بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 23 ديسمبر 2012

الفكر القومي التقدّمي : من منهج التجربة والخطأ الى منهج جدل الانسان ، ثورة فكرية مذهلة ..

الفكر القومي التقدّمي : من منهج التجربة والخطأ الى منهج جدل الانسان ، ثورة فكرية مذهلة ...

لقد تمكـّـن الفكر القومي خلال العقود الاخير من تحقيق ثورة فكرية على جميع المستويات اوّلها واهمّها الاسهام في  اعادة الهيكلة البنوية للتفكير التي يحتاجها العـقل العربي والانساني عموما .. وقد ادى عصر الثورة الفرنسية وما تلاه من نهضة فكرية في اوروبا ثم في كافة انحاء العالم  الى ارساء ثنائية متصارعة من البنى الفكرية التي سادت بالاساس خلال القرن العشرين وهما المثالية والمادية ، وهو ما أدى عمليا وميدانيا الى افراز قوتين متصارعتين سياسيا على اساس هذه الخلفية او تلك هما الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الامريكية ، واقتصاديا المعسكـرين الراسمالي والاشتراكي ... وفي ظل هذه الظروف كان الوطن العربي  ساحة من ساحات هذا الصراع بين الخلفيتين والقوتين في آن واحد .. لذلك فان ثورة يوليو - قائدة النضال الوطني والقومي في تلك الفترة - قد وجدت نفسها في خضم تلك الصراعات والتجاذبات ، فلم يكن امامها سوى الانحياز لاحد الطرفين مع كل ما يترتب عن ذلك من تبعية فكرية واقتصادية ، او ابداع آليات جديدة للتفكير للخروج من عباءة الدول الكبرى وهيمنتها السياسية والاقتصادية والفكرية  .. وقد كان الحل الاخير مستحيلا  بحكم الظروف الموضوعية للثورة وقادتها حيث كان الابداع الفكري من اختصاص المفكرين والمتفرّغين لهذا المجال .. ولما كان عبد الناصر هو قائد ثورة يوليو ، وهو الرافض للمنهج المثالي القائم على الفردية ، والمنهج المادي الذي يلغي دور الانسان في صنع مستقبله ، فقد اختار عمليا  منهجا  مغايرا سماه عبد الناصر نفسه بمنهج التجربة والخطأ ، الذي لا يلزم صاحبه بمقدمات جاهزة بل يتركه يعمل في ظل التجريب والتصحيح  بكل ما في ذلك من مجازفات ، باعتبار ان هذه الطريقة في الممارسة تجعل كل الاختيارات متروكة للصدفة ، كما حدث فعلا على ارض الواقع حيث صادف التجربة الاخفاقات والانتكاسات الى جانب كل الانجازات والانتصارات التي حققتها الثورة في ظروف محلية وعالمية اقل ما يقال فيها انها  صعبة ، ولم تقدر اي دولة عربية ان تواجهها .. وقد عبر عبد الناصر صراحة عن هذه الأزمة خلال تقديمه للميثاق الوطني سنة 1962 ، الذي جمع فيه عصارة تجربته ابان المرحلة الاولى للثورة فقال : " الميثاق عبارة عن مبادىء عامة واطار للعمل او للخطة ، نتج عن ايه .. نتج عن تجربة وممارسة لمدة عشر سنوات .. العشر سنوات اللى فاتت كانت فترة تجربة ، فترة ممارسه .. كانت فترة مشينا فيها بالتجربة والخطأ .. " .. ومثلما بين الدكتور عصمت سيف الدولة فان هذه المشكلة لا يتحمل مسؤوليتها عبد الناصر الذي كان واعيا بذلك تمام الوعي ، حينما وضعها في اطارها التاريخي الذي لم يكن ـ عمليا ـ  يسمح له  بانجاز مهمتين في نفس الوقت ، وهو ما عبر عنه بكل وضوح حين قال : " أنا باقول اني ماكنش مطلوب مني ابدا في يوم 23 يوليو اني اطلع يوم 23 يوليو معايا كتاب مطبوع واقول ان هذا الكتاب هو النظرية . مستحيل . لو كنا قعدنا نعمل الكتاب ده قبل 23 يوليو ماكناش عملنا 23 يوليو لان ماكناش نقدر نعمل العمليتين مع بعض  .. "

كما اسهمت تلك التجارب الجريئة من ناحية أخرى في تطوّر الفكر الثوري الذي صقلته الممارسة على مدى عقدين كاملين ، وهو تقريبا ما عبر عنه عبد الناصر بقوله : " لقد كان من أعظم الملامح فى تجربتنا أننا لم ننهمك فى النظريات بحثاً عن واقعنا ولكننا إنهمكنا فى واقعنا بحثاً عن النظريات . " ...  وقد كان لتلك التجربة انعكاساتها الايجابية بالفعل ، التي أسهمت في ارساء منظومة فكرية متماسكة من داخل تلك المعانات ، ومن خلال التعـمّق في نقد الذات ، وتقييم تلك التجارب الخاصة وكل التجارب الانسانية الاخرى ، وبالتفاعل مع  كل ما هو متاح على المستوى الانساني في مجال المعرفة والعـلوم في جميع مجالاتها .. اي من خلال تحرير العقل العربي من كل القوالب الجاهزة  والجاهلة معا .. وهو نهج  تحرّري ابداعي نابع من جوهـر الاديان عبر كل العصور وعلى رأسها الدين الاسلامي الحنيف ، ومن جوهـر الطبيعة الانسانية التي تميــّــزت بالعقل والتفكير على بقية المخلوقات .. ولذلك فان ارساء منظومة فكرية تستجيب  لكل التحديات التي تعيشها الأمة العربية من ناحية ، وتستوعب هذه الثنائية من ناحية ثانية ، لا يستدعي سوى جهد خلاق يجمع بين غاية الاديان وطبيعة الانسان .. وقد كان الفضل في ارساء هذه الاسس الفكرية الجديدة للدكتور عصمة سيف الدولة رحمه الله في كتاباته الغزيرة  ، التي صاغ مجمل الأفكار فيها على ضوء منهجه المعروف بـ " جدل الانسان " فكانت تلك المقولات البسيطة التي الستنتجها في عدة مجالات محورها الانسان ودوره الريادي في تغيير الظروف التي لا يقدر غيره على تغييرها ومنها : " الانسان اولا " ، " الانسان هو القائد لعملية التطور " ، " التطور ظاهـرة انسانية " ، " الجدل هو قانون تطور المجتمعات " ، " الديمقراطية هي أسلوب تطور المجتمعات " ، وكلها مقولات تقوم على التسليم بان الجدل قانون نوعي خاص بالانسان مثلما قام بشرحها بكل تفصيل ...  

 ( نشرية القدس عدد 51 ) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق