بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 26 فبراير 2012

بين الثورة و ارادة الحياة ..



بين الثورة و ارادة الحياة  ..
  
الحرية هدف وغاية  الانسان على مدى التاريخ ، منذ ان بدأ يجوب التلال ويتسلق الاراضي الوعرة ، فيصعد الى الجبال او يأوي الى الكهوف .. ومنذ ان تفطـّن  وهو يشعـر بالحاجة الفيزيولوجية من اجل الحفاظ على البقاء حيا ، الى يديه الرائعتين اللتان  تمكناه من تلبية حاجياته المتزايدة و المتجددة ، حتى اصبح يستغلهما في المزيد من المجالات للتخلص من القيود  والسيطـرة على الطبيعة ، بما اضافه من خلال مقدرته الجدلية على توضيف كل ما لديه  من امكانيات ذهنية  في صنع ادواته البدائية ، التي تجعله أكثر تحررا من  القيود المفروضة عليه  ..
ولكن فوق هذا ، فان للحرية في زماننا ، وفي تونس بالذات معنى وطعم لذيذ لا يتذوقه الا الاحرار .  ليجعل منها هدفا يستحق التضحيات وتهون من اجله النفوس ..
فهنا ثار شعبنا ، و تردّد صدى ذلك الشعار الذي رفعه على امتداد الوطن الكبير تتلقـّـفه افواه الجماهير العربية  المتعطشة للحرية  ، لتردّده  بنفس النبرة والاصرار لانها وجدت فيه مبتغاها : " الشعب يريد ... " 
وقد قيل لاحقا انه شعار اختزل ارادة الحياة التي يعبــّـر عنها بيت الشعر المشهور : اذا الشعب يوما اراد الحياة فلا بد ان يستجيب القدر . وقيل ايضا ان شعبنا في تونس كان مشحونا قبل الثورة بعقود بمضمون هذا البيت الذي كان حاضرا وفاعلا فيه على مدى اجيال ..
ومهما كان الامر فانه  يظل شعارا تلقائيا لم يعتقد احد قبل 14 جانفي انه سيتحوّل الى قرينة معبرة عن  سرّ ارادة الحياة التي كانت تحرك تاريخ البشرية  منذ ان وجد الانسان على وجه الارض .. اذ انه من الثابت ان الانسان  يتطور من خلال تلبية حاجاته المادية والثقافية المتجددة ابدا ، وهو لا يملك الا ان يلبيها ، بعد أن  تتحول كل منها الى مشكلة .. لا تلبث أن تفضي الى صراع داخل الانسان نفسه بين نقيضين : احدهما يعبرعن واقع الانسان وظروفه ، والآخر يعــبّـر عن الشعور بالحاجة في مجال من المجالات .. ويكون ذلك تعبيرا واقعيا عن المشكلة التي  تتطلّب  حلاّ ذهنيا  وعملا  ماديا لتجاوزها  .. اما اذا لم يقـع ذلك ولو بوجـود الحلول دون تـنفــيذها ، فـان تلك المشكلة  تصبح عائقا امام تطور الانسان ، و بقـدر ما تـكون الحاجة ماسة ومهمة في حياته ، تزيد هي في تكـبـيله وقهـره والحد من حريته .. وهو لا يتحرر من وطأتها  الا بتـلبـية حاجته التي ستـنشأ مكانها حاجات اخرى متجدّدة .. وهكذا في تواصل واستمرار : تـناقض ، فصراع  داخل الانسان ،  فحلول للـمشكلات  ، ثم عمل مادي او ذهني  لتنفيذ تلك الحلول  ، ووقــتها  تتحقق  مضامين جديد للحرية .. الخ  .  ولما كان هذا يحدث تلقائيا في حياة كل انسان ليـتـطوّر، فان ما رأيناه طوال عقود من عجز على ايجاد الحلول للمشاكل التي ظلّت تتراكم ، مع كل ما صاحبها من فساد  واستغلال وقهر للانسان  ، قد افرز واقعا متردّيا يمنع تطوّره ، ويصعب الصبر على تحمّله واستمراره ... مما ادّى  تدريجيا الى ظهور كل اشكال المقاومة الشعببية للظلم والاستبداد  في شكل انتفاضات  متـتـالية ، بما صاحبها  من ردود قاسية   من طرف السلطة سواء بالقمع ، أو بالتهميش و مصادرة الارزاق ، وتجريد الانسان من حقه في العيش الكريمّ .. 
باختـصار  انهما الـنقيضان الـلذان كان يتسبـبان في مراكمة الاحـتقــان . 
و لما كان وجود الانسان شرطا لازما لتطوره ، فان كسر القيود يصبح امرا لا مفــر منه لتحقيق الشرطين معا : الوجود والتطور  .. وتلك اذن ارادة  الحياة التي اختزلها الشعب في شعاره المرفوع : " الشعب يريد ... " الذي سرعان ما انتقل  الى جميع الساحات العربية ليكون شعارها الرئيسي ، كتعبير صادق عن وحدة المشكلات في مجتمعــنا العــربي ..
اذا كانت هذه المقاربة صحيحة فاننا نستطيع ان نقول دون خوف او غرور ، ان منطق الثورة في تونس  واخواتها  في الوطن العربي حتى و ان كان يبدو خارجا عن منطق الثورات في التاريخ  (الحزب الثوري، القيادة الثورية ... ) ، كما يرى البعض ،  فانه لم يخرج ابدا عن اطار القوانين التي كانت تحرّكها جميعا وهي : اقتران  الوجود بالتطور، الى درجة ان يصبح كل تضييق على وجود الانسان من خلال تعطيل تطوّره ، ايذانا بان ينقلب ذلك الى فعل ثوري لازاحة كل ما يعيق تطوّره .. وهو ما جعل القوى التقدمية  تعتقد دائما ان الثورة لا بد لها ان تحدث يوما ما ، فلم تيأس ، بل ظلــّــت تحرّض عليها باستمرار . ولم تستسلم للواقع ابدا او تشكّـك في مقدرة الشعب على تحقيقها ، حتى بدون قيادة . كما ظلت ملتصقة به ،  تعمل بين صفوفه على انضاج الظروف التي بها تتحقق الثورة ، لانها قناعة ومبدا و يقين قائم على منهج ما فتئ يبرهن عن صحة تطبيقاته في شتى المجالات . انه منهج جدل الانسان الذي يجزم بان الثورة على الظلم حتمية طبقا للقوانين التي تحكم حركة التطور داخل المجتمعات .. وجدل الانسان  على اهميته  بسيط ويمكن تقديمها باختصار : في اطار القوانين الكلية الشاملة للوجود ، يتحول كل شيئ طبقا لقوانينه النوعية ، وينفرد الانسان بالجدل الذي به يتطوّر .  وليس الجدل باكثر من التناقض القائم داخله بين واقعه الذي يعيشه ، وبين مستقبله الذي يطمح اليه ، والذي يعبّر عنه بالحاجة ، فتنشأ بذلك مشكلات متنوعة ومختلفة وضرورية  ذات مضامين مادية او ثقافية ، يتوقف عليها تطور الانسان .  فاما ان يحــُــل مشاكله  ويتطور، واما ان يموت .
ولما كان الانسان الفرد غير موجود اصلا الا في مجتمع ، و ان الناس مختلفين حتما منذ البداية في مقدرتهم الجدلية  ، فان الاختلاف بينهم يصبح حتميا و لا يُحل حلا سلميا الا بالجدل الذي يصبح وقتها جدلا اجتماعيا يمكّـنهم من فرز الحلول بالاختيارالحر ّ ( الديمقراطية ) ، ثم تنفيذ ما وقع عليه اختيارهم ، فيتطور المجتمع . وهذا يحدث حين لا يطرأ على نشاطهم ما يعطل مسار التطور كما تقتضيه قوانينه  داخل المجتمع . اما اذا ابتـُـليَ المجتمع بالاستبداد ، و الاقصاء ، وتزييف الارادة  ، فلا يصبح المجال وقتها مفتوحا  لفشل الحلول وضياع الجهد البشري  فحسب ، بل يتعداه الى تخريب المجتمع وضياع مستقبله وسط هالة من الزّيف التي لا تلبث ان تصاحب كل الاختيارات القائمة على التفرّد بالراي  ليكون و قتها سببا في  تعطيل قوانين التطور متمثلة في الجدل الاجتماعي ، الذي لا يمكن الغاؤه ، بل انّه سيستمر ولو بالهمس بعيدا عن عيون السلطة و مُخبريها . وعندها لا يبقى مجالا لاسترجاع فعالية القوانين الا بقيام الصراع الاجتماعي الذي ستختلف اشكاله حتما حسب موازين القوى . وهي تبدا عادة بالمعارضة ، والنقد ، والاحتجاج ، ثم تتطور الى الصراع العنيف . اذ لا تلبث السلطة الحاكمة عادة ان تواجه تلك الافعال السلمية المشروعة بافعال غير مشروعة اساسها العنف والقمع ، التي لا تلبث بدورها ان تولـّد  المقاومة والاحتقان  ليتحول كل ذلك – عندما تتهيأ له الظروف – الى انتفاضة او ثورة ... وهو ما حصل في الواقع العربي على مدى عقود ... حيث كان تهديد الوجود للمواطن العربي  يحدث فعلا ، وتعطيل قوانين تطوره  واقعا ملموسا ، فاستمر الاحتقان لدى المواطن  يتراكم بالضرورة . وقد ظلت اشكال الاستبداد والفساد والتهميش تزداد باستمرا ، فتقابلها فئات المجتمع المستهدفة ، بالرفض وعدم الاستسلام  متـّخذة اشكالا متنوعة للتعـبيـرعن نفسها ، لان  المزيد من الخضوع  قد اصبح مستحيلا  بسبب افتقاد الانسان لابسط مقومات الحياة ، فكان لا بد من الثورة .. غير ان الكثيرين ممن لا يعون مدى فعالية هذه القوانين المؤثرة والمحدّدة لسلوك الانسان ، يتساءلون عن اسباب الثورة واسرارها ..  انها ارادة الحياة المحكومة بحتمية التطور ، لا اكثـر ولا اقل  .
 ( نشرية القدس العدد 8 ) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق