصار الثورة وتتفق معها على سبيل حل مشكلات ترحيل المستوطنين . وقد كانت مؤقتة لأن الحكومات غير المؤقتة لا تقوم إلا استنادا إلى إرادة شعبية تختارها طبقا لإجراءات معينة لا تتوافر إلا بعد الاستقلال . فما هي الحكومة التي يراد تشكيلها لفلسطين ولا نقول في فلسطين المتحررة أن تكن حكومة في المنفى ، فحكومات المنفى لم تكن مؤسسات حكم بل كانت مؤسسات إعلامية ورموزا لإرادة الاستمرار في القتال إلى أن تتحرر أرض الوطن . وقد انتهت جميعا وتلاشت بمجرد التحرير وتشكلت الحكومات الحقيقية فوق الأرض المتحررة . وللثورة الفلسطينية مؤسسة مماثلة تؤدي دور تلك الحكومات في المنفى وأكثر منها فاعلية إسمها منظمة تحرير فلسطين وقد كسبت دوليا الإعتراف بها كقائدة لحركة تحرير وطني ولها في أنحاء كثيرة من الأرض دول حليفة تعترف بها ممثلة شرعية لشعب فلسطين . أما الحكومة المؤقتة فسيأتي دورها حين يقع على عاتق الثورة التحررية المنتصرة التعاون الدولي على حل مشكلات الصهاينة الذين قدموا من بلادهم إلى فلسطين وليس قبل ذلك ، وهي مؤقتة لأن مهمتها مؤقتة بطبيعتها .

المهم ما هو العائد الفعلي من تشكيل حكومة مؤقتة أو حكومة في المنفى الآن .

أولى نتائجه إسقاط الشرعية الدولية عن منظمة تحرير فلسطين وانتقال الإعتراف الدولي بالشرعية من المنظمة إلى الحكومة . النتيجة الثانية إعادة فتح باب الإعتراف أو عدم الإعتراف بالقيادة الفلسطينية الحكومية . ولما كانت السيطرة الفعلية على الأرض والشعب شرط دولي للإعتراف بشرعية أية حكومة فإن الحكومة المقترحة غير قابلة دوليا للإعتراف بها . النتيجة الثالثة أن الحكومة الفلسطينية ستكون مقيدة بما يقيد الحكومات من قواعد القانون الدولي . عدم التدخل في شئون الدول الأخرى ، عدم شرعية ضم أرض بالقوة وهذه القواعد لا تفيد الآن منظمة تحرير فلسطين إذ تتمتع بامتيازات حركات التحرر الوطني التي يعترف بها المجتمع الدولي بشرعية استعمال القوة لتحرير الأرض . إذن فالحكومة الفلسطينية هي إلغاء فعلى لمنظمة التحرير الفلسطينية ولكل ما حققته ويمكن أن تحققه في ظل الشرعية الدولية لنشاطها التحرري . وهذا ما هو المقصود من فكرة الحكومة . إنهاء الثورة وأساليبها لحساب حكومة لا تملك من الأساليب إلا "الكلام" ، وعلى وجه محدد المقصود حذف كلمة الثورة وكلمة التحرير من قاموس التاريخ الفلسطيني ، إلى من يكون في شك من هذا يقدم اقتراحا إحراجيا فليكن اسم منظمة تحرير فلسطين "حكومة تحرير فلسطين" أو حتى "حكومة فلسطين الحرة" كما فعل ديجول ، حينئذ سيمتعض الذين يلوكون كلمة "حكومة" ولعلهم سينفعلون ويقولون ولماذا كلمة تحرير أو حرية .. فينكشف المستور من دوافعهم .

ثانيا : استثمار الإنتفاضة . الإنتفاضة مرحلة ثورية متقدمة ومتطورة عن مراحل قبلها وهي وإن كانت ثمرة نضال قاس سبقها إلا أنها تصحيح جذري لمسار الثورة . فالأصل أن تكون الإنتفاضة هي بداية الثورة لتحرير الأرض ولكنها جاءت متأخرة لأسباب أسهمت فيها الدول العربية بأكثر مما أسهمت المقاومة الفلسطينية . على أي حال . وعفا الله عما سلف ، يستطيع المؤرخون فيما بعد أن يقولوا أن ثورة تحرير فلسطين قد بدأت عام 1987 بانتفاضة شعبية في الأرض المحتلة بعد أن كانت قد مهدت لها مقاومة فلسطينية من خارج الأرض تحوم حولها متنقلة من قطر عربي إلى قطر عربي نتيجة الحصار العربي والمطاردة العربية لقوى الثورة . ولكن ما هي دلالة كلمة "استثمار" ؟. هنا دلالتان محتملتان :

الدلالة الأولى إنهاء الإنتفاضة (بيعها) مقابل كسر الفيتو الأمريكي "فيتو على ماذا ؟" هناك فيتو أمريكي على تحرير أرض فلسطين وفيتو أمريكي على دولة فلسطين . وفيتو أمريكي على الإعتراف بمنظمة تحرير فلسطين . فما هو الفيتو الأمريكي الذي يراد كسره ؟.. الراجح من أقوال أصحاب الأقوال أنه الفيتو الأمريكي على الإعتراف بمنظمة تحرير فلسطين ممثلا للشعب الفلسطيني في المفاوضة مع الصهاينة ، هذا يعني ببساطة إنها ثورة التحرير في أعلى مراحلها من أجل قبول أمريكا حضور نفر من قادة المنظمة على مائدة المفاوضات مع الصهاينة لا شئ أكثر.

أي حتى بدون ضمان لما تسفر عنه المفاوضة . فهل هذا هو الإستثمار الذي   يقصدون ؟..

الدلالة الثانية للإستثمار هي الإستفادة من الإنتفاضة بعد أن عبرت بالثورة أصبحت العقبات (اقتحام الأرض المحتلة) لتطويرها إلى مرحلة ثورية أكثر فاعلية منها . لعلها أن تكون انتقال قوى الثورة من أشتات الأرض العربية إلى حيث الإلتحام بالانتفاضة ، أو لعلها أن تكون تحقيق العمق الجماهيري الاستراتيجي للانتفاضة الجماهيرية في الداخل ، بمد الإنتفاضة الى الجماهير العربية خارج فلسطين   المحتلة (هذا ما تخشاه الحكومات العربية حتى الموت ومن أجله تحرص على إنهاء الإنتفاضة) أيا كانت المرحلة القادمة فهي " ثمرة " للانتفاضة وعلى هذا الوجه يكون استثمار الأحداث الثورية . ولكن "وأد " ليس "استثمارا" على أي وجه . إنه قتل لحساب الصهيونية والوأد قد يكون فعليا "بإتمام الصفقة" وقد يكون "دعائيا" بمثل القول أن "الإنتفاضة لن تتكرر قبل جيل كامل" . من أين جاءت هذه الصيغة ؟ هل تنبأ أحد قبل عامين فقط ببداية الإنتفاضة حتى يتنبأ بنهايتها ؟ أم تزعمون علم الغيب فتكفرون . أم رسالة اطمئمان موجهة إلى الصهاينة بأن قد قربت نهاية متاعبكم . أم إنذار بالهزيمة موجه إلى أبطال الإنتفاضة .. شئ محير فعلا . في كل دول العالم قوانين تقضي بإعدام كل من يضعف الروح المعنوية للمقاتلين أثناء الحرب ، وكل الثورات الناجحة طبقت هذا الجزاء الرادع على من أرادوا ـ بأية طريقة ـ سلب الشعوب المناضلة من أجل حريتها الثقة في النصر . ولا أزيد وإن كان ما أريد قوله مفهوما ..

ثالثا : نأتي أخيرا لما يسمى  المؤتمر الدولي . ونسأل ما المقصود بالمؤتمر الدولي ؟  إن كان المقصود مؤتمر يضم كل الدول الراغبة في المشاركة فيه المعبر بالتالي عن الرأي العام الدولي . فإنه منعقد من سنين وينعقد كل سنة وما تزال القضية الفلسطينية على جدول أعماله ولقد انتهى هذا المؤتمر الدولي إلى أن الصهيونية حركة عنصرية ، وأن المقاومة الفلسطينية حركة تحرر وطني لها الحق شرعا في أن تقاتل من أجل تحرير فلسطين كما انتهى إلى عشرات القرارات التي تدين المؤسسة الصهيونية المسماة إسرائيل . يعرف هذا المؤتمر الدولي الجامع لكل دول العالم باسم "الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة" التي أنشأها ميثاق الأمم المتحدة كممثل للمجتمع الدولي . هذا هو المؤتمر الدولي حقا لمن يريد مؤتمرا دوليا صدقا أما مؤتمرهم المسمى "دولي" فهو مجموعة محددة من الدول معروفة بأسمائها اعترفت كلها بدولة الصهاينة وعبرت كلها عن رأيها المعادى لتحرير أرض فلسطين ورفضت كلها أو امتنعت عن إدانة الصهيونية بالعنصرية وتنكر كلها على أية دولة فلسطينية كامل السيادة على الأرض التي ترشحها لقيام الدولة ، وتحمل الدولة التي ترشحها للفلسطينيين حق ارتفاق دولي "يضمن أمن دولة الصهاينة" .. على هذا وغيره هم متفقون ومطلوب أن يذهب وفد يختارون هم أعضاءه ليرقص في ساحة المؤتمر على ألحان تلك الدول وتحت رقابتها . .

فلماذا تبيعون تأييد دول العالم كلها بأرض دول خمس ، وما الذي تستفيدون من حضور مؤتمر تلك الدول لتسمعوا قراراتها المعلنة من قبل المؤتمر .. أم أن فينا من يريد أن يبحث عن براءة كاذبة من الاستسلام احتجاجا بأن تلك ـ يا أخي إرادة المؤتمر الدولي ..

رابعا : وآخرا ما المقصود بتعبير "شخصيات معتدلة" و "برنامج سياسي معتدل"؟.. أين يقع موقف الإعتدال بين الحرية والعبودية ، بين الإحتلال والتحرير؟ أين موقف الإعتدال بين اغتصاب الأرض أو اغتصاب العرض ؟..

الملف كامل





 

عن الخلاف الصهيوني ـ الصهيوني .

 ملف القبس : المحور الرابع .

عن الخلاف الصهيوني ـ الصهيوني .

د.عصمت سيف الدولة :

- الانتفاضة فرضت الخوف على الغطرسة الصهيونية .

- لا أصدق مقولة أن الانتفاضة أوجدت استقطابا في المجتمع الصهيوني بين مؤيد ومعارض للانسحاب.

القبس عدد 5920 بتاريخ : 4 – 11 - 1988

يقال أخيرا أن الإنتفاضة قد أوجدت استقطابا في الكيان الصهيوني بين مؤيد للإنسحاب من "معظم" الأرض المحتلة وبين معارض للإنسحاب  ولو من شبر واحد مما يسمونه أرض الميعاد ودفعت بهذا الاستقطاب خطوات كبيرة إلى الأمام حيث لم تعد هناك حالة من الوسط السياسي . هناك أغلبية ترفض "التنازل الأول" الذي سيفتح شهية العرب لمزيد من الأرض وأقلية تعترف باستحالة السيطرة على شعب آخر للأبد .

لا أصدق هذه المقولة وأنا عارف تماما وبالتفصيل مبادئ وتكوين وأهداف أولئك الذين يقال أنهم أقلية . الأقلية التي تعترف باستحالة السيطرة على شعب آخر للأبد لا تأتي بجديد . إنها تردد خبرة تاريخ العالم . ومع ذلك فإنها لا تحدد " مساحة " السيطرة ولا تسمي الشعب المقهور أن غايتها أن تستدرج أصحاب الأرض إلى قبول صفقة السلام مقابل الأرض . على أي حال نجحت الإنتفاضة في فرض الخوف على الغطرسة الصهيونية وإثارة الشك في صحة منطلقاتهم الفكرية وغاياتهم السياسية وأساليبهم الإرهابية وخلقت طائفة من الحيارى وهو أول مظاهر انفراط الكيان المصطنع أصلا ، إذن ، إلى الأمام ، مزيد من فاعلية السلاح الذي أثبت فعاليته ، ولكن بالله عليكم ، كيف وأنتم تشهدون آثار ثورة لم تتمم عاما تريدون أن تنقذوا أعدائكم فتكتفون بما تحقق وتتخذون من حجة لإعادة الإيمان بالصهيونية " إلى من بدأوا يشكون في صحتها .. حرام عليكم ..

الملف كامل