الإسلام دين عالمي
، لذلك يمكن أن يدخل لأي أمة على وجه الأرض ، ليصبح من يشاء من عباد الله عبدا
مسلما حينما يلتزم بأوامر ونواهي هذا الدين .. والإسلام بهـذا المعـنى الشامل يمثل دائرة انتماء واسعة تشمل جميع المسلمين في
العالم ، فتكوّن ما يسمّى بالأمة الإسلامية ، التي يتميز أبناؤها في أي مكان ، بكل
بما يميز المسلمين عن غيرهم .. كجماعة لها خصوصيات دينية خاصة ، وتجمعها علاقات وروابط بعضها روحي
وبعضها مادي بحكم الالتقاء على تنفيذ شعائر الإسلام .. غير أن مثل هذا الانتماء لا
ينفي اختلاف المسلمين الذين ينتمون الى مجتمعات مختلفة تميـز المسلمين بخصوصيات لا
يمكن للانتماء الديني أن يلغـيها ، وهي خصوصيات قومية أساسا ، تميزهم لغة وتاريخا وحضارة ومشاكل أيضا تتطلب
المعالجة المختـلفة لايجاد الحلول
المناسبة لكل مجتمع ..
تلك الخصوصيات التي تتميز بها المجتمعات تؤدّي الى فرز اللغة القومية والتاريخ القومي
والحضارة القومية والمشاكل القومية والحلول القومية أيضا التي تساهم في تطوير ذلك
المجتمع القومي حتى وان كانت جميعا أمما مسلمة .. ....................................
وفي إطار تداخل دوائر الانتماء نستطيع أن نتجاوز كل ما يثيره الجاهلون من
تناقص بين هوياتنا المحلية والجهوية والاثنية والعرقية والدينية ، التي يريدها
البعض ان تكون متصارعة بافتعال التعارض بين هذه الدائرة أو تلك ..
فنحن أولا مسلمون ننتمي
بإسلامنا إلى الأمة الإسلامية التي يفرض عليها دينها ان يكون الإيمان بالرسالات
السابقة شرطا من شـروط الإسلام ،
وبالتـالي فـان تاريخ الاديان بكل ما فـيه من مضامـيـن روحـيـة نقـيــة من كـل
الشـوائـب والتحـريف والشبهات يعـتـبـر جـزءا لا يتجـزأ من تاريخـنا منذ آدم ونوح
وإبراهيم حـتى الآن ..
ونحن ثانيا مجتمع
عربي واحد ، تجمعـنا هويتنا العـربية وتاريخنا العربي الواحد ، فـنـنـتـمي الى
الامة العـربية وبالتالي فان تاريخ كل الشعوب والقبائل التي عاشت قبلنا تمثل جزءا
لا يتجـزأ من تاريخـنا .. فالحضارة الفـرعونية حضارتـنا ، وكذلك الشئ بالنسبة
للحضارة القرطاجية والحضارات العـربية قـبل الإسلام والحضارات البابلية والامازيغـية
الخ .. كلها جميعا حضاراتـنا .. وبهذا
يكون المجتمع القومي وعاءا يستوعب كل المكوّنات السابقة على وجوده ، والتي يمثل كل
واحد منها دعامة أساسية في بنيته الحالية ، حيث
لا يكتمل وجوده الا بها ، وهذا أيضا ينفي ما يقال على أن جزءا من الأمة
يمثل أقـلية داخلها ، سواء كانت دينية أو مذهـبية أو عرقـية كما يقال عن البـربر (
الامازيغ ) فهؤلاء جميعا يمثـلون جـزءا لا يتجزأ من النسيج القومي الذي أصبح
لا يكـتمل إلا باجتماع تلك المكوّنات .. ولعل ما ينفي صفة الأقـلية عـنها
هو عدم وجود قوميات مجاورة مستقـلة في آن واحد يمكن أن تنظمّ إليها أي جماعة من
تلك الجماعت التي تحتجّ بتاريخها القبلي السابق على الوجود القومي .. والذي يمكن
أن يستمر في ظل المجتمع القومي كما يستمر الانتماء الى القـرية أو الى المدينة
دون تعارض أو تـناقض بـيـن هذا وذاك
..
والواقع فان ما
يثار من جدل حول كل هذه المواضيع لا يمكن فهمه الا في اطار نظرة تاريخية شاملة
ترصد من ناحية تطور المجتمعات الانسانية عامة ، وترصد من ناحية أخرى تطور المجتمع
العربي خاصة ..
وفي اطار القراءات
التاريخية الخاطئة ، نجد ذلك الفهم الذي ينظر الى دولة الخلافة خارج سياقها
التاريخي كدولة امبراطورية لم تكن خاصة بالمسلمين وحدهم ، لا من حيث البناء
الهيكلي والعلاقات في الداخل ، حيث شهدت نفس البنية التي عرفت بها كل الدول في تلك
الحقبة ، ولا من حيث علاقاتها بالخارج حيث اتبعت نفس الاسلوب في الدفاع عن نفسها
من خلال التمدّد والتوسّع على حساب الشعوب الاخرى التي سعت الى ضمها حتى وصلت ـ
مثلما وصلت كل الامبراطوريات في عصرها ـ الى
ما خلف البحار ، والى قارات أخرى مجاورة
للقارة التي انطلق منها الزحف ..
وهكذا ، نجد ـ في
جانب العلاقة بالخارج ـ أن ما قام به
العرب المسلمون الفاتحون لا يمكن فهمه الا في اطار تلك المرحلة التاريخية التي
عاشتها البشرية ، وهي التي قامت على مسلمة معروفة في عصر الامبراطوريات ، تتمثل في
ما يسمى بـ " حق الفتح " الذي
يقبل به الغالب حينما يضم مجتمعات جديدة تحت سيطرته ، كما يرضى به المغلوب الذي يبقى تحت السيطرة حتى تاتي ظروف جديدة تحرّره
من ذلك الوضع ، على غرار ما حدث في اسبانيا تحت
الحكم العربي الاسلامي ، او بالنسبة لمجتمعات اخرى في اروبا كانت خاضعة
للدولة العثمانية ، ومثلما حدث ايضا لابناء الشام والعراق وشمال افريقيا وغيرهم
الذين كانوا خاضعين للهيمنة الرومانية والبزنطية والفارسية .. ومن هذه الزاوية
يمكن أن نعتبر الفتح العربي الاسلامي تحريرا لهم من نير العبودية التي ظلوا يعانون
منها قرونا طويلة .. وهذا من حيث الشكل الذي كان يحكم الصراع بين
المجتمعات في ذلك العصر ويتحكم فيه .. اما من حيث المضمون فلا أحد يستطيع ان ينكر
المضمون الحضاري الذي جاء به الاسلام وهو يمارس عملية " الفتح " للمجتمعات المجاورة في اطار الدفاع عن الوجود
حيث ان الجماعات التي تنكفئ على نفسها ياتيها الغزو من حيث لا تدري ، وهو ما فرض
عليها منطق العصر : " خير وسيلة
للدفاع هي الهجوم " .. لان من
لا يغـزو ، يُعـزى .. وهكذا كانت الفتوحات
بالنسبة للمسلمين ذات وجهين : وجه دفاعي ، ووجه تبشيري ـ جهادي محكوم بضوابط هي
نفسها ضوابط الاسلام ونواهيه : " لا
تقتلو شيخا ، ولا تقطعوا شجرة .. " ـ
على عكس الاسلوب الذي كان جاريا بالنسبة
لجماعات اخرى غازية .. ولم ينته هذا الوضع الا في نهاية الحرب العالمية الاولى
حينما اتفقت الدول المنتصرة في الحرب على انشاء ما اسموه " عصبة الامم "
ايذانا بقيام الهيمنة بطرق جديدة ..
أما في جانب
العلاقة بالداخل ، فان الخلط امتدّ الى اثارة تناقضات حادة تتعلق اساسا بمفاهيم
خاطئة حول الهوية تحديدا .. ومنها تلك القضايا التي أصبحت سببا مباشرا لكل
الصراعات العنيفة داخل الامة ذات الابعاد الطائفية والعرقية والمذهبية ، بسبب سوء
الفهم لطبيعة العلاقات داخل المجتمع الواحد الذي لا يمكن ان يُـلغى فيه التنوّع
والاختلاف باي شكل من الاشكال ..
ولعل من بين تداعيات
تلك المشكلة ، ما يطرح من مفاهيم للاقليات
داخل المجتمع العربي على غرار " الامازيغية " التي يتم طرحها حاليا
بتحريك من الدوائر الخارجية ، ومنها
الفرنسية تحديدا ، وهو حديث يبدو فيه كثير
من الافتعال ، باعتبار أن المجتمع الذي تعيش
فيه تلك الجماعة أو غيرها ، تعيش فيه ـ في الأصل ـ جماعات متنوّعة ومتعدّدة ، ككل
المجتمعات .. لذلك فان هذا الاهتمام المبالغ
فيه ، يخفي في واقع الأمر نوايا كثيرة منها محاولات التفجير داخل المجتمع ، على
غرار ما كان يحدث فعلا في اماكن عديدة منذ عقود ، مثل السودان ، والعراق ولبنان ،
وهي الآن تستهدف سوريا ، ومصر ، والجزائر ، ولا تتوقف عند اي منها ، بل تتواصل
باشكال مختلفة بعضها ظاهر وأغلبها خفي ، أو مندس تحت شعارات براقة باسم حقوق
الانسان وحقوق الاقليات ، لكنها في الواقع ، تهدف لتحقيق أغراض باتت غير خافية على الجميع ..
وتأكيدا على وجود
تلك الخلفيات ، فان المتأمل في حياة الامازيغ ، لا يجد أنهم يقعون فعلا تحت اي نوع من أنواع القهر المادي او المعـنوي
الموجه اليهم بشكل خاص ، مستهدفا اصولهم
العرقية أو الثقافية ، ولا نجد أن مطلبهم يعبر عن مشكل حقيقي يشعر به كل الامازيغ
.. فهؤلاء ان كان يهمهم احياء تراثهم ، فلا احد ينهاهم عن ذلك ، وان كانوا يريدون
التخاطب بلغتهم القبلية البائدة ، فلا أحد يلجمهم ، ونحن نرى ان كل الخصوصيات
الثقافية المتنوعة في مجتمعنا تعبر عن نفسها بحرية سواء في الافراح او في الاطراح ، وفي الحياة
العادية دون تدخل من أحد .. وحتى ان وجد تعسف عليها ، فهو لا يخصها وحدها لان حرية
التعبير وحرية النشاط الثقافي والسياسي مكبلة في الوطن العربي تحت وطأة الاستبداد
الذي يذهب ضحيته كل ابناء الشعب دون استثناء ..
فاين امشكل اذن ...؟؟
المشكل هو كما يقول
الجابري ، في طرح الاحياء الثقافي من خارج سياقه التاريخي المرتبط باتجاه التطور
من خلال " ربط الماضي بالحاضر في اتجاه المستقبل " .. والمشكل ايضا كما
يقول الجابري ايضا ، هو في الاختراق الثقافي والحضاري الذي يبحث عن ارضية مناسبة
تمكنه من تحقيق أغراضه في الهيمنة التي تتمظر في عصرنا باستهداف الوجود القومي
للامم من خلال تحريضها على احياء خصوصياتها الحضارية القبلية والشعوبية و الطائفية
والعرقية ، وجعلها في مواجهة كيانها الجامع وهو الامة أو المجتمع القومي ، رغم ان
تلك الخصوصيات موجودة ايضا في المجتمعات الاخرى الغازية لمجتمعنا .. ومن هنا تكون
الدعوة الى طرح الامازيغية بهذا المفهوم ، هي دعوة رجعية فاشلة تعود بالمجتمعات
الى الوراء ، ولا تحل مشكلة حقيقية في الواقع الذي يتجه في مجتمعات اخرى متقدمة
الى النمو والاضافة على تلك القاعدة المرتبطة بالهوية كما عبر عنها الدكتور صبحي
غندور تعبيرا دقيقا قال فيه : " للإنسان
، الفرد أو الجماعة ، هويّاتٌ متعدّدة ، لكن الهويّات ليست كأشكال الخطوط
المستقيمة التي تتوازى مع بعضها البعض فلا تتفاعل أو تتلاقى ، أو التي تفرض
الاختيار فيما بينها ، بل هذه الهويّات
المتعدّدة هي كرسوم الدوائر التي يُحيط أكبرها بأصغرها ، والتي فيها ( أي الدوائر)
" نقطة مركزية " هي الإنسان الفرد أو الجماعة البشرية . هكذا هو كلّ
إنسان ، حيث مجموعةٌ من الدوائر تُحيط به من لحظة الولادة ، فيبدأ باكتشافها
والتفاعل معها خلال مراحل نموّه وتطوّره : من خصوصية الأم إلى عمومية البشرية
جمعاء . "
وفي
هذا الاطار فان الانتماء الامازيغي لا يعبر عن انتماء مستقل بذاته عن الانتماء
الذي استقر عليه المجتمع العربي منذ الفتح العربي الاسلامي الى اليوم والذي تحول
به من مرحلة الوجود القبلي الذي ميز تلك العصور ، الى المجتمع القومي الذي يعتبر
اضافة وليس انتقاصا من المجتمعات القبلية التي اشتركت من خلال تفاعلها في بناء هذا
المجتمع الجديد ، متخطية تلك المراحل السابقة التي لم تعد تجد لها تعبيرا في
الواقع الا بعض المظاهر الحضارية القديمة المعبرة عن حضارتها القبلية البالية ، في
حين انتقلت بمرور الزمن وهي تتفاعل مع جماعات جديدة في بناء حياة مشتركة ، هي
حياتها الحالية ، وساهمت في انتاج حضارة
جديدة هي الحضارة العربية الاسلامية المميزة لمجتمعنا في الوقت الراهن .. وفي هذا
الاطار الجامع للمجتمع القومي الواحد تتحول كل المراحل التاريخية الخاصة بتلك
المجتمعات الى خصوصيات قومية تهم كل افراد المجتمع القومي دون استثناء ..
أما
الحل فهو بالتأكيد لا يكون بالخروج عن السياق التاريخي الذي نشأت فيه تلك الجماعات
، بل بالقبول بما انتهت اليه صيرورة التطور وقوانينه الحتمية التي فرضت تلك
التحولات العامة والشاملة على المستوى البشري ، فلم يعد ممكنا الرجوع الى الوراء
تلبية لرغبة هذه الفئة او تلك الا بتدمير
وحدة المجتمعات .. والسبب كما قال الاستاذ حبيب عيسى " إن الأمة العربية ليست تكويناً عرقياً ، أو عنصرياً ، أو قبلياً
، أو دينياً على الانفراد ، وإنما هي حصيلة تفاعل حضاري بين مكونات متعددة
الأرومات ، والحضارات ، والعقائد ، لا امتياز لواحد منها على الآخر ، ولا طغيان
لأحدها على سواه ، فتلك المكونات على قدر المساواة في الحقوق ، والواجبات في إطار
من المواطنة الحقة " .. ومنه
نتعلم أن الحل لا يكون بمحاولة الافلات من المصير المشترك ، بل بالعمل على ارساء
الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والقبول بالاختلاف والتنوع في جميع مظاهره ، في
اطار المصلحة العامة داخل المجتمع الواحد
.. وفي اطار النظرة المستقبلية التي تحرر الانسان من الانغلاق ، وتدفعه الى
التحليق في فضاء الانسانية الرحب ..
اليس
ديننا انسانيا خالصا .. ؟؟
( نشرية القدس العدد 127 ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق