بعض
الكلام عن العـروبة والإسلام .. (7) .
تبدو بعض فصول الصراع الدائر في الوطن العربي اليوم ، وكأنها تدور حول طبيعة المجتمع الذي نريده في القرن الواحد والعشرين ، هل هو مجتمع العـروبة ، أم مجتمع الإسلام ؟ والواقع فان ما يثيره الجاهلون بالقومية والإسلام من معارك جانبية كانت ولا تزال سببا في تأخر العرب والمسلمين على حد السواء .. لان هؤلاء لم يفهموا الى حد الآن ان العـرب هم الذيـن بدأوا في نشر الإسلام إلى العالم منذ قرون قـبل أن يصيروا أمة .. وسيظـلون حاملين لواءه الى يوم القيامة .. ولعلهم لو كفوا عـن الجدل العقـيم حول العـروبة والإسلام ، لانـتهـى الأمر في هذه الأمة لما فـيه الخـيـر للعـرب والمسلمين .. فمن ذا الذي سيأتي بعد توحيدها ليتحدث عن التجزئة والوحدة ان كانت عـربية أو إسلامية ؟ لا شك انه سيكون أمرا غـريبا و مثيرا للسخرية في نفس الوقت .. في حين سيبقى العمل الإسلامي متواصلا دون انقطاع طالما ان الإسلام دين يتجاوز قيود الزمان والمكان ..
ورغم ذلك فان مواقف المشككين والمناهضين للوحدة العربية ، تقام في أغلب الاحيان على خلفية دينية ، يتزعمها بالاساس دعاة وشيوخ لا يدخرون جهدا في التهجم عليها ، والعمل على افشالها .. ثم يطـرحون بديلا عـنها فكرة الوحدة الإسلامية التي لا تستقيم دعوتها عندهم الا وهي تقطر حقدا وكراهية لكل ماهو فكر وحدوي في الوطن العربي .. وهي ـ على هذا الوجه ـ دعوة جاهلة وغـبية وفاشلة في أن واحد ..
وهي جاهلة ليس لأنها تدعو لوحدة المسلمين ، بل لانها تتجاهل العوامل الموضوعـية التي تساعد أو تعـيق الوحدة ، و لا تعطي اهتماما للأولويات .. اذ أننا حتى لو سلمنا بفكرة الوحدة الإسلامية فإننا لا يجب ان نرفض فكرة وحدة العـرب باعتبار أنهم مسلمون من ناحية ، ثم ان عوامل توحيدهم قائمة باعتبار العوامل النفسية واللغوية والحضارية من ناحـية ثانية ..
و هي غـبية لان مناهضة الدعوة الى الوحدة القومية هي في الاصل دعوة مناهضة لتقدم العـرب الذين يمكن أن يحققوا ـ بتقدمهم كأمة مسلمة موحدة ـ خدمة كبيرة للإسلام كدين في مشارق الارض ومغاربها ..
ثم انها دعوة فاشلة لأنها ليست قائمة على أسس موضوعـية ، بل مبنية على فهم خاطئ للاسلام وعلى ردود فعل انفعالية تجاه الفكـر القومي .. فهم لا يلتفـتون إلى حقـيقة الوجود القومي كواقع لم ينشأ اعتباطا أو عـبثا .. وقد حاولت روسيا تجاهله من قـبل حين ضمّت أمما مختلفة وعمدت لتوحيدها قصرا ، فلم تفلح في إلغاء وجودها القومي رغم كل المحاولات التي بُذلت ، لان ما صـنعه التاريخ وقوانين التطوّر والسنن الإلهية لن يتغـيّـر بالأمنيات أو بالرغـبات العاطفية البعـيدة كل البعد عـن أي أساس واقعي .. وقد كان ممكنا نجاح التجربة الروسية في توحيد قوميات مختلفة لو جعلتها تتفاعل في ظـروف ملائمة تؤدّي الى القبول بالتعايش والانصهار التدريجي في ظل الديمقراطية والمساواة ..
ولعـل كل رجال الدين او اغلبهم يستـندون في رفضهم على فهمهم للدين حتى وهم يجـتهدون في مسائل الدنيا .. على أساس أنهم العارفين وحدهم بكل جوانبه ، من أول تاريخ الأديان ، إلى السيرة النبوية ، وسيرة الصحابة ، الى كل الاصول والفروع المتعلقة بعلوم الدين .. بل هم من حفظ القرآن والحديث صحـيحه وضعـيـفه .. وهم من عرف الأسانيد والطبقات ورجالها ، كما عرفوا ما قاله التابعون وتابعو التابعـين ، واستوعبوا القياس والإجماع الخ ... !!
فماذا ينقص هؤلاء الشيوخ المجتهدين بعد هذا إذن ؟
ما ينقصهم فعلا هو الموازنة بين علوم الدين وعلوم الدنيا ... اذ هم في الغالب يهتمون بعلوم الدين ولا يلتفتون الى عـلوم الدنيا ، فتاتي آراؤهم الدنوية في اغـلبها غـيـر صائبة ، وغـيـر موضوعـية ، وهذا في أفضل الحالات ، أي اذا سلـّـمنا قطعا بأن ما يقولونه في تلك الاجتهادات المتعـلّقة بالدين ترتقي فعلا الى مرتبة العلم ، وهي مسألة ثانية يطول فيها الحديث ..
أماّ من النواحي الدنوية ، فهم إذا ذُكر الوجود القومي أنكروه واستـنكروه ، دون برهان علمي ، وإذا ذُكـر الفكر القومي ، لا يعـرفون منه إلا ما رشح عن تجارب الاروبيين ، أوما يروّجه السياسيون المعارضون للمشروع القومي .. وهم في الغالب أيضا ، يجهلون المراجعات ، والمفاهيم العميقة ، والاضافات الجوهـرية ، التي شهدها الفكر القومي خلال العـقود الأخيرة ... فتجدهم إذا اجتهدوا في هذه النواحي ، يخلطون بين وضع الإنسان الاجتماعي حيث تربطه علاقات متداخلة لا حصر لها بمن يعيش معهم ، في وضع إنساني نشأ منذ آلاف السنين قـبل ان يأتي الى الوجود أيّ دين ، ثم لم يستقر على ما هو عليه ، بل انطلق الى الامام في نمو واضافة ترتقي بالمجتمعات من طور الى طور دون توقف .. وبين الاسلام كدين أنشأ علاقات جديدة ذات أبعاد دينية واجتماعـية بعضها يقـتصر على المسلمين وبعضها الآخـر لا يقتصر عليهم وحدهم .. فكانت كل مضامينه اغناء لحياتهم دون انتقاص لوجود سابق .. وقد كان للاسلام اثر خاص على كل البنى الاجتماعية الموجودة في عصر النبوة بين المحيط والخليج ، العشائرية منها ، والقبلية والشعوبية ، بعد ان أخذها جميعا ليجعلها تتطور كما لوكان يدفعها دفعا الى ذلك من خلال ما وفره لها من اسباب الاستقرار ، والتفاعل ، والتواصل ، والانصهار ، للانتقال بها جميعا الى مراحل أكثر نمو وأكثر ارتقاء تحولت عـندما نضجت ظـروفها الى أمة مكتملة التكوين ...
فهل هذا الوضع صنعه القوميون العرب الذين لم يظهـروا الى الوجود الا في مطلع القرن الماضي مع موجات الغـزو الاروبي ، وبالتوازي مع موجات التـتـريك ، أي بعد ان اكتمل الوجود القومي بالف عام تقريبا ، أم أنه واقع صنعه المسلمون الفاتحون فعلا ، عندما خرجوا حاملين لواء الاسلام وتكـبّـدوا تلك التضحيات لنشر الدين ، فوحّدوا شعوبا وقبائل لم تكن لتتـوحّـد تلقائيا وتتحول الى أمة واحدة لو لم يكن ذلك الجهد الخارق للمسلمين الاوائل ؟
ألا يقولون بأن " العالم " إذا أراد أن يجـتهد في مسائل دينية مثل الحلال ، و الحرام ، والميراث ، والبيع ، والشراء ، والمعاملات ، جميعا ، عـليه ان يتسلح أولا بعـلوم الديـن .. ؟
بلا ..
ولكن هذه القاعدة معناها أيضا أن الاجتهاد في أمور الدنيا ، يلزمه التسلح بأسلحتها التي لا يكتمل الاجتهاد الا بحضورها في ذهن المجتهد ، وخاصة إذا كان المجال يتعلق بمصير الأمم ومستـقـبلها ..
وهو ما يعـني ضرورة الإلمام بكل المعارف الدنيوية كالتاريخ ، والفلسفة ، والاقـتصاد ، وعلم الاجتماع وكل فـروع العلوم الحديثة ومناهجها ...
أما إذا كانت مسالة الإلمام بعلوم الدين والدنيا هي مسالة لا يقدر عليها رجال الدين ، الا ينطبق عـليهم حينها قول الله تعالى : ﴿ فاسألوا أهل الذكـر إن كنتم لا تعلمون ﴾ . إذ أن في مسائل الدنيا يصبح أهل الذكـر هم المختصون في جميع هذه المجالات ، وهم المؤرّخون وعلماء الاجتماع ، والفلاسفة ، وعـلماء الاقـتصاد ، وغـيرهم كثير في جميع مجالات العلوم الدنوية ..
( القدس عدد 78 ) .