الدكتور عصمت سيف الدولة يتحدث عن التعذيب .
جريدة الأهالي بتاريخ 3 – 10 – 1984 / تحقيق حسن بدوي .
المادة 43 من الدستور تنص على أن "كل مواطن يقبض عليه أو يحبس أو تقيد حريته باي قيد تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامة الانسان . ولا يجوز ايذاؤه بدنيا أو معنويا ، كما لا يجوز حجزه أو حبسه في غير الأماكن الخاضعة للقوانين الصادرة بتنظيم السجون ..."
ويقول د.عصمت سيف الدولة التعذيب ، بمعنى الاعتداء على المواطنين من جانب السلطة جريمة يعاقب عليها بالأشغال الشاقة اذا لم تؤدي الى الوفاة ، وبالإعدام اذا أدت الى الوفاة ، حتى لو لم يكن الجاني قاصد القتل . وبالتالي فهي خارج النظام القانوني والاجتماعي والسياسي ، وهي في نفس الوقت خروج على هذا النظام ، وبالتالي فان الظروف والعوامل التي يتم في ظلها التعذيب أو تحرض عليه هي ذات الظروف والعوامل التي تتم فيها الجرائم وتحرض عليها . أريد أن أقول أن التعذيب لا يجوز أن ينظر اليه على أنه جزء من النظام القانوني أو السياسي أو الاجتماعي ومحاكمته على هذا الأساس . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فان الذين يرتكبون التعذيب لا يخدمون أي نظام قانوني أو اقتصادي أو سياسي لأنهم ببساطة مجرمون .
.. والتعذيب أنواع .. فهناك التعذيب "المكثف" الذي قد يؤدي إلى القتل أو الإصابة بعاهات مستديمة ، أو بترك أثارا على جسد المواطن الضحية بقية عمره .. وهناك التعذيب العام الذي لم يتوقف يوما والنوع الآخر يعرفه كل مواطن ، خاصة الفلاحون وأبناء الطبقات الشعبية في نقط وأقسام ومراكز البوليس ولذلك تعتبر هذه الأماكن رمزا معاديا للشعب يخشى المواطن الاقتراب منها حتى ولو لاستخراج بطاقة انتخابية ..
ويقول د.عصمت سيف الدولة إن أخطر أسباب التعذيب تقع على المستوى الشعبي ولا يحتاج الأمر الى إقامة براهين على ما هو معروف تماما لدى الكافة من التعذيب العام السائد الدائم الذي يلقاه أفراد الشعب العاديين وخاصة الفلاحين في الأرياف ، في نقط البوليس ومراكزها ، ان هذا التعذيب العام هو أيضا جرائم . ولكن لأن الضحايا لا مثقفين ولا مفكرين ولا ساسة ، فان أحدا لا يشير اليهم ، ولم يحدث ابدا أن الجماعات الكثيرة التي تشكلت في السنوات الأخيرة للدفاع عن الحريات وللدفاع عن الديمقراطية ولحماية حقوق الانسان ولمناصرة الشعوب المقهورة قد اهتمت أقل اهتمام بالمعذبين في أرض مصر من افراد الشعب العاديين . هؤلاء المعذبون لا يشكون لواحد من سببين أو لكليهما ، الأول أن خبراتهم التاريخية بجماعة المثقفين والكتاب والساسة قد علمتهم ألا فائدة ترجى منهم في الدفاع عن غير ذواتهم ومصالحهم ، والثاني ..
الدفاع الشرعي
يستطرد د.عصمت :
الثاني ، سبب حضاري . قد يسهل فهمه اذا ذكرت لك انه عندما وضع المشرّعون في الهند قانون العقوبات الهندي استغرقوا في وضعه أربع سنوات . منها سنتان لصياغة القانون كله ، وسنتان استغرقتهما صياغة بضعة مواد خاصة بالدفاع الشرعي . وهو الحق المقرر قانونا للفرد في ان يدافع عن نفسه بالقوة اذا لزم الأمر ضد الاعتداءات التي تقع عليه ، اذا افتقد حماية السلطة ، ومن باب أولى اذا وقعت عليه من رجال السلطة . وقد برّرت اللجنة التي استغرقت كل هذا الوقت لصياغة مواد الدفاع الشرعي صعوبة هذه الصياغة بأن المشكلة في الهند ليست الخوف من أن يتجاوز افراد الشعب حدود حق الدفاع عن أنفسهم ضد الاعتداءات عليهم ، ولكن المشكلة هي كيف يمكن تشجيع أفراد الشعب على مقاومة الاعتداء عليهم ، وهي مشكلة - كما قالوا – حضارية ، والامر كذلك في مصر ، ما لم يصل أفراد الشعب الى معرفة أن من حقهم مقاومة التعذيب حتى الموت وان يستعملوا هذا الحق في كل الظروف ستظل جريمة التعذيب متكرّرة على ضحايا صامتين.
العجز والشراسة
ولكن لماذا تلجأ أجهزة السلطة لهذا الأسلوب ؟
يجيب د.عصمت :
لما كانت الجريمة قد ترجع لأسباب عديدة ، منها ما هو اجتماعي ومنها ما هو ذاتي ، فكذلك التعذيب قد يرجع لظروف اجتماعية مثل عدم توافر الحماية الكافية لرجال الامن حتى يستطيعوا مقاومة الأوامر التي تصدر اليهم بالتعذيب دون أن يفقدوا وظائفهم ، أو أن يكون من بين هؤلاء الأشخاص مرضى يجدون لذة خاصة في التعذيب . المهم أن كل جريمة تعذيب لها ظروفها التي يجب أن تُبحث على حدة . ومع ذلك فهناك ظروف عامة قد تشجّع على التعذيب ، منها فشل الحكومات في أن توفي بوعودها المعلنة . وبالتالي خوفها من النقد الذي يكشف هذا الفشل فتلجأ لستر عورتها بكبت حرية النقد بأساليب عديدة من أول الحيلولة دون نشره الى الإرهاب الفكري ، الى الإرهاب الأمني ، الى التعذيب .. في هذه الحالة نجد أن جرائم التعذيب تتواكب في مراحل معينة وتنصب عادة على مصادر النقد الجاد من الكتاب والمفكرين والساسة ، وهي الحالة التي تثير عادة احتجاجات المثقفين والكتاب والساسة لأنهم ضحاياه المباشرين ..
المثقفون والشعب المعذّب
واذا كان لا بد من مواجهة هذه الجريمة ، فان د.عصمت سيف الدولة لا يرضى عن دور المثقفين والساسة والمفكرين المبذول حتى الان اذ يقول :
عندما سكتوا على التعذيب الذي يقع على أفراد الشعب العاديين ، فقد فقدوا إمكانية التعاطف الشعبي مع قضية التعذيب الذي يقع على بعضهم ، ودليل هذا أنهم من حين الى اخر يحاولون إقامة الدنيا واقعادها (ويحق) لإدانة التعذيب الواقع على بعضهم ، ولكن الدنيا لا تقوم ولا تقعد ، وتبقى مستقرة بفعل عدم الاهتمام بشعب المعذبين يوميا بما يشكو منه الذين يتعذبون من حين الى حين . على هذا الأساس فقط يمكن وضع حد لجرائم التعذيب بطرحه كقضية اجتماعية كما تُطرح قضايا الجرائم السائدة . ولو حُضي التعذيب الذي يقع على أفراد الشعب في نقط البوليس وأقسامها يوميا بربع اهتمام المثقفين بجرائم اختلاس المال العام والمخدرات وتجريف الأرض لصعدت جريمة التعذيب الى أن تصبح من الهموم الأولى لهذا الشعب . وبالتالي ينفتح الأمل للحد من خطورتها ثم لإنهائها ، ولنجا المثقفون والمفكرون والساسة من مخاطر التعذيب ، وهم لا ينجون من أي مصيبة أخرى الا مع الشعب . أقول هذا وأنا جد اسف لما لمسته من وصول التعذيب الاجرامي الى أن يصبح اجراما عقائديا ، بمعنى أن ترتكب الجريمة بناء على مذهب فكري أو سياسي يهدّئ من ثورة ضمير صاحبها ويوهمه بانه اذ يعذب لا يفعل شيئا أكثر من الاستجابة لعقيدة ترى في التعذيب صلاحا لضحاياه وللمجتمع كله .. اني أشير في هذا الى نظرية "الإجهاض الأمني" التي سبق أن تعرضت لها على صفحات "الأهالي" في أكتوبر 83 ، والتي بلغ من اقتناع المسؤولين بها أنهم لم يروا في التعذيب جريمة على الاطلاق .
التعذيب بين محاكم التفتيش .. والإجهاض الأمني .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق