حقيقة
البورقيبية العائدة ..!!
بادئ ذي بدء لا بد أن نؤكد على أن بورقيبة
كان منسيا بالفعل طوال فترة التسعينات عندما كان محاصرا في مدينته الام : مدينة
المنستير ، بين أهله ومقرّبيه ، وكان تقريبا سجينا وليس رئيسا سابقا أو زعيما ومجاهدا
أكبر في تونس .. بل كان وضعه يثير الشفقة والعطف ، بسبب العزلة التامة المفروضة
عليه وهو في تلك السن ، فلا يسمح له بالتواصل من قريب او من بعيد مع اصدقائه ، ورفاقه الذين
عاش بينهم وقتا طويلا زمن الحكم ، وكان يُحرم بالفعل من أي مقابلة مع السياسيين والاعلاميين
، والدستوريين الذين تعوّد بتصفيقهم ونفاقهم .. بل الأكثر من ذلك ان بورقيبة قد
تعرّض الى المحو من الذاكرة الرسمية ، فلم يعد يذكر طوال تلك الفترة ، ولم يعد له حضورا سوى في مناسبة أو مناسبتين
هما عيدي الاستقلال والشهداء ، وحتى بقية المناسبات التي كان يذكر فيها كثيرا مثل عيد النصر وعيد الميلاد وعيد الجلاء ،
قد وقع تهميشها او الغاؤها تماما من رزنامة المناسبات والاعياد الوطنية .. ثم تم
محو صوره ، وحضوره المكثف في الكتب المدرسية والبرامج التعليمية لمادتي التاريخ والتربية الوطنيية ، كما
تم ازالة تماثيله ورمزيته التي لم يبق
منها سوى اسماء الشوارع التي لا تميزه في الواقع باي ميزة خاصة وبعضها يحمل اسماء
العواصم و الزعماء والشخصيات العادية ، وحتى اسماء الزهور والنباتات في بعض المدن
الخ .. وهكذا لم يعد تاريخ تونس طوال تلك الفترة مرتبطا بنجم الزعيم الآفل ، بل
بزعيمها الجديد الصاعد الذي غير كل شئ ،
فقبل البورقيبيون هذا الأمر ، وساندوه ، واطلقوا عليه اسما مناسبا هو صانع
التغيير ..
لماذا يعود بورقيبة اذن في هذا الوقت ..؟؟
لا بد أن نؤكد هنا ايضا أن المسألة ليست
وفاء لبورقيبة .. ولا هي مسألة استنهاض جديدة يحتاجها المجتمع في البورقيبية الميتة
منذ 23 عاما ..
فتونس قد شهدت أزمات عديدة خانقة طوال فترة
الحكم البورقيبي ، لم تعرف خلالها
الاستقرار والتنمية الحقيقية ولا المساواة والمشاركة السياسية ، فلم يكن مستغربا ـ
بعد المحاكمات الجائرة ومصادرة الحريات والأزمات
الاقتصادية ـ أن تشهد الانتفاضات
السلمية والمسلحة التي حدثت في 62 و78 و
80 و84 ، ولم يكن مستغربا ايضا ان تشهد تغييرا ما سواء من خارج الحكم أو من داخله
.. وهو ما حدث فعلا بانقلاب ابيض سنة 1987 ، ليؤكد أن البورقيبية قد ماتت مرتين ..
المرة الأولى حين قادتها أزماتها وفشلها الى مطلب التغيير الشعبي ، فاستغله
الانتهازيون .. والمرة الثانية حينما دفنها أصحابها قبل أن يموت بورقيبة سنة 2000
، فلم يلتفت أحد الى الوراء من الذين يتحدثون كثيرا عنها اليوم .. !!
بعد هذا لا بد من
طرح الاسئلة التالية :
لماذا يستحضر
" الندائيون " البورقيبية ..؟؟ ولماذا يُجند الاعلاميون ، فتأخذ القنوات
التلفزية حيزا هاما من برامجها للحديث عن بورقيبة وتاريخه ، وانجازاته .. ومآثره
.. ؟؟
ولماذا يصرف رجال الأعمال
المليارات لتغيير ملامح الشوارع الرئيسية في المدن ، فتنصب تماثيل بورقيبة من جديد
..؟؟ واذا كانت الدولة جادة في استحضار تاريخ تونس وأمجادها كما يقولون لماذا
يقتصر الأمر على بورقيبة وحده ..؟؟ ألا يوجد زعماء آخرون قدّموا ارواحهم شهداء في
سبيل الاستقلال ، وفي سبيل الحرية ، يستحقون عليها نصيبا من التكريم .. ؟؟
لماذا لا تقام التماثيل لعلي بنعذاهم
والدغباجي وفرحات حشاد ومصباح الجربوع
وصالح بن يوسف والكثير الكثير من الابطال المجاهدين الذين ماتوا في سبيل
الوطن وتركوا الحكم لبورقيبة ومن معه ..؟؟ هل الوطنية درجات ..؟؟ فهؤلاء على الاقل
لم يتعرضوا لما تعرض له بورقيبة من سخت شعبي واضح في تلك الأحداث الدامية التي
عاشتها تونس في العديد من المناسبات والتي ذهب فيها العديد من الضحايا الاموات
منهم والاحياء .. !!
المسألة لا تتعلق بالماضي ، بل تتعلق بالمستقبل على وجه الخصوص .. فهؤلاء يستحضرون
ماضي بورقيبة ، للتحكم في مستقبل تونس وتوجيهه
وجهة محدّدة ..
فلو كان هذا من
أجل انصاف أو اعتراف أو تثمين لتضحيات بورقيبة
لكان الامر مطروحا منذ تنحيته عن السلطة ، لكن هذا لم يحدث .. ولو كان
الامر يتعلق باستلهام قيم يحتاجها المجتمع
لكانت مطلوبة منذ عقدين قبل وفاته ، فكل الشعوب تحتاج الى رموز ، وشخصيات تاريخية
مهمّة ، تستلهم منها روح الماضي .. فهي تحتاج الى ملهم ، والى قدوة يختزل بعض
القيم في الذاكرة الوطنية .. وكل هذا مهم في حياة الشعوب .. لكن هذا أيضا لم يحدث
.. بل على العكس من ذلك ، فان بورقيبة الذي تعرض
الى التهميش والتحقير في حياته وهو محاصر في الاقامة الجبرية ، قد تعرض ايضا الى
ما هو اشد قسوة ومرارة ، وهو النسيان والشطب من الذاكرة الشعبية .. فبورقيبة لم
يكن ابدا ذلك الرمز الذي يذكر في المناسبات بمثل ما يذكر به الزعماء ، ولم يكن
حاضرا في الاحتجاجات ، والمسيرات والانتفاضات بمثل ما يذكر به أي زعيم في وطنه
وأمته .. وبورقيبة لم تنشأ باسمه أحزابا سياسية او جمعيات ، ولم تُقم له الندوات
داخل الفضاءات الثقافية لتناقش افكاره وبرامجه ومشاريعه .. ولم يتم تكريمه رسميا
بأي نوع من أنواع الاعتراف سواء في حياته او بعد مماته ، لم يقع شئ من هذا على
الاطلاق .. فكل ما كان له من ألقاب وامتيازات وقيمة رمزية كان ينقص ولا يزيد حتى
مات .. ولم يشهد الاضافة طوال تلك الفترة ، وحتى الشوارع الرئيسية في المدن كانت
تحمل اسمه حينما كان في السلطة .. فأي بورقيبية يقصدون اذن .. ؟؟ ولماذا نعود
اليها الآن .. ؟؟ فاذا كانت الدعوة الى البورقيبية صادقة ، لماذ لا نرى توجها
صادقا على الارض يلامس جوانب ايجابية من تجربته ..؟؟ لماذ لا نرى توجها الى مجانية الصحة أو الى
مجانية التعليم ..؟؟ فهما أهم مكسبين عُرف بهما بورقيبة حتى أواخر السبعينات الى
جانب مدنية الدولة وبعض المكاسب للمرأة ..
ان الامر ليس كما
يصوّر للناس في وسائل الاعلام والمنابر
الحوارية ، بل هو أكثر تعقيدا وأكثر عمقا وأهمية من ذلك .. هم يستحضرون
البورقيبية في شكلها الهلامي الأسطوري
لتوجيه الراي العام الى النهج البورقيبي العلماني الانفصامي في علاقته بالهوية ،
الليبرالي في قيمه الفردية ، والراسمالي في علاقاته الاقتصادية ، والتغريبي الذي
يؤمن بان باريس اقرب من القاهرة في رؤيته الحضارية .. هم يستحضرون البورقيبية اذن لضرب المشاريع الأخرى وفي المقدمة منها أي مشروع
حضاري يربط تونس بمحيطها العربي الاسلامي .. هي اذن بورقيبية مفخخة تُستحضر لتضخيم
الوطنية الفارغة من اي مضمون ، وهي تسعى فقط لاقصاء
العروبة .. ولكن أي وطنية دون وضع اليد
على الفساد ، ودون اعلان النفير حتى استئصال ذلك الداء واقتلاعه من جذوره .. ؟ وأي
وطنية دون تطهير للمؤسسات من السلبية والتواكل والمحسوبية .. ودون محاربة
المافيا والعصابات وقنوات التهريب ..؟؟
هي عودة فاشلة لتثبيت جملة من
القيم التي زعزعتها الثورة ، يبحث لها اصحابها عن آليات لاستمرارها وفرضها
في المجتمع : قيم التغريب ، والتبعية ، واقتصاد السوق .. وانفصام الشخصية الحضارية
..
( القدس عدد 221 ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق