ما يسجله التاريخ ..
في تاريخ الشعوب أحداث وتفاصيل قد
يدركها النسيان ، ولكن في المقابل هناك عناوين وعلامات ، ومحطات فاصلة لا تغيب عن
الذاكرة الفردية أو الجماعية ، لما لها من تأثير على حياة الشعوب ومستقبلها ..
لذلك فان المتأمل للاحداث على مدى أكثر من قرنين ، يجد مضمونا واحدا للصراع
بين الامة العـربية وأعدائها لا يزال متواصلا الى الآن .. أمة تتوق الى الحرية والاستقلال
لتعيش في أمن واستقرار، وقوى خارجية تغدو وتـروح ، هدفها الوحيد خدمة أغراضها بكل
السبل : بث الفرقة والفتن والتقسيم والتجزئة .. وقد كانت كل المشاريع التي ظهرت مطلع
القرن العشرين على غرار معاهدة سايكس بيكو ووعد بلفور ، ضمن هذا المخطط الاستعماري
الذي يستهدف انهاء الوجود القومي للامة العـربية ، وزرع كيانات بديلة سواء من داخل النسيج الاجتماعي للامة أو
من خارجها : قبلية وعشائرية ودينة وعـرقية .. فكان من ضمن ذلك التخطيط انشاء دولة
اسرائيل ..
لكن في المقابل فان من يتأمل مسيـرة الاطماع والمخططات منذ تلك العهود الى
اليوم ، سيجد حقيقة ناصعة اسمها المقاومة والجهاد في وجه الغـزاة الطامعـيـن ..
وهكذا كانت الحركة القومية منذ وجودها حركة مقاومة للاستعمار ، والصهيونية
والرجعـية المتواطئة معها .. واننا لن نبالغ حين نقول انها الحركة الوحيدة التي لم
تغـير بوصلتها في هذه المجالات عبر كل مراحل وفترات النضال القومي في العقود الأخيـرة
.. فهي التي قاومت الاستعمار الجاثم في ربوع الوطن العربي خاصة بعد قيام ثورة
يوليو التحررية التي أعلنت مقولتها الشهيرة أن " على الاستعمار ان يحمل عصاه
و يرحل " وقاومته بالفعل وليس بالكلام في كل مكان بداية من مصر، ثم في الجزائر وتونس
واليمن .. كما قاومت الاحلاف الاستعمارية الرجعـية على كامل تراب الوطن العربي التي
تحاول استبدال الاستعمار بالهيمنة والتبعية ، فأعلنت ثورة يوليو ان " ثـروات
العـرب للعـرب " ولا مكان للغزاة بينهم .. لذلك قاومتهم بكل شراسة وأفشلت
مخططاتهم فاسقطت حلف بغداد وألهبت مشاعـر الثورة والمقاومة بين الجماهير ، حتى تحرّرت
العراق وسوريا و تونس والجزائر واليمن .. وأفشلت محاولات الصلح مع العدو على يد
الحلف الرجعي في لبنان والاردن والسعودية ، ثم تحققت أول وحدة في التاريخ العربي
الحديث .. كما خاضت معارك البناء و تحرير الفئات الضعيفة من العمال والفلاحين في
الداخل عندما أعلنت قوانين الاصلاح الزراعي ومجانية التعليم والصحة ، وتأميم
المنشآت الخاصة الوطنية والاجنبية ، .. وساهمت في بناء الاحلاف الدولية المستقلة
ارادتها عن القوىالعظمى ، فكانت مصر من الدول المؤسسة لمنظمة عدم الانحياز الخ
..
لذلك سيشهد التاريخ ان الحركة القومية – رغم
انتكاساتها الكبيرة بسبب جسامة المسؤولية وقلة الامكانيات وتغـول الاعداء - لها
شرف المساهمة في تحرير الانسان العربي وتوحـيـد أوطانه التي قطـّـع الاعداء
أوصالها ، فدعت الى الوحدة بين ابناء الامة الواحدة ونبهت الى مخاطر الفرقة
والتجزئة ، وعملت على تدعيم قيم الاسلام الصحيحة التي تحرض على الوحدة في ظل
التعايش والتعاون بين الناس ، مع مقاومة
الضلم والهيمنة والاستغلال .. لذلك لم يسجل التاريخ في مصر- رغم تنوّعها – ولو
حادثة طائفية واحدة أو اعتداء أو تناحر بين مكوانت المجتمع أيام ثورة يوليو ..
فشتان بين الامس واليوم .. حيث لا شك ان التاريخ سيسجل ايضا أنه في ظل الحركات
" الاسلامية " – شيعية كانت كما في العراق ، أو سنية كما في بقية الاقطار-
وقع اعادة الاستعمار والهيمنة والتبعـية الى الوطن العربي الا من رحم ربك .. بسبب
انتصارهم لمذاهبهم ومصالحهم الحزبية التي
ادت الى تقـلبهم من حضن الى حضن .. من أحضان الرجعـية العـربية في قطر والسعـودية
والاردن .. الى احضان الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا .. ولعلنا لن نكون مبالغـين
ايضا حينما نقول ان هذه الحركات المتستـرة بالدين هي اكثـر الحركات التي اساءت
للامة منذ صعودها بأموال النفط العربي والحليف الغربي ، لضرب الحركة القومية
المقاومة للاستعمار والرجعـية والصهيونية .. وللاستيلاء على السلطة بالوسائل
السلمية كما حدث في مصر و تونس بعد الثورات .. أو بالقوة كما حدث في ليبيا ، وكما
يجري الآن في سوريا .. ولا شك أن التاريخ سيجل ايضا انهم شوّهوا صورة الاسلام ، واثاروا
الفـتـن و قسّموا المجتمعات تقسيما مذهبيا وطائفيا ، و بثوا الرعـب بين ابنائها ،
وعملوا على تصدّع نسيجها الاجتماعي الذي صنعه التاريخ الطويل منذ فجر الاسلام الى
اليوم ... حيث ان تلك الفوضى الخلاقة التي تؤدي الى سقوط الدولة ومؤسساتها هي التي
تمكـنهم من السيطرة على الحكم ، دون اعتبار للتبعات ..
( القدس عدد 88 ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق