ثوابت الحركة القومية ..
شهدت الحركة
القومية خلال النصف الثاني من القرن العشرين نشاطا فكريا واسعا ومعمقا ، شغل
العديد من المفكرين القوميين والنشطاء السياسيين ، وشمل العديد من الجوانب الفكرية
والسياسية بالنقد الموضوعي للتجارب السابقة ، مع ما يلزم من مراجعات ، لتجاوز النقص
والقصور الفكري الذي صاحب مرحلة التاسيس للتجربة القومية في الخمسينات .. وقد كان
ذلك ثمرة لوعي الحركة القـومية بدورها الريادي، وشعورا منها بالمسؤولية ، واستجابة
لتحديات المرحلة التي تشهد حالة من التردي والضعـف بسبب الهجمة الشرسة المنظمة
التي تتعـرض لها الامة العـربية من عدة أطراف ..
ورغم كل الشدائد
والمحن التي واجهت الحركة القومية خلال تاريخها المشرق بالبطولات والتضحيات ، ورغم
الانتكاسات التي تعـرضت لها ، فانها ظلت في طليعة القوى المناضلة التي تدافع عن
الامة حتى هذه اللحظة .. وليست الهجمات على العـراق وليبيا وسوريا الا تصفية
حسابات قديمة لا تزال مستمرة الى الآن ..
وقد كانت تلك
المعارك التي خاضتها الحركة القومية فكريا وسياسيا وعسكريا وما صاحـبها من النقد والمراجعة
، عوامل مهمة ساعدت على بلورة مبادئها
الاساسية وأهدافها في بناء مشروعها التحرري الوحدوي الاشتراكي المرتبط بالعقيدة الاسلامية
بأبعادها الدينية والحضارية .. كمشروع حضاري يستجيب للمتغيرات الظرفية في وسائله
واساليبه لكنه يرتكز اساسا على جملة من الثوابت التي أكّدتها كل التجارب القومية ،
والتي يجب ان يلتـفّ حولها كل القوميين مهما اختـلفوا في التفاصيل والاساليب ، حتى
يكونوا صفا واحدا في الدفاع عن أمتهم ضد كل من يفكر في المساس بأمنها ووحدتها
وسلامة مقدراتها :
* ففي جانب العقيدة لا يختلف القوميون حول حرية
العقـيدة والتدين كـمبدأ ثابت في جميع الاديان ، غير أن الاسلام يبقى دين الاغلبية
في المجتمع .. وأن حضارتهم هي الحضارة العـربية الاسلامية التي نشأت في ظل هذا
الدين الحنيف من خلال التعايش الذي نشأ بين مكونات الامة طوال قـرون من التفاعل والتواصل
بلغة القرآن حتى جعل منهم أمة واحدة ..
* وفي جانب الحرية : ترفض الحركة القومية كل
ما يمس من قـريـب أو من بعـيد بأمن أمتها
أرضا وشعـبا ، ولذلك نجـدها تتصدى منذ
نشأتها للاستيطان والاستعمار بجميع مظاهـره : ( احتلال ، قواعد عسكرية ، تدخل أجنبي ، تبعـية اقتصادية واملاءات الخ .. ) ، وهو ما
يجعلها في كـثـيـر من الاحـيان تتصادم مع الحـركات السياسية في الداخل والانظمة
التي تـتوخى هذه الاساليـب لتجـرّ الامة وتوقعها في فخ التبعـية والهـيـمنة ..
وهي تعـمل سياسيا على تحقيق
الديمقراطية الحقيقية في دولة مدنية تحكمها قوانين عادلة لا تتناقض مع ثوابت
المجتمع الدينية والحضارية و تتماشى مع متطـلبات عصرها ، وهي خطوات لا تتحقق دون
القضاء على الخوف داخل كل فـرد في المجـتـمع حـتى يتحقـق الابداع الانساني بواسطة
التـفـكـيـرالحـر، ويتحقق التعايش عـن طـريق المشاركة الواعـية بين الناس ، ليتحقق
في النهاية الاستقـرار والنهوض بالمجتمع ..
* وفي جانب وحدة الوجود القومي : ترفض الحركة
القومية كل ما يمس من وحدة الامة وتعـتبـره عدوانا عليها مهما كان اسلوبه ، وهي
ترفض كل ما حصل من احتلال أو اقـتـطاع لأجزاء من الارض العربية كما هوالحال في فلسطين والعراق والجزر الاماراتية والاحواز
ولواء الاسكندرون وجزر سبتة و مليلة المغـربية .. أو بواسطة مخططات التجزئة
والتفتيت لما هو مجزء أصلا كما حصل في السودان ، وكما يجري الاعداد له في العـراق
وسوريا ولبنان .. ولذلك فهي تعمل بكل طاقاتها على تدعيم كل ما يعـيد وحدة الامة
وتقاوم في نفس الوقت كل ما يعـيق ذلك الهدف .
* وفي الجانب الاقتصادي : فان الاشتراكية
نظامها الذي تسعـى من خلاله لتحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية بكل ابعادها السياسية
والاقتصادية حيث لا يقع تحرير الارادة الانسانية دون القضاء على الاستغـلال بجميع
مظاهـره الذي هو مبدأ الهي وشرعي في ديننا .. كما لا يمكن الحديث عن المساواة بين
الناس دون توزيع عادل للثروات بين الافراد والجهات .. ودون ضمان لحق الشغل ،
وتوفير للضروريات من مأكل وملبس ودواء وحاجيات فكرية وثقافية كحد أدنى لتحقيق
الكرامة للانسان ..
وأخيرا لا بد من
التاكيد على أن هذه المبادئ لا يمكن أن تتجزء ، حيث لا يمكن ان تتحقق الحرية في ظل
التبعـية ، ولا الديمقراطية في ظل الاستغـلال ، ولا العدالة والتقدم في ظل التجزئة
والعـبودية ..
( نشرية القدس عدد 98 ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق