القدس عنوانها وفلسطين بوصلتها

القدس عنوانها وفلسطين بوصلتها
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجزء الثاني

روابط الأجزاء :

تـقديــــم / الجـــزء 1 / الجـــزء 2 

الجــزء 3 / الجــزء 4 / الجــزء 5  

الجــزء 6 / الجــزء 7 / الجــزء 8 

الجـزء 9 / الجـزء 10 / الجزء 11 

الجـزء 12 /الجزء 13 الجزء 14

الجـزء 15 / الجزء 16 الجزء 17

الجزء 18 / الخاتمة / المحتوى كامل  

فرز واحد ... أم فرز متعدّد ... ؟

دراسة في أقوال ومواقف الدكتور عصمت سيف الدولة .

-2-

قلنا في الجزء السابق أن مجموع الأسئلة التي طرحناها مسألة ضرورية للإحاطة بكل الجوانب المتصلة بموضوع الفرز .. ولكن قبل الذهاب الى جوهر الموضوع بالتفاعل مع هذه الأسئلة لا بد من الاشارة الى أن الفكرة كلها مستوحاة من منهجية الدكتور عصمت سيف الدولة في تناول المسائل المعقدة والمتداخلة وخاصة حينما تكون الأحكام المتصلة بها والمواقف المترتبة عنها بالغة الأثر في صياغة الأفكار وتحديد وجهات النظر اللاحقة من القضايا المصيرية المطروحة .. وهو أسلوب وجدناه يتكرر بشكل ملفت في كل القضايا التي يتناولها عصمت سيف الدولة بالبحث والدرس ولو في مسائل جزئية كما سنرى في كثير من الأمثلة .. ولعلنا في مستهل هذا الحديث نستحضر أسلوبه "المنهجي" في محاولة فهم وتقييم "المضمون الديمقراطي" لثورة 23 يوليو ضمن ورقته التي قدمها لندوة ثورة يوليو (مايو – أيار 1986 بالقاهرة) تحت عنوان "ثورة يوليو والمسألة الديمقراطية" جاء فيه طرح مسألة مهمة سماها بـ "المسائل الأولية" ، مستفيدا من خبرته في مجال تخصصه الأكاديمي والمهني حين قال في هذا السياق : "التقييم حكم طبقا لمعايير سابقة وثابتة . ولا يكون الحكم عادلا إذا ما كانت المعايير ذاتها في حاجة إلى تقييم . هكذا يمتنع على القضاء – في إجراءات التقاضي – أن يحكم في موضوع محدد إذا كان الحكم فيه متوقفا على حكم في مسالة خارج نطاقه . يسمون تلك المسألة ، إن وجدت ، مسألة أولية ويوجبون الفصل فيها أولا قبل تناول الموضوع . ونحن مطالبون بأن نقيّم "ثورة يوليو والمسألة الديمقراطية" . فما هي ثورة يوليو ؟ هل هي الحدث الذي وقع في مصر صبيحة 23 تموز 1952 ؟ أم هي الحركة الثورية التي بدأ الإعداد لها منذ عام 1942 وانتصرت عام 1952 ؟ أم هي السلطة الحاكمة في مصر من منذ 1952 حتى 1970 ؟ أم هي الأفكار أم هي الآثار أم هي الانتصار أم هي الانهيار والى أي مدى من الزمان امتدت ثورة 23 يوليو بعد 1952 ؟ "..  

ثم انه لا يكتفي بهذا التحديد الأوّلي من خلال الأسئلة المطروحة ، بل انه يذهب أكثر من ذلك في تقييد مجالات البحث محددا منذ البداية المجالات المتاحة له موضوعيا للوصول الى التقييم الموضوعي في الحكم على "المضمون الديمقراطي لثورة يوليو" من خلال الفصل في المسائل الأولية المتعلقة بموضوع البحث .. وهكذا فان اختلاف وتباين مواقف الثورة في مراحل مختلفة من مسيرتها لمفهوم الديمقراطية ، مسألة أولية قال فيها : "فقد كانت للثورة رؤى ومواقف مختلفة من المسألة الديمقراطية . كانت ثورة ضد ديمقراطية ما قبل 1952 من أجل "الديمقراطية السليمة" في مرحلة الإعداد . وكانت ثورة بلا شكل ديمقراطي في مرحلة الانتقال من 1953 حتى 1956 ، تخللتها فترة اضطراب كان موقف الثورة من المسالة الديمقراطية فيها يتردد بين متناقضات لا يمكن التوفيق بينها"  .. ثم بعد أن يذكر الأمثلة يختم بالقول : "هذه زاوية رؤية لثورة يوليو والمسألة الديمقراطية عرضناها تفصيلا في كتاب "الأحزاب ومشكلة الديمقراطية في مصر – 1977" بدون تقييم . فما الذي يمكن أن نحسبه لثورة يوليو وما الذي يمكن أن نحسبه عليها ونحن نحاول تقييمها الان من بين المراحل المتعاقبة المتغايرة وتناقضاتها ؟ هذه مسألة أولية"  ..

ثم ان النظر في العلاقة بين الجوانب الفكرية والنظرية المتطورة للثورة  وممارستها الفعلية في الواقع مسألة أولية ثانية قال فيها : "ثمّة زاوية تحدّدها أجوبة أخرى على الأسئلة التي ذكرناها . زاوية العلاقة بين أفكار ثورة يوليو عن المسألة الديمقراطية وبين تطبيقها . فعلى امتداد الفترة من 1952 حتى وفاة قائد الثورة جمال عبد الناصر لم يكن موقف الثورة من المسألة الديمقراطية كما هو موضوع في الوثائق الدستورية أو الفكرية متفقا دائما مع الممارسة" .. ثم بعد أن يذكر الأمثلة المؤيدة لهذه الناحية على غرار ما حدّده دستور 1956 في الأسلوب الشعبي لإنشاء الاتحاد القومي أو في ما تلاه بالنسبة للاتحاد الاشتراكي ، يختم بالقول : " لقد عرضنا بالتفصيل موقف ثورة يوليو من المسالة الديمقراطية على مستوى الافكار والمواثيق الدستوريسة في كتاب صدر عام 1976 تحت عنوان "النظام النيابي ومشكلة الديمقراطية" بدون "تقييم" فما الذي يمكن أن نحسبه لثورة يوليو أو نحسبه عليها وتقييمها الان : الافكار والوثائق أم الممارسة والتطبيق . هذه أيضا مسألة أولية" ..

كذلك ، زاوية النظر الى الثورة في علاقة بقائدها مسألة أخرى أولية مهمة ومعقدة لا يمكن تجاهلها في نظر عصمت سيف الدولة قال فيها : " وأخيرا عبد الناصر وثورة يوليو والمسألة الديمقراطية . هذه زاوية ثالثة للرؤية وأكثر تعقيدا . ان جمال عبد الناصر ، بدون خلاف هو مدبر ومفكر ومفجر وقائد ثورة يوليو . لم يكن حتى عام 1962 منفردا بالقيادة السياسية ، ولم يكن حتى عام 1967 منفردا بقيادة الدولة (كان عبد الحكيم عامر حتى عام 1987 قائدا منفردا في المجال العسكري) بل كان قائدا مرموقا - نعم - لمجلس قيادة الثورة أو أعضائه ، وهم جماعة مختلفة الرؤى والمواقف الى حد لن يظهر صارخا الا بعد وفاة عبد الناصر وان كان لهم مواقف ورؤى فردية مختلفة منذ البداية" .. وبعد أن يذكر أمثلة من مواقف متباينة لأعضاء مجلس قيادة الثورة من مسألة الديمقراطية يختم قائلا : " لقد عرضنا موقف عبد الناصر من الديمقراطية في كتاب ظهر عام 1978 تحت عنوان "هل كان عبد الناصر ديكتاتورا" ، بدون تقييم أيضا . فما الذي يمكن أن نحسبه لثورة يوليو أو نحسبه عليها من بين رؤى ومواقف قادتها ونحن نحاول تقييمها الان . هذه أخيرا مسألة أولية" ..   

وبالرغم من طرح كل هذه المسائل الأولية يواصل الدكتور عصمت سيف الدولة في طرح مسائل أخرى لا تقل أهمية ، ولا يمكن تجاهلها أيضا في مسألة الحكم والتقييم منها بالخصوص مسائل تتعلق بالمفاهيم الخاصة بالديمقراطية ذاتها : " ما هي ؟ وهل ماهيتها هذه مطلقة بالنسبة لكل زمان ومكان أو نسبية في الزمان والمكان ، وما علاقتها بالحرية أو المساواة ، وما مضمون كل منهما في العالم المعاصر ، وهل يتسق مضمونها في المجتمعات المتقدمة والمجتمعات المتخلفة ، وهل يتأثر سلبا أو ايجابا بالتمايز الحضاري ، وما أثر الاغتصاب الاستيطاني والاستعمار الامبريالي والهيمنة الثقافية على الحرية والمساواة وبالتالي على الديمقراطية لوجدنا أنفسنا في مواجهة عشرات أو أكثر من "المسائل الأولية" التي لا بد من تقييمها ابتداء حتى نملك بحق معيار أو المعايير اللازمة لتقييم ثورة يوليو والمسألة الديمقراطية تقييما عادلا  " ..

وأمام كل هذا التعقيد يتساءل الدكتور عصمت سيف الدولة قائلا : " فما العمل ؟ " .. ثم يجيب بـ : " الاختيار " ..  وهو اختيار مزدوج :

- اختيار الفترة التي استقر فيها حكم عبد الناصر المباشر وهي الفترة الممتدة من 1957 الى 1967 ..

- واختيار معيار الحكم على المضمون الديمقراطي الذي سعت الثورة لتحقيقه متمثلا في "الديمقراطية الاجتماعية" ..

وهكذا ، ووفقا لهذه المنهجية قام الدكتور عصمت سيف الدولة بحصر الموضوع في حدود ما يسمح به مجال البحث المحدّد بطبيعته في ورقة مقدمة للندوة في وقت محدود ..

وبالعودة الى موضوعنا ، فان طرح مسألة الفرز على ذلك النحو – دون حصر لمجال البحث - وبهذا الاسلوب المنهجي المفتوح للاحاطة بكل جوانب الموضوع ، يحوّل امكانية البحث فيها الى مهمّة شبه مستحيلة ، لا يمكن حلها وتجاوزها الا بالبحث والاستقصاء لكل الأثر الذي تركه المرحوم عصمت سيف الدولة ، الى جانب "الغربلة" لكل مواقفه الفكرية والحركية ذات العلاقة بمشروعه عامة ، وبأسلوبه في ممارسة قناعاته خاصة ، من خلال ما عرف وما ثبت عنه فعلا من أساليب حركية في التفاعل والتعامل مع القضايا المطروحة ..

ثم إن محاولة الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالقصد يثير الكثير من الغموض باعتبار إن المسألة تتحول إلى ما يشبه البحث في النوايا التي يستحيل معرفتها معرفة يقينية دون قول صريح من صاحبها تعبيرا منه عما يقصده من وراء استعمالها .. وهذا الحكم نأخذه من الدكتور عصمت سيف الدولة نفسه وقد ذكره في حوار فكري مع الشيخ محمد حسين فضل الله حينما أراد أن يجتهد في فهم ما يقصده من حديثه عن العروبة والقومية معتمدا على ذلك الفهم كأساس للحوار قال فيه : " حينما قال الشيخ محمد حسين فضل الله "العروبة قومية" لم يعد ثمة أي وجه لينسب إليه انه يستعمل كلمة "العروبة" بدلالتها السابقة على التكوين القومي العربي ، أي بدلالتها الأسرية او العشائرية  او القبلية او الشعوبية . ويصبح حقا له ان تؤخذ كلمة العروبة في أي موضع استعملها على انها تعني القومية العربية . ولكن هذا لا يعني ان يكون من حق احد ان يسند اليه مفهوما معينا  للقومية  لم يصرح هو به " .. وهكذا فأن الشيء بالمثل في موضوعنا أيضا .. لذلك فان هذا الجانب يحيلنا مرة ثانية الى نقطة البداية ، وهو أمر يتطلب - كما قلنا - جهدا كبيرا من المسح والاستقصاء والبحث في كل الأثر الذي تركه الدكتور عصمت سيف الدولة من كتب ومحاضرات وحوارات ومقالات صحفية مما يمكن الوصول إليه وهو على غاية كبيرة من الصعوبة لعدم توافره كاملا ومجمّعا ، وبعضه متناثر في الدوريات والمجلات والجرائد بكل ما له من أهمية فكرية وبحثية فضلا عن أهميته السياسية المتعلقة بمشروعه .. وقد يكون هذا النهج - بما يتضمنه من عملية بحثية معقدة ومتشعبة : مسحا وتجميعا وتحليلا واستنتاجا دون الذهاب بعيدا في فهم سياقاته ومعانيه ومقاصده عن الأسس التي يقوم عليها المشروع - هو الأسلوب الوحيد الذي نستطيع من خلاله فك رموز تلك العبارات المتداولة ، وصولا الى جمع حوصلة نهائية تتعلق بالمفهوم الذي كان يقصده والدعوة التي يدعو اليها  .. فلنبدأ من البداية من خلال المراجع والمصادر المتاحة .. ولنرجو ما رجاه الدكتور عصمت سيف الدولة في كتابه حوار مع الشباب العربي "أن يصبر القراء على ما ننقل لأننا نريد أن يكون الحوار مفيدا " ...

المنهجية اذن مسألة أولية .. وأول شروطها أن يكون آخرها متصلا بأولها ..

ثم ان الحديث في موضوع الفرز الذي نخوض فيه لم يكن اختيارا ، بل كان اضطرارا ، لفرط ما تكرر الحديث فيه - بين القوميين - مرتبطا "بتأويل" أفكار الدكتور عصمت سيف الدولة وهم الذين نتقاسم معهم تلك القناعات .. لذلك نعتقد ان طرح كل الأسئلة السابقة مسائل أولية مهمّة تحتاج الى أجوبة – ولو دون ترتيب - للإحاطة بكل جوانب الموضوع من خلال النهج الذي حدّدناه .. 

(القدس - م .ع / فيفري 2018). 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق