دروس من الهزيمة ( 5 ) .
لم تهدأ الأنفـاس منذ الاسبوع الثاني لشهـر يونيو 67 بين العـزل والتعـيين والتدريب والتخطيط والتسليح والمعارك التي خاضتها القوات المسلحة طوال حرب الاستـنـزاف ، حتى قامت المعـركة الفاصلة بعد ست سنوات من الهـزيمة ، تمكّـن خلالها الجيش العـربي في مصر من تحقـيـق نصر ساحق على القوات الصهـيـونـية وألحق بجــيشها الذي لا يقهـر هـزيمة نكراء حوّلـته الى جـيـش مقهور ، يتجرع المرارة على مدى أعوام .. ثم لم يقدر بعدها على أن يلحق أي هـزيمة بالعـرب رغم ما يرتكـبه من مجازر أو عدوان على المدن والمواطـنين العـزل كما حدث في لبنان وفلسطين مرات عديدة .. ورغم ما تعانيه الأنظمة من ضعـف الارادة ، وما تميل اليه من مراهـنة على خيارات الاستسلام ، الا أن هذه الامة ظلت صامدة ولم تفقد ارادتها على مقاومة العدوان حين أفرزت تلك المقاومة الباسلة التي استطاعت أن تركّـّع العدوّ من جديد وهي لا تأخذ أوامرها من اي جهة رسمية ..
والواقع فان كل المتباكـيـن على الهـزيمة من الأنظمة لم يكونوا أبدا من الذين يعملون على تفاديها قبل أن تحدث ، أو من الذين يدعمون خيار المقاومة ، ولا حتى من الذين يبقون على الحياد ، بل كانوا ممن ينسبون التفوق للعدو وحده ويرفضون مواجهته فيشيعون بكل ما يثيرونه من التشكيك المتعمد ، قدرا هائلا من روح الهزيمة و الاحباط .. ثم انهم لا يفعلون ذلك من باب الحرص على مصالح الامة ، بل من أجل الوصول الى تبرير الاعـتـراف والصلح وانهاء الصراع دون مقاومة أو محاولة لاسترجاع الحقوق ..
وان كل المتباكين على الهزيمة من الأحزاب اللبرالية والدينية بالخصوص لم يكونوا أبدا من الذين يهمهم كثيرا ما يحدث لمصر خلال صراعها مع أعدائها ومن ضمنها اسرائيل ، ولا من الذين يغـلـّـبون مصلحة الوطن على مصالحهم الحـزبية .. بل كانوا يدفعون الى افشال الثورة بكل الوسائل التي تصل الى حد التمرّد المسلح كما حصل سنة 1965 من طرف الاخوان المسلمين ، ليأخذ كل ذلك جهدا كبيرا من مجهود الثورة لمقاومة ما يحدث في الداخل على حساب مجهوداتها المبذولة لمقاوة العدوان الخارجي ..
وان كل المتباكين على الهزيمة أيضا من كل القوى لا يذكـرون أبدا ما كان يجري الإعداد له إلى آخر اللحظات على الجبهة المصرية .. حيث لم تكن الهـزيمة نفسها سوى لحظة حاسمة متـعلقة بأخذ المبادرة ، تأخرت فيها مصر وسبقت فيها اسرائيل ، فحصل ما حصل ..
ثم ان كل المتباكين على الهـزيمة في النهاية لا يتعـمّدون اخفاء الحقائق فحسب ، بل ويبالغـون في تـرويـج الأكاذيب .. حيث وصل بعض ما يقع تداوله بين صفوف المغـرضين قولهم بأن هـزيمة 67 هي سبب المآسي الحاصلة في الوطن العـربي الى الآن .. !!
ولعل كل الأكاذيب الرائجة التي تمتـلئ بها صفحات ومنابـر الاعـلام السعـودي ، ومواقع الاخوان المسلمين ، أو التي تفيض بها مذكرات وكتابات المتضرّرين في مصر من القـرارت الثورية التي قضت بمصادرة الثروات والتأميم والغاء الامتيازات ، انما وقعت بتلك الصورة لتكون هجوما منظّما ظاهـره حديث عن أخطاء وهـزائم ينسبونها لعـبـد الـناصر ، وباطـنه تمهـيد لتصفـية منجزاته واستهداف لمشروعه الحضاري الذي وهـب حياته لأجله حتى آخر لحظة حين مات وهو يلملم جراح هذه الامة نهاية صيف 1970 .. وقد كان كل ذلك قولا مغـرضا حقا ، لأنه اذا أخذ بالنتائج لا يأخذ بالاسباب ، واذا أخذ بالسلبيات يتعامى عن الايجابيات ، واذا توقف عند العـثـرات لا يلتفت مطلقا الى النجاحات .. وتلك هي علامات التحامل والحقد وقلة الموضوعـية والكـيد ..
فالثورة التي فـتحت العديد من الواجهات على العديد من القوى في الداخل والخارج ، وجدت نفسها منذ البداية في وضع لا تحسد عليه وهي تحاول أن تضع مصر في الموقع الذي تستحقه ..
فقد أصبحت الثورة في مواجهة الاقطاعـييـن بعد اصدار قوانـيـن الاصلاح الزراعي في النصف الأوّل من شهر أيلول 1952 ..
وقد أصبحت في مواجهة كل الأحزاب بعد اصدار قوانين حل الأحزاب في النصف الثاني من شهر يناير 1953 ..
وقد أصبحت في مواجهة المشغـّـلـيـن ورؤوس الأموال حينما أعلنت عن رفضها للاستغلال ونادت بتحسين الوضع المتردّي للعمّـال وتخفيض ساعات العمل ثم سنت القوانين لتوفـر لهم الحد الأدنى من الحقوق ..
وقد أصبحت في مواجهة بريطانيا حينما جهـرت بطلب الجلاء ووقفت في وجه الأحلاف الاستعمارية التي تقودها في المنطقة ..
وقد صارت في مواجهة كل الحكومات الغـربية حينما أقدمت على ابرام صفقة الأسلحة مع المنضومة الشرقـية ، وحينما أقدمت على تأميم قناة السويس ، وحـينما ساهمت في بـناء تكتل عالمي غير منحاز للقوى العظمى ..
وقد صارت في مواجهة أمريكا والبنك الدولي حينما رفضت الشروط المجحفة والمذلة لتمويل السد العالي ..
وقد صارت في مواجهة القوى الاستعمارية في المنظقة حينما اختارت مواجهة الأحلاف ودعم الحركات الثورية في الوطن العـربي وجعلت لها حصة من الدعم ومنابـر ومقـرات في القاهـرة ..
وقد أصبحت في مواجهة الصهـيونية حينما اختارت الدعم والمساندة للفلسطينيين والوقوف في وجه اسرائيل وحلفائها ..
ثم أصبحت في مواجهة الأنظمة العـربية الاقـليمية حينما صارت ترفض التجزئة وتنادي بالوحدة وتعمل على تحقيقها الخ ..
هكذا وجدت الثورة نفسها - وهي تتلمّس الطريق خلال مسيرتها - في مجال لا يسمح لها بكثير من الخيـارات نظرا لارتباط المسارات التي اختارتها ، بمصالح اعدائها الذين كانوا يبحثون دائما عن ثغـرة ينفذون منها للقيام بالتخـريب .. فكان أمامها خياران لا ثالث لهما : اما ان تستسلم للواقع وتسلم أمرها لكل الذين دخلت معهم في مواجهة فتخذل جماهـيـر الشعـب والامة العـربية قاطبة ، أو تتحدّى ..
وكان خيارها التحدّي .. ولا شئ غير التحدّي ..
والواقع فان الثورة لو بقيت تواجه على المستوى الاقليمي داخل مصر وحدها ، لما كان يجـتمع ضدّها كل هؤلاء الاعداء .. الا أن عبد الناصر الذي كان يتميّـز بعـبـقـرية قـراءة الواقع ، اكتشف من خلال معـرفـتـه بالأحزاب الليبرالية أن الحديث عن الديمقراطية من دون مضامين اجتماعية تحرّر الناس من الخوف والقهر يمثل تـزييفا للارادة .. واكـتشف وهو يواجه الاقطاع والطبقة السياسية المتحالفة معه أن لهؤلاء ارتباطات عميقة بالخارج ومصالح مشتركة يحرصون على استمرارها على حساب استقلالية القرار الوطني .. واكـتشف أن مصر التي تريد أن تعـيش حـرّة بلا تبعـية يتم استهدافها من خلال الاحلاف التي تحاصرها فاهتدى الى البعد القومي لأمن مصر واستقـرارها .. واكتشف كذلك أن الرأسمالية التي راهن عليها حتى أواخـر الخمسينات هي التي كانت ترفض فك الارتباط مع الدوائر الاستعمارية .. كما اكتشف أن الرهان على الاقليمية من أجل تحقيق الوحدة اسلوب فاشل لا بد أن يتم استبداله بأساليب قومية .. هذا فضلا عما اكتشفه منذ مشاركته في حرب فلسطين وحصار الفلوجة المشهور ، من أن اهداف اسرائيل لا تقف في حدود تلك الدولة التي مُـنحت لها سنة 1947 ، وان هزيمة الجيوش العـربية في تلك الحرب هي هـزيمة للنظام الرسمي العـربي الذي كان عبد الناصر يرفضه منذ ذلك الحين ، فلم يكن يوما على شاكلته الخ ..
كل ذلك و الواقع أمامنا اليوم نستطيع أن نختـبـر فـيه كل الادعاءات ..
فبعد أكـثـر من أربعـين عام على رحيل عبد الناصر خاضت الامة العـربية عشرات التجارب التي لم يستطع فـيها أي حاكم أن يكون فاعلا على الوجه الذي نستطيع ان نقول أنه الافضل .. فلماذا يقال اذن أن عبد الناصر هو الاسوء .. ؟
ولماذا يعودون دوما للحديث عن الهـزيمة التي مسح آثارها عبد الناصر بنفسه حينما استطاع جيشه الذي عيّن قياداته و درّبه وسلحه .. أن يحقق نصرا ساحقا على العدو ّ ...
انـه الصّراع على المستـقـبـل من خلال مهاجمة رموز الماضي ..
قد يقال أن هذا مجـرّد افـتـراض أو اجـتهاد ليس له صلة بالواقع ، الا أن كثيرا مما يحدث في أيامنا لا يترك الفرصة لكل من يريد أن يجـتهـد أن يستـنتـج كل ما يريد .. لأن الوقائع هي التي تتكلم أحيانا رغم ما يبدو عليه الواقع من تعـقـيد ..
فها قد فارقـنا عبد الناصر سنة 1970 و قد ترك مصر أفضل حالا على جميع المستويات من سنة 1967 ، حينما استطاع في ظرف وجيز ان يعـيد تجهـيـز الجيش وتسليحه بكل أنواع الأسلحة التي افتقدها في الحرب وهو ما جعله ميدانيا يقود حربا طويلة دامت ثلاث سنوات كاملة استنزف بها قوات العدو ولذلك سميت بحرب الاستـنـزاف ..
وها قد رحل عبد الناصر وقد ترك مصر بلا ديون خارجية اذا استـثـنـيـنا بعضها الخاص بصفقات الاسلحة للاتحاد السوفياتي والتي بلغت قيمتها مليار وثلاث مائة الف دولار في حين وصلت ديون مصر سنة 1990 الى 52.7 مليار دولار ) محمد يوسف / ارتباط الاقتصاد المصري بالتمويل الامريكي - الحوار المتمدن ( - كما ترك حالة مصر الاقتصادية - وهي في ظل الحرب - أفضل بكثير من أي حالة اقتصادية في الدول العـربية - وهي في ظل السلم - بل ان مستويات نموّ اقـتصادها واستقـراره وميزانه التجاري كانت تقارع أعتى اقتصاديات العالم وقد كان على سبيل الذكر لا الحصر الجـنيه المصري يساوي أكثر من عشر ريالات سعودية وأربعة دولارات أمريكية في حين أن الجنيه نزل الى 1.7 دولار في سبتمبر 1973 ، والى 1.42 أواخر تلك السنة ، ليصبح الدولار الأمريكي سنة 2001 مساويا لأربعة جنيهات ونصف (عبد المجيد راشد / وقائع اغتيال الجنيه المصري .. !! (
وها قد رحل عبد الناصر ومصر دولة قوية في العالم لها وزنها ومكانتها كـزعيمة لدول العالم النامية وهي في مركز القيادة منها بفضل مجهوداتها في انشاء منظمة عدم الانحياز، كما ترك لمصر آلاف المصانع ، وأتم بناء السد العالي كأكـبـر مشروع تنموي في افـريقـيا ، الى جانب السلم الاجتماعي والأمن ووحدة المجتمع ، والشعور بالانتماء القومي وروح الوحدة السائدة من المحيط الى الخليج ، وتطلع العـرب لتحقيق مشروعهم النهضوي على يد الاجيال القـادمة ...الخ
فماذا فعلت الانظمة التي ظلت تدس السم في العسل لعبد الناصر وتتظاهر بقربها منه لارضاء شعوبها ؟ هاهي مصر التي تركها متماسكة تقود العالم ، تتحول الى دولة ضعـيفة تعاني من الفقر والبطالة والمرض ، مرتبطة بالسوبرمان الامريكي ، مستكـينة للصهاينة بعد اعترافها والتـزامها بالاستسلام لهم ، وهاهي تعاني من الضياع و التشتت الذي لم تشهد له مثيلا من قبل لتعود بكل هذا سنوات عديدة الى الوراء قبل ثورة يوليو 1952 .. رغم ما تتطلع اليه للخروج من أزمتها بعد ثورة يناير2011 ..
وهاهي الانظمة الاقليمية المستبدة التي تركها عبد الناصر وهي لا تجرؤ على الجهـر بكلمة التطبيع تتعامل الآن جهارا مع الصهاينة وتعـترف بهم وتتآمر معهم سرا وعلانية ..
وها هي نفس الأنظمة التي تركها عبد الناصر تقمع شعوبها وتستكين لأعداء الأمة ، تصل الى الافلاس فيتعـرض بعضها لموجات كاسحة من الثورات الشعـبية وبعضها الآخر يستغـل ما بوسعه من امكانيات لتشويهها وتحويلها الى فوضى ودمار وخراب حتى تصير الثورة في نظـر شعوبهم نقمة لا نعـمة ، وحتى لا تصلهم رياحها فـتعصف بعـروشهم ..
وها هي بغداد بوابة العـرب الشرقـية وحصنهم الحصين التي لم يهدأ عبد الناصر حتى خلصها من حلف بغداد ، تسقط منذ سنوات بيد العملاء الذين أتوا بالاحتلال ثم احتموا بأعداء العـراق فأشاعوا الفرقة والفـتـن وجعـلوه مسرحا للصراع الطائفي المتعـفـن حتى عاد الى ماقـبـل التاريخ ..
وهاهي دمشق شقيقة القاهـرة وتوأم الوحدة التي لم يغـفـل عـنها عبد الناصر وهي تتعـرض للحصار والابتـزاز ومحاولة اختطافها وجرّها الى حلف بغداد ، حتى أخرجها من قلب الحصار ليـبني معها أول صرح للوحدة في التاريخ الحديث ، تدخل منذ سنوات في دوّامة محمومة بعد أن كانت تـتـوق كغـيـرها الى الحـرية لتجد نفسها في قلب العاصفة الهوجاء التي لم يعد يظهر منها غـيـر ما تتركه من ركام ورماد ودخان ..
هذه وقائع قد يحصل بعض الاختلاف حول تفاصيلها ، الا أن الاستنتاج واحد بالضرورة وهو أن هـزيمة 5 يونيو 1967 لم تكن الاسوأ على الاطلاق .. وأن ما وصلت اليه الامة في ظل الهزيمة أفضل عشرات المرات مما انحدرت اليه الآن بعد محو آثارها النفسية والمعـنوية سنة 1973 ، لتـرفع منذ ذلك الحين المسؤولية والعبء نهائيا عن عبد الناصر فيما سيأتي بعده ، وهو الذي انتقل الى جوار ربه وقد بذل كل ما في وسعه لتأمين أسباب النصر حتى صارت الامة العـربية على تلك الحال : منتصرة ، يسودها شعور جارف بالوحدة ، ولا يمنعها من تحقيقها غير الاستبداد الذي تفرضه الانظمة الاقليمية ..
لم تهدأ الأنفـاس منذ الاسبوع الثاني لشهـر يونيو 67 بين العـزل والتعـيين والتدريب والتخطيط والتسليح والمعارك التي خاضتها القوات المسلحة طوال حرب الاستـنـزاف ، حتى قامت المعـركة الفاصلة بعد ست سنوات من الهـزيمة ، تمكّـن خلالها الجيش العـربي في مصر من تحقـيـق نصر ساحق على القوات الصهـيـونـية وألحق بجــيشها الذي لا يقهـر هـزيمة نكراء حوّلـته الى جـيـش مقهور ، يتجرع المرارة على مدى أعوام .. ثم لم يقدر بعدها على أن يلحق أي هـزيمة بالعـرب رغم ما يرتكـبه من مجازر أو عدوان على المدن والمواطـنين العـزل كما حدث في لبنان وفلسطين مرات عديدة .. ورغم ما تعانيه الأنظمة من ضعـف الارادة ، وما تميل اليه من مراهـنة على خيارات الاستسلام ، الا أن هذه الامة ظلت صامدة ولم تفقد ارادتها على مقاومة العدوان حين أفرزت تلك المقاومة الباسلة التي استطاعت أن تركّـّع العدوّ من جديد وهي لا تأخذ أوامرها من اي جهة رسمية ..
والواقع فان كل المتباكـيـن على الهـزيمة من الأنظمة لم يكونوا أبدا من الذين يعملون على تفاديها قبل أن تحدث ، أو من الذين يدعمون خيار المقاومة ، ولا حتى من الذين يبقون على الحياد ، بل كانوا ممن ينسبون التفوق للعدو وحده ويرفضون مواجهته فيشيعون بكل ما يثيرونه من التشكيك المتعمد ، قدرا هائلا من روح الهزيمة و الاحباط .. ثم انهم لا يفعلون ذلك من باب الحرص على مصالح الامة ، بل من أجل الوصول الى تبرير الاعـتـراف والصلح وانهاء الصراع دون مقاومة أو محاولة لاسترجاع الحقوق ..
وان كل المتباكين على الهزيمة من الأحزاب اللبرالية والدينية بالخصوص لم يكونوا أبدا من الذين يهمهم كثيرا ما يحدث لمصر خلال صراعها مع أعدائها ومن ضمنها اسرائيل ، ولا من الذين يغـلـّـبون مصلحة الوطن على مصالحهم الحـزبية .. بل كانوا يدفعون الى افشال الثورة بكل الوسائل التي تصل الى حد التمرّد المسلح كما حصل سنة 1965 من طرف الاخوان المسلمين ، ليأخذ كل ذلك جهدا كبيرا من مجهود الثورة لمقاومة ما يحدث في الداخل على حساب مجهوداتها المبذولة لمقاوة العدوان الخارجي ..
وان كل المتباكين على الهزيمة أيضا من كل القوى لا يذكـرون أبدا ما كان يجري الإعداد له إلى آخر اللحظات على الجبهة المصرية .. حيث لم تكن الهـزيمة نفسها سوى لحظة حاسمة متـعلقة بأخذ المبادرة ، تأخرت فيها مصر وسبقت فيها اسرائيل ، فحصل ما حصل ..
ثم ان كل المتباكين على الهـزيمة في النهاية لا يتعـمّدون اخفاء الحقائق فحسب ، بل ويبالغـون في تـرويـج الأكاذيب .. حيث وصل بعض ما يقع تداوله بين صفوف المغـرضين قولهم بأن هـزيمة 67 هي سبب المآسي الحاصلة في الوطن العـربي الى الآن .. !!
ولعل كل الأكاذيب الرائجة التي تمتـلئ بها صفحات ومنابـر الاعـلام السعـودي ، ومواقع الاخوان المسلمين ، أو التي تفيض بها مذكرات وكتابات المتضرّرين في مصر من القـرارت الثورية التي قضت بمصادرة الثروات والتأميم والغاء الامتيازات ، انما وقعت بتلك الصورة لتكون هجوما منظّما ظاهـره حديث عن أخطاء وهـزائم ينسبونها لعـبـد الـناصر ، وباطـنه تمهـيد لتصفـية منجزاته واستهداف لمشروعه الحضاري الذي وهـب حياته لأجله حتى آخر لحظة حين مات وهو يلملم جراح هذه الامة نهاية صيف 1970 .. وقد كان كل ذلك قولا مغـرضا حقا ، لأنه اذا أخذ بالنتائج لا يأخذ بالاسباب ، واذا أخذ بالسلبيات يتعامى عن الايجابيات ، واذا توقف عند العـثـرات لا يلتفت مطلقا الى النجاحات .. وتلك هي علامات التحامل والحقد وقلة الموضوعـية والكـيد ..
فالثورة التي فـتحت العديد من الواجهات على العديد من القوى في الداخل والخارج ، وجدت نفسها منذ البداية في وضع لا تحسد عليه وهي تحاول أن تضع مصر في الموقع الذي تستحقه ..
فقد أصبحت الثورة في مواجهة الاقطاعـييـن بعد اصدار قوانـيـن الاصلاح الزراعي في النصف الأوّل من شهر أيلول 1952 ..
وقد أصبحت في مواجهة كل الأحزاب بعد اصدار قوانين حل الأحزاب في النصف الثاني من شهر يناير 1953 ..
وقد أصبحت في مواجهة المشغـّـلـيـن ورؤوس الأموال حينما أعلنت عن رفضها للاستغلال ونادت بتحسين الوضع المتردّي للعمّـال وتخفيض ساعات العمل ثم سنت القوانين لتوفـر لهم الحد الأدنى من الحقوق ..
وقد أصبحت في مواجهة بريطانيا حينما جهـرت بطلب الجلاء ووقفت في وجه الأحلاف الاستعمارية التي تقودها في المنطقة ..
وقد صارت في مواجهة كل الحكومات الغـربية حينما أقدمت على ابرام صفقة الأسلحة مع المنضومة الشرقـية ، وحينما أقدمت على تأميم قناة السويس ، وحـينما ساهمت في بـناء تكتل عالمي غير منحاز للقوى العظمى ..
وقد صارت في مواجهة أمريكا والبنك الدولي حينما رفضت الشروط المجحفة والمذلة لتمويل السد العالي ..
وقد صارت في مواجهة القوى الاستعمارية في المنظقة حينما اختارت مواجهة الأحلاف ودعم الحركات الثورية في الوطن العـربي وجعلت لها حصة من الدعم ومنابـر ومقـرات في القاهـرة ..
وقد أصبحت في مواجهة الصهـيونية حينما اختارت الدعم والمساندة للفلسطينيين والوقوف في وجه اسرائيل وحلفائها ..
ثم أصبحت في مواجهة الأنظمة العـربية الاقـليمية حينما صارت ترفض التجزئة وتنادي بالوحدة وتعمل على تحقيقها الخ ..
هكذا وجدت الثورة نفسها - وهي تتلمّس الطريق خلال مسيرتها - في مجال لا يسمح لها بكثير من الخيـارات نظرا لارتباط المسارات التي اختارتها ، بمصالح اعدائها الذين كانوا يبحثون دائما عن ثغـرة ينفذون منها للقيام بالتخـريب .. فكان أمامها خياران لا ثالث لهما : اما ان تستسلم للواقع وتسلم أمرها لكل الذين دخلت معهم في مواجهة فتخذل جماهـيـر الشعـب والامة العـربية قاطبة ، أو تتحدّى ..
وكان خيارها التحدّي .. ولا شئ غير التحدّي ..
والواقع فان الثورة لو بقيت تواجه على المستوى الاقليمي داخل مصر وحدها ، لما كان يجـتمع ضدّها كل هؤلاء الاعداء .. الا أن عبد الناصر الذي كان يتميّـز بعـبـقـرية قـراءة الواقع ، اكتشف من خلال معـرفـتـه بالأحزاب الليبرالية أن الحديث عن الديمقراطية من دون مضامين اجتماعية تحرّر الناس من الخوف والقهر يمثل تـزييفا للارادة .. واكـتشف وهو يواجه الاقطاع والطبقة السياسية المتحالفة معه أن لهؤلاء ارتباطات عميقة بالخارج ومصالح مشتركة يحرصون على استمرارها على حساب استقلالية القرار الوطني .. واكـتشف أن مصر التي تريد أن تعـيش حـرّة بلا تبعـية يتم استهدافها من خلال الاحلاف التي تحاصرها فاهتدى الى البعد القومي لأمن مصر واستقـرارها .. واكتشف كذلك أن الرأسمالية التي راهن عليها حتى أواخـر الخمسينات هي التي كانت ترفض فك الارتباط مع الدوائر الاستعمارية .. كما اكتشف أن الرهان على الاقليمية من أجل تحقيق الوحدة اسلوب فاشل لا بد أن يتم استبداله بأساليب قومية .. هذا فضلا عما اكتشفه منذ مشاركته في حرب فلسطين وحصار الفلوجة المشهور ، من أن اهداف اسرائيل لا تقف في حدود تلك الدولة التي مُـنحت لها سنة 1947 ، وان هزيمة الجيوش العـربية في تلك الحرب هي هـزيمة للنظام الرسمي العـربي الذي كان عبد الناصر يرفضه منذ ذلك الحين ، فلم يكن يوما على شاكلته الخ ..
كل ذلك و الواقع أمامنا اليوم نستطيع أن نختـبـر فـيه كل الادعاءات ..
فبعد أكـثـر من أربعـين عام على رحيل عبد الناصر خاضت الامة العـربية عشرات التجارب التي لم يستطع فـيها أي حاكم أن يكون فاعلا على الوجه الذي نستطيع ان نقول أنه الافضل .. فلماذا يقال اذن أن عبد الناصر هو الاسوء .. ؟
ولماذا يعودون دوما للحديث عن الهـزيمة التي مسح آثارها عبد الناصر بنفسه حينما استطاع جيشه الذي عيّن قياداته و درّبه وسلحه .. أن يحقق نصرا ساحقا على العدو ّ ...
انـه الصّراع على المستـقـبـل من خلال مهاجمة رموز الماضي ..
قد يقال أن هذا مجـرّد افـتـراض أو اجـتهاد ليس له صلة بالواقع ، الا أن كثيرا مما يحدث في أيامنا لا يترك الفرصة لكل من يريد أن يجـتهـد أن يستـنتـج كل ما يريد .. لأن الوقائع هي التي تتكلم أحيانا رغم ما يبدو عليه الواقع من تعـقـيد ..
فها قد فارقـنا عبد الناصر سنة 1970 و قد ترك مصر أفضل حالا على جميع المستويات من سنة 1967 ، حينما استطاع في ظرف وجيز ان يعـيد تجهـيـز الجيش وتسليحه بكل أنواع الأسلحة التي افتقدها في الحرب وهو ما جعله ميدانيا يقود حربا طويلة دامت ثلاث سنوات كاملة استنزف بها قوات العدو ولذلك سميت بحرب الاستـنـزاف ..
وها قد رحل عبد الناصر وقد ترك مصر بلا ديون خارجية اذا استـثـنـيـنا بعضها الخاص بصفقات الاسلحة للاتحاد السوفياتي والتي بلغت قيمتها مليار وثلاث مائة الف دولار في حين وصلت ديون مصر سنة 1990 الى 52.7 مليار دولار ) محمد يوسف / ارتباط الاقتصاد المصري بالتمويل الامريكي - الحوار المتمدن ( - كما ترك حالة مصر الاقتصادية - وهي في ظل الحرب - أفضل بكثير من أي حالة اقتصادية في الدول العـربية - وهي في ظل السلم - بل ان مستويات نموّ اقـتصادها واستقـراره وميزانه التجاري كانت تقارع أعتى اقتصاديات العالم وقد كان على سبيل الذكر لا الحصر الجـنيه المصري يساوي أكثر من عشر ريالات سعودية وأربعة دولارات أمريكية في حين أن الجنيه نزل الى 1.7 دولار في سبتمبر 1973 ، والى 1.42 أواخر تلك السنة ، ليصبح الدولار الأمريكي سنة 2001 مساويا لأربعة جنيهات ونصف (عبد المجيد راشد / وقائع اغتيال الجنيه المصري .. !! (
وها قد رحل عبد الناصر ومصر دولة قوية في العالم لها وزنها ومكانتها كـزعيمة لدول العالم النامية وهي في مركز القيادة منها بفضل مجهوداتها في انشاء منظمة عدم الانحياز، كما ترك لمصر آلاف المصانع ، وأتم بناء السد العالي كأكـبـر مشروع تنموي في افـريقـيا ، الى جانب السلم الاجتماعي والأمن ووحدة المجتمع ، والشعور بالانتماء القومي وروح الوحدة السائدة من المحيط الى الخليج ، وتطلع العـرب لتحقيق مشروعهم النهضوي على يد الاجيال القـادمة ...الخ
فماذا فعلت الانظمة التي ظلت تدس السم في العسل لعبد الناصر وتتظاهر بقربها منه لارضاء شعوبها ؟ هاهي مصر التي تركها متماسكة تقود العالم ، تتحول الى دولة ضعـيفة تعاني من الفقر والبطالة والمرض ، مرتبطة بالسوبرمان الامريكي ، مستكـينة للصهاينة بعد اعترافها والتـزامها بالاستسلام لهم ، وهاهي تعاني من الضياع و التشتت الذي لم تشهد له مثيلا من قبل لتعود بكل هذا سنوات عديدة الى الوراء قبل ثورة يوليو 1952 .. رغم ما تتطلع اليه للخروج من أزمتها بعد ثورة يناير2011 ..
وهاهي الانظمة الاقليمية المستبدة التي تركها عبد الناصر وهي لا تجرؤ على الجهـر بكلمة التطبيع تتعامل الآن جهارا مع الصهاينة وتعـترف بهم وتتآمر معهم سرا وعلانية ..
وها هي نفس الأنظمة التي تركها عبد الناصر تقمع شعوبها وتستكين لأعداء الأمة ، تصل الى الافلاس فيتعـرض بعضها لموجات كاسحة من الثورات الشعـبية وبعضها الآخر يستغـل ما بوسعه من امكانيات لتشويهها وتحويلها الى فوضى ودمار وخراب حتى تصير الثورة في نظـر شعوبهم نقمة لا نعـمة ، وحتى لا تصلهم رياحها فـتعصف بعـروشهم ..
وها هي بغداد بوابة العـرب الشرقـية وحصنهم الحصين التي لم يهدأ عبد الناصر حتى خلصها من حلف بغداد ، تسقط منذ سنوات بيد العملاء الذين أتوا بالاحتلال ثم احتموا بأعداء العـراق فأشاعوا الفرقة والفـتـن وجعـلوه مسرحا للصراع الطائفي المتعـفـن حتى عاد الى ماقـبـل التاريخ ..
وهاهي دمشق شقيقة القاهـرة وتوأم الوحدة التي لم يغـفـل عـنها عبد الناصر وهي تتعـرض للحصار والابتـزاز ومحاولة اختطافها وجرّها الى حلف بغداد ، حتى أخرجها من قلب الحصار ليـبني معها أول صرح للوحدة في التاريخ الحديث ، تدخل منذ سنوات في دوّامة محمومة بعد أن كانت تـتـوق كغـيـرها الى الحـرية لتجد نفسها في قلب العاصفة الهوجاء التي لم يعد يظهر منها غـيـر ما تتركه من ركام ورماد ودخان ..
هذه وقائع قد يحصل بعض الاختلاف حول تفاصيلها ، الا أن الاستنتاج واحد بالضرورة وهو أن هـزيمة 5 يونيو 1967 لم تكن الاسوأ على الاطلاق .. وأن ما وصلت اليه الامة في ظل الهزيمة أفضل عشرات المرات مما انحدرت اليه الآن بعد محو آثارها النفسية والمعـنوية سنة 1973 ، لتـرفع منذ ذلك الحين المسؤولية والعبء نهائيا عن عبد الناصر فيما سيأتي بعده ، وهو الذي انتقل الى جوار ربه وقد بذل كل ما في وسعه لتأمين أسباب النصر حتى صارت الامة العـربية على تلك الحال : منتصرة ، يسودها شعور جارف بالوحدة ، ولا يمنعها من تحقيقها غير الاستبداد الذي تفرضه الانظمة الاقليمية ..
ليس هذا فحسب ، بل ان
عبد الناصر قد ترك تجربة ثرية في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والعلاقات
الدولية .. كما ترك للجماهير - التي كان في موقع القيادة منها - تجارب عديدة في
مجال العمل الوحدوي ، قادته الى اليقـيـن باستحالة تحقق الوحدة على يديه ،
وبالكيفـية التي تؤدي الى استمرارها وهو في موقع المسؤولية على رأس دولة اقليمية
بكل ما فـيها من قـيـود .. فأعلن منذ سنة 1963 نداءه الشهـيـر بضرورة تحمل
الجماهـيـر لمسؤولياتها التاريخية الكاملة في تحقـيـق حلمها ، من خلال البدأ في
بناء الحركة العـربية الواحدة ، الآداة الوحـيدة القادرة على تحقـيق الوحدة وحمايتها
.. ورغم ذلك فان اصوات المنافقـيـن والمشككين لا تزال ترتفع الى الآن محمّلة اياه
فـشل ذلك المشروع .. !!
باختصار ان ما شهدته الأمة العـربية من عمل دؤوب ، وجهد وتضحـيات منذ الهـزيمة وحتى تحقـيق النصرعلى العدو ، قد ذهب هباء منثورا بسبب غياب الآداة الثورية القادرة على حماية مسار الثورة واستمرارها بعد غياب قائدها .. فحـلــّـت الانتكاسة الحقـيقـية بالامة العـربية حينما بدأت تقدّم لأعائها وهي منتصرة ، ما لم تقدّمه لهم وهي منهـزمة ..
وقد كان ذلك الفراغ ، مدخلا سهلا استطاع به أعداء الثورة الانقلاب عليها وأخذها تدريجيا الى ما هو أخطر من كل آثار الهـزيمة ذاتها .. حين تم الاعـتـراف بالعدو وابـرام اتفاقـيـة السلام معه بتـلك المضامين التي لم يكن أحد من الصهاينة يحلم بها قـبـل ذلك ، وهم يـرون مصر التي قهـرتهم على مدى عقدين ، توقــّـع لهم صكّ عـبـوديـتها ، وتـتخـلـّـي عن واجـباتها القومية ..
ثم ظهر بعد ذلك أن وجه الخطورة كان أكبر بكثير مما اختارته مصر لنفسها ، حين تحوّل موضوع السلام الى خيار استـراتـيجي .. فصارت أغلب الانظمة العـربية الاقليمية تعمل على تغـليـب مصالح العائلات الحاكمة مقابل تغـيـيـب كامل للمصالح الوطنية والقومية ، لتصل بالأمة العـربية في النهاية الى ما تعـيشه اليوم من واقع مرير وفوضى عارمة وخـيـبـات متـتـالية ، وصلت الآن الى ذروتها مع تـنامي الصراعات الطائفـية التي أصبحت تهدّد بـُـنـيـتها الهـيكـلـية ووجودها في الصميم ..
الا أن ذلك كله لا يرفع المسـؤولية كاملة عن الحركة القومية ، التي ضعف مردودها حتى غابت في بعض الفـتـرات عن الفعـل بسبب ما عاشته من فـرقة وتشتت وتشظـّي وانقسامات وصراعات لم تقدر الى الآن على تجاوزها .. في حين كان عليها - وهي ترى حالة الانهيار - أن تتعلم من تجـربة عبد الناصر ومن الهـزيمة بالذات ما قام به رحمه الله من تغـييـر في التكـتـيـك والسياسات والأساليب الخاصة بالعلاقات الدولية والعـربية جعـلـته يقـبـل بالقـرار 242 ، و يتصالح مع كـثـيـر من الأنظمة التي كان في صراع دائم معها ليجمع شمل الامة ويوحّد صوتها على شعار واحد لا صلح لا اعتراف لا تفاوض ، ومصر لم تنفض بعد غبار الهزيمة ...
أما الحركة القومية الآن ، فهي ليست مجبـرة لتقدم التنازلات الا في داخلها لتوحـيد الصف القومي والسير به الى بناء الحركة العـربية الواحدة ، تلك المهمّة التي بقيت معلقة أكثر من نصف قرن وقد أصبحت الآن في ظل " داعش والغـبـراء " - على حد تعـبيـر السيد عبد الحليم قـنديـل - مسألة حياة أو موت ، وهي في النهاية من أبلغ الدروس واكثـرها ضرورة واثارة للانـتـبـاه ..
باختصار ان ما شهدته الأمة العـربية من عمل دؤوب ، وجهد وتضحـيات منذ الهـزيمة وحتى تحقـيق النصرعلى العدو ، قد ذهب هباء منثورا بسبب غياب الآداة الثورية القادرة على حماية مسار الثورة واستمرارها بعد غياب قائدها .. فحـلــّـت الانتكاسة الحقـيقـية بالامة العـربية حينما بدأت تقدّم لأعائها وهي منتصرة ، ما لم تقدّمه لهم وهي منهـزمة ..
وقد كان ذلك الفراغ ، مدخلا سهلا استطاع به أعداء الثورة الانقلاب عليها وأخذها تدريجيا الى ما هو أخطر من كل آثار الهـزيمة ذاتها .. حين تم الاعـتـراف بالعدو وابـرام اتفاقـيـة السلام معه بتـلك المضامين التي لم يكن أحد من الصهاينة يحلم بها قـبـل ذلك ، وهم يـرون مصر التي قهـرتهم على مدى عقدين ، توقــّـع لهم صكّ عـبـوديـتها ، وتـتخـلـّـي عن واجـباتها القومية ..
ثم ظهر بعد ذلك أن وجه الخطورة كان أكبر بكثير مما اختارته مصر لنفسها ، حين تحوّل موضوع السلام الى خيار استـراتـيجي .. فصارت أغلب الانظمة العـربية الاقليمية تعمل على تغـليـب مصالح العائلات الحاكمة مقابل تغـيـيـب كامل للمصالح الوطنية والقومية ، لتصل بالأمة العـربية في النهاية الى ما تعـيشه اليوم من واقع مرير وفوضى عارمة وخـيـبـات متـتـالية ، وصلت الآن الى ذروتها مع تـنامي الصراعات الطائفـية التي أصبحت تهدّد بـُـنـيـتها الهـيكـلـية ووجودها في الصميم ..
الا أن ذلك كله لا يرفع المسـؤولية كاملة عن الحركة القومية ، التي ضعف مردودها حتى غابت في بعض الفـتـرات عن الفعـل بسبب ما عاشته من فـرقة وتشتت وتشظـّي وانقسامات وصراعات لم تقدر الى الآن على تجاوزها .. في حين كان عليها - وهي ترى حالة الانهيار - أن تتعلم من تجـربة عبد الناصر ومن الهـزيمة بالذات ما قام به رحمه الله من تغـييـر في التكـتـيـك والسياسات والأساليب الخاصة بالعلاقات الدولية والعـربية جعـلـته يقـبـل بالقـرار 242 ، و يتصالح مع كـثـيـر من الأنظمة التي كان في صراع دائم معها ليجمع شمل الامة ويوحّد صوتها على شعار واحد لا صلح لا اعتراف لا تفاوض ، ومصر لم تنفض بعد غبار الهزيمة ...
أما الحركة القومية الآن ، فهي ليست مجبـرة لتقدم التنازلات الا في داخلها لتوحـيد الصف القومي والسير به الى بناء الحركة العـربية الواحدة ، تلك المهمّة التي بقيت معلقة أكثر من نصف قرن وقد أصبحت الآن في ظل " داعش والغـبـراء " - على حد تعـبيـر السيد عبد الحليم قـنديـل - مسألة حياة أو موت ، وهي في النهاية من أبلغ الدروس واكثـرها ضرورة واثارة للانـتـبـاه ..
( القدس ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق