بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 28 ديسمبر 2014

حركة " شعب المواطنين " .. والحقيقة الغائبة ..



حركة " شعب المواطنين " و الحقيقة الغائبة ..

حينما قامت الاحتجاجات والاضطرابات في مدن الجنوب بعد الاعلان عن نتائج الانتخابات ، ذهب البعض للبناء على نظرية المؤامرة ، التي تقول بأن هناك أطراف تحرّك أو تتحرّك في الخفاء لتفجير الوضع لأي سبب ، وهو أمر وارد ، بالنظر الى ما يحدث في المحيط العربي عموما ، حيث اتضح لكل الملاحظين أن هناك دائما نار تحت كل دخان                                 ..
وحينما أعلن الرئيس محمد المنصف المرزوقي عن بعـث " حركة شعب المواطنين " ، وهو الرئيس الذي لم تنته مدته وعهدته ، حيث يفترض ان يبقى الى آخر لحظة رئيسا فقط ، ثم رئيسا لكل الشعب بكل مواطنيه ، قـيل أن المرزوقي قد ابتلع الطعم ووقع في الفخ المنصوب الخ              ..
غير أن المتأمل في التأويلات والتفسيرات ثم في محاولات التدارك من جانب المنتمين الى الحملة الانتخابية للرئيس المؤقت ، القائلة بأنه كان يقصد حراك " شعب المواطنين " ، يدرك بأن هذا التصريح من جانب المرزوقي هو أقرب الى العفوية والحماس وقلة الضبط والتركيز وزلات اللسان المعهودة عنده                                ..
أما ما حدث من جانب المواطنين فهو لا يتجاوز عملية رد الفعل المعـبّـر عن كـره الناس ورفضهم للعهد السابق بكل رموزه القديمة والجديدة وأولهم الرئيس المنتخب ..
ولعل ما تلا ذلك من تصريحات لأطراف أخرى معـنية مباشرة بالموضوع يؤكد هذه الفكرة .. فالحراك الذي يقصده السيد المرزوقي يتكون جزءا هاما منه من قواعد النهضة ، لذلك جاء تصريح نائب رئيس الحركة الشيخ عبد الفتاح مورو معـبّـرا عن قطع الطريق أمام الرئيس حينما قال بلهجة حادة     : " قواعد النهضة ليست للبيع " وهو أيضا من باب بعث الرسائل المشفـرة للقواعد التي أخذها الحماس الانتخابي ، وأطالت الوقفة وراء المرزوقي ، فخاف أن تصبح في مهب الرياح                 ..
وبقطع النظر عما يجري تدبيره بليل ، فأن سيناريو الانفصال في تونس غير وارد نظريا ، لأنه ببساطة يفتقد الى أي مبرر واقعـي .. فهذا الشعب الذي هو شعب عربي مسلم تاريخا وحضارة ، لا تقسّمه الا الظروف المعـيشية وقسوة الحياة مثله مثل أي شعب يعـيش جزءا هاما من أبنائه ـ على مدى عقود ـ تحت وطأة الاستبداد والاستغلال والتهميش والفقر .. وهذا كله لا يخص أبناء الجنوب وحدهم ، بل يُعدّ قاسما مشتركا بين جميع المواطنين من شمال تونس الى جـنوبها             ..
فالجنوب الذي يعاني من الحرمان والإقصاء والحيف الاجتماعي ، لا يخلو أيضا ـ ككل الجهات ـ من جهابذة المال والأعمال المعـروفين بأسمائهم و أسماء عائلاتهم المتحالفين مع السلطة سواء قبل الثورة أو بعدها                                     ..
أما بالنسبة للوسط والشمال فقد يبدو الأمر مختلفا عند البعض ، والواقع أنه لا يختلف كثيرا .. اذ ان ما تبدو عليه المدن الساحلية ، أو العاصمة من ترف ورخاء ، هو مظهر لا يخص تونس وحدها ..   ففي جميع مدن العالم هناك حيوية ونشاط مرتكز حول الموانئ البحرية ، والمناطق السياحية ، والمواقع الطبيعـية التي يميل اليها الناس بطبعهم للتمتع بما فيها من اعتدال الطقس ، ولطف الهواء ، وجمال الشواطئ وغيرها من مغريات تجعلها في المقام الاول عند المستثمرين وأصحاب المشاريع ، الذين نجد منهم الكثيرين من أهل الجنوب .. ومع هذا ، فان تلك الجهات لا تخلو مدنها وقراها من الناس العاديين البسطاء الذين يعانون بدورهم ـ وهم يعيشون في تلك الربوع ـ مما يعـانيه أي مواطن آخر بسيط في أي مكان سواء في الشمال أو في الجنوب  ..
وفي النهاية ، فان كل عمليات العنف والفوضى لها انعكاسات خطيرة على الوضع الامني المتفجـّر ، الا انها لا تحمل في طياتها مؤشرات جدية تهدد بالتقسيم ، اذ لا يوجد في الواقع ما يثير الفرقة والتنافر بين أهل الشمال وأهل الجنوب ليفكر هؤلاء أو هؤلاء في الانفصال ، فضلا عما يتمتع به أهل الجنوب من حس ديني وقومي عميق يربطهم ليس بتونس فقط بل بأمتهم العربية ومحيطهم الاسلامي ، فلا يمكن ان تخامرهم فكـرة الانفصال لتجـزئة المجـزئ بالاساس                           ..
وهذا من ناحية الأحداث المنتهـية .. أما من ناحية الافكار الرّاشحة منها ، فـنجد في مقدمتها مشروع رئيس الدولة الذي أعلن عن بعـثه متمثلا في حركة " شعب المواطنين " .. فهل هو مشروع حزب سياسي ؟ أم هو مشروع حراك شعـبي لم تتـبلور معالمه بعد ؟ أم هي مجـرّد لحظة انفعالية ستـنـتهي بانتهاء الشحـنة التي تحرّكها حينما يضعـف الاحتكاك ..؟                             
اذا كان المقصود هو حزب سياسي كما يقول المراقبون ، فان اضافة رقم الى المائة وعشرين حزبا أو أكثر المعـتـرف بها في تونس ، لن يغـيّـر من الواقع شيئا خاصة وأن المعني بالأمر هو مؤسس حزب المؤتمر من أجل الجمهورية المنقسم بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 الى اربعة أحزاب ، فيكون حزبه الجديد خامسها في هذه الحالة                               ..
كما ان التسمية " حركة شعب المواطنين " في حد ذاتها ، وبالرغم مما أثارته من جدل في الاوساط السياسية ، فانها لا تتعدّى ـ لحظة التصريح بها ـ حالة التعويض التي جعلت صاحبها يتماهى عاطفيا مع المشهد الاحتجاجي الرافض للمنظومة القديمة ( المنافسة والفائزة ) .. فكان اكتشاف هذا الاصرار والالتفاف الجماهيري المفاجئ مثيرا للحماسة ، وملهما للقـريحة ، ومثيرا للاستجابة لدى المتلقي ، فكانت في شكل تعهد فوري اختار له ارتجاليا تلك التسمية التي لا علاقة لها بالمضامين والتأويلات التي ذهب اليها المحلّلون                              ..
هكذا كان يمكن أن ينتهي الموضوع عند هذا الحد لو لا اقتران التسمية المذكورة " حركة شعب المواطنين " بفكرة ذكرها الدكتور عصمت سيف الدولة في كتابه " الاستبداد الديمقراطي " ونقلها عنه الدكتور امام عبد الفتاح في كتابه القيّم " الأخلاق والسياسة " كما وقع ذكرها ـ بعد ذلك ـ في بعض المقالات هنا وهناك  ..وفي البداية هذا هو الجزء المتعلق بالموضوع كما ذكره الدكتور عصمت سيف الدولة رحمه الله
يقـتـرح الأستاذ جورج بوردو ، في الجزء الرابع من موسوعته العلوم السياسية ، تقسيما جديدا وطريفا للديمقراطية     .
فبالإضافة إلى تقسيمها التقليدي إلى ديمقراطية مباشرة وديمقراطية شبه مباشرة وديمقراطية نيابية ، يقول إنها نوعان : ديمقراطية محكومة وديمقراطية حاكمة                .
يقصد بالديمقراطية المحكومة نظاما تتوفـر فيه كل الأشكال الدستورية التي تسمح بإسناد قرارات الحاكمين إلى الشعب المحكوم : الحرية الفردية والاقتراع السري العام ، والانتخابات الدورية والمجالس النيابية .. إلى آخره ، و مع ذلك لا تكون قرارات الحاكمين ، المُسندة دستوريا إلى الشعـب معـبّـرة عن الإرادة الشعـبية الحقيقية                         .
ويقصد بالديمقراطية الحاكمة نظاما تتوفـر فـيه كل الأشكال الدستورية أيضا و لكنه يتميز بأن القرارات التي يُصدرها الحاكمون فيه معـبّـرة عن إرادة " الشعب الحقيقي "              .
و يدور كل اجتهاد الأستاذ بوردو حول المحور الذي تعـبّـر عنه هذه الكلمة الأخيرة " الشعب الحقيقي "                                            ..
إذ للشعب ، عنده دلالتان تتصل كل منهما بمفهوم متميز للديمقراطية فتكون ديمقراطية حاكمة أو ديمقراطية محكومة ، تبعا لما تعـنيه كلمة الشعـب في كل نظام                            .
و قد جاء أبسط ما قدّمه إيضاحا لفكـرته في كتـابه عن " الديمقـراطـية " . فـنجده هـناك يتحدث عمّا يسمّـيه : " شعـب المواطـنيـن " و يميّـزه بما يتميّـز به " المواطن " ، فـيـقـول : إن المواطن ليس هو الفـرد بكل خصائصه الذاتية من أنانية و طمع وتحيّـز لمصلحته الخاصة في مواجهة المصالح الدائمة للمجتمع ، بل هو الإنسان الواعي المتحرّر من الانحياز إلى مصالحه ، ومن متاعب ظروفه الاقـتـصادية ، القادر دائما على أن يدلي برأي محايد في الشؤون العامة غير متأثر بما يفضـّـله لنفسه ..
إنه باختصار ، ملاك علماني مجرّد من المصلحة الشخصية . بمجرد تشكيل صورة المواطن على هذا الوجه يصبح سهلا تحديد مفهوم " شعب المواطنين " . يقول الأستاذ بوردو أن المميـز الأساسي لهذا المفهوم هو غربته الكاملة عن الحقيقة الاجتماعية . إذ أنه يتجاهل كل ما يوجد داخل الجماعة من أسباب التنوع والانقسام و التميّـز و التعارض كالمولد والظروف الاجتماعية والموارد الاقتصادية والأذواق والمقدّرات. إن " شعب المواطنين " شعب من أفراد نمطـيـيـن . شعب مُسخت حقيقـته الاجتماعـية ليطابق فكـرة مجـرّدة                  ..
في مواجهة هذا المفهوم للشعب يوجد مفهوم آخر مناقض له . إنه الشعب المكون من " الإنسان " كما هو في الواقع . وفي الواقع لا يتميز بجوهـره أو بعلاقته بنمط مثالي ولكن بخصائصه التي يكتسـبها من وضعه الاجتماعي المختلف عن وضع غيره من الناس .. إنه الإنسان الذي نقابله في علاقات الحياة اليومية كما تحدّده مهـنته ، وأسلوب ووسائل حياته ، وذوقه ، واحتياجاته ، والفرص المتاحة له .. إنه الإنسان في ظروفه ، والذي يمكن التعـرّف عليه عن طريق ملاحظة أسلوب حياته الواقعـية وليس عن طريق التأمل الميتافـيـزيقي في جوهـره . هذا الإنسان الواقعي يتميز بخصائص مناقضة تماما لتلك التي تميز المواطن . و يؤثر هذا الخلاف الجذري تأثيرا عميقا في نوع الديمقراطية .
ففي حين يحمل المواطن في ذاته الامتيازات التي اكتسبها من طبيعـته الإنسانية ، ويحاول أن يفرضها على البيئة التي يعيش فيها ، يتعـين على الإنسان الواقعي أن يتوقع من الوسط الذي يعيش فـيه إتاحة الفرصة لاكتسابها. هذا من ناحية ، و من ناحية أخرى تعـتـبـر " حرية " المواطن إحدى خصائصه الذاتية فهي مشروطة ، وميتافـيـزيقـية ولصيـقة به أينما كان ، وبالتالي في غير حاجة إلى أن توجد ، بل إلى الاعتراف بها . و هي لا تتطلب من النظام الاجتماعي القائم إلا عدم المساس بها .
أما " حرية " الإنسان الواقعي فهي مفـتـقـدة دائما بحكم أن احتياجاته متجددة أبدا . لهذا نجد أن الإنسان الواقعي ، على عكس المواطن تماما ، ينزع إلى التحرّر من أية علاقات اجتماعية تسمح له بالتمتع بحريات شكلية لم يكتسب مضمونها الواقعي بعد ، فهو نزّاع دائما إلى التغـيـيـر الاجتماعي.
على هذا الأساس تفتـرق الديمقراطية المحكومة عن الديمقراطية الحاكمة . الأولى قائمة على أساس شعب من المواطنين فتكون غايتها أن تحكمه حكما مناسبا للمجتمع القائم فعلا بصرف النظر عما يريده الشعب الحقيقي . أما الديمقراطية القائمة على أساس الشعب الحقيقي فتكون غايتها خلق عالم جديد. عالم متحرّر بديل عن الواقع ، تـُـشبع فيه الاحتياجات الفعلية للشعب . ديمقراطية تكون القرارات فيها خاضعة لتلك الاحتياجات                      ..
من الممكن أن نقول إن " الديمقراطية المحكومة " كما عرضها الأستاذ جورج بوردو هي نموذج لما نعـنيه " بالاستبداد المتحضر " . فها هنا نظام ديقراطي كامل الشكل والمواصفات التقـليدية ، يحكم فـيه الشعب نفسه بنفسه ، كل ما في الأمر أنه شعـب زائف. يطـبّـق هذا النظام على شعـب حقـيقي واقعي مناقض في خصائصه ومصالحه وإرادته للشعـب النمطي الزائف . و فيه تـُسند إرادة موهـومة لشعـب زائف ، إلى إرادة غائبة لشعب حقيقي .. و لما كان الموجود حقا هو الشعب الحقيقي ، لا يكون من العسيـر أن نتبـيّـن في الديمقراطية المحكومة أداة استبداد بالشعب الحقيقي بالرغم من كل ما يتوفـر فيها من أشكال دستورية للمارسة المسمّاة ديمقراطية . إنها إذن " استبداد  " ( عصمت سيف الدولة ـ الإستبداد الديمقراطيص11 ) .
أما الدكتور امام عبد الفتاح فيقول                      :
في ظني اننا في بحث عن " الأخلاق السياسية " يهتم في نهايته بعرض نماذج مضيئة عن " الديمقراطية في الدول المتقدمة " لا بد ان نناقش في الخاتمة تلك الفكرة التي تهدم الديمقراطية الليبرالية من اساسها على نحو ما تطبقها هذه الدول ، وتـُصوّرها على انها ضرب من " الاستبداد الديمقراطي " . ومن ثم فهي ديمقراطية زائفة لأنها تقوم على شعب زائف " يحكم نفسه بنفسه " في حين ان الديمقراطية الحقيقية هي التي تقوم على الفهم السليم للشعب .. ! ومن هنا انقسمت الديمقراطية الى نوعين : ديمقراطية حاكمة و ديمقراطية محكومة ، وفقا لتقسيم الشعب الى نوعين :
أـ الشعب الذي يتالف من مجموع المواطنين ، وهم يتميزون بالغـربة الكاملة عن الحقيقة الاجتماعية ، وهذا الفهم " للشعب " يتجاهل كل ما يوجد داخل الجماعة من أسباب التنوّع ، والانقسام ، والتعارض ، كالمولد والظروف الاجتماعية والموارد الاقتصادية والاذواق..الخ  
ب ـ الشعب الذي يتألف من " الإنسان " كما هو في الواقع ، وفي الواقع لا يتميز الإنسان بجوهـره أو بعلاقته بنمط مثالي . انما بخصائصه التي يكتسبها من وضعه الاجتماعي الذي يختلف عن وضع غيره من الناس . انه الإنسان الذي تقابله في علاقات الحياة اليومية كما تحدّده مهنته ، و أسلوبه ، ووسائل حياته الواقعـية ، وليس عن طريق التامل الميتافيزيقي في جوهره          .
ويؤثر هذا الخلاف الجذري تاثيرا عميقا في نوع الديمقراطية                         :
فالمواطن يحمل في ذاته امتيازات اكتسبها من كونه انسانا ، أعني من طبيعته الانسانية   .
أما الانسان " الواقعي " فهو يكتسبها من الوسط الذي يعيش فيه ، وبمعنى آخر ليست هناك حقوق للانسان بما هو انسان : حق الحياة ، وحق الحرية وحق التملك ، والمساواة ، والتفكيـر والتعـبيـر عن آرائه ..الخ . فهذه كلها افكار " ميتافـيـزقية " ، فالقول مثلا أن الحرية هي أحد الخصائص الانسانية الاساسية أو أنها " ماهية " الانسان اذا فقدها فقد انسانيته معها هو قول " مثالي " " خيالي " ، تلك هي الحرية الميتافـيـزقية التي تعـتبـر الحرية جزءا من طبيعة الانسان اينما كان .. " أما حرية الانسان الواقعي فهي مفـتـقدة دائما بحكم ان احتيـاجاته متجدّدة أبدا .. لهذا نجده ينـزع للتحـرّر من أي علاقات اجتماعية تسمح له بالتمتع بحريات شكلـية لم يكتسب مضمونها الواقعي بعد ، فهو نزّاع دائما الى التغـييـر الاجتماعي                        .. "
على هذا الأساس تفتـرق الديمقراطية المحكـومة عن الديمقراطية الحاكمة . فالأولى قائمة على أساس المفهوم الأول " الزائف " للشعب ويؤدّي الى الاستبداد " المتحضر " : نظام ديمقراطي كامل الشكل والمواصفات التقليدية حيث يحكم فيه الشعب نفسه بنفسه ، لكنه " شعب زائف " ذلك لأن الموجود حقا هو الشعب الحقيقي لا الشعـب المثـالي . ومن ثم فان الديمقراطـية المحكومة ( أي الليبـرالية ) ليست سوى آداة استـبداد   متحضّـر "بالشعب الحقيقي"، وبالرغم من كل ما يتوفـر فيها من أشكال دستورية للمارسة المسمّاة ديمقراطية                       ..
ثم يضيف : اذا كانت عصور التاريخ البشري قد شهدت الوانا من الظلم والطغـيان والاستبداد ، فان المؤلف  ( يقصد الدكتور عصمت سيف الدولة الذي ينسب اليه ما جاء من افكار سابقة ) يسمّي هذا الاستبداد القديم باسم " الاستبـداد المتخـلـف " فهو فـج وواضح في ظـلمه وطغـيانه ، أما الاستبـداد الحديث فهـو لون آخـر يسمّـيـه " الاستبداد المتحضر " . و من هنا فهو يقول : لقد كان المستبدّون يطوّرون أفكارهم على مدى التاريخ ، وكانوا على ذلك مكـرهـيـن بفعل مقاومة الشعوب للاستبداد والتطوّر الحضاري الذي اصابته البشرية في جميع المجالات الفكرية والتطبـيقـية : " فكان لا بد للمستبدين ومفكـريهم ، في كل عصر من أن يستـروا عورة الاستبداد بنسيج من صنع العصر فكـرا أو علما أو ممارسة لأنه أقدر على إخفاء السوءة وتضليل الشعوب .. ولقد كانت " الديمقراطية " آخر ما اختاره المستبدون في هذا العصر( المصدر السابق )  .

خلاصة القول :  أن الرئيس الحقوقي بأفكاره المعـروفة عن الديمقراطية ، ومواقفه المعلنة عن حقوق الانسان نجده يتماهى الى حد كبير مع الطرح الأصلي لـ " شعب المواطنين " كما ورد ذكـره بكل تفصيل .. فهو الذي يتصوّر بأن للديمقراطية مفهوم مطلق ، وأن للحقوق مضامين ثابتة في الزمان والمكان ، وبالتالي نجده يتجاهل الى حد كبير تلك الجوانب العـينـية الدقـيقة المقـتـرنة بحياة الفرد واحتياجاته المتجدّدة أبدا ، مع التركيز دائما والتذكير بالجوانب ذات الصلة بطبيعـته الانسانية وجوهـره الثابت فحسب                             ..
فالحقوق هي حق العيش والاقامة والتنقل والتعبير والنشر والنقد والرفض والتظاهر السلمي .. الى آخر ما هو مذكور في تلك القائمة الطويلة لحقوق الانسان ( شعب المواطنين )          ..
أما كيف يعيش الانسان ، و كيف يقيم في ظروف تليق بكرامته ، وكيف يستطيع التنقل بـيسر ، وكيف يعـبـّـر وينشر ، وينتـقد ويعارض ، فيسمعه كل الناس ، أو يتظاهـر ولا يتعـرّض الى الخصم من المرتب أو الى الطرد أو يتخرج من الجامعة و لا يتحصل على شغل الخ .. فهذا كله مسكوت عنه ... لذلك من الصعـب أن يهتدي الى مضامين الديمقراطية الحقـيقـية ( الديمقراطية الحاكمة  ) المتصلة مباشرة بالمعاييـر الملموسة للحقوق والحريات كما يطرحها واقع الناس الشعب الحقيقي ) .. وفي هذا السياق فان الرئيس المرزوقي بتصوّره لهذا الطرح : " شعـب المواطنين " سواء علم حقـيقـته أم جهلها ، انما يؤكد انتماءه الى دائـرة الاستبداد ، حتى وان كان في صورته المتحضّـرة .. في حين يكون الوجه الآخر للمشروع معـبـرا عن النموذج المتخلف للديمقراطية التي تـُحوّل المواطنين إلى مجـرد أرقام انتخابية .. وتلك هي الديمقراطية المحكومة الضامنة ـ فقط ـ للحقوق الأزلية كما يتصوّرها الرئيس الحقوقي للمواطن النمطي الذي يتساوى ـ عنده ـ في كل الحقوق مع جميع الناس في أي مكان ، معـبّـرا عن ذلك المفهوم المثالي للحرية الذي لا يرتبط باحتياجات الفرد كما يشعـر بها في واقعه الخاص .. !!


( نشرية القدس العدد  156) .  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق