الموقع الطبيعي للاخوان ..
بالنظر الى طبيعة الاخوان المسلمين كحركة أصولية لا تتجاوز منطلقاتها
الاصلاح ، ولا يتجاوز أسلوبها النهج الاصلاحي الذي لا يلبي استحقاقات الثورة .. ثم
بالنظر الى تجاربها في الوطن العربي على مدى ثمانية عقود ، يمكن للمرء أن يفهم ما كان
يجري في الواقع تحت حكم الاخوان ،
ثم يدرك ان ما واجهـتـه حركة النهضة الاخوانية
في تونس من فشل ذريع ليس بسبب
الارث الثقـيـل وحده الذي تركه نظام المخلوع ، بل ان ذلك راجع بالاساس للمنطلقات الفكرية التي
ينطلق منها الاخوان ويبنون عليها تصوراتهم للواقع ثم يؤسسون عليها مواقفهم ،
والحلول التي يعملون على تحقيقها..
لذلك فان الاخوان المسلمين وبحكم طبيعـتهم تلك لا يمكن ان ينتجوا في الواقع
الا نظاما شموليا متخلفا كأي نظام موجود في المنطقة قبل ثورتي تونس ومصر أو بعدهما
.. وحتى ان اختلفوا ظاهريا مع بعض الانظمة التي يقولون عنها علمانية ، فان ذلك لا
يغـير من الامر شيئا كثيرا ، وسيجعـلهم في نهاية المطاف أشبه بالنظام السعودي
أوالقطري أو أي نظام خليجي آخر من تلك الانظمة التي لا يختلفون عنها في شئ من
النواحي الاقـتصادية والسياسية والاجتماعية كما يـبـيـن ذلك الواقع ..
وهنا يمكن للسائل أن يسأل حول طبيعة الحكم والسياسات المتبعة طوال الفترة
التي تسلموا فيها السلطة : كيف يمكن أن
يحصل تتطابق ثم توافق وتحالف بين أنظمة شهدت
بلدانها ثورات شعـبـية ثم وصلت الى السلطة
بواسطة الانتخابات كما حصل في تونس ومصر في عهد الاخوان ، وبين الانظمة العـربية
المتخلفة في باقي الوطن العربي ، سواء في المواقف من القضايا الوطنية والقومية ،
أو في التحالفات الاقليمية والدولية ، و في جميع القضايا الاخرى الاقتصادية
والاجتماعية .. ؟؟
وقد يكون طرح هذا السؤال مهما اكثر في تونس حيث استطاعت حركة النهضة الخروج
باخف الاضرار بعد فشلها في الحكم على عكس ما حصل لحلفائهم في مصر بعد ثورة 30 يونيو 2013 ، للوقوف على الحقائق المتعلقة بطبيعة الحركة والتي يتم اخفاؤها على
الناس بالشعارت الزائفة .. حيث يبين الواقع أن حركة النهضة كانت تقف حيث يقف أي نظام عربي من القضايا الداخلية في مواجهة
الشعـب ، وعلى نفس المسافة معها تقريبا في
التحالف والاصطفاف وراء أعداء الأمة في القضايا القومية ..
- ففي الجوانب السياسية وعلى رأسها مسألة الديمقراطية ظلت حركة النهضة في
تونس تعمل بالتوازي على صعـيدين يكمّل
أحدهما الآخـر في ارساء قواعد النظام الشمولي ، وهما أولا فرض هيمنة السلطة
التنفيذية في الدستورعلى جميع المؤسسات والهيئات السيادية ، وثانيا السيطـرة على
مؤسسات الدولة من خلال التعـيـينات الحزبية للموالين التي وقع تقـنيـنها بواسطة
قانون العـفـو التشريعي العام .. وهو ما حوّل الديمقراطية فعلا الى سراب من خلال ما
وقع زرعه من ألغام لم تلبث ـ في وقت قصير ـ أن نسفت ذلك البناء الهش الذي لم يمهّد في الواقع لبناء الديمقراطية بقدر ما كان يمهّـد لعودة الاستبداد من خلال عودة النظام القديم ..
ويكفي أن نذكر كيف أنها في نظامها
الداخلي وهيكلتها الحزبية تعتمد على النموذج الرئاسي حيث يتمتع رئيس الحركة
بصلاحيات واسعة وغير محدودة ، في حين
نجدها تدافع في الدستور على النظام النيابي بسبب الوضع المطمئن لنتائج الانتخابات على
المدى القريب ، واعتقادها بأن وضعها سيظمن لها مجددا موقعا هاما في السلطة التنفيذية
بعد الهيمنة على السلطة التشريعـية ..
وكيف أنها بتراخيها في بناء المؤسسات المستقلة منذ وقت مبكر على غرار
الهيئة العليا للقضاء وهيئة الاعلام ساهمت في تأخير المحاسبة وتطهير المؤسسات ،
مقابل اطالة أمد التدخل الفردي لسلطة الوزير ..
هذا من ناحية المضامين الديمقراطية والضمانات ، اما من ناحية الاسلوب فان
الامر يصبح اكثر وضوحا وجلاءا ، حيث جنّدت حركة النهضة ـ طوال تلك الفترة ـ كل مؤيديها الذين ينشطون في أطر مختلفة حزبية وجمعيات
وروابط حماية الثورة ، وأيمّة وغيرهم ،
للظهور في الاعلام وعلى شبكات التواصل وفي كل المواقع التي يتواجدون فيها والتي
لا يُستـثـنى منها حتى المساجد ، لتزييف الحقائق ، واتهام المخالفين وتجريم الاحتجاجات
الشعـبـية بجميع أنواعها .. وحـتى المسيرات الطلابية والتلمذية التي تربّت عليها
أجيال في الماضي وصنعت رموزا ومناضلين كان لهم دورا بارزا في ثورة 17 ديسمبر ،
اصبحت مدانة في عصر النهضة وحلفائها ..
وعوض ان يتساءلوا عن الاسباب الموضوعية للظاهرة ، وجدناهم يتجهون الى الاسهل وهو
تشويه التحركات والنضالات الشعـبية بنسبتها الى التجمعـيين .. متناسين أن حركة النهضة
هي التي عـزلت نفسها حينما اعتبرت الفوز في الانتخابات فوزا بالغـنيمة ، فاستأثرت
بالسلطة وحادت عن مبدأ التوافق اللازم لادارة المراحل الانتقالية ، وأبعدت بذلك
العديد من القوى الوطنية الحقيقية ، ثم فشلت فشلا ذريعا مع شركائها في حل مشاكل
التنمية والامن ، لتجعـل من الباقين جميعا " معارضة " في مواجهة سلطة
فاشلة .. وهكذا لم يعد الصراع بين الثورة
وأعدائها ، بل بين حكم ومعارضة .. وهي
الثغـرة القاتلة التي عمل التجمعـيون على توسيعها من خلال وسائل الاعلام التي
يمتلكونها ، للنفاذ من خلالها الى صفوف الثورة ، حتى أصبحوا ثوارا .. !!
والواقع فان كل ما رأيناه وما سمعـناه من صراع ـ في تلك الفترة ـ بين
النهضة ونداء تونس ومن ورائه التجمعـيون ، كان مدروسا الى أبعد الحدود من الجهتين
.. اذ أن ظهور قطبين من هذين الفريقين ، يلبّي في الواقع مصلحة هذا وذاك .. وهو ما
يفسّر فعلا لعـبة التجاذب والتنافر بينهما في كثير من الاحيان ، وفي العديد من
المواقع سواء في تونس او خارجها ....
اذ انه في الوقت الذي كانت تتعالى فيه أصوات القواعد ضد التجمع ، كانت
النهضة تدافع داخل المجلس التاسيسي عن أحد رموزه القدامى اثر ظهور أزمة البنك
المركزي سنة 2012 .. !!
وفي الوقت الذي كان نوابها وقواعدها يتحدثون عن القانون الأعرج لما يسمى بـ
" تحصين الثورة " الذي حذفوا منه فـتـرة توقيعهم على الميثاق الوطني سنة
1988 و فترة مشاركتهم في الانتخابات مع نظام بن علي سنة 1989 ، وجدناهم يتحاورون
معهم في قصر الضيافة " للتوافق حول تحقيق أهداف الثورة سنة 2013 .. ثم الالتقاء معهم
رسميا في اطار ما سمي بالحوار الوطني الذي
جعل منهم شريكا أساسيا في تحديد مستقبل تونس .. !!
لذلك فاننا بالرجوع الى مختلف هذه المحطات
وغيرها نفهم طبيعة المسلسل الدرامي الذي شاهدناه في الواقع ، والذي سعى من خلاله طرفي النزاع للفوز في
النهاية بدور البطولة .. وهو ما يجعلنا ندرك أيضا أن ما حدث بينهما من شدّ هو من باب التشويق الدرامي في عقدة المسلسل ،
والتي لا تلبث في النهاية ان تنتهي بالانفراج .. ليبدأ بعدها تشويق جديد ، وشدّ
جديد للاعصاب ، لا يلبث حتى ينتهي بالاغتيالات ، والانفجارات كما يحدث فعلا في
جميع المسلسلات بوسائل مشابهة .. !!
والنتيجة النهائية الحاصلة هي خلق الثنائية المقيتة ، التي وجد فيها كل طرف
مصلحته .. لذلك لم يقم الاعلام التجمّعي باقصاء
حركة النهضة كما اقصى أطرافا أخرى .. بل كان منذ البداية يسعى لجعلها تتصارع معهم
على اساس تلك القاعدة التي ساهمت النهضة في تكريسها : حكومة ومعارضة ..
وبالتأكيد فان خلق هذه الثنائية داخل المجتمع كان مفيدا للطرفين .. فنداء تونس
بخلفيته التجمعـية المعـروفة وعدم تميّـزه بخط ايديولوجي مؤثر، أفضل الخصوم بالنسبة للنهضة الذين
يمكن مواجهتهم بسهولة ، والانتصار عليهم على
خلفية الماضي التجمعي .. أو التوافق معهم ان لزم الامرعلى خلاف القوى الاخرى
اليسارية مثلا والقومية ..
في حين ان وجه المصلحة بالنسبة لنداء تونس هو ايضا استسهال الخصم الذي يمكن
التنافس معه على مضامين شكلية مثل الحداثة والحريات ، كما يمكن اتهامه بالظلامية
والارهاب .. وفي أسوء الاحوال يمكن التعويل على التوافق معهم والتعايش مثلما كان
يجري في الواقع خلال فترة التهدئة ..
وهكذا اكتملت اللعبة . لعبة
المصلحة على حساب الوطن ، التي تؤكد ان الاخوان لا يختلفون فعلا - حين يتلاعبون
بالسياسة - على أي نظام متخلف في الوطن العربي ..
- أما في الجوانب الاقتصادية فلا يختلف حكم الاخوان عن أي حكم آخر من خلال
اتـّـباعه لنفس الخيارات الاقتصادية التي تعتمدها كل الانظمة الرجعية السائدة ، بما فيها الانظمة التي أدت الى
الازمات الخانقة في كل من تونس و مصر ، والتي وقع
اسقاطها بواسطة الثورات الشعـبية .. انها خيارات التفويت في القطاع العام
والخوصصة والخضوع لشروط صندوق النقد
الدولي ، والمنظومة الراسمالية العالمية ، المعروفة بأنها لا تمنح أموالها للمقـترضين الا بالموافقة التامة على ما تمليه
من سياسات داخلية وخارجية ..
ففي
السياسة الداخلية شهد الاقتصاد خلال فترة حكمهم ، فقدان الحد
الأدنى لاستقرار الأسعار ، أمام تنامي ظاهرة التهريب والاحتكار والسوق السوداء .. والزيادة
في أسعار المواد الاولية التي تسببت في زيادة كلفة الانتاج .. الى جانب عدم قدرة الانتاج
الوطني على منافسة المنتوج الآسيوي والتركي والاوروبي المتدفق أمام أعين السلطة
دون تدخل لحماية الاقتصاد الوطني ..
وأمام تفاقم الاوضاع وتفشي البطالة وتراجع الانتاج وقلة الموارد ، رأينا
السلطة تعمل على المزيد من الضغط على الفئات الضعيفة باتخاذها خطوات غير مسبوقة في سن قوانين الجباية لسنة
2014 التي زادت في احتقان الطبقات الوسطى حتى تم التراجع عنها .. كما شاهدنا تعويلها المفرط على الاقتراض الخارجي الذي جعـل مناورات
الدول المانحة تتزايد ، ليتعاظم تدخلها
أكثر من أجل خلق مناخ ملائم للابتزاز ، يمكـّـنها من الحصول على ما يكفي من
الامتيازات التي يمكن تحقيقها من خلال الشروط المجحفة لنظام الاقتراض مثلما يفعل
عادة صندوق النقد الدولي ،الذي يفرض
التدخل في وضع الخطط الاقتصادية للدولة في شكل مقـتـراحات ونصائح ، وهي في الواقع
املاءات لا يمكن تجاهلها ، منها التفويت في المنشآت العامة المعـروف بالخوصصة ،
ومنها مقـتـرحات الرفع التدريجي للدعم عن المواد الاساسية ، و تقديم التنازلات في
مجال الاستثمار وابرام الصفقات الخاصة باستخراج الثروات الطبيعية ، وتوجيه النشاط
الاقتصادي من خلال التدخل في تحديد الشركاء الاقتصاديين الخ .. ولعل فرض مسارات
التسوية مع المنظومة القديمة التي شهدتها تونس ، خير دليل على الخضوع والتدخل
الخارج في آن واحد ..
أما في السياسة الخارجية فان التبعـية كانت أكثر وضوحا من خلال خضوع السلطة الجديدة واستجابتها السريعة
لمطالب الدول العظمى سواء في الملف السوري
باحتضانها المؤتمر الأول لما سمي باصدقاء سوريا ، أو في اسقاط مشروع
القانون رقم 127 من الدستور المتعلق بتجريم التطبيع ، ثم باصطفافها وراء الدول العربية الرجعية
بالدرجة الاولى وعلى راسها قطر والسعودية ... الى جانب السماح لليهود باحياء ذكرى
الهولوكوست في تونس في نهاية 2013 ..
مفضية بعد ذلك الى تطور هذا الامر في عهد
الحكومة الجديدة بقبول قدوم وفود سياحية
صهـيـوينة الى جربة تحت مرأى ومسمع المجلس
التأسيسي ذو الأغلبية الاخوانية ..
لا شك أن كل هذه الأمثلة والحقائق تؤكد على
طبيعة حكم الاخوان الذين قبلوا بما لا يدع مجالا للشك بالسير على نفس النهج و بنفس
الخطوات التي تسيـر عليها كل الانظمة الرجعـية في الوطن العـربي حين اختاروا نفس
السياسة التي كان يتبعها النظامين المخلوعين في مصر وتونس والعديد من الانظمة العربية
التي تدور في الفلك الامريكي .. فكانت طبيعتهم من طبيعة تلك الأنظمة شكلا ومضمونا ..
( القدس عدد 102 ) .