بين الدين والمجتمع .
قبل
الاسلام كانت البشرية تمرّ بالمراحل الاولى البدائية التي ميزت المجتمعات
العشائرية والقبلية في كل مكان ، فكانت تلك الحقبة الطويلة تتميز بالعلاقات القائمة أساسا على الروابط
الدموية ، بما فيه من عـزلة
وانغلاق وعدوانية في علاقتها بالآخر ... بينما كانت تشوب علاقاتها
الداخلية نزعة نحوالسيطـرة ، والاضطهاد ، والانحراف الخ ..
ولعل انتشار الكثير من مظاهر الفساد التي حاربها الدين منذ البداية ، دليل واضح على
ما افرزته تلك النشاة الاولى .. مما
استوجب بعث الرسل لاصلاحها وهدايتها .. و لما كانت
البشرية في طفولتها الاولى ، فان الديـن كثيرا ما كان مسايرا للوعي الانساني حين
اعتمد في تلك المراحل على الحجج الملموسة المتمثلة في المعجزات بدل الحجج العقلية
المجرّدة التي جاءت متأخـرة في عصر القرآن .. فبعـث الله النبيين داعين الى
التوحيد والهداية وترك المعاصي ، وكان لكل قوم نبي أو رسول من انفسهم ، فـتـعددت
الرسالات بتعـدد الاقوام رغم بقاء مضامينها .. ولعل من يتامّل نظـرة الاسلام للرسالات السابقة
كما وردت في القرآن الكريم ، يدرك كيف كان
الدين يتطور في علاقاته بتطور المجتمعات حيث كان يغـيـر اساليبه مع المحافظة على جوهـره
، حتى ان الله سبحانه قد وصف الرسل و اتباعهم بالمسلمين .. قال تعالى : ( وإذ يرفع
إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا أنك أنت السميع العليم ربنا
وإجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) البقرة 127 ، 128. وقال ايضا : (أم
كنتم شهداء إذ حضر يعـقوب الموت إذ قال لبنيه ماتعـبدون من بعدي قالوا نعـبد إلهك
وإله أبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون ) البقرة 133. .. كما قال على لسان
نوح عليه السلام وهو يخاطب قومه : ( إن
توليتم فما سألتكم من أجـر أن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين ) يونس
-72 .. و قال تعالى على لسان موسى عليه السلام : ( ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا
مسلمين ) الأعراف 126 . كما أخبرنا سبحانه عن قوم عيسى عليه السلام فقال : ( وإذ
أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا أمنا وأشهد بأننا مسلمون ) المائدة
111 .. بل ان الله قد قطع الشك في الدلالة على هذا المعـنى الاجمالي لجوهـر
الرسالات السماوية حين ردّ على من يجادل في انتساب ابراهيم عليه السلام الى
الديانات السابقة وهو السابق عليها جميعا فيذكرها مرة واحدة ثم يقول : ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ
حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ( آل عمران:67 ) .
لا يتعارض
اذن جوهـر الرسالات مع جوهر الاسلام .. غير ان الدين الاسلامي الذي مهّدت له جميع
الاديان السابقة قد جعله الله خاتما لها و
موحدا لجميع الناس باختلاف الوانهم والسنتهم لذلك اخرجه للناس كافة ، و ميّزه اولا بحججه
العقلية ايذانا بدخول البشرية في مرحلة
النضج العقلي والادراك التي تمكـن البشر من الاختيار الحرّ القائم على التمييز بين
الخير والشر ، والكفر والايمان .. فكان الاسلام دين العقل والمنطق حيث كان دائما يحيل الحجة الى العقل ( افلا تنظـرون
، افلا تعقلون ، افلا تبصرون ، افلا يتدبرون ، افلا يتفكرون .. ). .. كما ميزه
الله ثانيا بالمسايرة للتطور فكانت احكامه عامة تقبل الاستنباط والاجتهاد في كل
زمان ومكان .. الى جانب كونه غير خاص بنمط من انماط المجتمعات في أي عصر ، اقرارا
بانتقال البشرية الدائم والمستمر من الاطر الاجتماعية الضيقة الى الاطر الاوسع و
الاشمل على المستوى الانساني . أي ان جميع المراحل التي تمر بها البشرية في كل عصر
ليست خالدة في الزمان ، و هي متغيرة حتما ، ومتطوّرة من طور الى طور عندما تستنفذ تلك المكونات طاقاتها فتصبح تلك العلاقات
المقتصرة عليها عائقا امام تطوّرها و تقدّمها ، وعندها يحدث تجاوز عن طريق الخروج
من تعدد الكيانات الى الوحدة والانصهار طويل المدى الذي يؤدّي الى ظهور كيانات جديدة اكثـر مقدرة على التطور .. فيتمّ
احتواء جميع المكوّنات السابقة لتصبح مجـتمعة
عـناصر اثراء وتـنوّع لا تقوم الوحدة الا
عليها .. بل يظلّ يغـني بعضها بعضا بتـنوّعه و اختلافه ليكون ذلك كله نموذجا لتنوّع
الخاص في نطاق العام ، و تـنوّع الجزء في نطاق الكل حتى يصير الخاص الذي يخص الجزء ملكا للجميع .. فتصبح مثلا جميع
الاسر والعشائر والقبائل في عصر الامم ، جزءا لا يتجزأ من الامة .. الذين يتميّزون
داخلها بانتماءهم القومي عن غـيرهم دون امتياز . فيكوّنون معا شعبا واحدا ،
استقر على ارض واحدة ، فانتج خلال
تفاعله الحر ، التلقائي ، الطويل ، ثقافته الخاصة و تاريخه الخاص وحضارته الخاصة ولغته
التي يتواصل بها مع شركائه الخ .. كل هذا لا يسير في الكون دون ضوابط بل هو بتدبير
واحكام من الله الذي جعله سنة الاهية لا يجدي احدا انكارها ولا يقدر بشرا على
تغييرها .. قال تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ خَبِيرٌ
. ( الحجرات:13) .
ان هذه الآية لا تدع
مجالا للشك في سنة التطور التي يجب ان نتامّلها و نكتشف اسرارها بدل انكارها . كما
انها تبين اهم مقصد من مقاصد الدين في ظل تلك الصورة التي خلق الله عليها عباده :
حيث الاصل هو الاختلاف والتنوع والتعدد الذي لا يسمح بالتطور الا عندما يتحقق
التعايش والتعاون بين جميع البشر في اطار التقوى دون بغي من احد على احد .. لذلك
كان للدين مضمونا واحدا ، وجوهرا واحدا هو التوحيد ، والرجوع الى الله لتحقيق كل
القيم الانسانية النبيلة التي اشتركت فيها
جميع الرسالات ..
ان هذه الصورة
الاجمالية مهمّة لمعـرفة ما حصل من مسايرة و تناسق بين التطور البشري وتطور الأديان
. فعندما انتقلت البشرية من اطوار بدائية الى اطوار اكثر شمولا واكثر ارتقاء الى
الوحدة الانسانية المنشودة ، كان الدين يتغير كذلك ويتطوّر في اساليبه متحوّلا من
الخصوصية القبلية لكل رسالة الى الانفتاح على المجتمعات المجاورة مثلما حصل مع
موسى عليه السلام الذي توجه الى مصر لمخاطبة فرعون ، ومثلما فعل السيد المسيح عليه
السلام ، الذي بشر قومه برسالة محمد (صلى الله عليه وسلم ) .. وهكذا تم التمهيد
لاخراج الرسالة من اطارها القبلي ( القوم ) ، الى الناس كافة ، بلا قيود ، و لا حدود ..
وقد كان هذا التطور
على مستوى شمولية الرسالة الانسانية، باعثا
جديدا لاخراج تلك المجتمعات القبلية من عزلتها ، فاتحا أمامها آفاقا جديد للانصهار
و الوحدة على غير الاسس القديمة القائمة على رابطة الدم .. وقد كانت أول خطوة في
سبيل ذلك تاسيس دولة المدينة بعد الهجرة ،
ثم توسيع قاعدتها الى مكة بعد الفتح .. وقد قطع الاسلام قطعا نهائيا مع الرجوع الى الوراء حين اكد بان الوحي قد
انتهى ، و ان الدين قد اكتمل في ظل الشكل الاجتماعي الموجود .. حين قال : ﴿
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا ﴾ ( المائدة 3 ) . و عندما اجزم في قوله ( ان الدين عند الله
الاسلام ) ( آل عمران 13 ) و ان من يبتغي
غير ذلك لا يقبل منه .. حيث قال : ( ومن يبتغ غير
الإسلام دينا فلن يقبل منه ) . ( آل عمران 85 ) ، فانه قد
قطع ايضا مع الرجوع الى العلاقات القبلية القديمة باعتبار ما تم تاسيسه في حياة
النبي صلى الله عليه وسلم ، تاركا الآفاق
مفتوحة للمزيد من التطوّر ، والوحدة بين البشر .. والله أعلم .
( نشرية القدس العدد 55 ) .