بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 4 يونيو 2012

دروس من الهزيمة ..



دروس من الهزيمة ..

( 1 ) .


لكل امّة محطات شموخ و كبرياء ، ومحطات انكسار و انتكاسات . هكذا حدث للامريكان طوال فترة الاحتلال و السيطرة الاجنبية حين كان المواطنون يدفعون الضرائب لبريطانيا كأعظم مشهد للهيمنة و الاذلال .. و قد كان لزاما على الامريكيين ان ينتظروا حتى سنة 1775 تاريخ انطلاق حرب الاستقلال التي انتهت باعتراف بريطانيا باستقلال الولايات المتحدة سنة 1783 .. و قد كانت الحرية خطوة أولى تبعتها الوحدة الشاملة التي فرضها الثوار بالقوة على الانفصاليين سنة 1865 ، حتى صارت القوة الاولى في العالم اليوم                                        ..
و هكذا حصل لفرنسا يوم دخلتها جيوش الحلفاء في مناسبتين الاولى سنة 1813 و الثانية سنة 1815 ، حيث وقع اسر القائد الفرنسي و الامبراطور العظيم نابليون مرتين و نفيه في مناسبتين ايضا انتهت الثانية بموته في احدى جزر المحيط الاطلسي ، و قد كانت تلك الهزائم و الشماتة من أهم الدروس التي تعلمتها فرنسا و هي من بين الدول الكبرى في العالم اليوم                               ..
و هكذا تماما حدث لالمانيا النازية التي انتهت نكباتها خلال الحرب العالمية وحدها ، باخضاعها و انتحار او فرار قادتها ، ثم احتلالها و تقسيمها و اذلال شعبها عندما بقي يدفع التعويضات الى الآن .. و ها نحن نراها اليوم من اقوى الدول في العالم بعد أن استعادت وحدتها في نهاية القرن العشرين ..
وهكذا حدث لليابان عندما قــُــصفت بالقنابل النووية ، ولبريطانيا العظمى التي لم تسلم من الهزائم سواء في حروبها الاروبية او في المستعمرات .. كما حدث مثل ذلك او أبشع منه بالنسبة لاعظم الامبراطوريات عبر التاريخ البشري الطويل مثل الامبراطورية الفارسية و الرومانية و البيزنطية التي كانت تملك اكبر القادة واكبر الجيوش                           ..
لم تكن هزيمة يونيو 1967 استثناء في التاريخ ، بقدر ما كانت درسا من الدروس القاسية التي عاشتها الجماهير العربية مثلها مثل اي شعب مني بالهزيمة .. و ليس غريبا ان نرى القوى المعادية لعبد الناصر وقد اتخذت مما حدث لمصر يوم 5 يونيو مناسبة دائمة للهجوم عليه شخصيا . لكن الغـريب فعلا ان يتحول ذلك الحقد على المشروع القومي الى تلذذ و شماتة بالهزيمة كما عبرت عنه العديد من القوى المعادية للثورة داخل مصر وخارجها .. فقد صدر بعد نكسة جوان 67 كتابا بعنوان " ستة ايام من الحرب " لاحد الكتاب اليهود الذي يقدم وجهة النظر الصهيونية مما حدث يوم 5 يونيو وهو امر عادي و طبيعي ، غير ان الغريب في الامر كما يقول الدكتور صفوت حاتم الذي نقل تفاصيل هذه الرواية ان تتولى دار نشر سعودية ترجمة الكتاب اولا ثم ان تقوم تلك الدار بنشر آية قرآنية في الصفحة التي تلي الاهداء مباشرة يدل السياق الذي وردت فيه على ان الهزيمة العسكرية كانت عقابا من الله لعبد الناصر ، وهو ما يعـني تبعا لذلك بأن اسرائيل كانت مؤيدة بنصر من الله .. !!!، و قد وردت الآية الكريمة من سورة العنكبوت في هذا السياق لتبلّغ هذا المعنى ، قال تعالى : " فكلا أخذنا بذنبه .. فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا .. ومنهم من أخذته الصيحة .. ومنهم من خسفنا به الأرض .. ومنهم من أغرقنا .. وماكان الله ليظلمهم .. ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " .. ثم تمادى ناشرو الكتاب في سوء النية وفي الشماتة ، حيث لم يكتفوا بذلك بل انهم اضافوا على الغلاف الفاخر للكتاب من الخلف تعليقا فاضحا لايهود باراك رئيس الوزراء و قائد الجيش الصهيوني يتحدّث فيه عن الحرب و السلام في المنطقة .. وتقريبا لم يختلف الامر كثيرا بالنسبة للاخوان المسلمين ، اذ كانت هزيمة مصر في تلك الفترة تعني بالنسبة لهم فرصة لا تعوّض للانتقام من عبد الناصر .. وقد صدرت مواقف عديدة و غريبة من عدة شخصيات بعضها محسوب على تيار الاخوان مثل الشيخ يوسف القرضاوي و أخرى مستقلة لكنها من نفس المدرسة ابرزها الشيخ شعراوي ، و و كيل الازهر في فترة مبارك الدكتور محمد عبد الله ماضي ، وغيرهم .. لكنها كانت كلها شطحات تؤكد رؤيتهم المحدودة و جهلهم بمتطلبات المرحلة و مقتضيات الواقع الذي تدور فيه الاحداث اضافة الى تعصبهم الاعمى الذي عمى بصيرتهم تجاه الوطن                             ..
من أغرب تلك الشطحات هي التي وردت من الشيخ متولي الشعراوي الذي قام بالسجود ركعتين عندما سمع بالهزيمة سنة 67 !!! .. ، و الواقع انه قد ندم على ذلك قبل وفاته ، فزار ضريح عبد الناصر و قرأ عليه الفاتحة وتوجه له بالدعاء                                 .
أما القرضاوي و في اطار نقله لبعض تصريحات تلك الشخصيات التي اعتبرت الهزيمة حدثا ايجابيا فانه بعد ان نقل قول الدكتور محمد عبد الله ماضي الذي جاء فيه " إننا لو انتصرنا ـ على ما كان بنا من عيوب وانحراف لـازددنا جرأة على محارم الله ". فانه يورد بيتا من الشعـر تأكيدا لهذا الرأي يقول  "كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا " !!!
ثم نجد اكثر الشطحات اثارة للسخرية متمثلة فيما ورد على لسان المرشد العام الحالي لجماعة الاخوان المسلمين محمد بديع في الحوار المنشور بصحيفة الأهرام يوم 18 / 3 / 2011 حيث يقول : " إن هزيمة 56 جاءت رداً على ما حدث للإخوان عام 54 ، وأن هزيمة 67 جاءت رداً على ما حدث لهم عام 65 ، وأن هذه وتلك كانت انتقاماً من الله لما حدث للإخوان " !!! وقد فاته استنتاج مهم - بناء على هذا الاعتراف - مفاده ان في كلا المرحلتين هناك اقتران بين تـآمر الاخوان في الداخل و تدبير العدوان من الخارج ، و هو أمر يستحق الوقوف والانتباه                                     ..
تلك مفارقات عجيبة و وجه آخـر للحقيقة الغائبة ، يهـُم الجيل الجديد من الشباب العربي ان يعرفها خاصة اذا كان بعضها له علاقة بشكل أو بآخـر بكثير من النتائج الكارثية التي عاشتها الامة .. وهي رغم مرارتها تــُـعتبر بمثابة الدروس القاسية التي يجب الاستفادة منها ، و من ابرزها ان جزءا هاما من الفشل و الهزائم كانت تقف وراءه قوى متداخلة تجذب الى الخلف ، فتفـتعـل معارك وهمية و تقف بوعي او بدون وعي في صف القوى المعادية للثورة ، ثم تتهمها بالهزائم .. في الوقت الذي كانت فيه ثورة يوليو تحشد كل الامكانيات لمواجهة التجزئة و حل مشاكل التنمية و التخلف والتصدي للاحتلال الاجنبي وهي مجالات تحققت فيها نجاحات كثيرة ظاهرة وملموسة .. غير ان تلك القوى التي لم تختلف عن بعضها البعض في اسلوبها او في اتهامها للثورة بالديكتاتورية ، و هي لا تدري كيف تحقق الديمقراطية الا بما يكفي للوصول الى الحكم ، في مجتمع يعاني من الفقر والجهل والاستغلال الفاحش وسيطرة الاقطاع و رأس المال الى جانب تكالب القوى الاستعمارية و الصهيونية ، انما كانت تعـبـّرعن عمق ازمتها في فهم الواقع و طبيعة المرحلة                         ..
ان المحك الوحيد الذي لا يخطئ في فرز المواقف الصحيحة هي بلا شك معارك الواقع ، و مدى الالتزام بثوابت العمل الوطني والقومي كما فهمته ثورة يوليو في تلك المرحلة الدقيقة ، من خلال تلازم عدة مسارات لا يقـبل المنطق السليم تغليب واحدة منها على الأخرى .. فلا يجوز مثلا الحديث الصاخب عن الديمقراطية السياسية مع السكوت عن الاستغلال الذي يؤدي الى سيطـرة فئة على اخرى . ولا يجوز الحديث عن الشريعة مع مهادنة الانظمة العميلة المتحالفة مع الاعداء ثم التآمر على امن الوطن في الداخل . و لا يجوز من حيث المنطق المطالبة بحرية التعـبيـروالصحافة دون محاربة الاقطاع والراسمالية الفاحشة التي تستأثر بكل وسائل الدعاية والاعلام دون عامة الشعب . كما لا يجوز مقايضة التنمية والاستثمار بالتبعـية والهيمنة او السكوت عن الاحتلال والتنازل عن القضايا المصيرية للامة أو القبول بالتجزئة التي تسبب ضعـفها و تشتـتها                                  .. 
تلك مبادئ و أفكار لا تتجزّأ في تحقيق التقدم الحقيقي تفوّق بها جمال عبد الناصر عن جميع القوى التي بقيت تراوح مكانها و هي ترفع شعارات الليبرالية الفضفاضة والرأسمالية المستغلة ، او المتاجرة بالدين دون تعمّق في فهم مبادئه الانسانية الشاملة                               ..
ان الموقف السليم اليوم يبدأ بلحظة الشك تجاه اي طرف في الوطن العربي سواء كان فردا او حزبا او دولة تتــّــفق مواقفه مع المواقف الرسمية للعدو الصهيوني والولايات المتحدة الامريكية وكثير من الدول الغـربية وبعض الشخصيات الرسمية التابعة لها .. و قديما حسمها المجاهد عبد الرحمان بن باديس رحمه الله عـندما قال قولته الشهيرة : " والله لو أن فرنسا قالت لي : قل لا إله إلا الله ما قلتها " وهو الذي يعـرف قـيمة الشهادة حق المعـرفة ، وإنما دفعه إلى ذلك شعوره الوطني الذي جعله يعبّر عن رفضه الاشتراك مع العدو حتى في كلمة التوحـيـد.. 

(2) .

حصلت هزيمة عسكرية يوم 5 يونيو 67 فسمّاها من كان يأمل في النصر بـ " النكسة ". و سمّاها بـ " النكبة الثانية " من كان يتشفى في خصومه السياسيين ، فبادر في اطار الانحياز المطلق ضدهم الى تضخيمها و جعلها مصيبة كبرى حلت بالامة جمعاء تضاهي من حيث تاثيرها وانعكاساتها نكـبة فلسطين الاولى .. ثم انبرى يحصي عدد الشهداء والمفقودين وعدد الذين وقعوا في الاسر والمعدّات التي وقع تدميرها والاراضي التي وقع احتلالها الخ .. والمهم في النهاية ان يستـنـتـج بان جمال عبد الناصر وحده المسؤول عن تلك الهزيمة وما تبعها من خسائر ضخمة ، بسبب سياسته التي حمـّـلت مصر اكثر من طاقـتها .. حيث كان عليه ان لا يهتم بمساندة ثوار الجزائرالذين كانت تـنكل بهم فرنسا ، و كان عليه أن لا يهتـم بمساندة ثوار اليمن الذين كانت تـنكل بهم بريطانيا و تساندها في ذلك االمملكة السعودية ، و كان أولى به أن لا يساند الثورة الفلسطينية والقوى الوطنية في لبنان ، و كان عليه أن لا يلتـفت الى الشعـب السوري الذي هب تلقائيا تحت تأثير التهديدات الغـربية والتركية والصهيونية إلى طلب الوحدة مع مصر سنة 58.. كما كان عليه أن لا يعادي الإقطاع والرأسمالية في الداخل و أن يمنح السلطة على طبق من ذهب للباهوات والباشوات أو للإخوان المسلمين من خلال لعـبة الانتخابات التي ستمكـنهم من سرقة الثورة .. كما كان أولى به أن يهتم بمصالح مصر الحيوية فيربط علاقات متينة مع الولايات المتحدة ، تلك القوة العظمى الصاعدة .. حتى و ان وقفت في صف العدو ، أو حتى وهي تريد فرض شروطها المجحفة و المذلـة حينما أرادت مصر ان تبني معها علاقات ندّية في بداية الثورة .. و كان عليه أيضا أن لا يجاهـر الغـرب العداء ، وان يتجـنب العدوان الثلاثي الذي شنته بريطاننيا وفرنسا واسرائيل سنة 56 فيقـبل بالسيطرة الكاملة على شركة قـناة السويس بوابة مصر الى العالم ودعامتها الاقـتصادية ، والتي تريدها بريطانيا موطئ قدم للهيمنة والنفوذ بعد انسحاب قواتها .. كما كان عليه ان لا يفضح مخططاتها في المنطقة ، و ان لا يعمل على افشالها كما افشل حلف بغداد منتصف الخمسينات ، وأن يعـتـرف في النهاية بالكيان الصهيوني ليريح مصر من كل تلك الأعـباء ..
ذلك هو منطق " العقلاء " و " الحكماء " في قراءة اسباب الهزيمة في معـركة كان يخوضها عبد الناصر نيابة عن الامة باكملها ، و بامكانيات دولته الاقليمية وحدها في حين انها معـركة تقـتضي حشد كل الامكانيات القومية ، و هي المعـركة التي لا تقف فيها اسرئيل بمفردها في مواجهة مصر ، بل تقف معها كل الدول الغـربية الداعمة لها سياسيا و اقتصاديا وعسكريا و على رأسها الدول العظمى .. ثم تقف الى جوارها و تسندها الحركة الصهيونية في جميع أنحاء العالم ، وتجمع لها التبرعات من جميع اليهود وتضمن لها التأييد من جميع البرلمانات الغـربية ، كما تملك أقوى الأجهزة الاستخباراتية في العالم التي تجـنـد لها العملاء في كل العواصم و منها عواصم الدول العـربية .. اضافة الى اغلب الانظمة العـربية والحكام الذين ناصبوا الثورة العداء منذ أول يوم خوفا على مصالحهم المرطبة بالاعداء                       ..
و قد جاءت مثل هذه القراءة " العـبقـرية " للهزيمة في ما صدر عن الشيخ " العلامة " يوسف القرضاوي من مذكرات كـتـبها في السنوات الاخيـرة بعد غـزو العراق يقارن فيها ما حلّ بمصر بما حلّ بالعراق ، و ما حصل لعـبد الناصر بما حصل لصدام حسين ، كأكبر تعـبيـر عن الشماتة ، لا يتصور عاقل ان تاتي من شيخ يدّعي مسؤوليته الدينية عن أمة لا يقل عددها عن مليار من المسلمين .. ورغم انه عبـّر في جملة بانه لا يؤيد هذه الآراء التي نقـلها بدهاء في سياق الاستدلال على ظلم الحكام الذين دفعوا الناس كما قال الى ان يستبدلوا " شرا بشر " الا انه باستعماله مثل هذه العـبارات من عـنده ، و باجتهاده في تبرير تلك المواقف الشاذة ، التي قام بتضخـيـمها و أوحى بانها منـتـشـرة بين المواطنين ، قد قـبل عمالــتهم و خيانتهم لاوطانهم عندما تحالفوا مع الاحتلال وسهّـلـوا مهمته في العـراق ، اوعـندما اكتـفـوا بقـبوله أو بقبول الهزيمة في مصر ، تحت ذريعة لا يجوز ان تكون محل نقاش او تبرير ... و ان من يقرأ تلك المذكرات المليءة بالحقد و الاكاذيب و التعميم ، لا يجد سوى التشكيك وبث روح الهزيمة والاحباط ، الى جانب السطحـية في فهم ما جرى للامة على مدى قـرون ، ناسيا او متـناسيا أن ما حصل كان في الواقع نتيجة مخطط مدروس و حصار رهيب مضروب على المشروع النهضوي .. و قد فهمت - منذ زمن مبكـر- كل القوى الطامعة في ثروات الامة ان بقاءها موحّدة ، معـناه استحالة اخضاعها و السيطرة عليها ، فبادرت قـبل ان يبدأ اي انسان يفكـر في بناء الدولة القومية ، الى تقسيم الوطن العـربي وتكريس مشروع التجزئة ، ثم قامت بزرع كيان يعطل الى الابد تحقيق الوحدة الشاملة التي لا يمكن منطقـيا وعمليا ان تتحقق الا بازالته .. و من أجل ذلك ايها " الحـُـكماء " كانت تتعـرض ثورة يوليو للهجوم المنظم والعدوان والحصار، الذي ساهمت فيه أطراف متعددة بما فـيها تلك التي تتحدث عن الهزيمة الى اليوم ، عـندما اختارت بوعي او بدون وعي الوقوف في صف الثورة المضادة ، وعندما تحالفت مع الإقطاع والرأسمالية والرجعـية العـربية التي مانفكت تتآمر على مستقبل الامة خدمة لمصالحها لا غير                                 ...
ولعل فضيحة رسالة الملك فيصل التي وجهها سنة 1966 للرئيس الامريكي جونسن طالبا فيها صراحة العدوان على مصر ، أكبر دليل على جرائم تلك الانظمة في حق الامة .. حيث يقول نص الرسالة الواردة في كتاب عـقـود من الخيبات للكات حمدان حمدان الطبعة الاولى 1995 عن دار بيسان ص 489 والتي اورد فـيها الملك فـيصل عدة مقـترحات لكسر شوكة مصر نهائيا منها :
"
أن تقوم أمريكا بدعم إسرائيل بهجوم خاطف على مصر تستولى به على أهم الأماكن حيوية ، لتضطرها بذلك لا إلى سحب جـيشها صاغـرة من اليمن فقط ، بل لإشغال مصر بإسرائيل عنا مدة طويلة لن يرفع بعدها أى مصرى رأسه خلف القـناة ، ليحاول إعادة مطامع محمد على وعبد الناصر فى وحدة عربية . بذلك نعطى لأنفسنا مهلة طويلة لتصفـية أجساد المبادئ الهدامة ، لا فى مملكتنا فحسب ، بل وفى البلاد العـربية ومن ثم بعدها ، لا مانع لدينا من إعطاء المعونات لمصر وشبـيهاتها من الدول العـربية إقتداءا بالقول ( أرحموا شرير قوم ذل ) وكذلك لإتقاء أصواتهم الكريهة فى الإعلام ".                                           
ان هـزيمة 5 يونيو 67 تؤكد بأكبر قدر من الوضوح ، ومنذ ذلك الوقت الى الآن ، أن الصراع القائم في الوطن العـربي انما هو بالاساس على مضامين اجتماعـية تحررية قائمة بين التقـدميـيـن والرّجـعـيـيـن من أي فـئة أو طائفة أو عـرق أو دين أو مذهب ، وليس على أي اساس آخـر مغلوط  .. 

 ( 3 ) .
لم يتعرّض حاكم عربي الى حملات التشويه المنظمة و الممنهجة كما تعرّض لها جمال عبد الناصر طوال فترة السبعـينات و الثمانيات ، ثم لم تنقطع الى الآن .. و رغم ذلك فهو القائد العربي الوحيد الذي ترفع صوره في كل العواصم العربية ، وهو الزعيم الوحيد على امتداد الوطن العربي الذي تــُـنسب اليه تنظيمات واحزاب و تسمي نفسها باسمه .. و هو نفسه ذلك الرجل الذي تعرّض للهزيمة يوم 5 جوان 67 حين قامت العاصفة و لم تهدا ، فتعالى صخب المنافقين الذين لا يهمهم نصر و لا هـزيمة سوى ما يمكـّـنهم من استرداد مواقعهم و مراكـزهم في مجالي السلطة والمال .. اولائك الذين هـزمتهم الثورة وكشفت عوراتهم انظمة وحكاما واحزابا فاسدين حينما فضحـتهم وعـزلتهم عن الشعب و حينما صادرت ممتلكاتهم بقوانين الاصلاح الزراعي ، و امّمت مشاريعهم الضخمة التي يمتصون بها دماء الشعب .. ثم حلــّـت احزابهم التي كان اغلبها يتقاسم الادوار سواء مع الاسرة الملكية الحاكمة او مع الاحتلال .. اما عبد الناصر فيكفـيه انصافا تلك الامواج البشرية الهادرة التي خرجت يومي 9 و 10 جوان 67 اثر قرار التنحّي عن السلطة الذي اعلنه ، حيث كان رد الجماهير بمثابة استفتاء مباشر ليس في مصر وحدها بل في اغلب العواصم العربية منها العراق و سوريا ولبنان واليمن وتونس .. لتقول للعالم ان جمال عبد الناصر قائدها ، و ان الشعوب عندما تخسر حربا لم تخسر المعـركة .. وان ما حصل يوم 5 جوان حتى و ان كان ثقيلا على الامة فهو ليس الاول في تاريخها او في تاريخ الشعوب ، وقد انهزم المسلمون من قبل في معركة أحد التي كان الرسول الكريم قائدها والصحابة الابرار جـنودها .. وقد انهـزم خالد بن الوليد في حـروب الردة حتى كادت أن تكون بعض هزائمه وخيمة على المسلمين في تلك الايام العصيبة .. و قد انهزم صلاح الدين في معارك كـرّ و فـرّ مع الصليبيين حتى جهّـز للنصر النهائي ...الخ                            
ليس هذا من باب جمع المبررات ، بقدر ما هو رد على التضليل الذي يروّجه اعداء المشروع النهضوي ماضيا وحاضرا .. اذ هم يتحدثون عن هزيمة 67 ولا يذكـرون نصر 73 الذي بدأ التحضيـر له منذ ان تمّـت اولى التعـيينات في قيادات الجيش الذين خططوا لذلك النصر ، و منذ ان أُبرمت اول صفقة اسلحة لتجديد ما خسرته القوات المسلحة ، و منذ ان بدأ التدريب على اول خطة حرب على غرار الخطة غرانيت التي نـُـفــّــذت في حرب 73                             ..
وهم يكذبون لانهم لا يذكـرون تواصل الاشتباك مع العدو منذ معـركة رأس العش التي وقعت يوم 1 جويلية 67 اي بعد اسابيع فقط تكـبد فـيها العدو خسائر فادحة ، و قد كانت فاتحة لتواصل العمليات الحربية في ما بات يعـرف بحرب الاستنزاف .. ثم تلتها مباشرة تلك العملية البطولية التي ادّت الى اغـراق المدمّرة ايلات في 21 اكتوبر 1967 و التي قال فيها محمد عبد الغـني الجمسي رئيس هيئة اركان حرب 1973 " لقد كان إغـراق المدمرة إيلات بواسطة صاروخـيـن بحريين سطح / سطح لأول مرة ، بداية مرحلة جديدة من مراحل تطوير الأسلحة البحرية والقتال البحرى فى العالم واصبح هذا اليوم ـ بجدارة ـ هو يوم البحرية المصرية  "                                             ..   
وهم يكذبون ايضا لانهم لا يذكـرون ما عانته ثورة يوليو التي كانت تخوض معارك قومية على امتداد الامة باكملها ، قدّمت فيها مصر اضعاف التضحيات التي قدمتها سنة 67 ، و قد كان بامكان قيادتها ان تعـيش في احسن الظروف ، بعـيدا عن تلك الهـزّأت لو أرادت ذلك كما فعلت بقـية الأنظمة المستسلمة ، لكنها ربطت مصيرها بمصير امتها فاختارت الطريق الصعـب ، و التزمت بتحقيق تلك الأهداف النبيلة التي عملت على تحقـيـقها دون تردّد أو حسابات .. وبما أن تلك الأهداف تتناقض مع مصالح العديد من القوى المعادية في الداخل و الخارج ، فليس غريبا أن يعملوا على إفشالها بكل الوسائل الممكـنة ..
ففي الوقت الذي كانت فيه مصر تخوض حربا بجـيوشها في اليمن ضد نظام الامامة المتخلــّــف وبريطانيا التي تدعمه ، كان نظام آل سعود و النظام الاردني يحـيكون المآمرات و يشـنون حملات التشهـيـر في الاعلام لاجهاض ثورتي مصر واليمن .. و في الوقت الذي كانت فيه مصر تساند ثورة الجـزائر بالمعدات و الاسلحة و الغذاء كان الاخوان المسلمون في الداخل يدبّـرون المآمرات و يتـلقـّون الدعم المالي و يجمعون السلاح ويخططون لقلب نظام الحكم بالقوة .. و في الوقت الذي كانت فيه ثورة يوليو تدعم خيار المقاومة العـربية ، كانت القوى العميلة في لبنان والاردن تــُجهّـز للقضاء على الفدائـيـيـن ويتعاملون سرا مع العدو الصهيوني .. وفي الوقت الذي كانت فيه مصر تتصدّى للاستسلام والاعتراف بالعدو وتحشد التاييد العالمي للقضية القومية كان النظام العميل في تونس يروّج لسياسة الامر الواقع والحلول الانهزامية التي ختمها بإلقاء خطابه الهزيل في اريحة سنة 1965 مؤكدا اعترافه بالكيان الغاصب                 ..
تلك جوانب مهمّة من أوجه الصراع لا يذكرها المنافقون عندما يتحدثون عن هزيمة جوان 1967 .. وبقطع النظر عما يقوله الاقليميون .. فان ابلغ الدروس المستفادة من الهزيمة هي انها كانت هزيمة الدولة الاقـليمية بامتياز حتى و ان كان يحكمها القوميون .. و ان 5 يونيو 67 هو تأكـيد على صدق المنطق القومي الذي كان يحذر منذ البداية من هـزيمة الاقـليمـية البغـيضة ..
وتلك اذن خطوة لازمة من اجل النصر مفادها أن الإقليمية تساوي الفـشـل.. 

( 4 ) .

 حين حصلت الهزيمة في 5 يونيو سنة 1967 لم تذهب بالارواح الـزكـيـة التي حصدتها الحرب ومعها الخسائر المادية في الآليات والمعدات فحسب ، بل أخذت جزءا هاما من مجهود الشعـب العـربي في مصري الذي أصبح لـزاما تخصيصه لأعادة بناء القوات المسلحة ، وتوفـيـر كل ما تحتاجه من تجهـيـزات ومعدّات لازمة للمعـركة القادمة ، التي يجب ان تكون على درجة عالية من التجهـيـز والتخطيط لتحقـيـق النصر القادر وحده على اعادة الثقة والاعتبار سواء للجنود والقادة الميدانيين والسياسيين أو لعامة الشعـب الذي أصيب بالذهول والاحباط ، وللأمة العـربية قاطبة .. وقد كانت تلك المهمّة من أصعـب المهمّات على القيادة ، كما كان النجاح فيها من أكبر التحديات على الاطلاق ..
ولعل ما حدث يومي 9 و 10 يونيو 67 لم يكن حدثا عاديا في مصر والوطن العربي والعالم ، حيث لم يشهد التاريخ القديم والحديث تمسك الجماهـيـر بقائد مهـزوم ، مثلما حدث لجمال عبد الناصر ، الذي صار لـزاما عليه أيضا بعد هذا التفويض والاستفتاء العفوي من الشعب ، أن يبدأ أولا وقـبـل كل شئ بتحديد المسؤولية والمحاسبة ، متخذا كل التدابـيـر اللازمة لتطهـيـر القوات المسلحة وبقـيـة مؤسسات الدولة وأجهـزتها من الفاسديـن ، ثم الالتفات الى تعـديل الخطط الاقـتصادية للتـّحوّل من اقـتصاد الحرب الباردة الهادف الى تحقيق التـنمية والـرخاء ، الى اقـتصاد الحرب الفعلية القائم على التقشف والتقـتـيـر .. الى جانب الشروع في ابرام الصفقات العسكرية لاعادة التسليح ، والبدأ في وضع الخطط الحربـية والتدريب عليها الخ                           ..
وقد كان من المدهش والمذهـل حقا ، ان يرى العالم مصر التي كانت تمـرّ بأحـلـك الفـتــرات وهي تسجل أعلى درجات النمو الاقـتصادي في تلك الفـتـرة الحرجة ، ليصل الى ما لا يقـل عن 8 % أواخـر الستينات .. وهي نسبة لم تحقـقها حتى الدول الصناعـية المتقدمة وهي في حالة السلم ماعدا اليابان وبعض الدول الاشتراكـية .. ليكون ذلك دليلا شاهدا على تضحـيات الشعـب ونجاح الخـيارات الاقـتصادية التي يقودها القطاع العام ، ذلك المكسب الوطـني الذي حقـقـته مصر ليكون ركـيـزة اساسية في مواجهة الهـزّات والازمات .. ولكي تبرهن الثورة أن الهزيمة هي مجرد حدث عارض لا شك أن كل الأمم والشعوب في العالم قد تعـرّضت له ولو مـرّة في تاريخها ..
غير أن الاصلاحات التي وقعت على أعلى مستوى في جميع مؤسسات الدولة ، الى جانب نقل العمل العسكري من السير التـلقائي ، ومن ردود الفعـل السلبـيـة الى التخطيط العلمي ، الذي ظهر من خلال نجاح مصر في ادارة الصراع مع العـدو وفق متطلبات تلك المرحلة حين وقع جـرّه الى صراع طويل بدل الضربات الخاطفة التي كان يعتمدها ، مما أدّى الى استنزاف قدراته ، وتحطيم معنوياته ، ليصل في الوقت المناسب الى دفع الثمن كما حصل في حرب أكـتوبـر سنة 1973 .. وقد كان كل ذلك - بلا شك - دليلا شاهدا على أخطاء الماضي التي ساهمت في الهـزيمة .. تماما مثلما تؤكد العديد من المظاهـر السلبية التي ظهرت قبل الهـزيمة في المجـتمع والجـيش وأجهـزة الأمن على أن كل ذلك لم يأت من فـراغ                              ..
ولعـلـّـنـا بالرجوع منذ البداية الى الخطوات التي اتخـذتها الثورة كبديل لحل الاحزاب سنة 1953 ، نلاحظ أن المؤسسات الشعـبـية التي تم تأسيسها لملء الفراغ بداية بهـيئة التحرير ، مرورا بالاتحاد القومي ، ووصولا الى الاتحاد الاشتـراكي ، كانت بمثابة الشباك الذي يقع سحبه في البحر فيجرف كل ما يقع في طريقه من الحيتان والأسماك الكبيـرة والصغـيـرة على حد السواء ، الى جانب الطحالب وكل أنواع الكائنات البحرية والموجودات الضارة والنافعة ، لتكون بعد ذلك عـبءا ثـقـيلا على الصيادين لما يـبـذلونه من جهد ، وما يمضونه من وقـت في فـرز غـثها من سمينها .. وبالرغم مما فـي تلك المؤسسات من عـبقرية ثورية ، ومضامين ديمقراطية متفوّقة على المضامين الليبرالية الا أن هيكلتها كانت تمثل الحلقة الأضعـف والثغـرة التي استطاعت الرجعـية والانتهازية وأعداء الشعـب النفـاذ منها ، لتـتسلق من خلالها الى أعلى هـرم السلطة المحلية والمركـزية بعد أن أصبحت تلك المؤسسات تساهم في تعـيـيـن المتـرشحيـن وانتخابهم لتولي أعلى المسؤوليات في الدولة .. إذ أن كل الذين أجـبـرتهم الثورة على مغـادرة أحـزابهم بعـد أن قامت بحلها في 16 يناير 1953 ، لم يتوقـفوا عن ممارسة نشاطهم السياسي ، بل اندسّوا - وهم الأكـثـر خبـرة و دهاء - في تلك الأطـر ، فملؤوها شعارات وصخبا ثوريا ، ثم حوّلوها الى زفــّـة مهمّـتها نفاق القيادة والشعـب لتحقـيق أغـراضهم .. وهم الذيـن تسبّـبوا في ظهور العـديد من السلبـيات والفساد في مؤسسات الدولة رغم ما تبذله الثورة من جهـد للارتقاء بالوعي الثوري والممارسة الثورية ، الى المستوى المطلوب .. والواقع فان تفطن القـيادة لتلك الثغـرات بعد سنوات مريـرة من التجارب منذ بداية الثورة حتى صدور الميثاق وقوانين يوليو مطلع الستينات التي جاءت متضمّنة كثيرا من التعـديلات الخاصة بالفـرز والمراقـبة والعـزل السياسي ، لم يكن كافـيا لتغـييـر الواقع الذي كان يستحق كل الحلول التي أتت بعـد الهـزيمة وأكـثـر ..
لقد علمتنا هـزيمة 5 يونيو 1967 أعظم الدروس في هذا الجانب مفادها أن الفـردية فاشلة ، لأن الفرد مهما كان صدقه و ولاؤه لوطـنه وأمته ، ومهما كانت عـبقـريـته والتفاف الجماهـيـر حوله ، فهو لا يقدر وحده على تحقـيق المشروع النهضوي ، وضمان استمراره .. ويـبـقـى التـقـدّم على خطى الديـمقـراطـية و بناء المؤسسات الخاضعة للقـانـون والمراقبة الفعّـالة والمحاسبة هو الطـريـق الصحيح للتقدم والرخاء وتحقيق الـنـصـر ..

( 5 )  .
لم تهدأ الأنفـاس منذ الاسبوع الثاني لشهـر يونيو 67 بين العـزل والتعـيين والتدريب والتخطيط والتسليح والمعارك التي خاضتها القوات المسلحة طوال حرب الاستـنـزاف ، حتى قامت المعـركة الفاصلة بعد ست سنوات من الهـزيمة ، تمكّـن خلالها الجيش العـربي في مصر من تحقـيـق نصر ساحق على القوات الصهـيـونـية وألحق بجــيشها الذي لا يقهـر هـزيمة نكراء حوّلـته الى جـيـش مقهور ، يتجرع المرارة على مدى أعوام .. ثم لم يقدر بعدها على أن يلحق أي هـزيمة بالعـرب رغم ما يرتكـبه من مجازر أو عدوان على المدن والمواطـنين العـزل كما حدث في لبنان وفلسطين مرات عديدة .. ورغم ما تعانيه الأنظمة من ضعـف الارادة ، وما تميل اليه من مراهـنة على خيارات الاستسلام ، الا أن هذه الامة ظلت صامدة ولم تفقد ارادتها على مقاومة العدوان حين أفرزت تلك المقاومة الباسلة التي استطاعت أن تركّـّع العدوّ من جديد وهي لا تأخذ أوامرها من اي جهة رسمية .. والواقع فان كل المتباكـيـن على الهـزيمة من الأنظمة لم يكونوا أبدا من الذين يعملون على تفاديها قبل أن تحدث ، أو من الذين يدعمون خيار المقاومة ، ولا حتى من الذين يبقون على الحياد ، بل كانوا ممن ينسبون التفوق للعدو وحده ويرفضون مواجهته فيشيعون بكل ما يثيرونه من التشكيك المتعمد ، قدرا هائلا من روح الهزيمة و الاحباط .. ثم انهم لا يفعلون ذلك من باب الحرص على مصالح الامة ، بل من أجل الوصول الى تبرير الاعـتـراف والصلح وانهاء الصراع دون مقاومة أو محاولة لاسترجاع الحقوق ..
وان كل المتباكين على الهزيمة من الأحزاب اللبرالية والدينية بالخصوص لم يكونوا أبدا من الذين يهمهم كثيرا ما يحدث لمصر خلال صراعها مع أعدائها ومن ضمنها اسرائيل ، ولا من الذين يغـلـّـبون مصلحة الوطن على مصالحهم الحـزبية .. بل كانوا يدفعون الى افشال الثورة بكل الوسائل التي تصل الى حد التمرّد المسلح كما حصل سنة 1965 من طرف الاخوان المسلمين ، ليأخذ كل ذلك جهدا كبيرا من مجهود الثورة لمقاومة ما يحدث في الداخل على حساب مجهوداتها المبذولة لمقاوة العدوان الخارجي ..
وان كل المتباكين على الهزيمة أيضا من كل القوى لا يذكـرون أبدا ما كان يجري الإعداد له إلى آخر اللحظات على الجبهة المصرية .. حيث لم تكن الهـزيمة نفسها سوى لحظة حاسمة متـعلقة بأخذ المبادرة ، تأخرت فيها مصر وسبقت فيها اسرائيل ، فحصل ما حصل ..  
ثم ان كل المتباكين على الهـزيمة في النهاية لا يتعـمّدون اخفاء الحقائق فحسب ، بل ويبالغـون في تـرويـج الأكاذيب .. حيث وصل بعض ما يقع تداوله بين صفوف المغـرضين قولهم بأن هـزيمة 67 هي سبب المآسي الحاصلة في الوطن العـربي الى الآن .. !!
ولعل كل الأكاذيب الرائجة التي تمتـلئ بها صفحات ومنابـر الاعـلام السعـودي ، ومواقع الاخوان المسلمين ، أو التي تفيض بها مذكرات وكتابات المتضرّرين في مصر من القـرارت الثورية التي قضت بمصادرة الثروات والتأميم والغاء الامتيازات ، انما وقعت بتلك الصورة لتكون هجوما منظّما ظاهـره حديث عن أخطاء وهـزائم ينسبونها لعـبـد الـناصر ، وباطـنه تمهـيد لتصفـية منجزاته واستهداف لمشروعه الحضاري الذي وهـب حياته لأجله حتى آخر لحظة حين مات وهو يلملم جراح هذه الامة نهاية صيف 1970 .. وقد كان كل ذلك قولا مغـرضا حقا ، لأنه اذا أخذ بالنتائج لا يأخذ بالاسباب ، واذا أخذ بالسلبيات يتعامى عن الايجابيات ، واذا توقف عند العـثـرات لا يلتفت مطلقا الى النجاحات .. وتلك هي علامات التحامل والحقد وقلة الموضوعـية والكـيد ..
فالثورة التي فـتحت العديد من الواجهات على العديد من القوى في الداخل والخارج ، وجدت نفسها منذ البداية في وضع لا تحسد عليه وهي تحاول أن تضع مصر في الموقع الذي تستحقه ..
فقد أصبحت الثورة في مواجهة الاقطاعـييـن بعد اصدار قوانـيـن الاصلاح الزراعي في النصف الأوّل من شهر أيلول 1952   ..   
وقد أصبحت في مواجهة كل الأحزاب بعد اصدار قوانين حل الأحزاب في النصف الثاني من شهر يناير 1953   ..  
وقد أصبحت في مواجهة المشغـّـلـيـن ورؤوس الأموال حينما أعلنت عن رفضها للاستغلال ونادت بتحسين الوضع المتردّي للعمّـال وتخفيض ساعات العمل ثم سنت القوانين لتوفـر لهم الحد الأدنى من الحقوق ..
وقد أصبحت في مواجهة بريطانيا حينما جهـرت بطلب الجلاء ووقفت في وجه الأحلاف الاستعمارية التي تقودها في المنطقة   ..  
وقد صارت في مواجهة كل الحكومات الغـربية حينما أقدمت على ابرام صفقة الأسلحة مع المنضومة الشرقـية ، وحينما أقدمت على تأميم قناة السويس ، وحـينما ساهمت في بـناء تكتل عالمي غير منحاز للقوى العظمى..   
وقد صارت في مواجهة أمريكا والبنك الدولي حينما رفضت الشروط المجحفة والمذلة لتمويل السد العالي  ..
وقد صارت في مواجهة القوى الاستعمارية في المنظقة حينما اختارت مواجهة الأحلاف ودعم الحركات الثورية في الوطن العـربي وجعلت لها حصة من الدعم ومنابـر ومقـرات في القاهـرة ..
وقد أصبحت في مواجهة الصهـيونية حينما اختارت الدعم والمساندة للفلسطينيين والوقوف في وجه اسرائيل وحلفائها                  ..
ثم أصبحت في مواجهة الأنظمة العـربية الاقـليمية حينما صارت ترفض التجزئة وتنادي بالوحدة وتعمل على تحقيقها الخ ..   
هكذا وجدت الثورة نفسها - وهي تتلمّس الطريق خلال مسيرتها - في مجال لا يسمح لها بكثير من الخيـارات نظرا لارتباط المسارات التي اختارتها ، بمصالح اعدائها الذين كانوا يبحثون دائما عن ثغـرة ينفذون منها للقيام بالتخـريب .. فكان أمامها خياران لا ثالث لهما : اما ان تستسلم للواقع وتسلم أمرها لكل الذين دخلت معهم في مواجهة فتخذل جماهـيـر الشعـب والامة العـربية قاطبة ، أو تتحدّى .. وكان خيارها التحدّي .. ولا شئ غير التحدّي                                 ..
والواقع فان الثورة لو بقيت تواجه على المستوى الاقليمي داخل مصر وحدها ، لما كان يجـتمع ضدّها كل هؤلاء الاعداء .. الا أن عبد الناصر الذي كان يتميّـز بعـبـقـرية قـراءة الواقع ، اكتشف من خلال معـرفـتـه بالأحزاب الليبرالية أن الحديث عن الديمقراطية من دون مضامين اجتماعية تحرّر الناس من الخوف والقهر يمثل تـزييفا للارادة .. واكـتشف وهو يواجه الاقطاع والطبقة السياسية المتحالفة معه أن لهؤلاء ارتباطات عميقة بالخارج ومصالح مشتركة يحرصون على استمرارها على حساب استقلالية القرار الوطني .. واكـتشف أن مصر التي تريد أن تعـيش حـرّة بلا تبعـية يتم استهدافها من خلال الاحلاف التي تحاصرها فاهتدى الى البعد القومي لأمن مصر واستقـرارها .. واكتشف كذلك أن الرأسمالية التي راهن عليها حتى أواخـر الخمسينات هي التي كانت ترفض فك الارتباط مع الدوائر الاستعمارية .. كما اكتشف أن الرهان على الاقليمية من أجل تحقيق الوحدة اسلوب فاشل لا بد أن يتم استبداله بأساليب قومية .. هذا فضلا عما اكتشفه منذ مشاركته في حرب فلسطين وحصار الفلوجة المشهور ، من أن اهداف اسرائيل لا تقف في حدود تلك الدولة التي مُـنحت لها سنة 1947 ، وان هزيمة الجيوش العـربية في تلك الحرب هي هـزيمة للنظام الرسمي العـربي الذي كان عبد الناصر يرفضه منذ ذلك الحين ، فلم يكن يوما على شاكلته الخ   ..
كل ذلك و الواقع أمامنا اليوم نستطيع أن نختـبـر فـيه كل الادعاءات  ..  
فبعد أكـثـر من أربعـين عام على رحيل عبد الناصر خاضت الامة العـربية عشرات التجارب التي لم يستطع فـيها أي حاكم أن يكون فاعلا على الوجه الذي نستطيع ان نقول أنه الافضل .. فلماذا يقال اذن أن عبد الناصر هو الاسوء .. ؟
  ولماذا يعودون دوما للحديث عن الهـزيمة التي مسح آثارها عبد الناصر بنفسه حينما استطاع جيشه
الذي عيّن قياداته و درّبه وسلحه .. أن يحقق نصرا ساحقا على العدو ّ... 
انـه الصّراع على المستـقـبـل من خلال مهاجمة رموز الماضي   ..  
قد يقال أن هذا مجـرّد افـتـراض أو اجـتهاد ليس له صلة بالواقع ، الا أن كثيرا مما يحدث في أيامنا لا يترك الفرصة لكل من يريد أن يجـتهـد أن يستـنتـج كل ما يريد .. لأن الوقائع هي التي تتكلم أحيانا رغم ما يبدو عليه الواقع من تعـقـيد ..   
فها قد فارقـنا عبد الناصر سنة 1970 و قد ترك مصر أفضل حالا على جميع المستويات من سنة 1967 ، حينما استطاع في ظرف وجيز ان يعـيد تجهـيـز الجيش وتسليحه بكل أنواع الأسلحة التي افتقدها في الحرب وهو ما جعله ميدانيا يقود حربا طويلة دامت ثلاث سنوات كاملة استنزف بها قوات العدو ولذلك سميت بحرب الاستـنـزاف   ..  
وها قد رحل عبد الناصر وقد ترك مصر بلا ديون خارجية اذا استـثـنـيـنا بعضها الخاص بصفقات الاسلحة للاتحاد السوفياتي والتي بلغت قيمتها مليار وثلاث مائة الف دولار في حين وصلت ديون مصر سنة   1990 الى 52.7 مليار دولار ) محمد يوسف / ارتباط الاقتصاد المصري بالتمويل الامريكي - الحوار المتمدن ( - كما ترك حالة مصر الاقتصادية - وهي في ظل الحرب - أفضل بكثير من أي حالة اقتصادية في الدول العـربية - وهي في ظل السلم - بل ان مستويات نموّ اقـتصادها واستقـراره وميزانه التجاري كانت تقارع أعتى اقتصاديات العالم وقد كان على سبيل الذكر لا الحصر الجـنيه المصري يساوي أكثر من عشر ريالات سعودية وأربعة دولارات أمريكية في حين أن الجنيه نزل الى 1.7 دولار في سبتمبر 1973 ، والى 1.42 أواخر تلك السنة ، ليصبح الدولار الأمريكي سنة 2001 مساويا لأربعة جنيهات ونصف (عبد المجيد راشد / وقائع اغتيال الجنيه المصري .. !! (
وها قد رحل عبد الناصر ومصر دولة قوية في العالم لها وزنها ومكانتها كـزعيمة لدول العالم النامية وهي في مركز القيادة منها بفضل مجهوداتها في انشاء منظمة عدم الانحياز، كما ترك لمصر آلاف المصانع ، وأتم بناء السد العالي كأكـبـر مشروع تنموي في افـريقـيا ، الى جانب السلم الاجتماعي والأمن ووحدة المجتمع ، والشعور بالانتماء القومي وروح الوحدة السائدة من المحيط الى الخليج ، وتطلع العـرب لتحقيق مشروعهم النهضوي على يد الاجيال القـادمة  ... الخ
فماذا فعلت الانظمة التي ظلت تدس السم في العسل لعبد الناصر وتتظاهر بقربها منه لارضاء شعوبها ؟ هاهي مصر التي تركها متماسكة تقود العالم ، تتحول الى دولة ضعـيفة تعاني من الفقر والبطالة والمرض ، مرتبطة بالسوبرمان الامريكي ، مستكـينة للصهاينة بعد اعترافها والتـزامها بالاستسلام لهم ، وهاهي تعاني من الضياع و التشتت الذي لم تشهد له مثيلا من قبل لتعود بكل هذا سنوات عديدة الى الوراء قبل ثورة يوليو 1952 .. رغم ما تتطلع اليه للخروج من أزمتها بعد ثورة يناير2011  ..
وهاهي الانظمة الاقليمية المستبدة التي تركها عبد الناصر وهي لا تجرؤ على الجهـر بكلمة التطبيع تتعامل الآن جهارا مع الصهاينة وتعـترف بهم وتتآمر معهم سرا وعلانية ..
وها هي نفس الأنظمة التي تركها عبد الناصر تقمع شعوبها وتستكين لأعداء الأمة ، تصل الى الافلاس فيتعـرض بعضها لموجات كاسحة من الثورات الشعـبية وبعضها الآخر يستغـل ما بوسعه من امكانيات لتشويهها وتحويلها الى فوضى ودمار وخراب حتى تصير الثورة في نظـر شعوبهم نقمة لا نعـمة ، وحتى لا تصلهم رياحها فـتعصف بعـروشهم ..
وها هي بغداد بوابة العـرب الشرقـية وحصنهم الحصين التي لم يهدأ عبد الناصر حتى خلصها من حلف بغداد ، تسقط منذ سنوات بيد العملاء الذين أتوا بالاحتلال ثم احتموا بأعداء العـراق فأشاعوا الفرقة والفـتـن وجعـلوه مسرحا للصراع الطائفي المتعـفـن حتى عاد الى ماقـبـل التاريخ ..
وهاهي دمشق شقيقة القاهـرة وتوأم الوحدة التي لم يغـفـل عـنها عبد الناصر وهي تتعـرض للحصار والابتـزاز ومحاولة اختطافها وجرّها الى حلف بغداد ، حتى أخرجها من قلب الحصار ليـبني معها أول صرح للوحدة في التاريخ الحديث ، تدخل منذ سنوات في دوّامة محمومة بعد أن كانت تـتـوق كغـيـرها الى الحـرية لتجد نفسها في قلب العاصفة الهوجاء التي لم يعد يظهر منها غـيـر ما تتركه من ركام ورماد ودخان  ..  
هذه وقائع قد يحصل بعض الاختلاف حول تفاصيلها ، الا أن الاستنتاج واحد بالضرورة وهو أن هـزيمة 5 يونيو 1967 لم تكن الاسوأ على الاطلاق .. وأن ما وصلت اليه الامة في ظل الهزيمة أفضل عشرات المرات مما انحدرت اليه الآن بعد محو آثارها النفسية والمعـنوية سنة 1973 ، لتـرفع منذ ذلك الحين المسؤولية والعبء نهائيا عن عبد الناصر فيما سيأتي بعده ، وهو الذي انتقل الى جوار ربه وقد بذل كل ما في وسعه لتأمين أسباب النصر حتى صارت الامة العـربية على تلك الحال : منتصرة ، يسودها شعور جارف بالوحدة ، ولا يمنعها من تحقيقها غير الاستبداد الذي تفرضه الانظمة الاقليمية ..
ليس هذا فحسب ، بل ان عبد الناصر قد ترك تجربة ثرية في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والعلاقات الدولية .. كما ترك للجماهير - التي كان في موقع القيادة منها - تجارب عديدة في مجال العمل الوحدوي ، قادته الى اليقـيـن باستحالة تحقق الوحدة على يديه ، وبالكيفـية التي تؤدي الى استمرارها وهو في موقع المسؤولية على رأس دولة اقليمية بكل ما فـيها من قـيـود .. فأعلن منذ سنة 1963 نداءه الشهـيـر بضرورة تحمل الجماهـيـر لمسؤولياتها التاريخية الكاملة في تحقـيـق حلمها ، من خلال البدأ في بناء الحركة العـربية الواحدة ، الآداة الوحـيدة القادرة على تحقـيق الوحدة وحمايتها .. ورغم ذلك فان اصوات المنافقـيـن والمشككين لا تزال ترتفع الى الآن محمّلة اياه فـشل ذلك المشروع  .. !!
باختصار ان ما شهدته الأمة العـربية من عمل دؤوب ، وجهد وتضحـيات منذ الهـزيمة وحتى تحقـيق النصرعلى العدو ، قد ذهب هباء منثورا بسبب غياب الآداة الثورية القادرة على حماية مسار الثورة واستمرارها بعد غياب قائدها .. فحـلــّـت الانتكاسة الحقـيقـية بالامة العـربية حينما بدأت تقدّم لأعائها وهي منتصرة ، ما لم تقدّمه لهم وهي منهـزمة ..
وقد كان ذلك الفراغ ، مدخلا سهلا استطاع به أعداء الثورة الانقلاب عليها وأخذها تدريجيا الى ما هو أخطر من كل آثار الهـزيمة ذاتها .. حين تم الاعـتـراف بالعدو وابـرام اتفاقـيـة السلام معه بتـلك المضامين التي لم يكن أحد من الصهاينة يحلم بها قـبـل ذلك ، وهم يـرون مصر التي قهـرتهم على مدى عقدين ، توقــّـع لهم صكّ عـبـوديـتها ، وتـتخـلـّـي عن واجـباتها القومية ..
ثم ظهر بعد ذلك أن وجه الخطورة كان أكبر بكثير مما اختارته مصر لنفسها ، حين تحوّل موضوع السلام الى خيار استـراتـيجي .. فصارت أغلب الانظمة العـربية الاقليمية تعمل على تغـليـب مصالح العائلات الحاكمة مقابل تغـيـيـب كامل للمصالح الوطنية والقومية ، لتصل بالأمة العـربية في النهاية الى ما تعـيشه اليوم من واقع مرير وفوضى عارمة وخـيـبـات متـتـالية ، وصلت الآن الى ذروتها مع تـنامي الصراعات الطائفـية التي أصبحت تهدّد بـُـنـيـتها الهـيكـلـية ووجودها في الصميم  ..
الا أن ذلك كله لا يرفع المسـؤولية كاملة عن الحركة القومية ، التي ضعف مردودها حتى غابت في بعض الفـتـرات عن الفعـل بسبب ما عاشته من فـرقة وتشتت وتشظـّي وانقسامات وصراعات لم تقدر الى الآن على تجاوزها .. في حين كان عليها - وهي ترى حالة الانهيار - أن تتعلم من تجـربة عبد الناصر ومن الهـزيمة بالذات ما قام به رحمه الله من تغـييـر في التكـتـيـك والسياسات والأساليب الخاصة بالعلاقات الدولية والعـربية جعـلـته يقـبـل بالقـرار 242 ، و يتصالح مع كـثـيـر من الأنظمة التي كان في صراع دائم معها ليجمع شمل الامة ويوحّد صوتها على شعار واحد لا صلح لا اعتراف لا تفاوض ، ومصر لم تنفض بعد غبار الهزيمة  ...  
أما الحركة القومية الآن ، فهي ليست مجبـرة لتقدم التنازلات الا في داخلها لتوحـيد الصف القومي والسير به الى بناء الحركة العـربية الواحدة ، تلك المهمّة التي بقيت معلقة أكثر من نصف قرن وقد أصبحت الآن في ظل " داعش والغـبـراء " - على حد تعـبيـر السيد عبد الحليم قـنديـل - مسألة حياة أو موت ، وهي في النهاية من أبلغ الدروس واكثـرها ضرورة واثارة للانـتـبـاه ..

( القدس )  .  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق