روابط الأجزاء :
تـقديــــم / الجـــزء 1 / الجـــزء 2
الجــزء 3 / الجــزء 4 / الجــزء 5
الجــزء 6 / الجــزء 7 / الجــزء 8
الجـزء 9 / الجـزء 10 / الجزء 11
الجـزء 12 /الجزء 13 / الجزء 14
الجـزء 15 / الجزء 16 / الجزء 17
الجزء 18 / الخاتمة / المحتوى كامل
فرز واحد ... أم فرز متعدّد ... ؟
دراسة في أقوال ومواقف الدكتور عصمت سيف الدولة .
-12-
انتهينا في الجزء السابق الى خاصيتين أساسيتين يتميز بهما مشروع الدكتور عصمت سيف الدولة : خاصية نظرية تتميز بخصوصية القول الحاسم للمقولات الفكرية بناء على المنهج (جدل الانسان) الذي مكنه من صياغة كل الأهداف الإستراتيجية لمشروعه ، وخاصية عملية مفتوحة على كل الاحتمالات الممكنة ، الحازمة منها ، والمرنة بحسب الظروف دون الإخلال بالمبدأ ، وهذا ما لمسناه في أسلوبه العملي في الواقع ..
من النوع الأول نذكر موقفه الرافض للانخراط في الأحزاب الإقليمية ، والرافض أيضا للمبادرة بإنشاء التنظيم القومي استنادا منه على الموقف المبدئي من وجهة نظر قومية وهو في موقع المفكر والداعية الذي لا يستطيع أن يناقض دعوته . ومثل هذه المواقف قام بتوضيحها في الرسالة آنفة الذكر ردا على سؤال ورد اليه من الأخ عبد اللطيف الصغيري عند قدومه الى تونس حول عدم المبادرة بإنشاء التنظيم قال فيه : " فلتكن واثقا من انني أدعو للتنظيم القومي وأرجو ان أكون منخرطا فيه معا . من أجل هذا حرّمت على نفسي ان انخرط في صفوف أي حزب اقلیمي .
فما الذي تعاتبني عليه ؟.
انني لم ألعب دور القائد والزعيم والمؤسس ؟..
أخي ، سأقول لك الصدق كله .
ليس انسانا من لا يتطلع الى التفوّق ويسعى اليه . وليس بشرا من لا يطمح الى القيادة أو الزعامة او ما شئت من رموز التفوّق . انكار هذا تواضع مخادع . ولكن المسألة ليست هنا . المسألة ، جوهر المسألة ، هو كيف يصل الانسان الى حيث تتطلع نزعاته البشرية . هنا محك الصدق الذي هو جوهر الخلق القويم . والصدق هنا يتعلق بالجواب على السؤال : لمن الولاء . للأمة العربية أم للذات . ان ولائي الاول والاخير للأمة العربية . هذا الولاء يحدّد لقيام التنظيم القومي شروطا موضوعية وشروطا ذاتية هي التي تعلمتها من الدراسة والدروس والتي أعلنتها على الكافة في كتب منشورة .. وهي التي قصصت عليك قصتها . فكيف تعتب على انني أكفّ نفسي عن أن أسلك الى التنظيم القومي مسلكا تعلمت من الدروس المرة انه مسدود دون غايته العظيمة ؟. وأن استبدل التنظيم القومي اداة الثورة العربية بتنظيم أعلنه فیكون اداة لإشباع الغرور الانساني ؟ . كيف تعتب على أن ولائي ما يزال للأمة العربية بالرغم من النزوع الانساني الى شرف ما تدعوني اليه ؟ کیف تفصلني عن افكاري فتضعني موضع الداعية الى الزام الآخرين بما لا يلزم به نفسه ؟ "..
وكما هو واضح في هذا البيان ، فان كل التفاصيل والمبرّرات المذكورة تستند الى خلفية واحدة : خلفية الموقف من وجهة نظر قومية .. حيث لا يستطيع الدكتور عصمت سيف الدولة – من موقعه – الا ان يكون على هذا الموقف .. وهي - كما نرى - تفاصيل مركّبة من ثنائية التداخل بين عنصرين ، أحدها مجرّم ومحرّم عليه وعلى غيره طبقا للموقف من وجهة نظر قومية : المبادرات الفردية في انشاء التنظيم القومي من القمة الى القاعدة . والاخر حرّمه على نفسه ولم يحرّمه على غيره : الانتماء الى الأحزاب الإقليمية ذات الخلفية القومية .. ونحن نقول هذا من باب الوقوف على الحق ، وليس من باب تبرير الانتماء للأحزاب الإقليمية .. اذ أن الموقف من وجهة نظر قومية الذي قيل فيه كل القول الفصل ، الثابت والمعروف في أسسه ومنطلقاته وغاياته وأسلوبه ، والذي – يفترض – أن يتم الاحتكام اليه وقت الاختلاف ، هو الذي يبقى بالنسبة للقوميين المخلصين الصادقين بمثابة المثل الاعلى المحدّد لكل المواقف القومية التي تقود خطاهم في الواقع المتغير في اي مرحلة من مراحل النضال الطويلة والمتفرعة من خلال سعيهم الدائم لتغليب منطلقهم القومي حتى يكون بوصلتهم التي تقود خطاهم نحو المستقبل باتجاه المصلحة القومية ...
أما استنادا الى المواقف القومية المرنة من القضايا الظرفية ، فإننا نجد في مواقف الدكتور عصمت سيف الدولة مواقف المحرّض ، والمساند ، والمجتهد بأفكاره لاختصار الطريق وتذليل الصعوبات لتوحيد الصفوف ، والمدافع عن حق الناصريين في مصر في التنظّم الحزبي ، وقد أتينا على أمثلة كثيرة من أقواله في الموضوع ، كما ذكرنا رفضه - في بيان طارق - الدعوة للانسلاخ من الأحزاب القومية في الساحات الإقليمية التي يتمسّك منتسبوها بولائهم القومي ولا يعتبرون أحزابهم بديلا عن التنظيم القومي ، بل انه أكثر من ذلك قد اعتبرها مجالات واسعة لنشر الفكر الطليعي ، واعتبر منتسبيها بمثابة القواعد الاحتياطية للتنظيم القومي ، الخ .. ونُضيف الى ما سبق عينات أخرى منها ما ورد في هذا الرّد عن سؤال حول سبب عدم اسهامه في تأسيس وقيادة الحزب الناصري جاء فيه : " لقد جربت ذلك وفشلت ، فشلت في ان اقيم التنظيم الذي يؤمن بأفكاري ، ويحاول تحقيقها في الواقع وادركت بعدها انني لا أصلح لقيادة حركة . فأنا قائد فكري ولست قائدا حركيا . وفي اعتقادي ان كبر القيادة بالنسبة الى القاعدة في حزب من الاحزاب يفجر الحزب من اساسه . فالرأس الكبيرة تكون عبئا على الجسم النحيل الذي لا يقدر على حمل تلك الراس . وجميع الاحزاب القومية في الوطن العربي ، من القيادة يؤدي الى الانشقاق في القاعدة . لقد كان الانشقاق في تلك الاحزاب يأخذ الاتجاه الطولي دائما . كان انشقاقا راسيا من القمة الى القاعدة ، ولم يحدث في ان حصل مرة ان اختلاف القواعد أدى الى اختلاف القيادة ... الحزب كما افهمه هو مجموعة من الافكار تلقى في الشارع السياسي ، فيلتف حولها الافراد ، والاكثر ايمانا وحركة في اتجاه تنفيذ تلك الافكار ، تجده تلقائيا وقد وصل الى موقع القيادة في حركته . اي الناس هي التي تنصبه وليس هو الذي ينصب نفسه ، صحيح انه الاكثر بذلا والاكثر حركة ، ولكنه حين يتبوأ القيادة ، يكون ذلك استجابة منه لرغبة الناس وتحقيقا لإرادتها الجماعية .. وانا ارى ان اترك لمن هم مؤمنون بأفكاري ، والذين يتجمعون حولها ، ان يختاروا فيما بينهم القائد الذي يرونه مناسبا للعب هذا الدور" .. (حوار مع الصحفي الناصري المرحوم سليمان الحكيم في مجلة المنابر) .. كما طالب الناصريين - في مقام اخر اقتضى منه هذه االمطالبة - بان "يكون لهم امتداد داخل فلسطين ، والعمل على توحيد صفوفهم في حزب واحد ، بحيث تصبح الاحزاب الناصرية في اليمن ولبنان حزبا واحدا" (ندوة الحزب الناصري حول اثار ومخاطر اتفاق غزة - اريحة ، جريدة السفير 7 أكتوبر 1993) ..
بل اننا نجده أكثر من ذلك ، يعتبر ان قيام الحزب الناصري في مصر زمن الردة ، يحقق الغاية القومية والهدف القومي الملح ، حيث يقول في كتابه عن الناصريين واليهم : " فعدت إلى ما بدأت أكمله .. لأنشره حديثاً "عن الناصريين وإليهم" .. إسهاما بقدر ما استطيع في حوار بدأ همساً ولا بد من أن ينتهي إلى ما يحقق الغاية القومية من التحام الناصريين في تنظيم يحقق الهدف القومي الملح الذي أشرنا إليه " ..
وقد يبدو الموقف الأول مرنا بسبب ما يعترضه من حين لأخر من أسئلة عارضة قد لا يريد الإفصاح فيها عن مواقف يدرك تماما تأثيرها السلبي حين تكون في غير وقتها .. لكن الأرجح فيما يخص التلميح لفشل المحاولة أن المقصود فشل " تجربة الأنصار" التي انطلقت من مصر وانتشرت في العديد من الأقطار العربية آخر الستينات .. بينما الجانب الثاني من الإجابة في نفس الفقرة فيخص موقفه من الأحزاب الإقليمية حيث لا يسمح له وضعه كمفكّر قومي بالانتماء اليها .. اما الموقف الثاني الداعي لتوحيد الناصريين فهو دعوة لتجاوز وضع الى وضع أفضل منه حتى ولو كان لا يرتقي الى مستوى ما يدعو اليه .. في حين ان الموقف الثالث يمثل موقف الضرورة في ظل الواقع الذي تردّى اليه الوضع في مصر الى ما قبل الثورة .. وهذا كله من طبيعة المواقف القومية المرنة ، التي لا ترتقي - عادة - الى مستوى الموقف الحاسم من وجهة نظر قومية ، لكنها لا تضرّه ولا تكون على حسابه .. فيسميها بالمواقف التكتيكية اذا كانت لا تنقض ولا تناقض الموقف الاستراتيجي .. وفيها توضيح مطابق لهذا حرفيا وجدناه في دراسة للدكتور عصمت سيف الدولة بعنوان "هذه الدعوة للاعتراف المستحيل " يذكره وهو يحلل فرضيات المواقف الداعية للاعتراف بإسرائيل قال فيه : " إذا افترضنا حسن النية راضين أو كارهين فإن الذي يغلب على الظن أن يكون الباعث على الدعوة الى الاعتراف بإسرائيل تقييم الاعتراف بأنه خطوة تكتيكية ومرحلية تقتضيها الظروف العربية أو الدولية الراهنة ، ولا تضر بهدف تحرير فلسطين الاستراتيجي . إذا صح هذا التقييم فإن المثاليين الفاشلين وحدهم هم الذين يحرمون الثورة من المقدرة على اتخاذ المواقف التكتيكية التي تفرضها ظروف المرحلة ما دامت لا تتناقض ولا تضر بالهدف الاستراتيجي للثورة " .. وهو موقف يدفع بالفرضيات الى الاخر حتى يصل الى تبين المنطق الممكن السليم من المنطق المخادع العقيم ، وسنعود الى شرح سياقاته بأكثر تفصيل ..
وكل هذه المواقف التقديرية تخضع عند اتخاذها للظروف الذاتية والموضوعية وهو أمر مطلوب .. وإننا لو تأملنا الكثير من المواقف المعروفة للدكتور عصمت سيف الدولة في تعامله مع الواقع الموضوعي ، لوجدنا أنه كان يتفاعل معها - في أغلب الأحيان - ويواجهها بالموقف القومي التقديري الذي يراعي المصلحة القومية ولا يرتقي تماما الى مستوى الموقف كما يجب أن يكون لأنه يمثل الخيار الممكن المتاح .. وسنذكر عينات أخرى يلتقي فيها الموقفان المختلفان في نفس الموضوع حتى نتأكد مما ذهبنا اليه في هذا التأويل ، حيث لا مجال لفهم هذا الاختلاف الذي يبدو بمثابة التناقض الا من تلك الزاوية ، الفرق بين الموقف القومي والموقف من وجهة نظر قومية ، والتعامل بأحدهما متى كان الاخر غير ممكن ..
الموقف الأول متكرر في عدة مراجع للدكتور عصمت سيف الدولة ، وهو الموقف من وجهة نظر قومية القاضي بخطأ التعويل على أجهزة الدولة الإقليمية في أي قطر عربي حتى ولو كانت دولة مصر في عهد عبد الناصر في مسألتين مهمتين : مسألة الطريق الإقليمي للوحدة ، ومسألة بناء التنظيم القومي .. ورغم أن الموقفين لا يحتاجان الى توضيح الا أننا سنذكر أمثلة لكل منهما حتى نستطيع إجراء المقارنة بما يلزم من الوضوح بين الموقف القومي والموقف من وجهة نظر قومية كما وجدناه عند الدكتور عصمت سيف الدولة فكرا وممارسة ..
بالنسبة لمسألة التعويل على الدولة الإقليمية في تحقيق الوحدة يمكن أن نذكر هذا الموقف الحاسم للدكتور عصمت سيف الدولة ، الذي يشمل ناحيتين : الأولى تتعلق بمسألة تحقيق الوحدة بالقوة وهي مرفوضة ومدانة بحكم طبيعتها العدوانية ، والثانية تتعلق بأسلوب تحقيق الوحدة بين الدول العربية عن طرق أجهزة الدولة الاقليمية وهو أسلوب فاشل في تحقيق أي غاية وحدوية انطلاقا من طبيعة الدولة الاقلليمية ذاتها .. وقد وردت الناحية الأولى (تحقيق الوحدة بالقوة) في كتاب الأسلوب حيث قال فيها : " ليست أحلاماً قومية ـ طبقاً لنظريتنا في القومية ـ ان تقوم إحدى الدول العربية أو عدة دول عربية متحالفة بغزو الدول العربية الأخرى وإقامة دولة واحدة في الوطن العربي . وليست أحلاما قومية ـ طبقاً لنظريتنا في القومية ـ ان تقوم دولة عربية أو عدة دول عربية بفرض هذه الوحدة على الدول العربية الأخرى بالقوة الاقتصادية أو المالية أو الدعائية أو البشرية … لا يمكن أن ندين هذا عندما تحاوله إحدى القوى الأجنبية لتستولي أو لتضم اليها جزءاً من الوطن العربي ، ثم نبيحه لدولة عربية عندما تحاوله لتستولي او لتضم اليها دولة عربية أخرى ولو باسم الوحدة ... فكل اعتداء من دولة إقليمية ضد دولة إقليمية هو اعتداء غير مشروع أول ما يهمنا منه ألا يقترن بالقومية او الوحدة . إنه يشوّه قضيتنا في حين أن منطلقاته لا بد أن تكون منطلقات غير قومية ، وان غاياته لابد ان تكون غايات غير وحدوية ، مهما كانت الشعارات المرفوعة إستغلالاً للقومية والوحدة" .. أما الناحية الثانية (فشل الدولة الاقليمية في تحقيق الوحدة) فهي واردة في العديد من المراجع التي تحدث فيها عن أسباب الفشل من عدّة زوايا ويمكن أن نختار من بينها هذه الفقرة من كتاب الطريق الى الوحدة قال فيها : "ان الدول الاقليمية ليست أسماء على ورق ، بل هي اجهزة كاملة ومعقدة فيها رؤساء دول ، وملوك ، وحكومات ، ورؤساء وزارت ، ووزراء وقادة جيوش ، وقادة شرطة ، ومجموعة من كبار الموظفين والبيروقراطيين ، وفئات ضخمة من الناس يرتزقون من الحكم ، ويكسبون من ورائه ويُسخّرون في بعض الأوقات لحماية مصالحهم وتنميتها ، أو لحمايتهم انفسهم من الشعوب ذاتها - كل هذا الجهاز المركّب ، الذي يسمّى الدولة ، وصل أفراده الى مواقعهم فيه ضمن اطار شرعي قاعدته الدستور الذي يحدّد أسس الدولة وحدود اقليمها ثم القوانين التي تنظم الحقوق والالتزامات فتحدّد لكل شخص المجال المباح لنشاطه والمجال الممنوع ، وتؤكّد هذا بالجزاء الرّادع على مخالفتها ، ثم اللوائح والقرارات والأوامر الإدارية .. الخ ، أو ما يسمّى النظام القانوني فى دولة الاقليم . وهو ليس نظاما اعتباطيا انما ينطوي على مضامين سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية ، غايته أن يحميها بحيث ان "أي" تصرف في أي من تلك المجالات لا يتسق وأحكام النظام القانوني للاقليم يعتبر - على الأقل - غير مشروع ، فلا يلزم الحكومة وقد يفقد صاحبه مركزه فى الدولة . هذا من الناحبة العامة . ومن الناحية الخاصة فإن المواقع التي يشغلها هؤلاء الذين نسمّيهم - ككل - الحكومة لا تعبر عن امتيازات شرفية فحسب بل هي رواتب وسلطات ونوع متميّز وممتاز من الحياة المفعمة بالرخاء لا يحلم به القابعون في مواقعهم من عامة الشعب .
و المطلوب من هؤلاء أن يحققوا الوحدة .
اي مطلوب منهم أولا أن يؤمنوا بأن كل النظام القانوني الذي يمثلونه منذ أن صعد بهم الى مراكزهم نظام غير مشروع يجب ان يلغى . ومطلوب منهم ثانياً أن يتصرفوا – وهم في مواقعهم – طبقا لايمانهم هذا فيخرقون الدستور ويخالفون القانون ويعصون الاوامر . ومطلوب منهم ثالثا ان يتنازلوا عن عروشهم ورئاساتهم وقياداتهم وان يضعوا انفسهم كأشخاص عاديين تحت تصرف دولة الوحدة . ومطلوب منهم رابعا ان يفقدوا رواتبهم وسلطاتهم وامتيازاتهم ومكاسبهم - المشروعة وغير المشروعة - وان يهجروا الرخاء الذي يعيشون فيه مع زوجاتهم - وهل تسمح الزوجات ؟ - ليقبلوا أن يعيشوا مع الشعب حياته الجافة . ومطلوب منهم خامسا أن يتمرّدوا على القوى الاجتماعية المستغلة التي نشأت ونمت على استغلال الشعب في ظل دولة التجزئة وحمايتها وكانت دولة التجزئة لها ستارا وحماية .
مطلوب ان يفعلوا كل هذا ليحققوا الوحدة العربية .
أليست الوحدة اذن شيئا مخيفا . انها تبدو طامة كبرى .
ومع هذا فمطلوب منهم - اخيرا - ان يتفقوا هم أنفسهم على طريق الالتقاء والتقارب والتفاهم .. الخ ، على تحقيق الوحدة . شيء غريب لا يتصوره الا الفاشلون .
قد يوجد رئيس دولة أو رئيس وزراء ، أو غيرهما ، يقبل التخلي عن مكانه ليصبح بطلا وحدويا ، خاصة اذا كان فى مأزق لا يعرف كيف يخرج منه مثلما فعل شكري القوتلي سنة 1958 ، ولكن الدول لا تحركها أمزجة الرؤساء ولا يقودها حسن النية . فبالرغم من كل ما يقال ويعلن ، وبالرغم من حسن النية حتى لو كان موجودا فان الذي يتحقق فعلا من سياسة الدولة هو ذلك القدر الذي لا يتعارض مع كتلة المصالح التى يمثلها الجهاز الحاكم . وبالرغم من السياسات المعلنة ولو في وثائق دستورية فان الجهاز الحكومي الاقليمي (اداة الدولة الاقليمية) الذي في يده السلطات الحقيقية قادر على ان يعرف الاسرار وان يتكلم ، وان يختلق العقبات ، وان يتامر ، ويناور ، ويضلّل ، ويخرّب اذا لزم الأمر ، وهو يفعل اي شي الا أن تزول دولته ، الا أن تتحقق الوحدة العربية . وتبقى مشروعات الوحدة الرسمية حبرا على ورق ، وتسحق النوايا الوحدوية الحسنة تحت الثقل الكثيف للمصالح التي تمثلها ، وتجسدها وتحميها دولة الاقليم " ..
أما في مسألة بناء التنظيم القومي الذي قال فيه جملته الشهيرة في كتابه حوار مع الشباب العربي " لو تحاور فيه اثنان فوق قبري لشاركت عظامي في الحوار" ، فيمكن أن نختار هذا المثال - من بين أمثلة كثيرة تردّد فيها مثل هذا الموقف الحاسم – ونأخذه من كتاب الأسلوب : " ان التنظيم القومي لا يكون قوميا أذا أنشأته دولة ولو كان رئيس الدولة قائدا قوميا فذا مثل عبد الناصر. ولو كانت الدولة ذات ثقل کمصر . أن الدولة - اية دولة - هي التجسيد الحقوقي لجريمة التجزئة القومية . انها نقيض الوحدة . ان إلغاءها هو هدف الثورة العربية ، ولما كان التنظيم القومي هو أداة الثورة العربية فلست أعرف كيف يمكن أن تنشئ الدولة ـ أية دوله - أداة الثورة ضد وجودها ذاته . فان قيل ان رئيس الدولة قائد ثائر لا تهمه دولته بقدر ما تهمه وحدة أمته ، فلن نقول کیف اذن يتفقد الحدود حتى لا يتسلل " عربي " الى دولته بدون إذن منها ، ولن نقول کیف إذن " تعترف " دولته بشرعية التجزئة حينما " تعترف " بالدول العربية الأخرى . ولن نقول کیف اذن يقبل تمثيل دولته على قدم المساواة مع " ممثلي " الدول العربية الأخرى في الجامعة العربية ، بل نقول ما يكفي بدون تجريح للقائد القومي الثوري رئیس الدولة : أن القيود الدستورية والعربية والدولية التي تكبل دولته تعوق مقدرته على أن ينشئ او يقود تنظيما قوميا . إنها تحول دون الانتشار خارج حدود دولته تحت قيادته الا إذا أنكر قيادته . إنها تحول دون أن يتخذ من رئيس کل دولة عربية الموقف الذي يتفق مع إرادة التنظيم القومي في كل دولة عربية . انه سینكر علاقته بقواعد التنظيم ان كشفت . انه سيتخلى عن الدفاع عنها ان ضربت .." .. وقد ورد أيضا شرحا مفصلا في رسالته الى تونس لخلافه مع أجهزة الدولة في مصر حينما بادرت بإنشاء التنظيم منتصف الستينات جاء فيها : "ان التنظيم القومي لا يكون قوميا إذا أنشأه قائد ولو كان قائدا قوميا فذا مثل عبد الناصر . ان مواثيقه حينئذ ستكون صيغة لأفكار قائده أو لأفكار صفوة يختارهم قائده ويرضي عنهم . وسيكون مؤسسوه ممن يعجبون قائده أو ممن يعجبون به ، وسيكون اختيار القيادات والكوادر ممن يعرفهم القائد معرفة "شخصية" ويثق فيهم ثقة "شخصية" أو ممن يستطيعون - صادقين أو منافقین ـ أن يدخلوا دائرة معرفته أو یكسبوا ثقته . وستكون إرادة النمو والانتشار أو التوقف والانكماش متوقفة على إرادة القائد المؤسس . باختصار سيكون تنظيم مؤسسه أو حوارييه ولن يكون تنظيم الأمة العربية وأداة الشعب العربي في ثورته الوحدوية ، وقد كان لنا في ذلك درس لا يُنسی "..
وتجدر الاشارة هنا الى ان النقد الموجه للأسلوب في المثالين مختلف ، لان الاول يتجه الى ابراز التعارض مع القيود الدستورية للدولة الاقليمية التي يستحيل تجاوزها حتى لو توفرت ارادة القيادة ، والثاني يتجه الى ابراز التعارض مع الالية الديمقراطية في بناء التنظيم ، وكلاهما - بالنسبة للدكتور عصمت سيف الدولة من وجهة نظر قومية - مرفوض لأنه يؤدي الى الفشل المحتوم ..
(القدس - م .ع / فيفري 2018).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق