بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 12 مارس 2012

حديث في الهوية والانتماء ..

حديث في الهوية  والانتماء .. 

(1)

عندما نتحدّث عن الهوية  نسأل بالضرورة من نحن ؟ و هذا السؤال البديهي يتتـطلّب استحضار عدّة مسائل هامة منها  : 

 أوّلا : ان الهوية محدّدة موضوعيا بالمجتمع الذي ننتمي اليه . لان الهوية باختصار تتحدّد ملامحها بخصائص ومكوّنات موضوعـية ملموسة  في المجتمع يمكن اختبار وجودها في الواقع في كل حين ، اهمها الدين الاوسع انتشارا في المجتمع واللغة المتداولة بين الناس ..

ثانيا : ان الهوية ليست مسالة شخصية مزاجية او عاطفية  او نفسية  يحدّدها كل واحد على هواه ، بل هي محدّة بطبيعة المجتمع ككل حتى  وان كان يحتوي على فـئات او مجموعات غير متجانسة . لذلك فان الهوية هي مظلـّة جامعة تنضوي تحتها كل الفئات بقطع النظر عن اصولها  المختلفة  .  فلا يجوز التنصّل منها ما دمنا شركاء في المجتمع الذي تتحدّد هويته باغلبية سكانه .

ثالثا : ان الهوية تتحدد  ملامحها بمحدّدات تاريخية وثقافية وحضارية تساهم مجتمعة في تكوين شخصية المجتمع وليس من خلال المحدّدات العرقية او الجغرافية التي ينتمي اليها الافراد  . 

رابعا : ان لكل مجتمع هوية واحدة في مرحلة تاريخية معينة مقتصرة عليها ، تشمل كل ما سبقها ولا تلغيه ... لذلك فان كل المجتمعات الانسانية وهي تتطوّر عبر تاريخها تصنع هويات مختلفة من عصر الى عصر دون ان تتوقف حركة  تطوّرها ، فتتغير هويتها تبعا لذلك ، ووفقا للمراحل التي تمرّ بها في كل عصر  ، تاركة ملامح تلك الهويات في المعالم الحضارية الباقية  لتكون بدورها عامل تنوّع   وثراء للمجتمع دون ان تكون معبّرة عن الهوية في مراحل لاحقة . لذلك فان مجتمعنا قد مرّ بمراحل تاريخية شهد خلالها  عدة تشكـّـلات للهوية سواء في العصور القديمة او الوسطى ، كالهويات القبلية والشعوبية ، حيث كانت تلك البنى الاجتماعية متفرّقة  ومتصارعة ، حتى اتيحت لها الفرصة   في صدر الاسلام  لتتوحّد  وتنصهر  في بنية اجتماعية واحدة  خرجت من خلالها من الاطوار القبلية والشعوبية التي كانت سابقا محدّدة لهويتها  ،  لتدخل بها في مرحلة التكوين القومي  الذي تشكّلت به ملامح جديدة للهوية دون ان تلغي  مظاهرها ومعالمها السابقة ، الباقية في شكل  موروث حضاري يبرز أهمية تلك المراحل في حياة مجتمعنا ، و دورها في تشكل هويته الحالية ،  بفضل ما أسهم به السابقون في تحديد المصير الذي سار اليه مجتمعنا ،  وبما بقي منها متداولا في حياة الناس او بما بقي في وجدانهم وعواطفهم تجاه ذلك الموروث  ..  ونذكر من الهويات السابقة حضارات القبائل والممالك العربية قبل الاسلام ، والحضارات الفرعونية والفنيقية والبابلية والقرطاجية  ، والبربرية .... التي ينبغي ان تكون عوامل تنوّع  وثراء للجميع دون محاولة للرجوع  بالمجتمع الى الوراء لاحيائها وقد اصبحت جامدة .. ودون محاولة تعميمها  وقد اصبحت معـزولة ومنحصرة في نطاق ضيق .. ودون محاولات  تقسيم  للمجتمع  طبقا لهويات دينية  وعرقية  وقد  تم تجاوزها  بالوحدة القومية  بحكم  سنّة  التطوّر ، ودون محاولة الانزواء في اطار تلك الهويات الضيقة التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من الهوية الجامعة للمجتمع ... 

خامسا : ان هوية اي مجتمع غير خالدة في الزمان ، بل هي متغـيـرة طبقا لتطوّره وتغـيـّر خصائصه الحضارية والبشرية  ، وهو ما يفسّر تعدد الحضارات وتعاقبها  في الزمان والمكان ... 

سادسا : ان كل الحضارات السّابقة في مجتمعنا هي حضارات قبلية او شعوبية ، نسبة الى تلك القبائل والممالك التي استقرّت خلال مراحل تاريخية معينة دون ان تتحوّل الى حضارات قومية ، وقد ظلّت صراعاتها الداخلية  الى جانب الغـزو الخارجي الفارسي والروماني والبيزنطي  يمنعانها على مدى قرون طويلة من الانصهار والتحوّل الى أمم .  بينما تـُعتبر حضارتنا الحالية حضارة قومية منذ ان جمع الفتح العربي الاسلامي كل تلك القبائل والشعوب في كيان واحد  تشكّلت به الامة العربية الحالية ، بهويتها العربية الاسلامية .

سابعا : لا تتناقض هوية المجتمع الواحد مع الهويات الخاصة بتلك الجماعات التي  اضاف اليها التطور الاجتماعي هوية جامعة جديدة هي هويتها القومية كدائرة انتما تشمل جميع الدوائر الصغرى السابقة على ظهور المجتمع القومي ..

لا يقوم اذن  اي مبرّر للخلط فيما يخص هوية مجتمعنا كما يحاول ان يصوّره البعض .. فمجتمعنا ككل المجتمعات في الدنيا مرّ بمراحل تاريخية مختلفة عاش فيها اجدادنا واجداد اجدادنا الغابرين والاوائل حياة مشتركة صنعوا من خلالها هوية مجتمعاتهم المتعاقبة  التي كانوا ينتمون اليها ، تاركين لنا جزءا من عادتهم و تقاليدهم المتداولة ، ومعالم تاريخية وحضارية منقوشة او مشيّدة تعبّر عن هويتهم . وكلّها جزء من ماضينا الذي لا يمكن الغاؤه حتى وان كان فيه  ما لا يعجبنا ، لانه منسوب في ظروفه الى تلك الجماعات التي عاشت قبلنا .. لكن مجتمعنا الحالي قد تحدّدت هويته منذ الفتح العربي الاسلامي بعنصرين هامين يحدّدان معا هويته الحالية ، هما العروبة والاسلام  . ونحن طبقا لذلك ، وبكل بساطة  شعب عربي مسلم  .  

( 2 ).

لم يكن  هناك بشر على الاطلاق في اي عصر من العصور،  القديمة منها والحديثة ، قد عاش دون ان يكون حاملا في ذاته لعـناصر هويته حتى لو كان يقيم خارج حدود تلك الهوية ، او حتى وهو يتنكّر لها لاي سبب من الاسباب .  لان عناصرها  ومكوّناتها  بالنسبة لاي شخص ، تنصهر مع مكوّنات وعناصر شخصيته قبل ان يعي مسالة الهوية ذاتها ، فلا حول له ولا قوّة على  التخلّص منها حتى وان كان ينكرها .
والهوية بهذا المعنى تتجلى في كل ما يعبر عنه الفرد تلقائيا ، من انماط ثقافية وعادات وتقاليد مستقرة في اعماقه وسلوكه اليومي ، دون ان يكون أي منها خاصا به وحده ، وهو ما يؤكد تلك الشراكة الواسعة فيما هو مستقرا ايضا لدى الجماعة  التي ينتمي اليها ، ليتحول كل ذلك في شكله الجماعي الى شخصية اجتماعية هي لم تتكون اعتباطا ، بل هي  حصيلة تفاعل تاريخي نشأ عبر الزمن بين جميع مكوّنات المجتمع  ( البشر والارض والظروف ) ، واثمر تلك العناصرالمميزة له ، الشاملة  للغة والثقافة والعادات  والتقاليد ... كأفضل تعبير عن التطور الذي يصنع ملامح شخصيته الحضارية التي يتميز بها ... 
والهوية بهذا المعنى ، لا يمكن ان تعبر عن نفسها وعن وجودها الا اذا كانت عناصرها حية ، متداولة في المجتمع ، في حين  تكون  العناصر المعبرة عن  الحضارات القديمة  جامدة لا تعبّر الا عن الماضي ... وهكذا يـفترض ان تكون الهوية ضامنا لوحدة المجتمع  فلا يختلف المنتمون اليه حول مضامينها ،  ولا تؤدي الى الفرقة والصراع على تلك المضامين المشتركة بينهم جميعا ، بل لعلها تكون عامل استقطاب واستقرارا للمجتمع الذي لا يمكن ان يتطوّر على الاطلاق الا على اسس ثابتة  تتعلّق بسلامة الوجود قبل كل شئ ...
هذه ناحية اولى لازمة ومفيدة حيث تكون اي خطوة في المجتمع يبذ لها  ابناؤه نحو الحفاظ على سلامته هي تهيئة الارضية الملائمة لتطوّره . فلا يمكن مثلا الحديث عن التقدم في ظلّ اثارة النّعرات المذهبية والعرقية والفتن التي تصنّف الناس على اسس  تعدّد الهوية ، فيؤدّي ذلك الى الفرقة والتناحر والصراع الذي يعصف بوحدة المجتمع او بوجوده ذاته ..
لذلك فان وَعَى الناس بهذه الحيثيات ، يجعلهم يستجيبون لما تقتضيه المصلحة العامة ، التي لا يمكن  تحقيقها دون مراعاة لتلك القواسم المشتركة بينهم ، في ظل هامش الاختلاف  بين مختلف مكوّنات المجتمع  .. أما عن هذه القواسم في مجتمعنا ، فهي تتمثل تحديدا في اللغة العربية التي بها يتخاطب الجميع ، والدين الاسلامي الحنيف الذي صنع لنا كيانا واحدا لم يكن موجودا الا بانتشاره من خلال الفتح ، حتى صرنا كما نحن امة عربية مسلمة ، عمرها اليوم أكثر من اربعة عشر قرنا كاملة ..
الناحية الثانية المهمّة في الموضوع هي ان لا يقتصر الشعور بالانتماء  على مجرّد التعبير  السلبي عن الولاء ، بل  يجب ان يكون في مخططات الدولة حيّزا هاما لخدمة الهوية العربية الاسلامية من خلال سياسة واضحة المعالم  على المدى القريب والبعيد مثل :
ايلاء الدين المكانة التي يستحقها ، واحياء شعائره وتحقيق مقاصده في المجتمع . 

 - اعطاء اللغة العربية المكانة التي تستحقّها  من خلال تعريب جميع مراحل التعليم والوثائق المتداولة في مؤسسات الدولة.

-  جعل اللغة اكثر مسايرة للتطوّر العلمي والمعرفي في شتى المجالات من خلال النهوض بالترجمة والبحث العلمي .

-  اخضاع المنظومة التربوية كاملة  لخدمة الهوية الحضارية والدينية للمجتمع دون انغلاق على الحضارات الاخرى . 

- ربط مؤسسات الدولة والمجتمع  بالمحيط العربي الاسلامي في جميع المجالات للتواصل على اسس وحدة المصير .

- تفعيل مسألة الانتماء من خلال الانتصار للقضايا القومية التي تربط كل مواطن بامته .                                                
- تفعيل الهوية القومية في المجالات الثقافية والابداعية والرياضية والاقتصادية  من خلال خلق مجالات وآليات حقيقية  لدعم الوحدة كوحدة السوق ودعم التبادل التجاري وإلغاء تأشيرة الدّخول والوحدة الـنـّقدية وغيرها ...

هكذا يكون التعبير عن الانتماء ايجابيا وفعّالا ، يساهم في استقرار المجتمع ، وحل مشاكله ، وتطوره ، اما  الحديث عن الهوية دون مراعات لما يترتّب عنها من استحقاقات ،  فهو لا ينفع  ولا يمكث في الارض ..  

( القدس ) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق