القدس عنوانها وفلسطين بوصلتها

القدس عنوانها وفلسطين بوصلتها
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجزء السابع

روابط الأجزاء :

تـقديــــم / الجـــزء 1 / الجـــزء 2 

الجــزء 3 / الجــزء 4 / الجــزء 5  

الجــزء 6 / الجــزء 7 / الجــزء 8 

الجـزء 9 / الجـزء 10 / الجزء 11 

الجـزء 12 /الجزء 13 الجزء 14

الجـزء 15 / الجزء 16 الجزء 17

الجزء 18 / الخاتمة / المحتوى كامل  

فرز واحد ... أم فرز متعدّد ... ؟

دراسة في أقوال ومواقف الدكتور عصمت سيف الدولة .

-7-

بالعودة الى كتاب "الطريق الى الوحدة" ، سوف نعود الى الأصل ، أو المبدأ المتصل بالمدى الاستراتيجي للحركة القومية في هذه المرحلة .. فهو حديث حاسم لفرز المنطلق القومي من المنطلق الإقليمي كما يسميه الدكتور عصمت سيف الدولة في هذا الكتاب كما في كتاب الأسلوب ، وهو أيضا حديث من نوع خاص لأنه يبين القاعدة التي يجب أن يتم وفقها أي حوار .. وفي البداية نجده يستبعد من هذا الحديث كل المتسلقين والانتهازيين من القوى الرجعية المعادية للوحدة ، ليخص به القوى الوحدوية  دون سواها ، وكل حديث خاص من هذا النوع بالنسبة للدكتور عصمت سيف الدولة لا بد أن يكون على قدر كبير من الثقة والاحترام والجدية والصراحة .. فيقول في هذا المجال مؤكدا على الناحيتين : " ان الحديث عن الطريق الى الوحدة العربية يعني أنه حديث مقصور على الوحدويين من العرب ، أي أنه ـ على وجه ـ حديث خاص . وللحديث الخاص مميزات يستمدها من أنه قائم على افتراض أنه حوار بين إخوة انعدمت فيما بينهم الغربة الفكرية على الأقل . وأنهم ـ على الأقل أيضا ـ رفاق نضال بحكم الإمكان . ولهذا تكون للحديث الخاص ـ عادة ـ منطلقات مشتركة ولغة مشتركة ودلالة مشتركة للألفاظ التي يدور بها . فهو منطلق "فرضا" من منابع فكرية واحدة الى غاية واحدة يبحث عن الطريق اليها لينطلق عليها المتحدثون كتلة نضالية واحدة . من هنا لا يتحوط الحديث الخاص ضد سوء القصد والعسف في التأويل لأنه حديث بين إخوة فلا يغدرون ولا يدلسون ، ولا يخشى الخطأ في الاجتهاد لأنه خطاب الى رفاق لا ينكر بعضهم على بعض حق الإسهام في سبيل مصيرهم المشترك فلا يستعلون ولا يستأثرون .. وكل هذا يبدو مفترضا بين دعاة الوحدة من العرب ، وحملة شعارها ، الذين لا ينقصهم ـ فيما يزعمون ـ الا معرفة الطريق الى الوحدة فيتحاورون .." .

ثم يواصل للمزيد من التوضيح : " غير أن ليس كل "فرض" صحيحا في الواقع . وسنرى هذا فيما بعد .. يهمنا الآن أن نؤكد أن الحديث عن "الطريق الى الوحدة العربية" غير موجه الى أعداء الوحدة ، سواء أكان مرجع عدائهم لها إنكار وجود الأمة العربية أصلا ، أو قبولهم التجزئة ، أو الجهل لا أكثر . ومن الجاهلين من لا ينكرون وجود الأمة العربية ، ولا ينكرون أن التجزئة من صنع الاستعمار الذي يحاربونه . ولكن الفكر اللّاقومي يضللهم فلا يعرفون علاقة الوجود القومي بالوحدة السياسية  .. كل ذلك لا يعنينا الحديث إليهم في هذا الحديث الخاص .." .

هكذا إذن .. هذا الحديث هو حديث خاص ، غايته كما قال : " أن نكشف ما وراء تلك الظاهرة المفزعة القائمة بين دعاة الوحدة العربية أنفسهم . انهم ـ فرضا ـ يسلمون بوجود أمتهم العربية ، وبانتمائهم إليها ، ويسلمون بأن تجزئة وطنهم العربي الى دول ودويلات عدة يجب أن تزول ، ويستهدفون الوحدة العربية فيما يقولون وبرغم هذا كله لا يتفقون على الطريق الى تحقيقها . فلعلنا لو عرفنا لماذا يختلفون أن نعرف فيم يختلفون . وتكون تلك مقدمة لازمة لفصل القول في الطريق الى الوحدة العربية .." .

من المهم في هذا الجانب أن نفهم ما قصده الدكتور عصمت سيف الدولة بمن يعنيهم فعلا في هذا الحديث الخاص ، ومنهم فئة من الإقليميين كما يبين لاحقا ، وبعد أن يستبعد كل من فقد وعيه وولاءه القومي وأصبح من أعداء الوحدة الذين يسميهم "بالقلة التافهة" يوافينا بالتوضيح : " أما الكثرة الغالبة من الإقليميين فهم أولئك الذين لم يبقوا على أصلهم القومي خالصا ، ولم تكتمل صفتهم الإقليمية تشويها ، فاختلطت الأمور في وعيهم فهم غير قادرين على إدراك التناقض بين القومية والإقليمية فاحتفظوا بقدر من الولاء للاثنين معا . وأصبح لهم بهذا موقف خاص من التجزئة والوحدة . فهم يقبلون التجزئة كواقع ولا ينكرون الوحدة كغاية . ولما  كانوا يعيشون في واقع التجزئة ويتمسكون به ولاء إقليميا لدولتهم الإقليمية ، وكانوا في الوقت ذاته يتطلعون الى الوحدة كمستقبل يرجونه ويعلقون ولاءهم القومي على تحقيقه ، فان القدر المتيقن من ولائهم يكون لدولة الإقليم . فهم يبدأون من التسليم بالإقليمية في تصورهم للوحدة ، فيأتي تصورهم للوحدة العربية تصورا إقليميا ، وعندما يتصورون الطريق إليها يتصورونه إقليميا أيضا .. ذلك ما أسميناه التصور الإقليمي للوحدة . " ..

ومن المهم أن نعرف أيضا أن هذه الفئة من الناس يسميهم الدكتور عصمت سيف الدولة " الإقليميون ـ الوحدويون " ، كما يسمي خلفيتهم بالـ " الإقليمية ـ الوحدوية " التي يقدم لها تعريفا خاصا يقول فيه : " فالإقليمية ـ الوحدوية ، ليست عقائدية ، بمعنى أنه لا يتوافر لها النقاء الفكري لتكون عقيدة قومية ، ولم يتوافر لها التكامل الفكري الإقليمي لتكون عقيدة وطنية إقليمية ، لهذا فكل الإقليميين غير عقائديين في تصورهم للوحدة العربية والطريق إليها .. ويترتب على هذا أمران : الأول أن ليس للوحدويين ـ الإقليمين خط فكري متميز يمكن أن يلزمهم تصورا فكريا واحدا للطريق الى الوحدة العربية . لهذا قد يجتمعون على الوحدة ولكنهم  يختلفون حتما في الطريق إليها . الأمر الثاني أن عدم الالتزام العقائدي في الموقف الوحدوي ـ الإقليمي يسمح بأن ينظم إليه أو يتسلل ـ وهو اصح ـ عديد من ذوي العقائد اللاقومية أي من أعداء الوحدة .. " ..

لذلك فان : " تصورات الطرق الى الوحدة العربية من منطلق إقليمي لابد من أن تتعدد بتعدد الأقاليم بحكم التجزئة ذاتها .." ، وأن " تكثر الطرق بما يضاف اليها من طرق ضالة عمدا .. " .. وهو يشرح كل تلك الطرق الرسمية كما يسميها بقطع النظر عمّن يطلبها من الحكام أو المؤسسات أو المنظمات والأحزاب الإقليمية .. فطريقها واحد الى الفشل في تحقيق الوحدة حتى لو كانت النوايا صادقة لما فيها من بذور الإقليمية .. لذلك كما يقول في نهاية العرض لأغلب الأساليب الممكنة : " فلتسقط  الإقليمية " .. 

لكننا حينما نسترسل في متابعة هذا النهج الذي اتبعه الدكتور عصمت سيف الدولة في حديثه عن المنطلق الإقليمي ، نجده يتطرق أيضا الى فئة أخرى من الناس يسميهم " الرجعيون ـ الوحدويون " ويسمي أسلوبهم في طلب الوحدة بـ ـ " الطريق الرجعي الى الوحدة " ، وهم أولئك الذين يزعمون كما قال : " اننا أمة عربية واحدة لا شك في هذا ، وأن وحدتنا القومية لازمة لا شك في هذا أيضا ، ويمجدون الأمة والقومية والوحدة تمجيدا يتراوح بين الحنين الى عودة الماضي المجيد ، ووحدة التراث ، والتطلع الى الانتماء الى دولة قادرة على تصفية إسرائيل  ، ولهذا ـ هكذا يقول الحسين بن طلال مثلا ـ أنهم وحدويون حتى النخاع ، ويريدون الوحدة من جماع قلوبهم ، ومستعدون للفداء في سبيل الوحدة . ولكن يا أخي ـ هكذا يستدركون ـ قضية الاشتراكية شيء مختلف ، فان كثيرا من أخلص الوحدويين يصدهم عن النضال في سبيل الوحدة تلك الاشتراكية التي اقتحمت مسيرة النضال العربي وأصبحت عامل فرقة بين القوى الوحدوية .. " ..

من المهم أن نتوقف هنا بعد كل هذا العرض لنطرح السؤال التالي :  لماذا يقحم الدكتور عصمت سيف الدولة من سماهم بالوحدويين الرجعيين في هذا الحديث الجاد عن الوحدة .. أليس ذلك واضحا بما فيه الكفاية للوحدويين أصحاب العقيد القومية الواضحة .. أم هو حديث موجه أيضا لمثل هؤلاء وقد تولى من ناحية أولى ، الحكم بالفشل عن هذا الطريق معلنا أنه طريق مسدود .. كما تولى من ناحية ثانية ، الكشف ـ بما يكفي من الأمثلة ـ عما  يمكن أن يكون وراءه  من نوايا غير بريئة قد يكون بعضها بمرتبة الخيانة حين قال ان : " أول الطريق اللاّاشتراكي الى الوحدة خيانة قومية عفنة .." ، وهي خيانة قد بيّن أسبابها في تفاصيل طويلة نكتفي منها بما جاء في هذه الفقرة  : " عندما يناقض أي طريق الى الوحدة مصلحة الجماهير الكادحة في الوطن العربي ، فهو طريق مشبوه ، مجرد من الولاء للجماهير ، أي مجرد من السمة القومية ولو رفع شعاراتها ، ولا بد أن يكون منطلقا من ولاء للرجعية الإقليمية المستغلة التي تحتمي وراء سدود التجزئة ، أو ـ وهذا هو الأصح ـ  من ولاء مباشر للاستعمار تقاضى أصحابه أجر العناء في الدعوة إليه مقدما .. " ..

يجيبنا الدكتور عن السؤال موضحا الغاية من ذلك العرض الطويل :

إنها أولا : " أمثلة لكشف اتجاه يدعو الى الوحدة ولا يعرف الطريق إليها " .

وإنها ثانيا ، ورغم أن الغاية كما قال : " غير مقصورة على أن نكشف الطبيعة الفاشلة في المنطلق الإقليمي الى الوحدة عن طريق اختيار الطرق التي تبدأ منه ، فإننا لم نقيّم أي طريق منها تقييما كاملا ولم نحاكم الإقليميين تماما ، بل أخذنا كل فئة منهم بمنطلقها الخاص ، وتتبعنا طريقها من منطلقه الإقليمي الى غايته الضالة أو المسدودة ليكتشف الإقليميون بأنفسهم أنهم يبددون جهدهم في الوصول الى الوحدة العربية على طرق مسدودة . وإنهم إن فشلوا فليس مردّ هذا أن أحدا قد خانهم أو ضلّلهم أو أنهم قد قصّروا في الجهد المبذول على وجه أن يعوّض في تجربة وحدوية مقبلة . لا ليس السبب كل هذا ، أو أي من هذا فلا جدوى من أن يُخفوا فشلهم تحت ستار الشتائم والاتهامات التي يكيلها كل منهم لأخيه . ولا جدوى من العودة الى محاولة أخرى للبحث عن طريق آخر من ذات المنطلق الإقليمي ، إنها كلها طرق مسدودة بالفشل ، الابن الشرعي للإقليمية .. " . وهو ما يعني أنه حديث موجه أيضا الى بعض المخدوعين من الإقليميين .. لذلك يقول متحدثا عن الوحدويين الحقيقيين مؤكدا هذه الناحية ، وبذلك نصل نحن الى الغاية من كل هذا الحديث المستفيض الذي أردنا أن نربطه بموضوع الفرز :

" لا يعني هذا أن الوحدويين غير قادرين على تقييم هذه الطرق ومحاكمة أصحابها وكشف ما وراءها من دوافع أو محركات أو جهل مقيم ، كما لا يعني أنه لن يكون للوحدويين موقف من " الإقليميين" حاسم وصارم يوم أن تستعر معركة الوحدة على الطريق اليها . بل معناه أن الوحدويين يشعرون بولاء عميق للأمة العربية بما فيها بعض أبنائها الضالين لأنهم لا يعرفون ، وأن مسؤولية الوحدويين أن يأخذوا بأيدي الذين يستهدفون الوحدة ثم يخطئون في المنطلق ، وأن يسيروا معهم على الطريق التي يتصورونها حتى يلمسوا بأيديهم السدود القائمة عليها والتي تقطعها دون الوحدة ، لعلهم بعد هذا أن يعودوا معا الى بداية صحيحة تحدّد لهم الطريق الصحيح الى الوحدة العربية .. " ..

الى أين يأخذونهم يا دكتور ؟؟

الى المنطلق القومي .. بكل خصائصه وهو منطلق " مناقض تماما للمنطلق الإقليمي من حيث المضمون الفكري والسمة العقائدية والسلوك الحركي " .. فهو قائم على :

ـ " الوعي بأن الوجود القومي (الأمة) طور من التكوين الاجتماعي متقدم على التكوين الذي سبقه ويتميز عنه أساسا بوحدة الأرض المشتركة  (الوطن القومي) "..

ـ " ان التكوين القومي ذاته كان مرحلة حتمية تمت خلال ممارسة الحياة عبر التاريخ كحل لمشكلات اجتماعية عجزت التكوينات الاجتماعية السابقة عليه عن أن تحلها .... وبالتالي ... فان مشكلات الأفراد والأجزاء من الأمة الواحدة لا تجد حلها السليم ، الا داخل الوجود القومي التي هي جزء منه ... وهو ما نعبر عنه بوحدة المصير القومي "..

ـ " ان الوحدة الموضوعية لمشكلات الأفراد من الأمة الواحدة .... تحتم وحدة الدولة ، وهو ما نعبر عنه بالوحدة السياسية " ..

ـ " أن الأمة العربية اكتملت وجودا واتحدت مصيرا وكانت لها دولة واحدة قبل أن يقتطع الاستعمار منها أجزاء ثم يفرض عليها التجزئة ..... وبالتالي فان الوحدة العربية تعني إلغاء التجزئة الطارئة على الوجود القومي " ..

ـ " ان التجزئة غير مشروعة موضوعيا لتناقضها مع وحدة الوجود القومي ... وهي غير مشروعة سياسيا لأنها ثمرة عدوان غير مشروع .. وبالتالي فان الولاء أولا وأخيرا للأمة العربية ككل ، ولا يستحق أي إقليم الولاء الا لأنه جزء منها .." ..

بعد هذا ، لا يهم ان كانت حقيقة الوجود القومي قد بلغها أبناء الأمة الواحدة عن طريق "مناهج المعرفة " أو من خلال " ممارسة الحياة ذاتها " .. المهم أن يعرف كل الذين وعوا هذه الحقيقة السبيل لتحقيق الوحدة .. وهي لا تتحقق إلا إذا تحول ذلك الوعي الى سلوك وممارسة وتخطيط وتنظيم .. ونكون قد وصلنا مع الدكتور عصمت سيف الدولة الى تحوّل نوعي في الحديث الذي يقول فيه : " إننا عندما نعرف ما هو حق يتغير الوضع تماما . فها هنا وجدنا الذي كنا نبحث عنه تحت إلحاح الحاجة إليه ، فلا يبقى إلا أن يؤدي وظيفته . ان الخطوة التالية لاكتشاف حقيقتنا القومية أن نجسدها سلوكا ذاتيا عن طريق التزامها في الفكر والعمل  . عندئذ نصبح نحن والحقيقة التي اكتشفناها شيئا واحدا ، وبعد أن كانت حقيقة موضوعية تصبح مجسدة فينا أنفسنا . عندئذ تصبح القومية العربية عربا وحدويون . وعندئذ يتضح تماما أنه مهما كان حديثنا عن الطريق الى الوحدة العربية منشورا كاملا فهو حديثنا الخاص . فلا يفقد الوحدويين أنفسهم في زحمة المتطفلين .. " ... وهكذا يصبح الحديث عن الوحدة العربية حديثا عن قضية مصيرية مرتبطة بالمستقبل .. ويصبح الوحدويون العرب أصحابها وحماتها ودعاة تحقيقها جيلا بعد جيل ، من منطلقها القومي الذي وعوه ، الى غايتها : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية .. بآداتها وأسلوبها : الحركة العربية الواحدة .. فهو اذن حديث خاص أهدافه معروفة ، ولا يبقى غير تدبر المهام .. وعلى هذا الطريق الطويل الشاق يأتي الحديث عن الفرز من أجل تحقيق تلك الغاية البعيدة  .. وهذا ما ينهي به الدكتور عصمت سيف الدولة حديثه عن المنطلق الإقليمي والمنطلق القومي الذي يتخذه حدا فاصلا لفرز الصفوف فيقول : " هكذا تضيق حلقة المتحدثين عن الطريق الى الوحدة العربية أو يجب أن تضيق . فبعد أن خرج منها أعداء الوحدة منذ بداية الحديث يجب أن يخرج منها ـ من الآن حتى نهايته ـ أولئك الذين يستهدفون الوحدة من غير منطلقها القومي ، ليبقى مقصورا على المنطلقِين إليها من إيمانهم بأمتهم وولائهم لجماهيرها . فالإيمان بالوجود القومي يبدّد " افتراض " أن كل من يستهدف الوحدة العربية ذو حق في أن يسهم في البحث عن الطريق إليها أو أن يشترك في المسيرة العربية على ذلك الطريق . وهو " الافتراض " الذي بدأنا به وصبرنا عليه حتى هذا الموضع ليرى الذين يقبلونه أنه هباء موهوم . هنا لا بد من أن تفرز الصفوف باسم الأمة العربية ، ليقف الوحدويون على منطلقهم القومي صفا واحدا مطهرا في مواجهة كل الذين ينكرون وجود هذه الأمة فيحاربون وحدتها ، والذين لا ينكرونه ثم يريدون الى الوحدة طريقا يبدأ من منطلقاتهم الإقليمية ...... وعندما تصبح صفوف القوميين نقية فإنهم يعرفون طريقهم من منطلقهم القومي الى الوحدة العربية .. " .

كل ما يأتي بعد هذا في كتاب الطريق أو في كتاب الأسلوب من حديث عن الثورة وآداة الثورة وخصائصها وعلاقة الثوريين العرب بالسلطة وبالدولة الإقليمية ... وغيرها من القضايا والمهام المطروحة عليهم .. إما انه مطروح لبيان قصور في فهم مضامينه أو أنه حديث نوعي متقدم في ظل وجود التنظيم القومي (الاستراتيجية ، التكتيك ...) .. وكل حديث عن الفرز في علاقة بهذا الموضوع .. لا معنى له لأنه سابق لأوانه ، وخارج عن سياقه الزمني الا فيما يتصل ببعده الخاص ببناء هذا التنظيم .. حيث تطرح عشرات .. بل مئات المهام على الثوريين العرب قبل بلوغ تلك الغاية انتصارا للمنطلق القومي ، من زمان الى زمان ، ومن مكان الى مكان ، سيرا على الطريق القومي الى الوحدة المنشودة .. وجوهر ما يتصل بهذا الموضوع الالتزام بالمنطلق القومي على مستوى الفكر والعقيدة القومية العامة ، ثم بالطريق القومي الى تلك الغاية .. وسنحاول حوصلة كل ما يُلزم به الثوريين العرب منطلقهم القومي وعقيدتهم القومية كما وردت في معناها العام في هذا الفصل من المراجع المذكورة .. وهي تقريبا خطوط عريضة لن تلبث أن تتحول حتما الى مضامين للفرز من مرحلة الى أخرى .. وليس من القومية في شيء ، ولا من التقدمية أو الثورية  طرح أي محور منها خارج إطاره وظروفه ومعاركه الخاصة به كما بينّا سابقا في أسلوب عصمت سيف الدولة وممارسته .. ومن أبرز المضامين المحددة للمنطلق القومي :

ـ ان المشكلة الموضوعية التي يريد الوحدويون العرب حلها هي التجزئة ، والمشكلة هي التي تحدد دائما الطريق الى حلها وليست الأمنيات . ولما كانت التجزئة مفروضة على الأمة العربية ، فان حلها مفروض على الوحدويين العرب .. ولهذا فان التجزئة تحتم الثورة لتحقيق الوحدة العربية .. والمهم أن نعرف أن العنف ليس شرطا للثورة ، وان حدث فليس الثوريون العرب مسؤولون عنه ..

ـ ان الطريق الوحيد للوحدة العربية هي الثورة العربية الشاملة ، وان نجاح أي ثورة يكون مناط وضوح عقيدتها الثورية .. لذلك فان العقيدة القومية في بعدها الشامل وخصائصها الفكرية إنما تمثل جوهر الحلول لتلك المشكلات الموضوعية التي يطرحها الواقع العربي ، فهي بالأساس عقيدة قومية تحررية اشتراكية وحدوية .. ومهما تعددت العقائد في الأمة الواحدة ، ومهما كانت معارك الفرز التي يخوضها الثوريون العرب على طريق الوحدة العربية الشاملة ، فان العقيدة القومية في الأمة الواحدة لا تكون الا عقيدة واحدة مضامينها متعدّدة بتعدد مشكلاتها الأساسية .. يقول الدكتور عصمت سيف الدولة في هذا الجانب : " وقد تفرز الصفوف بقدر ما في الأمة من عقائد ويقتتل الناس من الأمة الواحدة تحت ألوية عقائدية مختلفة ألوانها ، فثمة القوميون وثمة الاشتراكيون وثمة الديمقراطيون .. الخ وهذا يعني أن المقتتلين جميعا على ضلال . اذ أن المضامين العقائدية وان تعددت في أمة واحدة فإنها حصيلة وجود اجتماعي واحد . وهذا يعني أن ثمة علاقة موضوعية بين تلك المضامين تحدد تأثيرها المتبادل . وان الصراع تحت ألوية العقائد في أمة واحدة لا يعني أنه صراع عقائدي ، بل يعني ـ انه صراع الجاهلين بوحدة الوجود الاجتماعي التي تجمعهم والتي تحدد في الوقت ذاته العلاقة بين ما يحملون في رؤوسهم من معتقدات ... وطبيعي أن أي ثورة تنطلق من مضمون عقائدي جزئي لتصوغ المستقبل في أمة واحدة ثورة فاشلة ، أي أنها طريق مسدود الى المستقبل . فلكي تستطيع الثورة في أي أمة أن تحقق غايتها لا بد من أن تتوافر لها ـ أولا ـ وحدة العقيدة ، تقابل وحدتها وحدة الأمة . ويقابل مضمونها المركب المضامين المركبة في الواقع ذاته ، ثم ـ وهذا بالغ الأهمية ـ تتكامل مضامينها وتتفاعل كمقابل لتكامل وتفاعل مضامين الحياة ذاتها . فوحدة العقيدة إذن لا تعني مضمونا عقائديا واحدا ولكن تعني عقيدة واحدة ذات مضامين عدة منبثقة من الواقع الموضوعي في كل امة ومقابل له .." ..

والواقع ان ما يعبر عنه الدكتور عصمت سيف الدولة في هذا الجانب الخاص بالعقيدة الثورية ليس من باب تقديسها لأنه يميز بين العقيدة الدينية والعقيدة الفكرية (العقيدة والثورة ص77 - 78) ، إنما إنما هو ارتقاء بالمضامين الفكرية ، حيث يرفع من شأن الفكرة لتتحول الى  مثل عليا ومبادئ راسخة في أذهان حامليها فلا يساومون عليها ولا يبدلونها مهما كانت التضحيات .. وهي في أبعادها الفكرية تقابل تماما ما أطلق عليه في سياقات أخرى المنطلقات والغايات .. حيث تنبثق المنطلقات من الواقع ذاته لتصاغ منها بعد إدراكها إدراكا موضوعيا تاما غايات النضال العربي التي هي بدورها ليست الا تعبيرا عن الحلول الممكنة  للمشكلات المطروحة في الواقع .. وهو ما يقوله في هذا السياق موضحا له حين يأتي عليه كله ، فيربطه بالعقيدة ومنزلتها : " ليست الأمة العربية استثناء من الأمم التي تعلمت من التاريخ ومن ظروفها الخاصة مضامين يرتفع اليقين بها الى حد العقيدة . فقد عرفنا المضمون القومي فيما سبق من حديث . وعرفنا معرفة اليقين أن الثورة طريق الوحدة ، وعرفنا المضمون الاشتراكي مما تعلمناه من التاريخ المعاصر ومما نعلمه في أمتنا من تخلف واستغلال . ونعرف من واقع أمتنا أنها مجزأة دولا . كما نعرف أن الاستعمار يفرض سيطرته احتلالا لأجزاء من الوطن العربي ، وأن جزءا منه قد اغتصبه الصهاينة وأقاموا عليه دولة إسرائيل . كل هذا ثابت لدينا ثبوتا مطلقا لا شك فيه ، لأنه الواقع الموضوعي الذي نعيشه . وكل هذا يرتفع بثبوته الى مستوى المضامين العقائدية القادرة على تحريك الثورة في الارض العربية .. " .. ثم يضيف بعد ذلك وبشكل قاطع تطابق العقيدة الثورية مع منطلقاتها وغاياتها فيقول : " لهذا فان وحدة العقيدة لازمة لأية ثورة في الوطن العربي أيا كان الشعار الذي تحمله . ووحدة العقيدة هنا تعني أن تكون الثورة تحررية قومية اشتراكية معا . وأن تحتفظ بهذه الوحدة العقائدية طوال مسيرتها الثورية . ان هذه الوحدة العقائدية هي التي ستضيئ طريق الثورة في كل خطوة ، وتحدد موضع التقدم في الخطوة التالية .. " .. وهو ما يعني بالنسبة للدكتور عصمت سيف الدولة أنها عقيدة من أجل وحدة الممارسة ونجاحها معا .. أي أن غايتها هي المحددة لطبيعة الفرز وليس العكس ..

وكل هذا يتصل بالبعد النظري للمنطلق القومي والطريق القومي معا ، أما في المستوى العملي ، فان الطريق الى الوحدة وان كان محسوما من حيث أسلوبه واليات تحقيقه : الثورة واداة الثورة بكل تفاصيلها ، فان معالمه وتجلياته لا تزال غامضة في غياب شرطه الأول الذي سيحوّل القول الى فعل والأمنيات الى واقع حيث لا يمكن أن "تتحقق الوحدة تلقائيا ولو بلغ الاقتناع بها حد الإيمان . ولو بلغت إدانة التجزئة حد إدانة الكفر ، ولو رفع الوحدويون شعار الثورة . لن يتحقق شيء لمجرد تمسكنا به ورفعه شعاراً للمستقبل مع الصبر على الزمان لينجز لنا ما نريد . أو - وهذا أسوأ - بالاكتفاء الذاتي بالراحة النفسية التي يستمدّها أي منا من أنه أعلن وكرّر إعلانه بأنه وحدوي ، أو بأنه يرفض التجزئئة ، أو بأنه قد أسهم فكرياً في تحديد معالم الطريق الى الوحدة العربية - قال انها الثورة مثلا - فأراح ضميره . ان هذه "الطهارة" التي يبحث عنها كثير من العرب فيما يصخبون به من حديث عن الوحدة في المقاهي والصالونات ، وتريح كثيرا منهم فيرضون عن أنفسهم لن تفيد شيئاً ، وليست من الثورة في شيء ، وليست شيئاً على الطريق الى الوحدة العربية . انما الثورة عمل ايجابي على الطريق الشاق الى الوحدة " .. ولعل أول شروط تحقيق العمل الايجابي أن ينطلق - بعزم الثوار واصرارهم - من الواقع كما هو ، وبوسائله المتاحة والممكنة عملا بالمقولة المميزة للدكتور عصمت سيف الدولة "من الممكن الى ما يجب أن يكون" ، سيرا على ذلك الطريق ، نحو بناء اداته المفقودة ..

(القدس - م .ع / فيفري 2018). 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق