بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 4 نوفمبر 2013

الهجـرة .. مولد أمة ..

الهجـرة .. مولد أمة ..

ان المتأمل في دوافع الهجـرة يدرك بلا شك حجم المعاناة التي تعرض لها المسلمون حين سلط عليهم المشركون أشد أنواع التعذيب والتنكيل .. فمنهم من أجبر على قول أو فعل ما يكره ، ومنهم من عـُذب  أقاربه أمام عينيه  لحمله على التراجع عن دينه ، وآخر أتـلـفوا متاعه وممتلكاته ، أو تـركوه بلا ماء في الصحراء تحت حر الشمس .. ولم يسلم منهم حتى الرسول نفسه الذي عاش بين المساومات والمضايقات .. ثم استهـدفـوه بالقـتـل ..
وقد كانت الهجـرة في البداية الى الحبشة ، التي رأى فـيها الرسول صلى الله عليه وسلم فائدة لاصحابه وللدعوة بشكل عام .. لذلك لم يتردد في نصحهم بالذهاب الى بلد أهله أهل كتاب قائلا لهم : " لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عـنده أحد وهي أرض صدق ، حتى يجعل الله لكم مخرجاً مما أنتم فيه ".. ووقعت الهجرة الاولى فعلا في السنة الخامسة للدعوة ، بمشاركة  13 رجلا و أربع نساء على رأسهم عثمان بن عفان رضي الله عنه و زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
ثم جاءت الهجرة الثانية في السنة العاشرة للبعـثة بعد ان بلغ التهديد والوعيد أشدّه ، وبعد أن وجد الرسول في أهل المدينة سندا له يمكن ان يلجأ اليهم للتخفيف عن اصحابه الذين بلغ عددهم 83 رجلا و18 امرأة ، وقد بات يتربص بهم المشركون .. لذلك تركوا أهـلهم  وممتلكاتهم وهاجـروا الى المدينة  بعد أن جاءهم الامر .. فكان ذلك الحدث الذي جمع بين المهاجرين والانصار على أساس الاخوّة في الدين حدثا  تاريخيا فعلا ، بدأوا به مرحلة جديدة مغايرة تماما لما كانت عليه حياة كل واحد منهم حين كان  يجمعهم انتماءهم القبلي وحده ، فوفر لهم الاسلام  روابط جديدة وطعم جديد للحياة غير الذي ألفوه ..
والواقع فان أحداث الهجـرة الاولى والثانية كانت فعلا أحداثا عظيمة لانها تحولت بعد ذلك الى ثورة اجتماعية وفكرية وثقافية وحضارية غيرت وجه الحياة  ليس للمسلمين وحدهم بل ولجميع من عاش في ظل تلك الدولة التي بناها المسلمون نواة في المدينة ثم لم تلبث ان امتدت الى مشارق الارض ومغاربها ، وحيث لا يزال اثرها متواصلا الى الآن .. لذلك يمكن الاعتبار من أحداث الهجرة من عدة جوانب أهمها :
- ان الهجرة الاولى تسفـّـه ما يقال حول التناقض والصراع أو العداوة بين الاسلام والديانات الأخرى أو بين المسلمين وأهل الكتاب حتى وهم مسالمون .. !! حيث يبدو موقف الرسول صلى الله عليه وسلم منهم واضحا حين أمر اصحابه باللجوء الى غير المسلمين ،  فكانوا فعلا عند حسن الظن ، حين وفـروا للمهاجرين الأمن المطلوب والحماية اللازمة في ذلك الوقت ..
- ان حدث الهجـرة في حد ذاته بما يعـنيه من فراق للاهل ومشاق السفر، وسير الى المجهول ، يعـبر تعبيرا صادقا عما تحمله المسلمون الاوائل من معاناة ، فضلا عن بقية التضحيات التي قدموها بعد ذلك ، وأعظمها التضحية بالنفس والموت في سبيل الله خلال الغـزوات .. غير ان هؤلاء المجاهدين وذويهم الذين تحملوا كل تلك التضحيات لم يطلبوا تعويضات – كما فعل السياسيون في أيامنا - عما اصابهم من حرمان او من معانات طوال اكثر من 23  سنة قضوا أغلبها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتتين مهجّـرين .. !! وحتى الفيئ والغنائم التي كانت شائعة في ذلك العصر بين كل الجيوش المتحاربة ، فان الاسلام قد نظمها ولم يجعـلها خاصة بالمحاربين وحدهم كتعـويض لهم عما قدموه من تضحيات دون غيرهم ، بل جعلها لكل مستحقيها من عامة المسلمين ، قال تعالى : " مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَـلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ " (الحشر 6) . وقال أيضا : " وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ..(الأنفال 4) . 
- ان الهجرة كانت سببا في تكوين تلك النواة التي صارت منذ نشأتها  لبنة اولى لدولة المسلمين ، حين كتب الرسول صلى الله عليه وسلم  دستور المدينة وجمع فيه كل الطوائف والديانات في اطار مجتمع موحد يشترك فيه كل ابنائه في الحرية والعيش الكريم ، بقطع النظر عن ديانتهم وأعـراقهم وأفكارهم كما يظهر في محتوى الصحيفة .. لذلك استحق بعض اليهود الطرد والتهجير بسبب خيانتهم لميثاق المواطنة قبل كل شيئ .. ولقد كبرت هذه النواة تدريجيا حين امتدت الدولة الاسلامية بفضل الفاتحين لتشمل شعوبا وقبائل تحت رعايتها لم تكن تجمعهم بهم اي علاقة ، غير العلاقات التجارية الموسمية بالنسبة للبعض .. ولقد ساهمت دولة الاسلام - أولا - في تحريرهم من الهيمنة الرومانية والبيزنطية والفارسية التي خضعـوا لها جميعا على مدى قرون ، فعطلت نموهم وتتـطـورهم ، لذلك لم يتجاوزوا أطوارهم القبلية والشعوبية التي وجدهم عليها الاسلام .. ثم منحتهم - ثانيا - لغة واحدة هي لغة القرآن بعد أن صاروا مسلمين ليسهل بها تواصلهم اثر تحطم الحواجز التي كانت تفصلهم .. كما وفرت لهم - ثالثا - امكانية الاستقرارعلى أرض واحدة  لصنع تاريخهم وحضارتهم المشتركة في ظل تلك الدولة ، حتى وهي امبراطورية  تشمل العديد من الشعوب ، الذين شملتهم دولة الخلافة بعد أن تبلورت شخصيتهم القومية فكان الاسلام بالنسبة لهم مجـرد اضافة حضارية متفاوتة بحسب ارتباطهم بدولة المسلمين ، مثل الفرس والاسبان .. أوالذين التحقوا بدولة الخلافة  بعد  تبلور الهوية القومية العربية ، وهو ما ينطبق على الاتراك الذين جاءت شخصيتهم القومية متأثرة بالحضارة الاوروبية أكثر من تأثرها بالحضارة الاسلامية  .. في حين استطاع الاسلام ان يصهـر بقية الشعوب والقبائل الواقعة بين المحيط والخليج ، التي لم تتجاوز كلها  المراحل القبلية والشعوبية  ، فكان التزامن التاريخي بين مجئ الاسلام وانتشاره بتلك الطريقة المعـروفة بالفتوحات من ناحـية ، ووجود تلك الشعوب والقبائل بين المحيط والخليج على تلك الصورة من ناحية ثانية ، بمثابة المحرك لتك الظروف لتعـيـد عجـنهم من جديد على مدى قـرون طويلة من التفاعل التلقائي ، فتصنع منهم أمة واحدة متميـزة عـن بقـية الامم المجاورة حـتى وهي تشترك معها في دولة واحدة هي دولة الخلافة .. وعلى هذا الاساس فان الهجـرة كانت باعـثا على مولد الامة العربية ، التي تكونت جنينا حين بدأت دولة الاسلام نواة صغـيـرة  في المدينة ، ثم نمت و كبرت حتى ترعـرعت بين المحيط والخليج .. ولقد كان أعظم أثر في نشأتها ، انها كانت بالدرجة الاولى ، ثمرة لانتشار الاسلام ..


( القدس عدد96 ) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق