لقد عانت تونس بعد الثورة من انحياز الحكومات المتـتالية الى مشاريع خاصة
لا علاقة لها بمشروع تحقيق اهداف الثورة .. حيث قامت الحكومة الأولى والثانية في
ظل الصراعات الحادة التي قسمت المجتمع ، بين من ينادي بالتغـيـيـر الجذري واسقاط المنظومة السابقة من
أساسها .. وبين من يسعى الى سـرقة الثورة وتحويلها الى مجـّرد عمليات تجميل
للواجهات الموجودة قـبـل 17 ديسمبر ..
ولقد جاءت الانتخابات بعد ذلك مخـيـبة للآمال حين تبـيّـن للجميع - بمن فـيهم حتى الذين صوّتوا للفائزين بمقاعد المجلس التاسيسي - أن سيناريو الانحياز السلبي للمشاريع الحزبية تواصل بأكثر حدة ودهاء على حساب تحقيق أهداف الثورة المعـروفة في شعاراتها : الخبـز والحرية والكـرامة والـتـشغـيـل ..
ولعل ما زاد الأمر تعـقـيـدا هو ظهور التشدّد لدى الجماعات التكفـيـرية التي أصبحت تهدّد الأمن
والاستـقـرار في المجتمع بالانتـقال إلى الاغـتيالات السياسية واستهداف عـناصر
الامن والجيش ، ممّا دفع أطراف عـدّة - بعد تلك الظروف العصـيـبة - الى المناداة بتكويـن
حكـومة وطـنـيـة " محايدة " .. !!
وفعلا .. فقد تشكلت الحكومة
الحالية لهذا الغـرض : تحقيق الحياد من خلال الوقوف على نفس المسافة من جميع
الأحزاب ، للتخفـيف من حدة الانقسام الذي حصل داخل المجتمع .. والانكباب على دراسة
الواقع لإيجاد حلول مستعجـلة ، وتهـيـئة الأجواء المناسبة للانتخابات القادمة ... فأين
الحكومة من تلك المطالب ؟
أن المتـتبع لنشاط الحكومة مباشرة
بعد استلامها لمهامها ، يلاحظ انطلاقها في البحث عن حلول اقـتصادية من خلال
اتباع نفس التوجّه للسياسات السابقة ، المتمثـلة في التعـويل الكامل على الاقـتـراض
والتدايـن الخارجي .. وهي سياسة معـروفة مسبّقا بنتائجها الكارثية على استقـلالية
القرار الوطني ، والسيادة الوطنية .. انها خيارات
الخضوع لشروط صندوق النقد الدولي ،
والمنظومة الرأسمالية العالمية ، المعـروفة بأنها لا تمنح أموالها للمقـترضين الا بالموافقة التامة على ما تمليه
من شروط مؤثرة على السياسة الداخلية والخارجـية
للدولة المستـفـيـدة ..
ففي السياسة الداخلية يؤدي التعويل على الاقـتـراض الخارجي الى
الوقوع في فخ التبعـية والهيمنة من خلال مقايضة الأموال الممنوحة بالتـنازلات التي
تمسّ مباشرة سيادة الدولة .. مثل تقديم الامتيازات الخاصة بالحضور العسكـري تحت
مسميات التعاون الفـني والمناورات المشتـركة
، أوتقـديم التسهـيلات الخاصة بالبعـثات الدبلوماسية التي يمكن أن تسعى من خلالها الدولة المانحة لتوسيع
تمثـيلها بصفة غـيـر عادية لاستغلاله في التجسّس .. الى جانب " التعاون
" في مجلات التعليم والثقافة ، الذي تعمل من خلاله تلك الدول عل تمرير
سياساتها ومناهجها للتأثـيـر في الحاضر والمستقبل معا .. كما تـتضمّن الشروط
المجحفة لصندوق النقد الدولي ، طلب التدخل في وضع الخطط الاقتصادية للدولة في شكل
مقـتـراحات ونصائح ، وهي في الواقع املاءات لا يمكن تجاهلها ، تصل أحيانا إلى
المطالبة بالتـفـويت في المنشآت العامة المعـروف " بالخـوصصة " ، ورفع الدعم
عن المواد الأساسية ، ثم المطالبة بتقـديم التـنازلات في مجال الاستثمار وإبرام
الصفقات الخاصة باستخراج الثروات الطبيعـية
، وتوجـيه النشاط الاقـتصادي من خلال التـدخل في تحديد الشركاء الاقـتـصاديـيـن
الخ ..
أما في السياسة الخارجـية فان التـبعـية ستـكـون أكثـر وضوحا من خلال ارتهان القـرار الوطـني في بعض القضايا الحساسة والجوهـرية المتعلقة خاصة بالصراع العـربي الصهيوني .. حيث تكون التنـازلات في شكل تعاون مقـنّع معه ، كحضور ندوات دولية ذات صبغة اقـتصادية أوعلمية تشارك فـيها إسرائيل ، أو قـبول التـنافس الرياضي معها في إطار المنافسات الدولية ، أو إبرام الصفقات الاقـتـصادية والتجارية مع اطراف غـيـر رسمية ، وتبادل الوفود السياحـية الخ .. وهي سياسة ممنهجة تؤدي بالضرورة الى التعـوّد والقـبـول والارتياح النفسي لدى عامة الشعب على هذا الكيان الغاصب ، وصولا الى الاعـتـراف الكامل بوجوده والتطبـيع معه لانهاء الصراع في.آخرالمطاف ..
وبالفعل فان زيارة وفد السياح الصهيوني الى تونس ، هي أولى بوادر الخضوع في
سياسة الحكومة الجديدة .. ويبقى الغـريب
في الأمر ، هو المبرّرات التي تم تقديمها - في سياق الرّد على حملة الادانة
الواسعة لهذا السلوك الخطير - والمتمثلة في : " النهوض بالاقـتـصاد " و
" عدم تسـيـيس السياحة " و " حيادية الحكومة " الخ .. وكلها في الواقع مغالطات لا يقبلها الا المغـفـلين
.. حيث لا يصدّق عاقل بأن مستقـبل السياحة صار رهـينة لقدوم مائة سائح صهيوني
.. !!
كما لم يقصد أحد من قـبل بأن الحياد المطلوب من الحكومة هو حياد تجاه اسرائـيـل .. !! ان
مثـل هـذا السلوك يعـبّـر في الواقع عـن الانحـيـاز للعـدو ولـيـس العـكـس .. في حـيـن
كان المطـلوب من الحكـومة " الموقـّـرة " أن تكون على الحياد الايجابي في
علاقة مع الأحزاب ، أي على مسافة واحدة من جميع الفـرقاء السياسيين لخدمة المرحلة
الانـتـقـالـية لا أكـثـر …. وهذا
الأكـثـر كان التطبيع الذي سيظل جرما لا يغـتـفـر حتى وان كان بلا قانون .. !! أما في السياسة الخارجـية فان التـبعـية ستـكـون أكثـر وضوحا من خلال ارتهان القـرار الوطـني في بعض القضايا الحساسة والجوهـرية المتعلقة خاصة بالصراع العـربي الصهيوني .. حيث تكون التنـازلات في شكل تعاون مقـنّع معه ، كحضور ندوات دولية ذات صبغة اقـتصادية أوعلمية تشارك فـيها إسرائيل ، أو قـبول التـنافس الرياضي معها في إطار المنافسات الدولية ، أو إبرام الصفقات الاقـتـصادية والتجارية مع اطراف غـيـر رسمية ، وتبادل الوفود السياحـية الخ .. وهي سياسة ممنهجة تؤدي بالضرورة الى التعـوّد والقـبـول والارتياح النفسي لدى عامة الشعب على هذا الكيان الغاصب ، وصولا الى الاعـتـراف الكامل بوجوده والتطبـيع معه لانهاء الصراع في.آخرالمطاف ..
( نشرية القدس العدد 121 ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق