الوحدة العربية بين
دعاتها وأعدائها .. (5) .
خلال التفكير في مادة هذه الحلقة تذكرت عنوان كتاب
للمفكر القومي أبو خلدون ساطع الحصري كتبه منذ الخمسينات من القرن الماضي بعنوان "
العروبة بين دعاتها ومعارضيها "، ففوجئت باختيار نفس العنوان تقريبا .. وهو ما جعلني
أتصفح الكتاب من جديد بعد مرور عشرات السنين على قراءته .. وهنا تبادر الى ذهني
سؤال مهم : هل أن طرح الأستاذ ساطع الحصري لنفس الفكرة منذ أكثر من نصف
قرن ، معناه أن الوحدة تتعرض للفشل منذ ذلك التاريخ ..؟
والواقع أن المسألة لم تكن بهذا الشكل ، حيث كانت مجمل
الافكار التي طرحها الأستاذ الحصري ، لا
تتحدث عن الفشل ، بقدر ما تتناول الرّد على المشككين في الأسس التي يمكن إن تقوم
عليها الوحدة ، مؤكدا على وحدة الوجود والمصير القومي ، مفـندا تلك الأفكار
الإقليمية ، لعدد من الكتاب ، والشخصيات الأدبية والسياسية ، مستشهدا في نفس الوقت
ببعض التجارب التي عاشتها الشعوب في الشرق والغرب لتأكيد فكرة الوحدة ..
ورغم أن الصدفة كان لها أحكامها في اثارة هذا
الجانب من الحديث ، الا أننا قد نجد له شبها من خلال تكرار نفس التجربة مع أعداء آخرين
يتصدون اليوم لمشروع الوحدة – باسم الدين – وهم لا
يملكون الدليل الشرعي القاطع ، بل نجدهم يتخبطون في المتناقضات ، متحصنين بالاسلام
من خلال الشعارات الجوفاء حتى يظهر كل من يخالف رأيهم مخالفا للدين .. !!
والحقيقة أن ما
يفعله هؤلاء في عصرنا بجميع المخالفين لآراءهم ، يذكرنا برجال الدين في اوروبا
الذين ابتدعوا نظرية الحق الالاهي لفرض ارادتهم على العام والخاص ، واستطاعوا في
فترة من الفترات ان يقارعوا بها السلطة السياسية قبل الرعية .. حتى تمكنوا في بعض
الفترات الاخرى من فرض سلطتهم المطلقة على المجتمع والدولة ، فأمعـنت الكنيسة في
استغلال الدين حتى صار مدانا عند شريحة واسعة من الناس ، وكان سببا مباشرا في
انتشار الالحاد في أغلب المجتمعات الغربية .. وقد أثارت تلك النزعة الالحادية التي
اجتاحت اوروبا ، ردود فعل سلبية تجاه ظاهرة التدين نفسها بسبب الاستغلال السيئ
للمؤسسة الدينية من طرف رجال الدين ..
والواقع فان السعي
للسيطرة على الكنيسة لم يكن مجرد سلوك نابع من حرص رجال الدين على تطبيق العقيدة
الدينة ، بل كان يمثل محاولة للهيمنة على المجتمع اجتماعيا واقتصاديا من خلال
المؤسسة الدينية ، الشيئ الذي جعل مثل هذا الواقع ، يُـفرز علاقات متوتـرة بين جميع الاطراف ، ومناخا سياسيا واقـتـصاديا
وثقافـيا يغلب عليه الصراع بين السلطة
السياسية والكنيسة تواصل قـرونا طويلة ، شهدت خلالها المجتمعات تقلبات عديدة بين
تحالف وتقارب أو تناحر
وتنافر، ضاعفت من معاناة الناس وتضحياتهم ، ولم يتخلصوا
منها الا بالثورة التي ادت في النهاية الى تصحيح العلاقة بين الكنيسة والدولة من
خلال اضطلاع كل مؤسسة بمهامها دون افراط ولا تفريط ..
بالنسبة لواقعنا العربي فان الامر يختلف كثيرا عن هذا
الوضع ، حيث من الواضح أن الاسلام لا يمكن ان يقبل أبدا بفكرة الكهانة والوصاية على
الدين بتلك الطريقة الشائهة التي عرفتها أروربا .. وما وجود الصراع بين الفكر
التقدمي والفكر الرجعي في واقعنا الا دليلا على هذا .. ومن هذه الزاوية ، وفي تلك
الحدود ، يمكن الحديث عن الفشل ، في اطار قراءة الواقع الذي عاشته الأمة
العربية منذ الخمسينات الى الآن ، .. أي فشل التجارب الوحدوية وما رافقها من أخطاء
ارتكبها ـ أولا وقبل كل شئ ـ أصحاب الشأن المعنيين بتحقيق ذلك المشروع ..
والواقع ، فان التجربة
تؤكد أن الفشل في تحقيق الوحدة في الوطن
العربي لم يكن بسبب رفض الفكرة على المستوى الشعبي .. بل على العكس من ذلك ، فان
تلك الفكرة هي التي حققت أكثر رواجا بين الجماهير العربية من المحيط الى الخليج
طوال فترة الخمسينات والستينات .. ولعل الظروف التي حفت بقيام وحدة 1958 أكبر دليل
على صحة هذا القول ..
فلماذا لم تتحقق الوحدة اذن منذ أكثر من نضف قرن
مرت على وجود الأنظمة القومية ..؟
ـ فقد تأسست حركة
القوميين العرب منذ سنة 1948 ..
ـ وتأسس حزب البعث
العربي الاشتراكي منذ بداية الأربعينات ليتم الإعلان عنه رسميا بعد توحيد أجنحته
في سنة 1947 .
ـ ثم قامت ثورة 23
يوليو الوحدوية في مصر منذ سنة 1952 .
ـ وقد وصل حزب
البعث في سوريا إلى السلطة منذ آذارـ مارس 1963 ، ثم في العراق في شهر تموز 1968.
ـ وقد تمكن الضباط
الأحرار في ليبيا من الوصول إلى السلطة منذ سبتمبر 1969 ..
فلماذا لم تتوحد
تلك الأقطار التي حكمها القوميون على أقل تقدير ؟ وهل كان الفشل في تحقيق هدف
الأحزاب القومية وأنظمتها القائمة على مدى أربع عقود ، يعود كله إلى المؤامرات
الخارجية ..؟
بالتأكيد لا .. فما كان لأي قوة في العالم أن تمنع قيام الوحدة واستمرارها
بين قطرين عربيين ، لو توفـّرت الإرادة
الحقيقية بين القوى القومية الحاكمة طوال تلك الفترة .. وهو ما يحمّـلها ـ
وحدها ـ المسؤولية كاملة في فشل مشروعها ...
( نشرية القدس العدد 168 ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق