روابط الأجزاء :
تـقديــــم / الجـــزء 1 / الجـــزء 2
الجــزء 3 / الجــزء 4 / الجــزء 5
الجــزء 6 / الجــزء 7 / الجــزء 8
الجـزء 9 / الجـزء 10 / الجزء 11
الجـزء 12 /الجزء 13 / الجزء 14
الجـزء 15 / الجزء 16 / الجزء 17
الجزء 18 / الخاتمة / المحتوى كامل
فرز واحد ... أم فرز متعدّد ... ؟
دراسة في أقوال ومواقف الدكتور عصمت سيف الدولة .
-4-
قلنا أن تحريض عصمت سيف الدولة المتواصل للناصريين على الالتقاء حول الميثاق كوثيقة ذات أهداف "عامة" ، موجود أيضا في وثيقة أخرى وردت في شكل رسالة معروفة باسم "رسالة من الأبدية" .. وفي هذه الوثيقة الهامة ، نجده يتطرق بإسهاب لمعضلة الفرز ، مؤكدا فكرة الالتقاء على الحد الأدنى من المبادئ الفكرية العامة على امتداد فترة الاعداد ، والتي يسميها حرفيا " خط فكري عام " تجعل مهمة الحسم النظري مهمة من مهام التنظيم القومي وليس من مهام الإعداديين ..
في هذا الجانب ، وبعد تذكيرنا بمراجعته الدقيقة لما جاء في بيان طارق ، يقول الدكتور عصمت سيف الدولة بأكبر قدر من الحسم والوضوح ان : " الإعداد الفكري والبشري على قدر ما فهمت من البيان ، يعني أن أنصار الطليعة العربية ليسوا ملتزمين نهائيا بشكل مسبق واشتراطي بمضمون فكري مبلور يدعون الناس إليه ويشترطون قبوله كما هو .. ليكون النصير نصيرا . بل إن الوصول الى هذا الفكر هو غايتهم النهائية التي يسعون لتحقيقها . ومؤدى هذا أنهم يبدؤون بالتجمع حول " خط فكري عام " هو ما يمكن تسميته : الفكر القومي التقدمي الذي ينطلق من الوجود القومي مستهدفا الوحدة الاشتراكية . يجمعون هذا الفكر من كل مصادره أيا كانت ويقبلون الاجتهاد فيه جميعا دون تحفظ . ويديرون الحوار حوله لينتهي في النهاية الى أكبر قدر من الوضوح والتحديد ، كمشروع يقدمونه الى المؤتمر التأسيسي للتنظيم القومي الذي يكون من حقه وحده أن يعيد النظر فيه من جديد لإقراره وإعطائه صفة الإلزام .. إذن فليس من مهمات أنصار الطليعة ، وليس من واجبهم أو حقهم أن يلزموا أنفسهم أو يلزموا غيرهم بفكر معين يكون هو مناط اللقاء بينهم ومقياس الانتماء لعملهم . إنهم لو فعلوا ذلك لصادروا مهمتهم الأساسية بالذات على المستوى الفكري . أي لما كان ثمة مبرر لدعوتهم على الإطلاق ، ولوجب عليهم أن يفتشوا لأنفسهم عن اسم آخر أو عمل آخر لا يعنيني على الإطلاق .. ! " ..
ثم يضيف مستكملا توضيحه لمثل هذا الرد الاستنكاري قائلا : "ان هذا الاتجاه موجود للأسف . وهو يناقض "بيان طارق" مناقضة صريحة ، ويلغي جوهر دعوة الأنصار تماماً . كما يصادر الجهود الحقيقية القائمة في الوطن العربي ، لبناء التنظيم القومي بناءً ديمقراطياً . وأسباب ذلك هي ما يلي :
1 - لأنه يتقدم بأفكار معينة نهائية على أساس ، أنها ، فكر التنظيم القومي .
2 - ويتخذ مواقفه من الآخرين كما لو كان ، هو ، التنظيم القومي .
3 - ويستقطب حوله الأتباع كما لو كانوا ، هم ، مؤسسو التنظيم القومي ..! " ..
يجرنا هذا الموقف الصريح الى طرح سؤالين مهمين في علاقة بعملية الفرز :
ـ أولا ، هل تقوم عملية الفرز على أساس المبادئ الفكرية العامة التي سمّاها الدكتور عصمت سيف الدولة في هذه الوثيقة " بالخط الفكري العام " وفي وثائق أخرى – ولو من حيث التسمية وليس المضمون - بالمنطلقات والغايات ، أم على أساس الاجتهادات المتعلقة بالمتغيرات الظرفية ؟
ـ وثانيا ، هل يجب أن تكون عملية الإعداد قائمة بذاتها ومستقلة عن التنظيمات الحزبية التي يحمل منتسبوها هذا الخط الفكري العام لأنصار الطليعة العربية ، أم تكون عملية شاملة ؟
الإجابة الطويلة والمفصلة من الدكتور عصمت سيف الدولة تغنينا عن الرد عن السؤالين . إذ يقول في نفس الوثيقة : " أعتقد أن هذا واضحا نصا وروحا في بيان طارق الذي حذر تحذيرا صريحا من فكرة انسلاخ الشباب عن انتماءاتهم التنظيمية القائمة أو دعوتهم الى هذا بحجة الانضمام الى أنصار الطليعة العربية ، لأن هذه الأخيرة ليست تنظيما جديدا أو بديلا عن التنظيمات الجديدة ، بل هي دعوة فكرية وبشرية من أجل تأسيس التنظيم القومي . ويرى البيان أن هذه الدعوة ينبغي أن تتمكن ، ويتمكن الداعون لها من تحقيق نشاط مفيد ومثمر في الواقع ، أي داخل التنظيمات القائمة وخارجها ، من أجل تحضير الكوادر الفكرية والبشرية التي تحقق الانتقال السليم الى التنظيم القومي عندما تصبح قادرة فعلا على تأسيسه ، وليس قبل ذلك ! " ..
وهكذا فان : " أنصار الطليعة العربية هي صفة الموقف من التنظيم القومي ودعوته وأهدافه ، وليست اسما أو عنوانا لأي تنظيم .. " .
ثم يضيف موضحا لما كانت الظروف وحدها كفيلة بإيضاحه : " بعض الأنصار نسوا مهمتهم أو لم يستوعبوا ما جاء فيها ، فلم يفطنوا الى ما يجري تحت أنوفهم . وهكذا وجدوا أنفسهم مشلولين في عزلة تامة ، واليكم الدليل ..
ـ ان هذه الأحداث وعمق تأثير الهزيمة والفشل المتلاحق الذي مني به العمل العربي تحت وطأة القوى الإقليمية لمواجهة النكسة ، وعلى وجه خاص فشل المقاومة وتعرضها للتصفية بفعل القوى الإقليمية .. كل هذا أدّى الى عملية فرز عميق يدور الآن في الوطن العربي .."
على أي أساس يقوم هذا الفرز وبين أي قوى ؟
تأتينا الإجابة مفصلة من الدكتور ، وهو يعود الى التأكيد بأن عملية الفرز حينما تقوم على أسس سليمة تنتهي الى بلورة الفكر القومي التقدمي ، وكأنه ينمو نموا جنينيا لكي يثمر خلقا جديدا متكاملا ، فيقول :
ـ 1 " على المستوى الفكري تنكر كثيرون لأفكارهم أو استبدلوها بأفكار أخرى . ذهبت لسلة المهملات أغلب الكتابات والأفكار المنشورة قبل عام 67 ، ورويدا رويدا يتبلور الفكر القومي التقدمي ويقترب من أكثر مضامينه نضجا ! " ..
" ألم تكن عملية الفرز والبلورة هذه من مهمات الشباب العربي ، بل أغناها وأحوجها على الإطلاق ! .. لقد قامت الظروف بتأدية هذه المهمة دون أي جهد ايجابي من هؤلاء ، بل ربما تصدى بعضهم ، ممن اعتبروا أنفسهم من غلاة الأنصار لاعتراض هذه المهمة ونصب كل العراقيل والأفخاخ أمامها .. يكفي مراجعة المواقف الفكرية لكثير ممن كان يقال عنهم مفكرين قوميين أو مفكرين ماركسيين أو غيرهم ، لنرى بوضوح أن هزيمة 67 وما بعدها قد كشفت .. وفضحت .. وصحّحت .. وبلورت كثيرا من المواقف والاجتهادات الفكرية التي كانت تتزاحم على أبواب التنظيم القومي هي الأفكار التي يقوم عليها ، بينما قامت مرحلة التنظيم القومي من أجلها أصلا لكنها منعت من ذلك ! .. "
ـ 2 " وعلى المستوى البشري تأخذ عملية فرز القوى شكلا حديا ، ويتحرر الجهد المبذول لقيام التنظيم القومي بدونهم . فإذا بهم الآن وقد ألقت بهم الهزيمة في مواقع الحقيقة ، فلا هم قوميون ، ولا هم تقدميون ، ولا هم من أنصار التنظيم القومي ! .. "
ولكن ما عيوب هؤلاء الذين تكفلت الظروف ببيان فشلهم ؟
انها مشكلة الأسلوب أكثر من أي ناحية أخرى .. حيث يجيب الدكتور في الفقرات اللاحقة مبينا الحد الفاصل بين النجاح والفشل في أسلوب الصفوة وأسلوب الشباب المتحفز لبناء التنظيم القومي على وجه مغاير من خلال بعض المعطيات المتعلقة بأسلوب هؤلاء وهؤلاء :
" ألم تكن عملية الفرز هذه لاكتشاف هذه العيوب قبل انفجارها ، هي إحدى أهم مهام الشباب العربي . لقد تكفلت الظروف بتحقيق هذه المهمة دون أي جهد ايجابي منهم ! .. "
ـ 3 " أكثر من هذا فان الأسلوب الديمقراطي في بناء التنظيم القومي يمكن أن نسميه أسلوب الشباب العربي بامتياز " .
" فمن ناحية قضى الجانب الذاتي للناصرية الذي كان يمثله الولاء الشخصي للرئيس . لكن الناصرية لم تنقضِ بل أصبحت أكثر وضوحاً بمعناها الموضوعي وهو الولاء لخط فكري وسياسي كان لعبد الناصر موقع القيادة فيه وهو يحتل قدراً مهماً من الفكر القومي التقدمي .
" ومن ناحية أخرى فإن وفاة الرئيس قضت على أكبر الآمال التي كان يتطلع إليها الشباب العربي في بناء التنظيم القومي من القيادة إلى القاعدة أي من قيادة عبد الناصر إلى قاعدته الشعبية . ذلك أن هذا الأمل كان يستمد بقاءه وقيمته من شخص الرئيس عبد الناصر . ووفاته إذ تُنهي هذا الأمل فهي لا تُبقي إلا أسلوب بناء التنظيم القومي من القاعدة إلى القمة ديمقراطياً وهذا هو أسلوب الشباب العربي بامتياز . لهذا ليس غريباً أن نرى أخلص الناصريين في الوطن العربي يتطلعون الآن لبناء التنظيم القومي والانفتاح عليه بدءاً من القواعد إلى القيادة بعد أن قطعوا فترات طويلة من رهن هذه المسؤولية بشخص الرئيس " .
ثم يستكمل الحديث مؤكدا علاقة الفشل بالمسائل المبدئية : القاعدة الفكرية ، وأسلوب البناء : " ان هذه المعطيات تكاد تجعل الشباب العربي في وضعية تماثل الوضعية التي دعا لها البيان من حيث بناء التنظيم القومي ديمقراطياً من القاعدة إلى القمة . لكن هذه المعطيات جميعاً فاتت عن وعي البعض لأنهم لم يستطيعوا رؤية إلا أنفسهم ، بحسبان أنهم الأصل وكل ما عداهم شيء طارئ أو عَرَضي :
1 ـ فهم لا يرون ولا يساهمون ولا يدفعون حركة التبلور الفكري ، لأنهم بلوروا أنفسهم بالفعل على فكر جاهز اختاروه لأنفسهم ، وأصبحوا يشترطونه على الآخرين كما هو . فأغلقوا عقولهم عن أوسع الأفكار والآراء التي كانت تتبلور بالفعل ، وكان يتوجب عليهم مساعدتها في التبلور ودفعها للأمام طيلة فترة التحضير للمستقبل . .
2 ـ وهم لا يرون ولا يساهمون ولا يدفعون حركة الفرز البشري . لأنهم تشللوا وأصبحوا تنظيماً (بحسب ظنونهم) يطلب انضمام الناس إليه . فعزلوا أنفسهم عن الناس جميعاً .. بما فيهم أولئك الذين كانوا يسعون من مواقعهم الخاصة لإقامة التنظيم القومي بشكل ديمقراطي !
3 ـ وهم لا يرون ولا يساهمون ولا يدفعون التحركات التي تشغل أعرض الشباب العربي ، خصوصاً الذي يسمى ناصرياً . والذي أحسب أنّ قضيته تسبق جهودهم وما يحسبون ! " ..
من اللافت هنا ان نشير الى بعض الغموض المتعلق بالأحداث في ما ورد في هذه الوثيقة من إيحاءات وتلميح لأطراف عديدة لا شك ان عصمت سيف الدولة قد تعمد إخفاءها أو تجاوز عن ذكرها لأسباب نعتقد أنها تتعلق بمبدأ التحفظ عند عصمت سيف الدولة والذي سنتحدث عنه لاحقا ، وكأننا به يريد إيصال الفكرة دون الدخول في ملابسات الأحداث المتصلة بها ، وهو ما يتطلب جهدا إضافيا لفهمها من خلال الرجوع الى وثائق أخرى تتعرض لأحداث تلك الفترة التي يتحدث فيها عن أنصار الطليعة .. بعضها وثائق في شكل رسائل للدكتور عصمت سيف الدولة (كالرسالة التي بعثها الى تونس) ، وأخرى وثائق نشرها الأستاذ حبيب عيسى تتحدث عن تجربة أنصار الطليعة وغيرها من المقالات التي تحيل الى نفس الحقبة ، وتتيح الفرصة لمعرفة الكثير من المعلومات الهامة حول تفاصيل تجربة الأنصار .... فقط في علاقة بهذا الجانب ، وبعد كل ما نقلناه من توضيح لموقف عصمت سيف الدولة بخصوص التأكيد على الخط الفكري العام ، فإننا لا نستطيع ان نقفز على المقصود من التحريض على نشر ما سمّاه بـ " الفكر الطليعي " خلال فترة الإعداد كما جاء في هذه الفقرة : " يتم هذا بتحقيق الوحدة الفكرية قبل الوحدة التنظيمية ، إذ أن النظرية تسبق الثورة دائما ، أو يجب أن تسبقها ، ليصبح ولاء المناضلين من أجل أهداف أمتهم ولاء عقائديا لهذه الأمة ، وليس ولاء حزبيا ، أو شخصيا لقيادتهم . ولما كانت مهمة التنظيم هي الأعداد للطليعة العربية ، وكانت تلك المهمة مؤقتة في الوقت ذاته فإن مهمته الأساسية لن تكون القيادة السياسية ، والنضالية للجماهير العربية ـ فتلك مهمة الطليعة العربية عندما توجد ـ بل ستكون إكمال ، وتعميق ، ونشر الفكر الطليعي ، وتثبيته في أذهان الجماهير على الوجه الذي يحقق قاعدة فكرية واحدة تجمعها ، أي أن عدم تحمل التنظيم بحكم مهمته الإعدادية ، والمؤقتة ، لأعباء النضال السياسي سيجعله تنظيما للوعي الفكري ، والتوعية غايته تحقيق الوحدة الفكرية في أعرض قاعدة جماهيرية . و معاركه كلها ستكون بصيغة أساسية متجهة إلى طرد كل فكر مناقض للفكر الطليعي ، وتثبيت هذا الفكر الطليعي في كل مكان " .
والسؤال أو الاعتراض الذي يمكن ان نتوقعه هو ماذا كان يقصد عصمت سيف الدولة بالفكر الطليعي ؟ ألا يقصد نظرية الثورة العربية تحديدا ؟؟ والإجابة قطعا : لا .. وذلك لتوفر عدة قرائن وحجج واضحة .. أهمها وببساطة أن بيان طارق سابق على النظرية .. فالبيان ظهر في شهر يوليو سنة 1966 في حين لم يعرف من أفكار عصمت سيف الدولة في ذلك الوقت وعلى نطاق ضيق سوى ما جاء في كتاب أسس الاشتراكية العربية المنشور في شهر يناير 1965 ، أي قبل سنة ونصف وهي مدة غير كافية لتداول أفكاره بالطريقة الواسعة التي أصبحت بها متداولة بعد ذلك ، أي بعد نشر نظرية الثورة العربية في شهر شباط سنة 1972 بسنوات طويلة ، وهذا البطء يعود الى الحصار المضروب عليها من قبل أجهزة الدولة الإقليمية في مصر وفي كافة الدول العربية ، حيث قوبلت النظرية بالرفض من طرف الرقابة ولم تنشر الا في بيروت ثم حوصرت على نطاق واسع في كل الأقطار ..
من الحجج الأخرى الداعمة للإجابة بالنفي ما ورد في مرجعين حول ماهية الفكر الطليعي ومضمونه الذي هو غير محسوم وغير نهائي .. فهو متنامي في تبلوره من خلال الصقل والتعديل والإضافة ، بحيث يكون مفتوحا – دائما - على الاغناء من خلال الممارسة .. وهو أيضا محل اختبار في بناء الوحدة الفكرية وفي مصيره عند الفشل في تحقيق أهدافه .. المرجع الأول نعتمده في بعده القومي من بيان طارق ، ويقول فيه الدكتور عصمت سيف الدولة في هذا السياق : " .. ومن خلال هذا التنظيم الانتقالي ستتاح الفرصة كاملة لاختبار الفكر الطليعي ، ومدى قدرته على أن يحقق الوحدة الفكرية اللازمة لزوما لا يمكن تجاهله ، أو تخطيه لأي تنظيم قومي ، أو تتاح فكرة صقله أو إكماله أو تعديله خلال الممارسة بحيث يصبح عند مولد "الطليعة العربية" على أكثر قدر من النضج ، والتكامل ، والصلابة ، والوضوح ، وأن أي فشل لا يكون محسوبا على "الطليعة العربية "، فلا يهز الثقة ، وتتسع الفرصة مرة أخرى لمزيد من الاجتهاد الفكري والطليعي " .. أما المرجع الثاني ، فنأخذه في بعده القطري من حديث الدكتور عن التنظيم الناصري في مصر وقد ورد لاحقا في حوار مع جريدة القبس حول المسألة النظرية للفكر الناصري بتاريخ 27 سبتمبر 1987 ردّا على سؤال " هل تمثل الناصرية نظرية متكاملة ؟ " قال فيه : " .. أنا أعترض عن السؤال ، اذ لا يوجد في تاريخ البشرية نظرية متكاملة ، بمعنى أنها بلغت منتهاها ، وغير قابلة للنمو والتطوّر ، والدليل : الليبرالية والماركسية ، وظهور الكثير من النظريات كل يوم .
واذا قلنا أن النظرية الناصرية في بداية نشأتها ، باعتبار أن بذرتها الجنينية هي الميثاق ، وتربتها هي التجربة التاريخية لعبد الناصر ، فسوف تنمو من خلال حركة نضالية تضيف كل يوم جديد ، ولن تكتمل في جيل أو جيلين ، لأن النظريات غير قابلة للاكتمال النهائي ... وفي الواقع ، ان كل الخصائص اللازمة لصياغة نظرية بمعناها السياسي موجودة ، من خلال التجربة التاريخية ، وان كانت لم تُصنع بعد بشكل يمكّن كل واحد من أن يضع هذه الصياغة في جيبه أو مكتبه ، بحيث لا تكون كتابا من تأليف فلان ، انما مثلا كالميثاق ، أو للإضافة التي سوف تأتي نتيجة التفاعل الإنساني للتجربة ، ولحركة الحزب الناصري" ..
وهكذا نجده يذكّر في كل مرة باختصار دعوته للناصريين للالتقاء على الحد الأدنى .. بل وفي هذه المرة ، على جزء فقط من الميثاق لمواجهة الرّدّة كما قال في نفس الحوار إجابة عن سؤال يتعلق بالقواعد النظرية للناصرية مؤكّدا مرة أخرى عن استحالة اكتمال النظرية : "القواعد : ضبط حركة . وأين الحركة : في المجتمع . ولكل مرحلة في المجتمع ضوابط حركة . نحن الآن في مرحلة تصفية الرّدّة السّاداتية ، والحركة هنا يجب أن تتجه لإيقاف الرّدةّ . فضوابط مواجهة مثل هذا الوجود السّاداتي موجودة في الميثاق ، وان كنت غير محتاج الآن للضوابط الاشتراكية . مثال اخر ، ضوابط مواجهة الهيمنة الأمريكية موجودة في الميثاق ، كما هي موجودة في تجربة عبد الناصر.
وبطبيعة الحال ، لا توجد كل الضوابط في النظرية الناصرية ، لأن ما سوف تسفر عنه الحركة الاجتماعية في المستقبل لا يمكن التنبؤ بها الان " ..
والحجة الاخيرة المتعلقة بالتسمية – أي الفكر الطليعي - وكما يبدو من توصيف وتعريف عصمت سيف الدولة نفسه " للطليعة العربية " إنما يتعلق بالارتباط الموضوعي بين الوصف والموصوف أو كما قال في الفقرة المشار إليها سابقا بأن " أنصار الطليعة العربية هي صفة الموقف من التنظيم القومي ودعوته وأهدافه " .. وقد وجدنا هذا التعريف مفصلا في كتاب الأسلوب يشرح فيه ماهية التسمية وخصائصها في علاقة بالاهداف والمضامين النضالية قال فيه : "عرفنا أن القومية ديموقراطية (فقرة 52) اشتراكية (فقرة 62) . وان الحل الصحيح للمشكلات القومية في هذا النصف الثاني من القرن العشرين هو دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية (فقرة 65) . فيكمّل هذا معرفتنا بخصائص التنظيم القومي .
ما اسمه ؟ .. لا يهم . حتى لو لم يسم حزباً وأسمي الحركة العربية الواحدة .
غير ان اصدق الأسماء دلالة على طبيعته سيكون "الطليعة العربية" انه اسم يصف ماهيته . فهو طليعة من حيث هو جزء غير منفصل عن الشعب العربي يشق أمامه الطريق الى التقدم . وهو طليعته على الطريق الى الحرية فهو طليعة تحريره . وهو طليعته على الطريق الى الوحدة فهو طليعة وحدوية . وهو طليعته على الطريق الى الاشتراكية فهو طليعة اشتراكية . وقد كسب هذه الجوانب المتعددة من واقعه العربي متعدد المشكلات ، ولكنه طليعة واحدة ، فيكفي للدلالة على وحدته في مواجهة واقعه بان يكون طليعة عربية "..
ثم - وهذا على قدر من الأهمية - فان سياق الحديث عن الفكر الطليعي في بيان طارق في علاقة مباشرة بالأهداف المطلوبة من وراء مرحلة الإعداد التي ستشهد نشرا لهذا الفكر ليس من أجل تحقيق الوحدة الفكرية بين صفوف الأنصار فحسب (الخط الفكري العام) ، بل ـ وهذا هو المهم ـ من أجل تحقيق معايير موضوعية تُختبر من خلالها الصلابة النضالية المطلوبة عقائديا وحركيا لفرز المناضلين من الكوادر والقياديين حتى يكونوا طلائع متقدمة في صفوف أمتهم يتحركون بكل وعي ومسؤولية بقطع النظر عن مصادر هذا الفكر سوى انه فكرا تقدميا (طلائعيا) ، وهذا تقريبا ما عبر عنه عصمت سيف الدولة في الوثيقة المذكورة سابقا وفي بيان طارق أيضا حينما قال : " وبهذا ينبثق التنظيم القومي من الجماهير العربية ذاتها صاعداً خلال مدة محدّدة من هذه القاعدة الجماهيرية لينتهي بالمستويات العليا حتى القيادة القومية ، بحيث أنه في نهاية المرحلة الانتقالية يكون قد تحققت في هذا التنظيم قاعدة من الجماهير الواعية بالفكر الطليعي ، والمدرّبة على العمل معا في سبيل غاية واحدة ، والمصقولة والمفرزة خلال العمل العقائدي والنضالي في فترة الأعداد . في نهاية تلك الفترة يمكن أن يتكون من أصلب عناصرها القيادية مؤتمر قومي تأسيسي تنبثق عنه " الطليعة العربية" تنظيما قوميا " ..... " و هذا ذاته سيفرز المناضلين أيا كانت مواقعهم ، لأن مدى الوعي سيتحدّد بمدى مقدرة الواعين على التأثير في مواقعهم بدون أوامر قيادية . أي أنه من خلال مراقبتهم وهم يتحركون في كل الظروف بدون توجيه يمكن بسهولة معرفة إلى أي مدى يؤثر وعيهم العقائدي في تصرفاتهم ، ومواقفهم الذاتية ، أي يمكن معرفة مدى التزامهم العقائدي قبل معرفة مدى مقدرتهم على الانضباط التنظيمي ، وهذا في منتهى الأهمية بالنسبة إلى التنظيم القومي ، لأن القيادة التنظيمية هي التي تأخذ عادة القرارات الحركية ، و تقوم القواعد بتنفيذها ـ اتكالا ـ على أن القيادة قد أخذتها في حدود العقائد التي تربط ، أو من المفروض أن تربط ، القواعد بالقيادة "..
وفي النهاية ، فان الحديث الوافي عن الطليعة العربية بكل خصائصها الفكرية والعقائدية والنضالية والأخلاقية وغيرها قد جاء مفصلا في فصل خاص من نظرية الثورة العربية ، مبرره الوحيد أنها أولا وقبل كل شيء ضرورة نضالية قد اكتسبت ماهيتها الطلائعية من هويتها النضالية ، اذ أن : "وعي الطليعة العربية أن الحل الجدلي للمشكلات لا يتأتى إلا بالمعرفة الجماعية لها ، والتصميم الجماعي للحلول ، والتنفيذ الجماعي للمستقبل ، يحتم عليها أن تكون تنظيما جماعيا يلتحم داخله كل التقدميين الثوريين في حركة عربية واحدة ، يتبادلون خلالها الجدل ، فيصقل كل منهم وعي أخيه ، ويغني ثقافته ، ويدعم نضاله ، في سبيل الحرية والوحدة والاشتراكية" ..
من الواضح أن فهم فكرة الفرز عند الدكتور عصمت سيف الدولة ليست بالهينة ، وهي لا تكتمل وضوحا الا بقدر ما نستقيه ونجمعه من كتاباته ومواقفه المتصلة بهذا الموضوع ، على أن نكون حذرين كل الحذر من أي تعسف أو تأويل لا يجوز أن ننسبه إليه وهو لم يعنيه .. ومن ناحية أخرى فان مفهوم الفرز ـ كما أثاره الدكتور عصمت سيف الدولة ـ على صلة مباشرة بموضوع غير عادي يهم ذلك المشروع الذي آمن به ملايين العرب الوحدويين الذين يسعون لتغيير واقع الحياة في الوطن العربي ، فلا يجوز بأي حال من الأحوال أن يكون خاضعا لنزوات الأفراد وأهوائهم وهم يؤوّلون أقواله دون رجوع الى سياقاتها ومنابعها الأصلية كما يفعل الكثيرون ... ورغم أن هذا الموضوع غير متوقف على ما قاله الدكتور عصمت سيف الدولة ، إلا انه لا يعنينا ما يقال فيه إلا بقدر ما يتردد منسوبا إليه بين صفوف الوحدويين ..
وفي هذا الإطار ، وبناء على ما تقدم من عرض نستطيع كخطوة أولى أن نقول بأن الفرز ـ كما فهمنا من الدكتور عصمت سيف الدولة ـ يظل قائما من الناحية الفكرية العامة على فرز المؤمنين بوحدة الوجود القومي وبكل ما يترتب عنه من الالتزام بالأسس اللازمة لبناء اداة الثورة العربية من أجل تحقيق دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية بقطع النظر عن الجوانب التكتيكية التي يفترض أن يحدّدها ـ مشتركين ـ كل المؤمنين بهذا الهدف على ضوء الممكن خلال الحركة والممارسة الميدانية الخاصة بكل مرحلة بعد قيام التنظيم .. وهو ما يحيلنا الى الناحية الثانية العملية وهي تظل قائمة ـ كما فهنا أيضا ـ على أساس فرز الأساليب العملية وتنقيتها من كل شبهة إقليمية معيقة لتلك الغاية حتى لا تتحول الى قناعة تستدرج الوحدويين الى شراك الإقليمية البغيضة .. أما ما عدا ذلك وما سواه من المواقف والتأويلات الخاصة بالأحداث والمتغيرات فهو متروك للاجتهاد على قدر المساواة والحرية بين كل المؤمنين الصادقين بهذا الهدف الاستراتيجي العظيم والعاملين على تحقيقه في كل الساحات ، وفي كل مراحل البناء دون تبخيس أو تجريم أو تشكيك فيما يبذلونه في الواقع وفقا لاجتهاداتهم إن كانوا في حالة التعدد التنظيمي ، أو في حالة الوحدة .. اذ أن الغاية الأولى والأخيرة من الحديث عن موضوع الفرز ليس إلا ما يفيد المشروع القومي الذي لا يستطيع ان يحتكره طرفا لنفسه قبل قيام الحركة العربية الواحدة ، الممثل الشرعي والوحيد لهذا المشروع ..
ألا يكفي ما تقدم من قرائن لبيان الغرض من الحديث وقد أتينا على تتبع آثارها في كثير من أقوال عصمت سيف الدولة وأفعاله التي انتهت بنا الى تحديد هذا المضمون ؟
بلى .. ولكن دعونا نستمر في الحديث أكثر حتى نصل الى فهم غايته بشكل قاطع ..
(القدس - م .ع / فيفري 2018).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق