الخطاب الديني بين التشدد والاعتدال ..
يذهب المرء يوم الجمعة لآداء الفريضة ، خاشعا مسلـّما أمره لله ، ساعيا الى نيل الأجر ومغفـرة الذنوب
.. والواقع فان صلاة الجمعة هي أكثر
الفرائض تأثيرا على حياة المسلمين من عدة جوانب :
- منها آداؤها الجماعي الذي يجعل كل انسان يخصص ذلك اليوم
لحضور الصلاة ، فيرتـّـب أموره الخاصة
مسبقا حتى لا يتخلف عن ذلك الموعد ..
- ومنها أسلوبها الدوري الذي يجعلها تتكرر بالنسبة
للانسان مرة كل اسبوع ، فـتجعله دوما قريبا من الله ، متبعا أوامره في كل ما يخص
الدين والمعاملات ..
- ومنها أيضا مضمونها الديني والاجتماعي من خلال الخطبتين المتتاليتين الحاضرتين في كل
جمعة بما فيهما من محتويات يُفترض أن تجعل المسلم لا يحيد عن ثوابت الدين ..
لذلك يمكن
للانسان أن يلاحظ بكل سهولة تاثير تلك الجوانب على المصلين عند انتهاء الصلاة
واثناء خروجهم من المسجد ، وحتى بعـيدا عنه في ما تبقى من ذلك اليوم ، فنرى أثر الخشوع والتقوى من خلال
الابتسامة على وجوه الناس والمصافحة الحارة ، وحضور الكلمة الطيبة والورع واللطف
في المعاملة الخ ..
ولعل الامر لا يحتاج الى كثير من العلم والاجتهاد
للتـّـأكّـد من أن ذلك السلوك الحاصل بين الناس هو في النهاية أحد أهم الاهداف من
صلاة الجمعة .. و هو أن تكون الفريضة ذات اثر ايجابي على حياة المسلمين ، تـُصلح
من شأنهم و تعيدهم الى الجادة والطريق الصحيح ، بفضل
تلك الممارسة الدورية والجماعية ، وبذلك الحضور و في ذلك المكان و بتلك المضامين
الدينية بما فيها من مواعض ودروس ملامسة لواقع الناس ، وبما يمكن جمعه من
المؤيادات النابعة من القرآن والسنة ، فضلا عن الدعاء والابتهال الى الله ..
أليس هذا كافيا لآداء صلاة الجمعة ؟
كلا . فان
البعض من الايمة يصرّون على اثارة كل ما يجـري من أحداث على الساحة ، بما في ذلك
الصراعات الاقليمية ، باعتبار أن الاسلام له علاقة بالدين والحياة بكل جوانبها وهو
أمر صحيح ..
غير أن الغير صحيح هو تحويل الفريضة الى مناسبة
لالقاء الخطب المنحازة لطرف من الاطراف ، فيتناسى الامام موقعه فوق ذلك المنبر المحايد البعيد عن
كل الصراعات ، ليأخذ موقعه في أماكن الصراع الدائرة على الارض منحازا الى طرف ضد
أطراف آخرين لهم حضورهم بين المصلين ، كأن يردّ بالدعاء على طرف من أطراف
الصراع ، وهو ما ينقل الانقسام الى صفوف المصلين بين مؤيدين للدعاء رافعين أكفهم
عاليا ، وبين رافضين له فلا يتبعون الامام في التأمين معـبـرين عن عدم الرّضى وعدم
الاستجابة للدعاء .. ! مما يجعل هؤلاء المصلين
يفقدون خشوعهم ، فيهجـرون المسجد في المستقبل ، وقد يضطرهم ذلك أحيانا للتخلف عن
صلاة الجمعة بسبب عدم ملاءمة وقت الصلاة الثانية لظروفهم أو لعدم امكانية تنقلهم
لأماكن بعيدة .. وهكذا يعمل هؤلاء الايمة - بقصد أو بدون قصد - على تعقيد حياة
الناس على غير حق ، ودون ذنب اقـتـرفـوه ..
والغـريب أن كثيرا من
الايمة يتصرفون بعقـلية المالكين للمنبر والأوصياء على المسجد .. في حين أن دورهم هو دور المسؤول الذي
يؤدي مهاما دينية ووظائف اجتماعية هي من صميم تلك المهام الدينية ذاتها ..
فـلـلحديث عما يدور في
المجتمع من منظور ديني وشرعي ، يجب على الامام في مثل تلك المناسبة التحلي بالحكمة
بحكم مسؤوليته ووظيفته الدينية والاجتماعية ، وخاصة في الاوقات الحرجة التي يشهد
فيها المجتمع انقساما بسبب الصراعات السياسات والاديولوجية التي يمكن ان تخرج عن
سياقها فـتـتحول الى فـتن واقتتال بين المسلمين .. لذلك يجب أن يكون الخطاب الديني واعيا ومسؤولا ، يعمل على الجمع
بين الناس ورص صفوفهم و دعوتهم للحوار والتواصل والصبر ، وقـبـول الاختلاف ، وتجنب
المسائل الفرعـية والثانوية التي لا يمكن حسمها بالعـنف .. وقد يكون من مظاهر الغـرابة في الكثير من
الخطابات الدينية البعـيـدة عن الواقع ، التي نسمعها في مثـل هذه المناسبات الدينية ، هو من ناحـية تركـيـزها
المبالع فـيـه في الحديث عـن الكفار، حتى يظن السامع بأن هؤلاء حاضرين معهم في المسجد !!
..
ثم من ناحية ثانية في الحديث عـنهم بشدة وبقسوة ،
تجعل السامع يظن أيضا بان أهم مشكلة في حياته هي مع الكفار ، في حين أنه حينما
ينظر في واقعه لا يجد واحدا منهم .. ! وهو
ما يعـبـر فعلا عن جهل المتحدث بأصل المشكلة ، وقواعد الدعـوة ، وحق الناس في
الاختيار ..
ففي مايخص اصل المشكلة وحق الاختيار فان الانسان
أولا يصدق عليه قول الرسول صلى
الله علـيه وسلم حينما قال :" ما من مولود الا و يولد على الفطرة ، فأبواه
يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجساه " ( رواه البخاري) . وهو ما يعـني ان أي انسان
مسيحي لو ولد في عائلة مسلمة لكان مسلما مثـل غـيـره .. وهذا يصدق على أي انسان آخـر
بوذيا كان او يهوديا .. والعكس صحيح ايضا .. لذلك فان الحكم على الكفـر والايمان
هو امر نسبي لا يجوز فيه الحكم الا لله سبحانه
وتعالى كما قال في محكم تنـزيله " ان ربك هو أعلم بمن ظل عن سبيله وهو أعلم
بالمهتدين "( النحل 125 ) ..
ومن
ناحية ثانية ، فان حرية الاختيار التي يتميز بها الانسان ليست مطلقة ، حيث يتـكـوّن
جزءا هاما من شخصيته مبكّـرا في مرحلة الطـفـولة الاولى كما جاء في الحديث الشـريف
، وكما يؤكـد ذلك عـلماء الاجـتـماع ..
ولذلـك فان الانسان حينما يكبر ويبدأ في
التمـيـيـز والاختـيار بين الاشياء ، سيجد نفسه عادة في انسجام تام مع ما تربّى
عليه ، ولذلك يصعـب عليه تغـيـيـر معـتـقداته
الا بشكل نادر .. غـيـر انه مهما كان الامر فان لكل انسان الحق في اختيار ما يشاء
لينال الجزاء الذي يستحقه في الآخرة .. ثم من حقه ان يتمتع بالمهلة التي منحه اياها
الله سبحانه حين ترك له باب التوبة مفـتوحا ليراجع نفسه ويتوب التوبة النصوح التي
تمحو عنه جميع الذنـوب بما فـيها ذنوب الكفـر .. أما اذا كان ذلك " الكافر
" لا يجد فـرصته في الاطلاع على الدين بحكم أنه بغير لغته ، أو لأنه قد نزل في
غير مجتمعه حتى يطلع عليه ليقتنع به
ويلتزم بأوامـره ونواهـيـه ، فان ذلك سيزيد الامر تعـقـيدا ويجعـل حكم البشر
على البشر مستحـيلا .. !!
اما في ما يخص الجهل بقواعد الدعوة فانها مشكلة أكبر من مجـرد الاطلاع على
الاحاديث والآيات التي تامر باتباع الاسلوب الذي امر به الله رسوله الكـريم عـنـدما
قال له : " ادع الى سبـيل ربـك بالحـكـمة
و الموعضة الحسـنـة وجادلهم بالتي هي احسن
" ( النحل 125 ) ، بل يتعـداه
الى الفهم الشمولي لمجمل ماجاء في كتاب الله ، حيث لا يجوز التجزئة والفصل بين
الآيات الواردة في القـرآن الكريم ، ولا يجوز ايضا استغـلالها في غـيـر سياقها أوعـزلها
عن واقعها زمن الوحي وهو ما يُـعـرف بأسبـاب الـنـزول ، كما لا يجـوز تاويلها بغـيـرما
تحـتمله في الواقـع كـأن تـُـنسب لفـئة ليست هي المقصودة في واقع الامر .. وهو ما
نراه يحدث بكل اسف في واقـعـنا ..
والله أعلم .
( القدس عدد
101 ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق