حديث في الهوية والانتماء (1) ..
عندما نتحدّث
عن الهوية نسأل بالضرورة من نحن ؟ و هذا
السؤال البديهي يتتـطلّب استحضار عدّة مسائل هامة منها :
أوّلا : ان
الهوية محدّدة موضوعيا بالمجتمع الذي ننتمي اليه . لان الهوية باختصار تتحدّد
ملامحها بخصائص ومكوّنات موضوعـية ملموسة
في المجتمع يمكن اختبار وجودها في الواقع في كل حين ، اهمها الدين الاوسع
انتشارا في المجتمع واللغة المتداولة بين الناس ..
ثانيا : ان
الهوية ليست مسالة شخصية مزاجية او عاطفية
او نفسية يحدّدها كل واحد على هواه
، بل هي محدّة بطبيعة المجتمع ككل حتى وان
كان يحتوي على فـئات او مجموعات غير متجانسة . لذلك فان الهوية هي مظلـّة جامعة
تنضوي تحتها كل الفئات بقطع النظر عن اصولها
المختلفة . فلا يجوز التنصّل منها ما دمنا شركاء في
المجتمع الذي تتحدّد هويته باغلبية سكانه.
ثالثا : ان
الهوية تتحدد ملامحها بمحدّدات تاريخية
وثقافية وحضارية تساهم مجتمعة في تكوين شخصية المجتمع وليس من خلال المحدّدات
العرقية او الجغرافية التي ينتمي اليها الافراد.
رابعا : ان
لكل مجتمع هوية واحدة في مرحلة تاريخية معينة مقتصرة عليها ، تشمل كل ما سبقها ولا
تلغيه ... لذلك فان كل المجتمعات الانسانية وهي تتطوّر عبر تاريخها تصنع هويات
مختلفة من عصر الى عصر دون ان تتوقف حركة
تطوّرها ، فتتغير هويتها تبعا لذلك ، ووفقا للمراحل التي تمرّ بها في كل
عصر ، تاركة ملامح تلك الهويات في المعالم
الحضارية الباقية لتكون بدورها عامل تنوّع
وثراء للمجتمع دون ان تكون معبّرة عن
الهوية في مراحل لاحقة . لذلك فان مجتمعنا قد مرّ بمراحل تاريخية شهد خلالها عدة تشكـّـلات للهوية سواء في العصور القديمة
او الوسطى ، كالهويات القبلية والشعوبية ، حيث كانت تلك البنى الاجتماعية
متفرّقة ومتصارعة ، حتى اتيحت لها
الفرصة في صدر الاسلام لتتوحّد وتنصهر
في بنية اجتماعية واحدة خرجت من
خلالها من الاطوار القبلية والشعوبية التي كانت سابقا محدّدة لهويتها ، لتدخل بها في مرحلة التكوين القومي الذي تشكّلت به ملامح جديدة للهوية دون ان
تلغي مظاهرها ومعالمها السابقة ، الباقية
في شكل موروث حضاري يبرز أهمية تلك
المراحل في حياة مجتمعنا ، و دورها في تشكل هويته الحالية ، بفضل ما أسهم به السابقون في تحديد المصير الذي سار
اليه مجتمعنا ، وبما بقي منها متداولا في
حياة الناس او بما بقي في وجدانهم وعواطفهم تجاه ذلك الموروث .. ونذكر
من الهويات السابقة حضارات القبائل والممالك العربية قبل الاسلام ، والحضارات
الفرعونية والفنيقية والبابلية والقرطاجية
، والبربرية .... التي ينبغي ان تكون عوامل تنوّع وثراء للجميع دون محاولة للرجوع بالمجتمع الى الوراء لاحيائها وقد اصبحت جامدة ..
ودون محاولة تعميمها وقد اصبحت معـزولة ومنحصرة في نطاق ضيق ..
ودون محاولات تقسيم للمجتمع
طبقا لهويات دينية وعرقية وقد تم
تجاوزها بالوحدة القومية بحكم
سنّة التطوّر ، ودون محاولة
الانزواء في اطار تلك الهويات الضيقة التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من الهوية الجامعة
للمجتمع ...
خامسا : ان
هوية اي مجتمع غير خالدة في الزمان ، بل هي متغـيـرة طبقا لتطوّره وتغـيـّر خصائصه
الحضارية والبشرية ، وهو ما يفسّر تعدد
الحضارات وتعاقبها في الزمان والمكان ...
سادسا : ان كل الحضارات السّابقة في مجتمعنا
هي حضارات قبلية او شعوبية ، نسبة الى تلك القبائل والممالك التي استقرّت خلال مراحل
تاريخية معينة دون ان تتحوّل الى حضارات قومية ، وقد ظلّت صراعاتها الداخلية الى جانب الغـزو الخارجي الفارسي والروماني والبيزنطي
يمنعانها على مدى قرون طويلة من الانصهار
والتحوّل الى أمم . بينما تـُعتبر حضارتنا
الحالية حضارة قومية منذ ان جمع الفتح العربي الاسلامي كل تلك القبائل والشعوب في
كيان واحد تشكّلت به الامة العربية
الحالية ، بهويتها العربية الاسلامية .
سابعا : لا
تتناقض هوية المجتمع الواحد مع الهويات الخاصة بتلك الجماعات التي اضاف اليها التطور الاجتماعي هوية جامعة جديدة
هي هويتها القومية كدائرة انتما تشمل جميع الدوائر الصغرى السابقة على ظهور
المجتمع القومي ..
لا يقوم اذن
اي مبرّر للخلط فيما يخص هوية مجتمعنا كما يحاول ان يصوّره البعض .. فمجتمعنا
ككل المجتمعات في الدنيا مرّ بمراحل تاريخية مختلفة عاش فيها اجدادنا واجداد
اجدادنا الغابرين والاوائل حياة مشتركة صنعوا من خلالها هوية مجتمعاتهم
المتعاقبة التي كانوا ينتمون اليها ،
تاركين لنا جزءا من عادتهم وتقاليدهم المتداولة ، ومعالم تاريخية وحضارية منقوشة او مشيّدة تعبّر عن
هويتهم . وكلّها جزء من ماضينا الذي لا يمكن الغاؤه حتى وان كان فيه ما لا يعجبنا ، لانه منسوب في ظروفه الى تلك
الجماعات التي عاشت قبلنا .. لكن مجتمعنا الحالي قد تحدّدت هويته منذ الفتح العربي
الاسلامي بعنصرين هامين يحدّدان معا هويته الحالية ، هما العروبة والاسلام . ونحن طبقا لذلك ، وبكل بساطة شعب عربي مسلم
.
( نشرية القدس العدد 9 ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق