مأساتنا أم مأساة دولة الخلافة ..؟؟
(1) .
ما يستحق الانتباه اليه في ذكرى الوحدة المجيدة التي عرفها التاريخ العربي المعاصر هو أن ذلك الحدث كان فعلا فرصة الامة الضائعة ، التي كادت أن تدخل بها عصر الامم العظيمة .. وكان هذا الانجاز الذي تحقق في 22 فيفري 1958 ، ببناء أول صرح لدولة المستقبل العربي ، دولة الوحدة النواة بين مصر وسوريا ، حدثا تاريخيا حقا ، اهتزت له الجماهير العربية كالبركان الهائج ، في كل ارجاء الوطن العربي ، وفي سوريا تحديدا التي عانى شعبها اكثر من غيره من سياسات التتريك والتمييز والهيمنة المتبعة من طرف العثمانيين زمن الخلافة ، ثم من التهديد التركي المباشر ، وحلف بغداد بعد الاستقلال ، فاندفعت الجماهير العربية كالامواج الهادرة في كل مكان تأييدا لهذا الحدث التاريخي العظيم ..
والجدير بالذكر في هذا الجانب ، أن عظمة الوحدة ليس في اتساع مساحة الدولة وامتتدادها الجغرافي فحسب ، بل في تظافر امكانياتها المادية والبشرية التي تتجاوز كل الامكانيات الاقليمية في عصر التكتلات الكبرى التي تخطت فيها الشعوب المتقدمة حدود الدول القومية ، باتجاه وحدة الامم ..
عظمة المشروع الوحدوي تتمثل في توظيف الامكانيات الهائلة على المستوى القومي في جميع المجالات التي تستطيع بها الدولة القومية ان تدخل مجال الصناعات الكبرى ، والمنافسة الواسعة على المستوى العالمي ، وبناء علاقات متوازنة على اساس الندية والتكافئ والمصلحة القومية ..
عظمة المشروع القومي في قدرته على استيعاب المتناقضات ، وتقوية الشعور بالانتماء الى الامة الجامعة ، والوقوف في وجه التحديات في الداخل والخارج ، برفع الجهل والتخلف والهيمنة في آن واحد ...
ثم ان ما يجب الانتباه اليه كذلك في ذكرى هذا الحدث العظيم ، هو أن التخلف الذي عانت منه الامة على جميع مستوايات الحياة بسبب عوامل تاريخية متراكمة من عصر الى عصر ، كان بالامكان الخروج منه في تلك المحطة التاريخية الهامة ، أو في محطات اخرى شهدت فيها الامة العربية ثورات ، وانتفاضات ذهب ضحيتها الآلاف من ابنائها ، مثلما استطاعت شعوب أخرى ، الخروج من التخلف والجهل والانحطاط ، الأعظم اثرا على حياتها من النواحي السلبية ، مما عرفته امتنا ، حينما توفر لها عاملين مهمين من عوامل النهضة القومية هما : توفر الارادة ، وتحرّرها ..
وقد كانت الارادة العربية متوفرة فعلا ، نستطيع أن نلمسها في استمرار مقاومتها للغزاة في كل العصور .. الا ان هذه الارادة لم تكن متحرّرة تماما لتحقيق نتائج بحجم المجهود الذي كانت تبذله في كل مرة .. فقد كانت الارادة مسلوبة فعلا من طرف العثمانيين في تلك الدولة التي لم تعد باي حال من الأحوال دولة للخلافة ، أو دولة للمسلمين ، بقدر ما اصبحت دولة للهيمنة العثمانية على العرب بشكل خاص ، بعد ان اقتطعت الدول الاستعمارية كل اجزائها الاوروبية تقريبا ، ثم انتقلت تلتهم أجزاءها العربية ، مثلما تلتهم الذئاب الجائعة/خرافا بلا راعي .. فكان احتلال مصر على يد الفرنسيين سنة 1798 ، ثم على يد بريطانيا سنة 1882 ، وسلطنة عمان سنة 1798 ، واحتلت فرنسا الجزائر سنة 1830 ، واحتلت بريطانيا السودان سنة 1898 ، واليمن 1839 ، والصومال 1884 ، واحتلت فرنسا تونس سنة 1881 الخ ... كل هذا ودولة الخلافة عاجزة عن مواجهة الأخطار التي كانت تهدد أقطارها حتى اكتمل المخطط نهائيا بمعاهدة سايكس ـ بيكو سنة 1916 ووعد بلفور سنة 1917 .. وهكذا انتقلت الهيمنة على الوطن العربي من العثمانيين الى الدول الاستعمارية في مرحلة أولى ، ثم الى الانظمة الاقليمية في مرحلة ثانية ..
والواقع أن دولة الخلافة ، قد صارت على هذه الصورة تحديدا ، لان المصالح المباشرة للعائلة العثمالنية ، ومستقبلها كان المحدّد الرئيسي في سياسات الدولة التي لم تفرط في شبر واحد من اراضيها العثمانية الحقيقية التي تبلورت عليها ملامح قوميتها التركية ، بينما فرّطت حكوماتها بسهولة في جميع اقطار الوطن العربي الواحد تلوى الآخر .. وقد كانت تلك السياسات مدفوعة من ناحية أخرى ، بجملة من التغيرات التي كانت تحدث على مستوى البنى الاجتماعية سواء على المستوى الانساني ، أو داخل دولة الخلافة ، وهي تشهد تبلور ملامح المجتمعات القومية التي أدت الى قيام الدولة التركية الحديثة من داخل الدولة العثمانية ذاتها سنة 1923 ، بينما لم تستطع اقطار الامة العربية القيام بنفس الخطوة وهي تفتقد لسلطة الدولة المركزية التي كانت بيد الاتراك ، فضلا عما سلبه الاستعمار الجديد من مقدرة لتلك الأقطار المنهكة التي دخلها ، على بناء الدولة القومية رغم كل المحاولات ...
(2) .
في الوطن العربي فكرة رائجة يقف وراءها الاصوليون تحديدا وكثير من دعاة الاسلام السياسي ، مفادها أن الحركة القومية في مطلع القرن العشرين هي التي وقفت وراء سقوط دولة الخلافة .. وفي بعض الاحيان يقفون مردّدين تلك الفكرة الساذجة القائلة بأن المسيحيين العرب في المشرق هم الذين وقفوا وراء هذه الفكرة ودعموها متحالفين مع الغرب المسيحي الذي يتآمر على الاسلام مجسّدا في دولة الخلافة .. الخ
والواقع أن هذه الفكرة لم تقتصر ـ بعد ذلك ـ على السذاجة التي انطلقت منها ، بل نجدها تتحوّل بسبب ذلك الاعتقاد السائد الى مواقف عدائية من الحركة القومية التي تزامن ظهورها ـ لاسباب تاريخية ـ مع سقوط دولة الخلافة .. وقد كان هذا التفكير راجعا بالاساس الى عوامل موضوعية في علاقتها بالواقع العربي من ناحية ، وذاتية في علاقتها بالبنى الفكرية السائدة في تلك الفترة الحساسة على المستوى العربي الاسلامي ، من ناحية ثانية ..
وفي مثل هذه الحالة التي يؤثر فيها العامل الذاتي على ادراك حقيقة الواقع الموضوعي بشكل كامل ، فانه من السهل ان تغيب عن الاذهان ، القراءة الصحيحة لما يجري ، ويكون الجهل مسيطرا على تلك المواقف من جوانب عديدة اهمها :
ـ أولا الجهل الكامل بديناميكية المجتمعات البشرية الخاضعة ـ قبل كل شئ ـ الى سنة التطور التي تجعلها تنتقل من طور الى طور في صعود مستمر ، من المحيط الضيق للأسرة والعشيرة والقبيلة القائمة علاقاتها على قاعدة القرابة الدموية أساسا ، الى الفضاء الانساني الرحب الذي تختلط فيه الانساب والاعرراق ، فتختلف المشارب الفكرية والمذاهب الدينية والمعتقدات بحكم سنة الاختلاف الجارية بين المخلوقات جميعا ..
ـ الجهل ثانيا بان الشكل الامبراطوري الذي نشأت عليه دولة الخلافة ، والاسلوب الذي تطوّرت به لتصبح دولة امبراطورية ، لم تكن ابدا فكرة اسلامية ، ولم تكن فرضا دينيا ملزما وملازما لدعوة الاسلام ، بل كانت شكلا من أشكال الدولة السائدة في عصرها والقائمة اساسا على " مبدأ " حق الفتح والغزو والتوسع لضم الأراضي التي تستطيع تلك الامبراطوريات الغازية ضمها بالقوة ، فتجعل شعوبها خاضعة لسيطرتها .. وهو ما يعني أن عنصر الارض في علاقته بالشعوب والقبائل ، لم يكن ـ في تلك الفترة ـ خاضعا لنفس المعايير التي نعرفها اليوم ، اذ كانت القبائل متنقلة غير مستقرة ، غازية لمن حولها ، وكانت مساحة الامبراطوريات تتسع ثم تتقلص تحت اقدام الفاتحين من جنودها ، تبعا لقوّتهم العسكرية في ميادين القتال ، وهكذا خضعت شعوب مختلفة الى امبراطوريات متعددة مهيمنة بحسب ما تؤول اليه الصراعات بين القوى المتصارعة لتلك الامبراطوريات المتنافسة على الدوام حتى ظهرت أوائل القرن العشرين مفاهيم جديدة تعترف بـ " حق الشعوب في تقرير المصير " لكنها لم تنهي الهيمنة نهائيا ، بل جعلتها تخضع لاساليب جديدة يحميها القانون الدولي الحديث الذي نشأ مع ظهور عصبة الامم نهاية الحرب العالمية الاولى ..
ـ ومنها ثالثا تجاهل الاسباب التي أدت الى ما انتهى اليه الوضع داخل دولة الخلافة ذاتها حينما أصابها الضعف والهوان وهي تتعرض للاقتطاع والابتلاع سواء في جناحها الاوروبي الذي تراجع الى حدود الدولة التركية الحالية ، أو في جناحها العربي الذي صارت اقطاره لقمة سائغة تلتهمها الدول الاستعمارية ، الواحد تلو الآخر حتى بلغت حدود الدولة العثمانية ذاتها ، وقد كان وصفها بالرجل المريض في تلك الفترة ، وصفا صادقا معبرا عن حقيقة ما يجري فيها ..
ـ الجهل رابعا بأن وضع التفكك الذي عرفته دولة الخلافة لم يكن وضعا خاصا بها وحدها ، فقد شهد العالم بأكمله تفكك كل الامبراطوريات الموجودة ، وتحوّلها الى دول قومية .. كما انه لم يكن ممكنا أبدا ان يكون ذلك التفكك سببه ظهور حركة قومية ناشئة ضعيفة مطلع القرن العشرين ، كل مناصريها من المثقفين والسياسيين العزل الذين لا يملكون أمام قوة الدولة الامبراطورية سوى ما يحملونه في رؤوسهم من أفكار ، وقد كانت موجة التنكيل والتشريد والمحاكمات والاعدامات التي طالت المئات منهم خير شاهدا على هذا الوضع .. !!
ـ خامسا تجاهل حقيقة تاريخية لا يمكن اخفاؤها باي شكل من الاشكال ، وهو أن اعلان سقوط دولة الخلافة وقيام الجمهورية التركية ، كان من عاصمة الدولة ذاتها ، على يد زعيم الحركة القومية التركية كمال اتاتورك سنة 1923 ، حيث لم يكن للعرب سلطة مركزية في ذلك الوقت للتصرف في شؤون الدولة وتقرير مصيرها ..
ـ سادسا الجهل التام بتلك التحولات الجوهرية الكبرى التي شهدتها المجتمعات الانسانية عامة ، حيث بدأت المجتمعات القومية تتشكل من داخل الامبراطوريات الواسعة ، في كل من اوروبا وآسيا ، وهو ما حدث بشكل مماثل داخل الامبراطورية العثمانية التي بدأت فيها النزعة القومية بالظهور مبكرا من عاصمتها التركية ، مؤدية الى الوضع الذي انتهت اليه .. وهو وضع لم يكن يختلف عما كان يجري في جميع الامبراطوريات الاخرى في مختلف انحاء العالم ..
وفي النهاية فان الحديث الصاخب عن دولة الخلافة لا يمكن أن يكون موضوعيا ، دون اظهار لهذه الوقائع ، التي تؤكد حقيقتين هامتين ترتبط احداهما بالاخرى :
وفي النهاية فان الحديث الصاخب عن دولة الخلافة لا يمكن أن يكون موضوعيا ، دون اظهار لهذه الوقائع ، التي تؤكد حقيقتين هامتين ترتبط احداهما بالاخرى :
الحقيقة الأولى مفادها أن مصير دولة الخلافة كان محسوما ومنتهيا بحكم سنة التطور التي عرفتها المجتمعات البشرية ، وهو ما يعني ان نهايتها لم تكن ماساة باي مقياس من مقاييس العصر الذي كان يشهد ظهور الدول القومية على انقاض الامبراطوريات المنحلة ، وقد كانت الأمة التركية التي كانت مركزا لسلطة الدولة العثمانية هي المستفيدة الاولى من تلك التحوّلات ..
والحقيقة الثانية المترتبة عن هذا الوضع تؤكد ان ما حصل داخل دولة الخلافة كان مأساة حقيقية للعرب دون غيرهم ، فهم الذين كانوا يفتقدون الى أي سلطة مركزية تمكنهم من حماية مصالحهم على المستوى القومي ، بعد ان اصبحت إرادتهم مسلوبة ـ من جهة ـ من طرف الاتراك الذين قاموا بتوضيف سلطة الدولة العثمانية ـ بالكامل ـ لصالح الأمة التركية ، ومن جهة ثانية من طرف الدول الاستعمارية التي قسمت اقطارهم ووضعتها تحت الانتداب ، وهو ما جعل مأساتهم لا مثيل لها في العالم ، وهم يتحوّلون من أمة موحدة ، الى أجزاء متصارعة ، يزعم كل جزء منها أنه أمة بحالها ... !!
( القدس عدد 216 و217 ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق