بين الاسلام
.. والنظام الاسلامي ..
الدين
الاسلامي الحنيف يشمل كل ما جاء في كتاب الله منذ اول يوم للوحي الى آخر يوم منه ، و ما ثبت عـن الرسول صلى الله عليه و
سلم في سنـته المؤكدة ، الصحيحة ، منذ أن
بدأت الرسالة الى آخـر يوم في حياته .. هذا هو دين الله .. ومنه نفهم ان كل التطبيقات التي رأيناها في
واقعـنا وتاريخنا الاسلامي بعد وفاة الرسول وعلى المدى الطويل خلال خمسة عشـر
قرنا ، لا تمثل الدين الاسلامي ذاته بل تمثل التطـبـيـق البشري للاسلام ..
والدين كما
هو معـلوم يشتمل على جانب عـقائدي مرتبط بالعـبادات ، وجانب آخـر مرتبط بالمعاملات
، كلاهما لا ينـفـصلان ، لان العـبادات
نفسها تربط الفرد بالمجموعة ... لذلك فان أول اجـتهاد بشـري ينطـلق من النص الاصلي لـينتج فكـرة او موقفا او مشروعا او قوانين وضعـية
وغيرها .. يجعـل ذلك الاجتهاد عـملا بشريا محضا
يمكن ان يمثل مشروعا للنظام الاسلامي ، لكـنه لا يمثل الاسلام في حد ذاته .
وهذا ينطـبق على كل المجـتهديـن دون استـثـناء بما فـيهم عـلماء الدين الذيـن
فضّلهم الله عـن غـيرهم بعـلمهم ، ولكنهم
لا يخرجون جميعا عـن كونهم بشرا غـير معـصوميـن يحـتمل قولهم الصحة والخطا .. فان اصاب أحدهم في اجتهاده ونال مشروعه
النجاح في التطـبيق استفاد منه البشر ، ونال هو ثواب ما نفع به .. وان أخـفـق
مجتهد فيما اجتهد فـيه ، فلا يُحسب فشله اطلاقا على الاسلام ، ويظل اجتهادا بشريا
تقع مسؤولية اختياره على المسلمين الذين قـبلوه
نظاما لهم ...
ان هذا
التمييز بين الاسلام كما هو مبـيـّـن في
كتاب الله ، وبين النظام الاسلامي كما يعـبّر عـنه المسلمون من خلال فهم كل منهم
للدين ، يمثل خطـوة مهمّة في فهم اسس العلاقة بينهم ، فيترتـب عـن ذلك اقرار واعـتراف لازمـيـْن بامكانية الوقوع في الصواب والخطأ .. ويجعل
المسلمين يقبلون بالاختلاف ، فـيسعـون
للتوافـق على ما هو جامع بينهم ، متجاوزين ما اخـتـلـفوا فيه .. حيث نجد ان الدّين
الاسلامي يقوم على ضوابط وثوابت صالحة لكل
زمان ومكان ، لذلك فان الله قد ترك امر
الاجتهاد للبشر ليختاروا في اطار تلك الضوابط والثوابت ما يصلح لحياتهم
المتغـيّـرة والمتبدّلة على الدوام .. ثم ليكون اختـيارهم يستحق فعلا اما الثواب او العـقاب .. اذ انه
سبحانه لو اراد ان يـُحكم كل شئ لوضعه لنا مفصلا واضحا حتى لا نختـلف فيه ، لكـنه
ترك لنا في الامـر سعة ، وجعـل مسألة الاخـتلاف في المتـشابهات أمر جائـز لا يجعـل
الناس يصنـّـفون بعـضهم بعـضا الى كفار ومؤمنين .. قال تعالى : " هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَـلـَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ
آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُـنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَـرُ مُـتَـشَابِهَاتٌ " (
آل عمران 7) . ومن هذه الآية الكـريمة نتعـلم ان في الاصل عـند بناء
مشروع النظام الاسلامي البشري، يجـب التركيز على الآيات المحكمات التي لا يقع
حولها اختلاف شديد ، وهي كما قال تعالى تمثل ام الكتاب ، أي انها تضمن الحد الادنى
ليكون النظام الاسلامي اسلاميا حقا ، او اقرب ما يكون الى الاسلام ، الذي لا يعـلم
افضل طريقة لتطـبـيقه في زمان معـين ومكان معـين الا الله .. في حـيـن يجـب ان يقع
التوافـق بين الناس في ما يخص الآيات المتشابهات التي تقبل التاويل المتعـدّد ،
فـتـؤدي حـتما الى الاختلاف .. بل ان الذي يفعـل عكس ذلك ويعـمل عـلى تغـليب امر
الآيات المتشابهات ، يكون قد وقع في دائرة الذين في قـلوبهم زيغ كما وصفهم الله في
نفس الآية عـندما قال :" فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُـلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَـيَـتَّـبـِعُـونَ
مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِـتْـنَةِ وَابْـتِـغَـاءَ تَأْوِيـلِهِ
وَمَا يَعْـلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعـِلْمِ
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِـندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا
أُولُو الْأَلْبَابِ " .. ويقول
صلى الله عـليه وسلم في هؤلاء : " إذا رَأَيْت
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ منه فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى الله
فَاحْذَرُوهُمْ " (البخاري ( 4273 ) ومسلم ( 266) ) .
على تلك الاسس فان دين الله واضح لكل المسلمين الذين اتـبعـوه على امتداد خمسة عـشـر قرنا كاملة منذ ان قدم الصحابة
الاوائل رضوان الله عـليهم الى هذه الرّبوع .. فلا يحتاج مجـتمعـنا اليوم الى
اعادة بناء المفاهـيم وتشكيك الناس في ثوابتهم التي استقـرّت في وجدانهم ، وأنتجوا
من خلالها علاقات اجتماعـية معـقـّدة ، لا يجوز ان نطلب منهم تغـييـرها بالقوة او
بالتكـفـيـر أو جملة وتـفصيلا ، أو دفعة واحدة كما تـنادي بذلك بعض الحركات
الوافـدة على مجتـمعـنا .. وخاصة اذا كان الامر لا يتعـلق بجوهـر الديـن بل كما
نرى بمسائل شكلية هي نفسها متغـيـرة وغـيـر ثابتة وغير يقينية .. و لعـل السؤال الجوهـري المطـروح في هذا
الجانب ، هو كيف ان الاسلام جعـل مسألة الكـفـر والايمان تخضع للاختيار الحر من
خلال قوله تعالى : " وقل الحق من
ربكم فمن شاء فـليؤمن ومن شاء فـليكـفـر " ثم يفرض على الناس مسائل ثانوية متغـيـرة ومتبدّلة
مثل طول اللحية ونوع اللباس أو أي نوع من الطقوس التي يتخذونها حدا فاصلا في
الانتساب للدين .. !!
باختصار ، ان
الفرق بين الدين الاسلامي والنظام الاسلامي هو نفس الفرق بين الوحي والاجتهاد ..
فالاوّل الهي مُـلزم في اطار الاقـتـناع ، والثاني بشري غـيـر ملزم من اي ناحية وعلى
اي وجه كان .. والله
أعلم ..
( نشرية القدس العدد 59 ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق