بالتأكيد أن جزءا هاما من الصراعات الدائرة في الوطن العربي له علاقة مباشرة بالسياسات الداخلية المتشابهة في جميع الاقطار ، والتي يغلب عليها طابع الاستبداد ، وتغول العائلات الحاكمة ، في ظل ما تفرزه من لوبيات وعصابات تبدأ بالسيطرة على الحكم ومفاصل الدولة ، ثم تتفرغ للنهب والسرقات والعبث بالمال العام ، فتشيع الفساد والفوضى والتلاعب بالقانون حتى يتحول المجتمع بالفعل الى غابة ياكل فيها القوي الضعيف ، أو يدوسه بالأقدام ..
وحينما
نتابع ما يجري في الجانب الآخر على الساحة العربية من أحداث ، ونتوقف عند بعض
التفاصيل المتعلقة بتلك الصراعات الدموية ندرك حجم التخلف الذي تمر به مجتمعاتنا ،
ونخبنا ، وخاصة منها تلك التي نراها راكبة موجة الاحداث وهي مدفوعة من الخلف نحو أهداف
ومشاريع يستحيل عليها ان تحقق من
خلالها خيرا لشعوبها وأمتها دون ان تدفع
من حريتها وكرامتها وثرواتها اثمانا باهضة لتلك المساعدات التي تتلقاها من اجل
الوصول الى تلك الغاية المحدّدة سلفا من
قبل القوى التي قبلت بها واجهة لحجب تدخلها ، والحد من خسائرها وهي تخوض الحروب والصراعات
بالنيابة عنها ..
وعلى هذا الأساس ، فان مشروع
النهضة العربية يحتاج الى ارضية صلبة يجب ان تقف فوقها كل القوى التقدمية في الوطن
العربي لكي تسحب البساط من تحت اقدام العملاء والوكلاء بالنيابة عن الاستعمار
واصحاب المصلحة في استمرار الفرقة والتشتت داخل المجتمع الواحد .. وذلك بابقاء
جملة من الثوابت ضمن المشترك الذي يبقى دائما خارج دائرة الاختلافات والصراعات
ومنها بالاساس مسألتي العروبة والدين .. بالاضافة الى مسائل أخرى مثل الديمقراطية
، والتقدمية الخ .. فاذا كانت
التقدمية مواقف من الواقع ، فهناك امكانية دائما للالتقاء على مهام مرحلية يمكن
الاتفاق حولها بين قوى وطنية حقيقية ، تسعى لمواجهة أخطار محدقة بالمجتمع ، فيكون التقاؤها
لازما وضروريا لتحقيق تلك الغاية المشتركة .. وبهذا تكون أي مهمّة جامعة تهدف
لتحقيق مصلحة وطنية وقومية هي مهمة تقدمية بالضرورة ، بقطع النظرعن الخلفيات
الايديولوجية والانتماءات السياسية وغيرها .
واذا كان الدين علاقة ايمانية تترتب عنها بالضرورة علاقات
اجتماعية وانسانية غايتها اصلاح المجتمعات ، فهناك دائما امكانية للالتقاء حول
المحكم من الدين وقبول الاختلاف في ما تشابه منه حفاظا على وحدة المجتمع وسلامته
قبل كل شئ ، ثم الاعتراف للآخر بحقه في اعتناق ما يشاء من الاديان مع امكانية
الالتقاء معه على قاسم مشترك قائم بالفعل
وهو الانتماء الى الحضارة العربية الاسلامية كحضارة جامعة لكل الاعراق والاديان ،
في اطار الانتماء التاريخي للمجتمع العربي الاسلامي الذي نشأ في ظل دولة الاسلام
..
واذا كانت العروبة علاقة انتماء الى مجتمع تكوّن
تاريخيا من خلال النمو والاضافة ،
بحيث تصبح امكانية الرجوع الى الحقب
السابقة مستحيلة الا بقبول التفتيت ، فهناك دائما امكانية لتكون العروبة دائرة
انتماء جامعة لكل ابناء الامة الواحدة بقطع النظر عن خلفياتهم الدينية والايديولوجية
، أوالعـرقية والمذهبية وغيرها .. ان هذا يعني أن نجاح المشروع النهضوي في الوطن
العربي مستقبلا يتوقف على مدركات أولية تتعلق اساسا بالفهم الصحيح لمسألة الهوية
بكل ما فيها من مضامين جامعة ومتداخلة لا يمكن فصلها او تجزئتها ، كما لا يمكن
فرضها او تعميمها .. فبعضها اختياري وبعضها لا يشمله الاختيار .. وبعضها خاص يعبر عن دوائر ضيقة ، والبعض الآخر
عام يشمل دوائر متعددة .. وهكذا نصل الى
ضرورة اخراج هوية المجتمع بكل ما فيها من فروع دينية وعرقية ومذهبية ، من دائرة الصراع
الذي يجب حصره في مجالات التقدم والنهضة واكتشاف الحلول الصحيحة للواقع بالطرق
السلمية والديمقراطية ، لبناء مجتمع الحرية والكرامة والمساواة .. ( القدس ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق