لقد تعرّضت مصر صباح يوم 5 يونيو 1967 - ومعها ثلاث دول عربية أخرى هي سوريا و الاردن والعـراق - لضربة جوية قاسية ومباغـتة ، تبعـتها هجمات برية كاسحة ، أدت منذ الساعات الأولى الى تحطـيم الطائـرات والمعـدّات الأساسية في المطارات ، ثم تلاها احتلال اراضي عـربية شملت ما بقي من فلسطين والجولان وسيناء في ستة ايام .. وقد كان تحطيم القدرات العسكرية بالنسبة للجيوش العـربية معـناه فقدانها لأي غطاء جوي وأي سند ميداني لقواتها البرية التي لحقت بها الهزيمة قبل أن تدخل المعـركة .. هذا ما حصل فعلا ، وهو ما أدخل الفجيعة والحسرة والألم والبكاء واللّوعة حتى الهذيان في صفوف المصريين والعـرب من المحيط الى الخليج دون استـثـناء .. وفعلا قد كانت الهزيمة ثقـيلة ومرّة على الجماهير المتطلعة الى النصر ، مما جعل الطابور الخامس في مصر والوطن العـربي يتـلقـف الحدث كأفضل ما يظفـر به ، ليستغـله بكل انتهازية ، ويوظفه ليس ضد القيادة القومية في القاهرة المتمثلة في جمال عبد الناصر فحسب ، بل لضرب المشروع القومي من خلاله ، والتشكيك في تلك الاحلام والشعارات المرفوعة طـيلة فـتـرة الخمسيـنـات والستيـنـات من القرن العشرين .. !! والواقع فان المفاجأة كانت صادمة ليس للجماهير وحدها ، بل لعبد الناصر نفسه الذي سارع يوم 9 يونيو الى الاعلان عن تحمله الكامل للمسؤولية وتـنحـيه عن منصبه كرئيس للجمهورية وعن جميع مهامه في الدولة .. ورغم أن ما حدث يمكن ان يثير العديد من ردود الفعل العـنـيـفة التي تعـبّـر عن بالغ التأثـر وعمق الشعور الوطني والقومي كما فعل بعض الشعـراء والسياسيين الصادقيـن في تلك الأيام العصيـبة ، الذين اجتهدوا فمنهم من أصاب ومنهم من أخطأ .. الا ان الانسان العاقل مهما كان خلافه مع عبد الناصر ، لا يمكن أن يتخيّـل ما وصلت اليه الامور بالنسبة للبعض الذين تحوّل حقدهم الى شماتة وجنون وخيانة في نهاية المطاف .. !! اذ ما معـنى أن يـُـقدم انسان مخلص لوطـنه على السجود " شكرا لله " على هـزيمة عبد الناصر كما ذكر القـرضاوي في مذكـراتـه متحدّثا عما فعله الشيخ متولي شعراوي .. ؟؟ وكـيـف يـقـبـل انسان عـاقـل ، وبه ذرّة من الوطـنـيـة أن يُـظهـر الفـرح والشماتـة لهـزيمة وطـنه واحتـلال أرضه لمجـرّد اخـتـلافه مع الحاكم الذي يخـوض معـه صـراعـا على الحـكـم ، معـتـبـرا أن ما حـدث فـي ذلـك اليوم كان عقـابا له من الله كما جاء على لسان محمد بديع مرشد الاخوان في تصريح لجريدة الأهرام في 18 / 3 / 2011 ..؟ !
لا شـكّ ان مثل هذا السلوك الغـريب الصادم يترك أثرا في النفس البشرية السوية أعظم من أثر الهـزيمة ذاتها ، ويـثـيـر في نفس الوقت أسئلة كـثـيـرة ذات أهمية تساعد الاجابة عـنها في فهم سلوك هؤلاء منذ ذلك الوقت الى الآن :
فمن ناحـية تضخـيم الهـزيمة ، هل ما حدث يوم 5 يونيو أعظم وأسوء من هـزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية ؟ أو من هـزيمة روسيا التي تفكّـكت دولها خلال الحـرب الباردة ؟ أو اليابان التي ضُربت بالقـنابل النووية الفـتـاكـة ..؟ وهل تلك الهـزيمة هي أسوء من هـزيمة نابليـون امبـراطور فرنسا الذي مات منفـيا في جـزر المحيط الاطلسي ؟ أو أشد من هـزائم النمسا وايطاليا واسبانيا وبريطانيا وتركيا خلال الحروب الاوروبـية الطاحـنة ؟ أم أنها أكثر مأساة من هـزيمة امريكا أمام القوات البريطانية التي ظلت تحت حمايتها عقودا طويلة ؟.
أما من ناحية المسؤولية ، فاذا كان عبد الناصر قد اعـتـرف بما حصل داخل مصر ، فهل هو مسؤول أيضا عن احتـلال اسرائـيـل للقـدس مثلا أو للضفة الغـربية الواقعة تحت اشراف الاردن وبها جيـوش مرابطة على مرمى حجـر من تـل أبـيـب ؟
وهل هو مسؤول أيضا عن احتـلال الجولان التي كانت المعارك تدور في سمائها بين اسرائيل وسوريا قـبل أشهـر من حدوث العـدوان ؟ .
ورغم أن الشيخ الشعراوي رحمه الله قد أبدى ندما شديدا على ذلك ، وقام بزيارة ضريح عبد الناصر داعيا له بالرحمة ، بعدما عرف ما حصل من خيانات خلال السبعينات والثمانينات ، الا أن الأطراف التي أظهرت الشماتة سنة 67 وعلى رأسها النظام السعودي وحركة الاخوان المسلمين لم يكن موقفها مجرّد ردة فعل على خلافات سياسية عابـرة ، أو حرصا منهم على ما تعـرّصت له الامة العـربية خلال ذلك العدوان ، بل كان على خلفـية مواقـفهم اللاوطـنـيـة التي تأكّدت مع التجارب والأيام حيث لا قيمة للوطن عندهم أمام مصالح العائلة الحاكمة أوالحزب ، وها هي نفس الأطراف - التي فـرّخت الارهاب بأفكارها المتطـرّفة - تخوض اليوم حرب ابادة ضد الجيوش العـربية في سوريا والعـراق وليبيا ومصر وتونس واليمن ولا تطلق طلقة واحدة تجاه العدو .. بل انها تعمل بالوكالة على تحقيق ماعجـز الصهاينة عن تحقـيقه يوم 5 يونـيـو 67 ...
( نشرية القدس العدد 126 ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق