روابط الأجزاء :
تـقديــــم / الجـــزء 1 / الجـــزء 2
الجــزء 3 / الجــزء 4 / الجــزء 5
الجــزء 6 / الجــزء 7 / الجــزء 8
الجـزء 9 / الجـزء 10 / الجزء 11
الجـزء 12 /الجزء 13 / الجزء 14
الجـزء 15 / الجزء 16 / الجزء 17
الجزء 18 / الخاتمة / المحتوى كامل
فرز واحد ... أم فرز متعدّد ... ؟
دراسة في أقوال ومواقف الدكتور عصمت سيف الدولة .
-3-
في نهاية الجزء السابق انتهينا إلى ربط موضوع
الفرز بتلك المسائل الأولية التي تقتضي الانطلاق مع الدكتور عصمت سيف الدولة منذ
بداية المشوار في هذا المشروع الضخم .. وفي هذا الصدد عندما نعود الى كتابات عصمت سيف الدولة نجد أول استعمال لمصطلح الفرز في "بعده القومي" في الفقرة السادسة من نظرية الثورة العربية المتعلقة بالمنهج الليبرالي وقد جاء فيها : " ان هذا القصور في النظرية قد سمح بأن تختلط بالقوى القومية التقدمية ، داخل الحركة القومية ، قوى رأسمالية متراجعة أو لا قومية متراجعة أو انتهازية ترفع جميعاً شعارات واحدة وتحتفظ كل منها بفهم خاص وتفسير خاص للشعارات الموحدة . فإذا بالحركة القومية "المنتفخة" بقواها غير قادرة على أن تحقق شعاراتها أو حتى أن تجمع في قوة واحدة جماهيرها العريضة . وأن الفشل المتكرر يعني أن ثمة خطأ ما في المسيرة كلها لا يكفي لتصحيحه مجرد الجمع في شعار واحد بين الحرية والوحدة والاشتراكية . فلا بد لنا من نظرية لتغيير الواقع العربي أكثر وضوحاً وأكثر بلورة وأكثر مقدرة على فرز القوى المختلطة داخل الحركة القومية . نظرية نلتقي بها في قوة واحدة ولو كانت أقل عدداً . ونلتزم فيها بخطة واحدة ولو كانت أطول مدى . وتقود خطانا ولو كانت أبطأ حركة . فإننا حينئذ سنتقدم تقدماً مطرداً بدلاً من أن نقفز إلى الأمام لنعود فنقفز الى الخلف ولا نتقدم الا قليلاً " .. والمقصود كما هو واضح : الفرز المتعلق بالأفكار على أساس نظري أولا ..
ثم تكررت نفس الجمل في كتاب الأسلوب الفقرة 66 ، وهو حديث عن المقدمات النظرية والفكرية اللازمة التي يجب أن يقوم عليها موضوع الفرز في هذه المرحلة من الحديث ، وقد رأينا كيف ربط في مواضع شتى من نظرية الثورة العربية بين التخبط الفكري الذي ساد طويلا في الوطن العربي ، وبين الهزائم الحاصلة في تاريخ العرب الحديث ..
ثم بقليل من الجهد في تصفح كتاب الأسلوب نجد العنوان الأبرز في الفقرة 67 تحت عنوان " فلتفرز القوى " .. حيث يمكن أن نتبيّن القصد بوضوح وهو فرز القوى التقدمية من القوى الرجعية ، ونحن نعرف ان الدكتور عصمت سيف الدولة يعي ما يقول ويدرك مدلول الكلمات التي يستعملها .. وانه واضح في تبويبه لكل فقرة واردة في كتاباته .. فهو على وعي تام بان مضمون هذا الكتاب موجه للتقدميين الذين خصهم وحدهم بالاجتهاد في أسلوب تحقيق دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية التي قال عنها في نهاية الحديث عن القوى التقدمية التي تؤمن بتلك الغاية بأنه " لا يوجد خارجها تقدمي واحد .. " ، باعتبار وحدة المشكلات ووحدة الحلول المناسبة لها في الواقع .. ولذلك نجده يستهل الحديث في كتاب الأسلوب بقوله : " قد لا يختلف اثنان من التقدميين في الوطن العربي على الغاية التي انتهينا إليها : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية . ولكنهما يختلفان ، ويختلف كثير غيرهم ، في الإجابة على السؤال : كيف تتحقق ؟ " ..
وقد بدأ التمهيد لمفهوم الفرز في الفقرة المذكورة بما جاء في آخر الفقرة 66 ، من كتاب الأسلوب ، بالقول الواضح في موضوع الفرز الذي طرحه على أساس ما يعرف بثوابت المشروع القومي او ما سماه عصمت سيف الدولة بالمنطلقات والغايات والأسلوب وهو ما قاله في تلك الفقرة : " ... وهكذا كانت غيبة نظرية في الأسلوب على المستوى الفكري وفشل الأسلوب التجريبي على مستوى الممارسة هو الذي حملنا على تلك المراجعة لمنطلقاتنا وغاياتنا وعلى ان نعود فنبدأ من جديد بحثاً عن المنهج . فكأن كل ما قلنا كان بحثاً عن حل لمشكلة الأسلوب . ولقد بدأنا بذلك المنهج بسيط الكلمات (جدل الإنسان) وحملناه معنا في كل سطر من فقرة وفي كل فقرة من موضوع فحددنا به منطلقاتنا وحددنا به غاياتنا وأجبنا به على كل الأسئلة التي خطرت لنا خلال الحديث . غير ان هذا كله أصبح معلقاً على صحة الإجابة على السؤال الذي يصل الفكر بالواقع وتتحول به الغايات الى حياة : كيف نحقق دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية في الوطن العربي . ولقد أعدنا كل هذا لنعرف أمراً على جانب كبير من الأهمية : ان الأسلوب ليس متروكاً للاجتهاد الفردي في ساحة الممارسة ولكنه جزء من النظرية التي نلتقي عليها ونلتزم بها ونحتكم إليها ... (انتبهوا الآن) ... وعلى أساس الالتزام بالمنطلقات والغايات والأسلوب معاً تفرز القوى كل يلتقي على نظريته ويلتزم بها ويعمل على تحقيقها في الواقع بأسلوبها . وعندما تفرز القوى تكون كل واحدة منها أقدر بذاتها على تحقيق غاياتها منها وهي مختلطة بغيرها تحت ستار وحدة الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية . وهذا الفرز هو أول خطوة في سبيل حل مشكلة الأسلوب .. ". .. أي انه كان يقصد الفرز بين القوى التقدمية والقوى الرجعية وليس بين التقدميين أنفسهم الذين يحملون نفس الغاية ويختلفون في بعض القراءات والتأويلات والمواقف الخاصة بالمتغيرات ..
ولما كان القوميون تقدميين والإقليميون رجعيين عند الدكتور ، فان الموقف من الفرز يزداد وضوحا وتأكيدا في مقال له بعنوان "صوت الأصيل الغائب" يشدّد فيه على أن الفرز المقصود ـ في هذه المرحلة ـ هو فعلا بين القوميين التقدميين والإقليميين قال فيه : " تفرز القوى في الوطن العربي على أساس مواقفها من الواقع وتناقضاته ، القوميون التقدميون قوّة مفرزة والإقليميون بكل اتجاهاتهم قوى مفرزة . كل قوة تمثل واقعا موضوعيا ماديا وبشريا . أحدهما الواقع القومي ، والثاني الواقع الإقليمي . وعندما تفرز القوى على هذا الوجه سيكون التناقض بينهما أعمق مما تجدي فيه المصالحة أو الحلول الوسيطة ، وسيكون الصراع بينهما أكثر ضراوة من كل صراع عرفته الأرض العربية . وهذا هو ما تدركه القوى الإقليمية تماما وتخشاه حتى الموت "...
لكن السؤال الذي يمكن أن يتبادر الى الذهن : من هي القوى الإقليمية التي يقصدها الدكتور ؟ والجواب يأتي منه في نفس الفقرة : " ولما كانت القوى الإقليمية هي المسيطرة حاليا بأجهزتها الإقليمية "الدول" فإن كل تلك الدول تسخر قواها الظاهرة والخفية وتتعاون فيما بينها ومع أعداء الأمة العربية في كل مكان للحيلولة دون أن تفرز القوى القومية نفسها فتصبح قوة مواجهة ضارية " . ثم يضيف : " إن القوى الإقليمية السائدة لن تسمح أبدا للقوى القومية التقدمية بأن تفرز نفسها وتلتحم معا لتكون قوة مستقلة عن الدول العربية وقواها الإقليمية " .
اكثر من هذا في موضوع الفرز ما جاء في محاورات الدكتور عصمت سيف الدولة للناصريين وهو يجتهد معهم في ما يجب غربلته من تجربة عبد الناصر الغنية لبلورة نظرية المستقبل . فبعد ان يؤكد على ان التجربة لم تكن تستند الى نظرية جاهزة بحكم ظروفها التاريخية وباعتراف جمال عبد الناصر نفسه ، وبعد ان يستبعد إمكانية ان يكون كل تراث ثورة 23 يوليو ومواقف عبد الناصر وتصريحاته وخطبه نظرية مبلورة ومكتملة باعتبار صدورها عنه وهو في موقع المسؤولية لدولة إقليمية ذات سياسات ومصالح ظرفية فضلا عن اختلاط تجربته بجهود الوصوليين والانتهازيين الذين أساءوا للتجربة ذاتها وهم يرفعون الولاء للثورة وقائدها ، نجده يتطرق الى ضرورة فهم خصوصيات التجربة سواء من ناحية إطارها الزماني والمكاني (كرد فعل غير منظم جماهيريا على واقع ما قبل الثورة) او من حيث ظروف نشأتها وتطورها على المستوى الفكري والحركي (من الأفق الإقليمي التحرري الى الأفق القومي الوحدوي الاشتراكي) ، وهو ما يقود الناصريين ـ حسب هذا الطرح ـ الى ضرورة الفرز على أساس الأفق الذي انتهت اليه الثورة ، ليضع الناصريين أمام "ثوابت" النضال العربي الذي كانت تخوضه ثورة 23 يوليو : تحت شعار : حرية اشتراكية وحدة ، فيقول في دراسته الناصرية كيف ؟ المنشورة بمجلة الشورى : " لا تجوز الاستهانة بالصعوبات الواقعية التي تعترض استخلاص مبادئ الناصرية من الوعاء التاريخي الغني لمرحلة عبد الناصر .
انها صعوبات واقعية يقتضي التغلب عليها جهودا مخلصة ، ومعرفة علمية صحيحة بالواقع التاريخي الذي انقضى ، وبالأسلوب العلمي لاكتشاف المبادئ الأساسية التي أسهمت في تطويره . ولكن التغلب على تلك الصعوبات ليس مستحيلا . بالعكس . ان عوامل مساعدة كثيرة متوافرة الآن لتسهيل مهمة التغلب عليها . أهم تلك العوامل هو انكشاف سقوط أدعياء الناصرية بعد وفاة عبد الناصر ، وارتدادهم الى مواقع الهجوم على تجربته التاريخية .
من العوامل المساعدة أيضا وضوح المواقف الفعلية لكثير من القوى والأفراد من المنجزات التحرّرية والوحدوية التي شكلت الاتجاه العام لفترة قيادة عبد الناصر .. ففي مواجهة الارتداد أو السلبية تنمو حركة جماهيرية ايجابية للدفاع عن تلك المنجزات وتطويرها . وهكذا تكاد القوى التي كانت مختلطة تحت قيادة عبد الناصر أن تفرز كل منها نفسها فيتحدّد موقفها من المستقبل التقدّمي الذي يرمز له شعار عبد الناصر : حرية ، اشتراكية ، وحدة . وإذا كان كل هذا قد أدّى إلى انكماش حجم الناصريين عددا فانه أدّى بالمقابل إلى وضوح هويتهم ، وبالتالي أصبحوا أكثر مقدرة على بناء نظريتهم . وعندما يبنونها سيعرف الجميع الإجابة الصحيحة عن السؤال : ما هي الناصرية ؟ " .
للإجابة على هذا السؤال يضع الدكتور عصمت سيف الدولة ثلاث ضوابط موضوعية لبلورة الأسس النظرية لالتقاء الناصريين وفرز صفوفهم على ان تؤخذ ـ كما يقول - " في بناء النظرية المبادئ الفكرية في درجة نموها القصوى التي وصلت إليها في حياة عبد الناصر . ان هذا يقتضي تتبع نشأة ونمو وتطور تلك المبادئ خلال الفترة التاريخية التي انتهت سنة 1970 وطرح كل المبادئ الفكرية التي تجاوزتها تجربة عبد الناصر وصححتها وطورتها .. " .
ويحصر هذه المبادئ في ثلاث أمثلة وهي :
المثال الأول " الذي يمكن أن نضربه لبيان ضرورة هذا الفرز هو الموقف من الوحدة العربية " .
والمثال الثاني " الذي نستطيع ان نضربه بيانا لضرورة هذا الفرز هو موقف عبد الناصر من الاشتراكية " .
والمثال الثالث " الذي نستطيع أن نضربه لضرورة هذا الفرز يمكن أن نستمدّه من مشكلة الديمقراطية " .
أي انه يعود مرة أخرى في موضوع الفرز الى التركيز على أهداف النضال العربي التي تؤدي في النهاية الى بناء دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية مع التأكيد دائما على وحدة الاداة النضالية اللازمة لبنائها .. بل انه في موقف آخر (منتصف الثمانينات) ينتقل فيه الدكتور للحديث عن المشكل في "بعده القطري" ورد في كتابه عن الناصريين واليهم ، نجده يكتفي بالميثاق باعتباره ثمرة لنمو فكر عبد الناصر الذي صقلته التجربة على مستوى وضوح الأهداف الثلاث فيقول مستعرضا ما جاء على لسان عبد الناصر وهو يحاور قادة البعث خلال مباحثات الوحدة ليؤكد بان الميثاق يمثل أسس نظرية شبه مكتملة لفرز الناصريين وتوحيد صفوفهم : " أين هي نظرية حزب البعث .. أحنا عندنا تجربة طلعنا منها بنظرية .. وطلعنا منها بوسيلة للتطبيق . عندنا الميثاق .. أحنا كان عندنا الشجاعة في أول الثورة لنقول إن ما فيش نظرية . فيه مبادئ محددة . مشينا في التجربة والخطأ وبقينا نقول إن أحنا بنغلط 40 % وبنغلط 50 % وبقينا نقول ما عندناش نظرية . وبعد كده .. قدرنا نعمل تطبيق .. وبعدين عندنا تجربة تطبيق 11 سنة مستمرة أدت أساس للنظرية .. بالنسبة للاشتراكية وبالنسبة للوحدة كل شيء مبين في الميثاق ” . (جلسة مساء يوم 6 ابريل 1963) . ثم يعلق عصمت سيف الدولة على هذا قائلا : " هذا القول صحيح في نصه وفي دلالته . فقد فرق عبد الناصر بين مرحلة التجربة والخطأ (الممارسة) ومرحلة الميثاق . وهي تفرقة صحيحة . فلا شك في ان الميثاق أكثر تقدماً على المستوى الفكري من الأفكار المرحلية المختلطة بالتجربة والخطأ . أكثر تقدماً بكثير . وما عناه عبد الناصر في بداية الحديث من انه قد خرج من التجربة بنظرية عاد فحدده في نهاية الحديث بان ما أسفرت عنه التجربة وتضمنه الميثاق هو أساس للنظرية . وهو صحيح فلا شك في أن الميثاق قد تضمن معطيات فكرية مبدئية تصلح أساساً لنظرية متكاملة . ولا ينقص الأساس إلا البناء عليه " . وقد كان مبرر عصمت سيف الدولة ان الميثاق كوثيقة فكرية لم يقع تطبيقه بالكامل خلال التجربة ، كما انه - في نظره - يساعد بما فيه الكفاية المؤمنين بهذه الأفكار على بناء الاداة النضالية القادرة وحدها على حسم الخلافات والتأويلات داخل أطرها الديمقراطية ، بل لعله يضيف مبررا آخر وهو عدم الهروب من معارك الواقع ، فيقول موضحا كل المبررات وهو يستعرض موقفا قديما له من هذه الوثيقة طرح فيه فكرة تحويل الميثاق الى ميثاق قومي : " لم يكن هذا يعني ، ولا يعني حتى الآن ، أنه ليس في الميثاق ما يصلح لالتقاء الناصريين عليه والاحتكام إليه عند الخلاف ، بالعكس . فإن المبادئ الأساسية التي تضمنها الميثاق مازالت كافية لهذا الالتقاء بل إنها ـ عندنا ـ أكثر من كافية كبداية في هذه المرحلة من تاريخ الناصريين . أما إنها كافية فلأنها لم تجرب أبداً في التطبيق منذ أن صدر الميثاق وحتى وفاة عبد الناصر . ولقد أوضحنا بالتفصيل كيف ان الميثاق لم ينفذ في أهم ما جاء به من مبادئ وما استحدثه من نظم ( الأحزاب ومشكلة الديمقراطية في مصر ـ 1977 ) وبالتالي فإن مهمة تطبيق الميثاق ما تزال تنتظر من يؤديها وهي مسؤولية الناصريين . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى إن الميثاق هو الوثيقة الفكرية التي لا يستطيع أحد ان يشكك في نسبتها إلى عبد الناصر ، وبالتالي فهو ـ بالقطع ـ يصلح كبداية على الأقل لالتقاء كل الناصريين بدون أن يحول بينهم وبين تنميته وتطويره على هدي المرحلة التاريخية التي انقضت منذ صدوره . ولقد استمع إليّ كثيرون من شباب الناصريين وأنا أردّد هذا الرأي تحريضاً لهم على ألا يبدّدوا الوقت والجهد في صياغات واجتهادات تثير الخلاف قبل ان يملكوا ما يختلفون داخله ويختلفون إليه ليحكم فيما بينهم . ولكن كل من له إلمام ولو بسيط بألغاز النفوس يعلم أن اصطناع معارك فكرية بدون مبرر واقعي ، هي اصطناع مبرر للهروب من معارك الواقع " ..
وقد وجدناه يضيف في نفس الفترة في حوار مع جريدة القبس عدد 5522 بتاريخ 27 – 9 – 1987 مبررا من نوع آخر لخيار الحد الأدنى حين قال : " خطأ كبير أن تفرض نظرية تفصيلية متكاملة على المستقبل ، كما هو خطأ جسيم أن يلتقي الناس على برنامج براغماتي .. فالخطأ الأول مغامرة او أحلام . والخطأ الثاني لا يعصم الناس من أن ينشقوا ، ومن هنا الحاحي على المشروع الناصري (الحزب) أن ينطلق من الميثاق تحديدا ".
ثم ان الدكتور يذهب أكثر من ذلك في التحريض معتبرا ان الأهداف التحررية لثورة يوليو أكثر من كافية معتبرا بقية الأهداف أهدافا إستراتيجية بالنسبة للمرحلة فيقول : "ولقد زدنا ونزيد أن الميثاق أكثر من كاف كبداية يلتحم فيها الناصريون حزباً . ذلك لأن الردة قد عادت بالواقع العربي إلى مرحلة التحرر القومي ، أي إلى معارك ما قبل 1952 ، حيث يكفي التحام القوى على هدف التحرر ، ويبقى في الميثاق فائض من الأهداف (الاشتراكية والوحدة) التي تعتبر إستراتيجية بالنسبة للواقع الملح بمعنى ان الخلاف الفكري حولها الان عبث ، اما اشتراط تصفية هذا الخلاف قبل الالتحام في قوة تحررية فهو هروب صريح " .
وهكذا نستخلص من هذه الفقرة الدعوة الضمنية لمرحلتين من الفرز : مرحلة أولى من اجل إنشاء التنظيم يقوم على الحد الأدنى من الأفكار التي تضمنها الميثاق ، ثم مرحلة ثانية بعد قيام التنظيم بحيث يصبح الحسم النهائي في جميع الجوانب الفكرية والسياسية - او الغربلة كما سماها عصمت سيف الدولة - من مهام التنظيم ، وهذا أمر على غاية من الأهمية نتعلم منه منذ البداية ، فرز الأولويات ، ثم الغاية المطلوبة من الفرز ..
نفس هذا الموقف المتضمن المرحلتين تكرّر في حوار مع الأستاذ رياض الصيداوي في شهر يوليو 1991 تحت عنوان حوارات ناصرية حين سئل عن المشكل النظري بالنسبة للناصريين جاء فيه : " إنني لم اكف أبدا عن اقتراح ان يبدأ الناصريون وحدتهم التنظيمية على أساس وثيقة جيدة الصياغة عميقة المضمون متقدمة فكريا ، وضعها عبد الناصر شخصيا ، وأعني الميثاق ، وأن يكمل التنظيم من خلال الممارسة ما قد يكون في الميثاق من قصور " .
ليس هذا فحسب بل ان الدكتور عصمت سيف الدولة لديه معيارا عمليا للفرز اعتبر من خلاله ان الناصريين هم فعلا أولئك الفئات الواسعة من المصريين الذين لا يزالون يحلمون بعودة المكاسب التي جاءت بها ثورة يوليو حين قال : " ومع ان أحدا لم يسأل الفلاحين والعمال والفقراء والمقهورين عن ما هي الناصرية فكرا ، فان الناصرية التي ينتمي إليها هؤلاء الذين اسميهم جماهير عبد الناصر هي الناصرية الحقيقية ولا ينقصهم الا مؤسسة تجمع كل أولئك الذين عرفوا عبد الناصر وآمنوا بالناصرية وما يزالون يتطلعون إليها نتيجة مكاسب عينية ، وليس نتيجة حوارات فكرية ، أقول جميعهم في مؤسسة منظمة يعبرون فيها عن إجاباتهم عن السؤال ما هي الناصرية ؟ ليتولى المثقفون في الحزب صياغتها . إذن هي الناصرية في الواقع وليست في أذهان المثقفين ".... وهو ما يؤكد أن الدكتور عصمت سيف الدولة لم يكن ينشد تحقيق فكرة مثالية مجردة غير ذات صلة بالواقع حتى ولو كانت بحجم دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية ، بقدر ما كان يبحث عن حلول للمشاكل الموضوعية التي تعيشها الأمة العربية في ظل واقع التجزئة والتخلف . لهذا كان الفرز في نظره يقوم دوما على أسس موضوعية ، وهو ما يعني انه في علاقة دائمة بالظروف التي تمر بها قوى التغيير في الواقع العربي وبالقدر الذي يتلاءم مع تحقيق غايتها .. وهو ما يعني ـ أولا ـ أن ما ورد على لسانه في ما يخص تحديد ضوابط الفرز بالنسبة للناصريين في مرحلة التأسيس على أساس المبادئ التي جاء بها الميثاق ليس مجرد رغبة في تحقيق امنية بأي ثمن ، بقدر ما كان يعني بالنسبة إليه أن وحدة الناصريين على تلك المبادئ العامة كان يمثل حاجة ملحة بالنسبة لمستقبل النضال العربي في ظل الظروف التي شهدتها مصر والأمة العربية في تلك المرحلة ، فكانت ـ في نظره ـ إمكانية الالتقاء على المبادئ التحررية التي جاء بها الميثاق أكثر من كافية لجمع الناصريين وحشدهم لمواجهة الردة ، فضلا عن مبادئ الاشتراكية والوحدة .. وهو ما يعني ـ ثانيا ـ أن الجانب المبدئي في هذا التوجه القائم على "المختصر" من المضامين الفكرية عند الدكتور عصمت سيف الدولة ليس مجرّد استنتاج في علاقة بموضوع الفرز قد يختلف فيه المجتهدون ، بقدر ما هو موقف ثابت وصريح ورد على لسانه وبإقرار صريح منه ـ رحمه الله ـ نجده مفصلا في العديد من الوثائق ومنها ما ورد في رسالته المعروفة بعنوان " رسالة من الأبدية " ..
(القدس - م .ع / فيفري 2018).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق