القدس عنوانها وفلسطين بوصلتها

القدس عنوانها وفلسطين بوصلتها
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجزء السادس

روابط الأجزاء :

تـقديــــم / الجـــزء 1 / الجـــزء 2 

الجــزء 3 / الجــزء 4 / الجــزء 5  

الجــزء 6 / الجــزء 7 / الجــزء 8 

الجـزء 9 / الجـزء 10 / الجزء 11 

الجـزء 12 /الجزء 13 الجزء 14

الجـزء 15 / الجزء 16 الجزء 17

الجزء 18 / الخاتمة / المحتوى كامل  

فرز واحد ... أم فرز متعدّد ... ؟

دراسة في أقوال ومواقف الدكتور عصمت سيف الدولة .

-6-

لقد عرضنا – في الجزء السابق – العديد من المواقف والنماذج الحية من أسلوب الدكتور عصمت سيف الدولة في التفاعل مع الأحداث أو مع الآخرين من منطلق المصلحة القومية .. وهي تجعلنا نستخلص ميزة نضالية وأخلاقية عالية تحيلنا مباشرة الى المستوى الثاني ..

في هذا المستوى يتميز المشروع القومي بجانب عملي تتنزل فيه كل الأفكار والمقولات النظرية في الواقع ، ينجزها عدد هائل من الأفراد المؤمنين بهذا المشروع ، بحيث يتوجب عليهم مجابهة الظروف التي يريدون تغييرها دون أن يخرجوا بعيدا عن الضوابط التي تحدّدت نظريا وفكريا ، أي ان المشروع ككل سيخضع لقيود تحتّمها الظروف الموضوعية من جهة ، والظروف الذاتية من جهة ثانية ، ومن هنا يبدأ التعقيد والتداخل بين الواقع النظري والواقع العملي ، وهي عقدة لا تحل بين الأفراد الا بوحدة التنظيم . أما قبل ذلك فان هدفا رئيسيا سيظل قائما طوال المسيرة النضالية متمثلا في بناء التنظيم الذي يتوقف عليه تحقيق كل الأهداف النظرية .. ومن هنا تنشأ المشكلة المسبّبة للصراع والتشتت والتداخل في الصفوف ، مما يستوجب اللجوء الى فرزها . وستظل تلك المشكلة قائمة ومتواصلة  ومتفاقمة ما لم يهتد القوميون الى فهم السياقات المرحلية للمشروع القومي خلال كل مرحلة من مراحل النضال التي يخوضونها أينما كانوا في شتى التعبيرات والهياكل التنظيمية التي ينتمون إليها في جميع مواقع الصراع مع القوى الإقليمية سواء في الأحزاب أو في النقابات أو في أي موقع بين صفوف الجماهير وهم يخوضون معارك الممكن ، من أجل تحقيق ما يحتاجه المواطن العربي من مكاسب مادية ومعنوية .. وهم يعملون في نفس الوقت على الترويج والتعريف بالفكر القومي التقدمي ، دون أن تؤدي بهم رغبتهم من تحقيق الفرز المنشود الى التشتت والتشرذم الذي يعيق هدفهم الاستراتيجي : بناء الآداة التنظيمية الكفيلة وحدها بتحقيق النصر ، حينما ينتقلون من التركيز على الثوابت الى البحث عن المشترك في المتغيرات .. 

كل هذه الخصوصيات المتعلقة بطبيعة المشروع القومي ، نراها لازمة كإضافة لفهم المقولة السابقة الخاصة بتعريف الناصريين الواردة في كتابه "عن الناصريين واليهم" موجهة الى ساحة مصر بالذات (كنواة تنظيمية لهذا المشروع في موقع يعتبره الدكتور الاقليم القاعدة) ، وهي مقولة تتضمن قولا صريحا حاسما يتعلق بالفرز ، ولكننا لا نستطيع أن نفهم مغزاه دون أن نفهم السياق الذي جاء فيه : إعلان موقف حاسم ، مؤجل ، حان موعده .. وقد جاء الإعلان عن التوقيت والمبررات في مقدمة كتاب عن الناصريين واليهم ، وكأن الدكتور عصمت سيف الدولة ، يريد أن يفصح عن كل ما أخفاه سنين طويلة وتجنّب الخوض فيه حتى تتحقق تلقائيا كل النتائج المرجوّة ، وحتى لا يثير معارك في غير أوانها ، فيقول : " وبعد فإن رأسي مليء حتى التخمة بما اختزنته فيه لأخرجه مكتوباً في أوانه ، ولم يعد العمر قابلاً للمراهنة على امتداده . لا بد إذن أن اكتب وأكتب ولو في غير معركة . ولن افتقد على أي حال معركة اشترك فيها بما اكتب ، فالعالم كله والوطن العربي مليء بالمعارك التي لا يعرف حتى المشاركون فيها كيف نشبت ولماذا ؟ .. وأينما وليّت الوجه فثمة معركة تتصل من قريب أو من بعيد بالأمة العربية . لقد قال المارشال ماك لوهان فيما كتبه عن ” الإعلام ” أن الأرض قد أصبحت بفعل تقدم وسائل الاتصال قرية . إذا كان هذا صحيحاً فإنها قرية يحكمها ملوك المال وملوك السلاح . وملوك الدعاية وملوك الصهاينة . والملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ، هي إذن قرية يعيث فيها فساداً ذو القوة القادرين على البطش بالشعوب من أهلها . ونحن العرب ، لنا في هذه القرية دور ودروب وأغراض وأعراض لا بد من الدفاع عنها . المعارك إذن ، حتى العالمية تدور في دورنا ودروبنا فسنجد دائماً من يقاتلنا فنقاتله .. سقط العذر اذن . فلنكتب ولنستعن في المرحلة الأولى بما كتبنا من قبل ولم ننشره حتى لا نثير معارك في غير أوانها .. ولو لفترة قصيرة  .."

سقط العذر بعد أن انقضى العمر وفشلت كل محاولات النهوض بالناصريين وهو يتابع جهودهم ويدافع عنهم ويسدي لهم بالنصح اللازم دون وصاية حتى اقتربوا (عند اصدار الكتاب) من كسب حقهم في التنظم ، لكنهم لم يصلوا الى انجاز المهمة التاريخية المناطة بعهدتهم  ، أو هكذا توقف الفرز في صفوفهم وهم يخوضون صراعا مريرا غير متفقين حول من هو الناصري ؟ .. فتشرذموا قوى وأحزابا في ظروف تشهد فيها الامة العربية مزيدا من التردّي والتقهقر نحو الاسوأ .. وكثير من هذا ذكره في  مواقع أخرى عديدة من الكتاب وهو يقدّم قراءة معمّقة لواقع الناصريين ، ويسرد أهم الفترات والتحولات التي شهدها  تاريخهم عبر كل الأجيال ، مؤكّدا الحاجة الملحة لتنظمهم في ظل الردّة التي حلت بمصر وعادت بها سنوات الى ما قبل الثورة : " ارتدّ أنور السادات بمصر الدولة عن الاتجاه القومي لثورة يوليو الناصرية . أصبح إيقاف الردة وإنقاذ مصر من التردي الإقليمي بعد أن كانت مركز قيادة الحركة القومية ، أصبح هدفاً قومياً وأصبحت به مصر القضية المركزية للنضال القومي . هذا قلناه . ما لم نقله ، أن تحقيق هذا الهدف أصبح متوقفاً على حجم وتنظيم ونشاط القوى الجماهيرية التي تناضل من أجل تحقيقه . وقد استطاع فعلاً أن يستقطب الى ساحته قوى شعبية كثيرة ومتنوعة وإن لم تكن منظمة . كما استطاع ان يكسب مواقف بعض الأحزاب الرسمية . ولم يكن ذلك كافياً لإيقاف اندفاع دولة السادات الى الهاوية الفرعونية . كانت أعرض القوى وأكثرها مقدرة على التأثير فيما لو التحمت تنظيمياً . فناضلت هي القوى الناصرية " .. كما ذكر في مناسبات أخرى ضرورات من نوع اخر تهم الاتفاق على الحد الادنى من الأفكار للتعجيل بقيام التنظيم منها ما ورد في حواره مع جريدة القبس بتاريخ 27 سبتمبر 1987 حين قال : "وفي الحقيقة : هذه هي المهمّة التاريخية التي يجب على الناصريين أن يقوموا بها ، واذا لم ينجزوها ، سوف تصبح الناصرية مثل الفابية ، والفابية الان انقضت تاريخيا ... أيضا ، الدنيا لن تتوقف الى أن يصوغ الناصريون أفكارهم ، ستظهر أفكار أخرى ، ومنسوبة لعبد الناصر . واليوم على سبيل المثال مطروح في مصر عن طريق "الأخ كمال أحمد" حزب ناصري ، أفكاره هي بالضبط أفكار السادات ، ويسمّى حزب ناصري . وأنت ليست لديك السلطة لان تحرم الناس من أن تقول ، أو أن تفكر . والناصريون اذا أقاموا حزبهم ، فهم مرشحون لتصحيح المسيرة ، وما دامت مشكلة مصر ، فهي بالضرورة مشكلة الأمة العربية ، لأن مصر لها ثقل قومي ، وتؤثر في الوطن العربي كله .

ولأني قومي ، فاني أعتبر أن انقاذ مصر ممّا هي فيه مهمّة قومية وليست مصرية . واذا أُنقضت مصر سوف تتوقف الحرب في العراق ، وستتوقف المذابح في لبنان ، وستتغير الخريطة كلها ، لأن الخريطة العربية تمزقت يوم أن حوصرت مصر ، أو حاصرت نفسها .

ويقيني ، أن القوة المتاحة لإنقاذ مصر هم الناصريون ، بشرط أن يكون لهم حزب ، ويتحوّلوا من ناصريين الى قوة ناصرية . لذلك منذ أدركت هذا الأمر من أيام السادات وأنا أظاهر وأؤيد النشاط الناصري في سبيل الالتحام في حزب " .. 

وستبقى مثل هذه الحاجة ملحة ليس في مصر وحدها ، بل في الوطن العربي كله من أجل التغير والثورة والتقدم ، حيث تتوافر كل الظروف الموضوعية لقيام الثورة العربية الشاملة ، ولا تؤخرها غير الشروط الذاتية للقوى التقدمية .. ومثل هذا الموقف  يتحدث عنه في حواره مع جريدة الرأي التونسية في نفس الفترة تقريبا ، أي منتصف الثمانينات ، وردا على سؤال محاوره حول الظروف الموضوعية للثورة في مصر والوطن العربي ، يجيبه بإسهاب طويل معرّجا على مشكلة الفرز : " إن  الشروط الموضوعية للثورة العربية كما عرضتها في نظرية الثورة العربية متوفرة في الوطن العربي وفي مصر باعتبارها جزء من الوطن العربي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية . والواقع أن انتباه كثير من الكتاب والمفكرين والقادة العرب الى محاولة الإجابة على كيفية وشروط نجاح الثورة العربية منذ نحو ثلاثين عاما ، كان يعني وعيا بأن الظروف الموضوعية للثورة متحققة .. وأعني بالظروف الموضوعية تحول الواقع الى عقبة في سبيل التقدم الاجتماعي في الوطن العربي .. كان  واضحا  للكافة بأن تطور الحياة في الوطن العربي تطورا متكافئا مع الإمكانيات المتاحة فيه  للشعب  العربي أمر غير ممكن بفعل الاستعمار الخارجي والتجزئة الإقليمية والاستبداد  والقهر  الاقتصادي والسياسي داخليا . ولم يكن أحد يناقش في انه لا بد من ثورة عربية أولا ، بل كان الحوار دائرا حول كيف تقوم الثورة العربية وتنجح ..؟ وقد بلغ نضج الظروف الموضوعية حدا حمل المؤرخ الانجليزي " تونبي " على إبداء دهشته البالغة من أن الأمة العربية لم تتوحد رغم ضرورة هذه الوحدة ، وأنها ممكنة .. بل بلغ نضج الظروف للثورة العربية أن القوى التي كانت مرشحة لتقوم الثورة ضدها لتصفيتها تبنت هي شعارات الثورة وتصدرت بأساليبها التحقيق  السياسي لمطلب ثوري . وأعني بتلك القوى الدول العربية ذاتها .. اذ هي المستهدفة  كعقبة من الثورة العربية الوحدوية .. وقد كان كل ما كتبته منذ عشرين عاما يستهدف حل إشكالية كيف الثورة ..؟  وقد انتهيت في هذا الى أن ما يعوق الثورة العربية هو غياب الشروط الذاتية وليس الموضوعية لقيامها .. بمعنى فشل القوى المرشحة موضوعيا لإشعال الثورة العربية الشاملة وقيادتها في القيام بهذا الدور التاريخي .. أول عناصر الفشل الذاتي ، أن الثوار العرب أي المرشحين موضوعيا لقيادة الثورة لم يفرزوا أنفسهم فرزا واضحا من القوى المعادية موضوعيا للثورة والتي ترفع شعاراتها في نفس الوقت ، فتحول بوعي أو بدون وعي دون قيامها .. ومن هذه الثغرة لم يستطع الثوار العرب أن يدركوا أن الثورة لا يمكن أن تقوم إذا تداخلت في قواها الدول العربية أو قيادتها بصرف النظر عن أشخاص هذه القيادات .. 

واضح في هذه الفقرة ما يعنيه الدكتور عصمت سيف الدولة من حديثه عن الفرز ، وهو فرز صفوف الثوريين دعاة الوحدة من الانتهازيين والاقليميين أولا ، اذ هم أي الثوريون العرب كما قال : " لم يفرزوا أنفسهم فرزا واضحا من القوى المعادية موضوعيا للثورة والتي ترفع شعاراتها في نفس الوقت ، فتحول بوعي أو بدون وعي دون قيامها " .. أو من بين صفوفهم ثانيا ، ومنهم من لم يدركوا " أن الثورة لا يمكن أن تقوم إذا تداخلت في قواها الدول العربية أو قيادتها بصرف النظر عن أشخاص هذه القيادات .. إذ أن أي قومي ثوري يصل الى حكم دولة إقليمية يجد نفسه بحكم الدولة الإقليمية ذاتها ورغم أنفه حارسا للإقليمية المتجسدة في حدود دولته وهوية شعبها ومصالحها  الإقليمية  ودستورها " .. ومثل هذه المعضلات - في نظره - هي التي أدت الى " عجز الثوار العرب عن أن يملكوا آداة الثورة وهي تنظيم قومي تقدمي ثوري واحد يلتحم فيه كل الثوار ويقومون  به ومن خلاله بتعبئة الشعب العربي وقيادته نحو أهدافه وما يزال هذا الوضع قائما الى الآن" .. وهو حديث عن الفرز ـ كما نرى ـ ذو وجهين وبعدين في نفس الوقت : وجه داخلي ووجه خارجي ، وبعد مرحلي وبعد استراتيجي .. وغايتة - كما هو واضح في الجملة الاخيرة - هي تجاوز العجز الذي حال دونهم ودون بناء التنظيم ..

في المحطة الموالية من كتابه عن الناصريين واليهم يعرض علينا مشكلة الناصرين : " وهي مشكلة عويصة لأنها كانت تقتضي قبل أي بناء تنظيمي التحقق من أن كل فرد من القاعدة ناصري . وكل هذا التحقق يفتقد المعايير الموحدة كما يفتقد الحكم المقبول من الجميع أو حتى من الأغلبية ليتولى الفرز على ضوء تلك المعايير . باختصار كان مطلوباً لتسهيل مهمة تحول الناصريين أو أغلبهم إلى قوة منظمة الإجابة على سؤال : ” من هو الناصري ؟  " ..

نفس هذا الموقف نجده أيضا في الحوار مع جريدة الرأي ، وفي ردّه على سؤال حول من هم الناصريون  يقول لمحاوره : " الصعوبة في الإجابة على هذا السؤال هي تحديد ماهية الناصريين . فلا تنسى أن كل قيادات وكوادر ورجال وأحزاب الردة كانوا جزءا من دولة عبد الناصر .. أي لدى كل واحد منهم سبب تاريخي يستطيع أن يزعم به أنه ناصري . وأعتقد أن مكاسب كثيرة وقائمة ، ستظل قائمة الى ان يتحد الناصريون في مصر في حزب ناصري يكون هو محك الفرز بين   الناصريين   وأدعياء الناصرية " .. كما وردت هذه الفكرة بأكثر وضوح في الحوار مع جريدة القبس قال فيه : "ومع وقوع السادات في فخ الهيمنة الامريكية منذ 1974 ، بدأ يعمل على القضاء على عبد الناصر . ليس فقط في إنجازاته ، ولكن قي ذكراه ، ولو أن هذه "الرّدّة" كانت قد حققت تقدّما للناس فيما يتعلّق بالمسائل الاقتصادية أو التحرّرية أو العدالة أو المساواة أو سيادة القانون أو الديمقراطية ، لقال الناس حينذاك : أنه قد حدث تطوّر في ثورة 1952 ، كما كان يحلو للسادات أن يقول ذلك .

وفي مواجهة هذا الواقع الساداتي ، كان لا بد أن يجتمع الناس دفاعا عن ماضيهم الذي تحقّق فيه مكاسب لهم ، ويختاروا في محاور التقائهم "النقيض" للسادات ، أو الذي خلق منه السادات "نقيضا" .. فتكاثر "الناصريون" ، وبقي أن أكون "ناصريا" هو في الواقع ، التعبير عن رفض اتجاه السادات وسياساته ، لأن السادات عندما طرح هذه السياسات ، طرحها من قبيل أنها تصحيح لأخطاء عبد الناصر .

وهنا : جاء ما كتبته عن "الناصرية المستحيلة" لأن هناك من وقف ضد السادات وسياسته ، لأنه ضد عبد الناصر . أولئك الذين كانوا يستمدون هويتهم الناصرية من علاقتهم بالقائد والزعيم التاريخي عبد الناصر .

كانوا معه في التحضير لثورة يوليو ، وفي مجلس قيادة الثورة ، شاركوا في تفجير الثورة ليلة 23 يوليو ، كانوا معه في الحكم ، كانوا حوله مفكرين ، كانوا الجهاز الكبير الذي يقوده عبد الناصر ، وكانوا أيضا على علاقة شخصية به . حتى عبد الحكيم عامر بهذا المعنى ناصري .

بالإضافة الى ذلك فان نشاط عبد الناصر المكثف للدفاع عن الامة العربية ، حوله الى قائد قومي ، بصرف النظر على حكام هذه الأقطار ، فأصبح كل الذين يجدون انفسهم في موقع قيادة الجماهير العربية ، أو لكي يكسبوا هذه الجماهير ، عليهم أن ينتموا الى قائد هذه الجماهير . وهو عبد الناصر . فاصبح كثير من القادة في الأقطار العربية ناصريين بمعنى أنهم رجال عبد الناصر ، أو الذين يمثلون اتجاهاته ، أو ممثلو الثورة العربية التي يقودها عبد الناصر .

وبعضهم كان عبد الناصر يأتمنه على أدوار معينة ، فأصبح "فتحي الديب" وكيل المخابرات ، وصاحب المهمّة البطولية في التعامل مع "ثورة الجزائر" ناصري .

و"محمد حسنين هيكل" صاحب الكفاءة الصحفية الهائلة ، الذي اتخذه عبد الناصر متحدثا باسمه ، أو صحفيه الأول كما يقال ، وهو يستحق هذا الدور ، لأن عبد الناصر لم يكن ساذجا ، ما كان يمكن أن يضع هيكل في هذا المكان ، الا اذا كان هيكل فنيا كصحافي ، يستحق هذا الموقع . لذلك فهو ناصري .

كل هؤلاء الناصريون هبّوا للدفاع على عبد الناصر في مواجهة اتجاه السادات وأصبح من حق كل منهم أن يقول أنا "ناصري" .

من هنا ، فان هذه الناصرية مصدر الانتماء فيها العلاقة بالقائد ، بمعنى أن الذين نفذوا أو قاموا بمهمّات في عهد عبد الناصر ، هم منفذوها فقط ، فهي اذن مواقف ناصرية . وقد قلت عن هذه الناصرية : أنها ناصرية مستحيلة .

لماذا هي مستحيلة ؟ .... مستحيلة  للدلالة على الانتماء الناصري بالنسبة للمستقبل – أكرّر بالنسبة للمستقبل – في غياب القائد ، ذلك أن القائد الذي كان يحدّد الدّور ، ويقود النضال ، مصدر الثقة ، مصدر الانتماء للناصرية قد انقطع لأن عبد الناصر توفاه الله .

على كل واحد منهم – الان – أن يثبت أنه كان بجوار القائد لأنه كان يشاركه في معتقداته ، أنه نفذ المهام لأنه كان يؤمن بها ، أن مواقفه كانت مطابقة لمواقف عبد الناصر ، لأنها هي مواقفه – أيضا – حتى وان لم يكن عبد الناصر موجودا ..

هذه الناصرية المستحيلة متناثرة ، هناك ناصريون كثيرون بهذا المعنى .. عندما نقول له أنت ناصري بأي معنى ؟ يقول لك : أنا عملت كيت وكيت ، مثلا : سيد مرعي يقول أنا الذي نفذت الإصلاح الزراعي ، لذلك عليك بسؤاله : ما رأيك في الملكية الزراعية في المستقبل ؟ 

السيد علي صبري يقول لك أنا الذي نفذت التحول الاشتراكي . اذن يجب أن يُطرح عليه السؤال : وما رأيك في التحول الاشتراكي في المستقبل ، ما رايك في كمب دافيد ... في دور الرأسمالية الوطنية ؟ فيقول لك مثلا عن دور الرأسمالية الوطنية : أن عبد الناصر قال أنها جزء من تحالف قوى الشعب العاملة . لا ... أنا في حاجة لرأيك أنت ، وليس رأي عبد الناصر ؟ ! " ..

ومن هنا يتكرّر الحديث - في كل مناسبة - عن ضرورة تحديد الثوابت كمرحلة أولى للوقوف على أول القواعد اللازمة للفرز على المستوى القطري ، وهي مهمّة أولية للالتقاء ينهيها بشكل حاسم الحزب الناصري بعد قيامه  ، لذلك نجده - في نفس الحوار - يوجه كلامه للناصريين قائلا : " اذا كنتم بصدد تكوين حزبكم ، ضعوا أيديكم على الميثاق ، وتعاهدوا أن تلتزموه ، وتطوّعوه ، وتُغنوه ، كما كان يريد عبد الناصر أن يغنيه من خلال التجربة " .. ثم ، وبعد هذه الخطوة القطرية المهمّة ، سيكون التفاعل مطروحا على المستوى القومي  حيث قال : "هناك نقطة موضوعية أخرى وهي : اذا نظرنا الى الجزء من خلال الكل ، باعتبار أن قائد الحركة ، حركة التطوّر في مصر هو الشعب العربي في كل مكان ، ولم تطبق هذه المسألة للان . وقد حاولت طرحها للمناقشة الان بين الناصريين " .. فالمهم بالنسبة للدكتور هو الفعل والانجاز في الواقع .. وذلك لسببين : أولا لأنه : "لا يوجد في تاريخ البشرية نظرية متكاملة ، بمعنى أنها بلغت منتهاها ، وغير قابلة للنمو والتطوّر ، والدليل : الليبرالية والماركسية ، وظهور الكثير من النظريات كل يوم .

واذا قلنا أن النظرية الناصرية في بداية نشأتها ، باعتبار أن بذرتها الجنينية هي الميثاق ، وتربتها هي التجربة التاريخية لعبد الناصر ، فسوف تنمو من خلال حركة نضالية تضيف كل يوم جديد ، ولن تكتمل في جيل أو جيلين ، لأن النظريات غير قابلة للاكتمال النهائي " .. وثانيا لأن المسألة باختصار وفي جزء هام منها تقوم على الممارسة والانجاز : "ففي الشارع العربي والمصري ، المقارنة قائمة بين عام 1970 وعام 1980 على مستوى الأسعار .. الكرامة الوطنية .. والحقيقة أن الشارع لا يختار فلسفيا ، انما يقول (يا ريت أيام زمان تعود) .. لذلك تأتي المقارنة بين عهدي عبد الناصر والسادات . وهي في مصلحة عبد الناصر . وتتوقف المسالة هنا عما اذا كان الناصريون سوف يوفوا بالوعد الذي يدور في اذهان الشارع أم لا ، هل تعود أسعار كيلو اللحم الى 65 قرشا مثل أيام عبد الناصر ؟ هل يختفي المليونيرية والسماسرة ؟ هل تستأنف حركة التصنيع ؟ ذلك يتوقف على الناصريين .

والشارع المصري في حاجة الى انقاذ من الوضع المتردي ، والذي سينقذهم هو الذي سيحقق لقب الناصري ، والذي سوف ينقذهم ستعطيه الجماهير تفس الثقة والولاء والمحبة التي أعطيت لعبد الناصر حتى بعد وفاته .

الان : الشارع العربي ممزق ، محتل ، الذي يمكن أن ينقذه هي الحركة الناصرية ، لان الشارع العربي مازال يحتفظ في وجدانه ببطله عبد الناصر . وعبد الناصر عنده هو محرر العراق والجزائر واليمن ، والمدافع عن الأرض العربية ضد مبدأ ايزنهاور ومحقق أول مرحلة وحدة ..

والحزب الناصري لن يكون له كل هذا الحب ، لان الحزب لن يكون بطلا ، فستقاس إنجازات الحزب في الشارع العربي على مقياس البطل الحي في ذاكرة الشعب العربي ، اذن الحزب لا بد وأن يكون قوميا ، في مضامين ومنجزات ونضالات توازي بطولة عبد الناصر ، من أجل أن يبقى له هذا البعد في الشارع العربي " ..

وهو ما يعني انه على ضوء تحديد ثوابت الحزب وتوجهاته ومبادئه  العامة التي يحددها الناصريون - كبداية - ويتفقون حولها سيجد الفرز النهائي مكانه ومجاله من خلال النمو والإضافة لتتبلور كل الأفكار من الممارسة الطويلة .. أي على أسس موضوعية يحددها الناصريون جميعا في مؤتمراتهم الشعبية الديمقراطية وليس قبلها ، حتى لا تكون  أسسها المواقف الذاتية التي يحددها – اشتراطا - القادة المؤسسون .. اذ أنه خلال الممارسة الديمقراطية ستنمو تدريجيا وديمقراطيا كل الأفكار والمفاهيم المتعلقة بتفاصيل المشروع الناصري حتى يصل الى بلورة أسسه ومنطلقاته وغاياته دون فرض مسبق من أحد .. وهذا على قدر من الأهمية .. لأنه يتطابق بالكامل مع موقفه الذي عرضناه سابقا ، في الوثيقة التفسيرية لبيان طارق حينما أكد على ضرورة أن تحسم المسائل الفكرية بعد إنشاء التنظيم وليس قبله ، حتى يكون معبرا عنه وليس عن مواقف من أسّسوه  من الصفوة أو القادة ..

وهكذا ، الى أن يصل في محطة ثالثة من سرد الأحداث الخاصة بالناصريين في كتابه عن الناصريين واليهم ، وهو يساير لسنوات طويلة تطور مستوى الفرز داخل صفوفهم مبينا حرصه على كف تدخله في شؤونهم ، بمشيئة منه أحيانا ، أو بمشيئة الشباب أحيانا أخرى ، بالرغم مما كان يحدوه من رغبة في التوجه إليهم بقول حاسم ، فيقول : " هنالك ، منذ البدايات المبشرة ، قدرت أن أوفي بواجب أعتقد أنني قادر على الوفاء به : أن أنشئ وانشر دراسة اجتهد في أن تكون علمية وموضوعية تجيب على السؤال : ” من هم الناصريون ” علّها تساعد الناشئة من الشباب على فرز قواهم واختيار رفاق نضالهم بدون مخاطر الاحتواء أو الاختراق أو بأقل قدر من تلك المخاطر .. فبدأت في إنشائه عام 1983 على ما أتذكر . فلما فرغت من كتابة جزء كاف منه أقرأته بعض الشباب الناصري الذين كانوا وما يزالون على صلة حوار مستمر معي . فاقترحوا تأجيل إتمامه ونشره متحجّجين بأنهم ، طبقاً لمقتضيات المرحلة ، وهم أعلم بها مني ، يرون أن الكتابة في هذا الموضوع ستضيف الى متاعب اتفاق الناصريين متاعب الخلاف حول إجابة مطروحة على السؤال : ” من هو الناصري ” . وإن الوقت الملائم لمثل هذا الطرح لم يأت بعد ، فلم أستمر في الكتابة تقديراً لموقفهم من ظروف هم أعلم بها مني لأنها ظروفهم .. وقد ثبت صحة تقديرهم فعلاً ، إذ استطاعوا بدون إجابة على السؤال المؤجل أن يقفوا على أعتاب التنظيم الذي استهدفوه .." .

وقد تأجل ذلك فعلا دون الوصول الى نتائج ملموسة ..!

فلو حصل الفرز كما هو مرجو ، لن يكون - وقتها - عصمت سيف الدولة في حاجة لكتابة هذا الكتاب .. لكن هذا لم يحصل ، فلم يعد الانتظار والسكوت ممكنين بعد سنوات طويلة من المتابعة ، والتأطير ، والنصح ، وبعد كم الاجتهاد الفكري الغزير الخاص بالناصرية والناصريين ، وبعد الدفاع القانوني عن حقهم في النشاط الحزبي .. دون الوصول الى الغاية المرجوّة .. فكان الكتاب الذي جاء فيه القول الحاسم .. وهكذا لو عدنا الى محطة أخرى من هذا كتاب لوجدناه يعود الى الحسم ، مسترسلا في حديثه عن موضوع الناصرين ، مؤكدا مبررات ما دفع به في البداية الى تأجيل الحديث الحاسم ، ثم الى مبررات العودة لاستكمال القول فيما يجب أن يقال ، أي على ضوء ما انتهى اليه واقع الناصريين وقد منحتهم الظروف ما يكفي من الوقت لفرز صفوفهم من جهة ، وما أصبح عليه هو شخصيا في مرحلة متقدمة من العمر ، قدم عنها وصفا دقيقا  لحالته ، وهو يريد الوصول الى إنهاء هذا الحديث الحاسم من جهة أخرى .. ثم قال : " فعدت إلى ما بدأت أكمله .. لأنشره حديثاً ” عن الناصريين وإليهم ” .. إسهاما بقدر ما استطيع في حوار بدأ همساً ولا بد من أن ينتهي إلى ما يحقق الغاية القومية من التحام الناصريين في تنظيم يحقق الهدف القومي الملح الذي أشرنا إليه " .. أي لا بد من الحسم ..

وهل هذا يصادر حق الناصريين في بناء نظرية خاصة بهم ؟

أبدا .. ولكن كما قال في نفس المرجع مكررا نفس العبارة  من أن الفرز في صفوف الناصريين أصبح "ضرورة قومية" ، فان : "كل ما في الأمر أنه لا يملك احد حق انكار الهوية الناصرية على من ينسب نفسه اليها . ولا يملك أحد حق منحها لمن لا ينتسب اليها . ولا أحد يملك الختم الرسمي للناصرية ليبصم به على رؤوس الآخرين من خارج الجماجم أو في داخلها . ولكن ليس معنى هذا أن الناصرية هواية شخصية وليست هوية فكرية . أو أن الأمر منها ما قاله احد كبار هواتها حينما سئل عنها فقال يوجد ناصريون ولكن لا توجد ناصرية . لقد آن الأوان لهذه الفوضى في التفكير أن تنتظم حتى تستطيع القوى الناصرية ان تلتحم . ولما كان التحام الناصريين ضرورة قومية فإنا نقدم هذا الحديث عنهم وإليهم وفاء منا بمسئوليتنا القومية عله يسهم ولو بقدر في ان يفرز الناصريين عن أدعيائهم . كشرط اولي لالتحام الناصريين في تنظيم" . .

وقد يبدو من اللافت فعلا ان نجده في الحوار السابق (حوارات ناصرية) ـ وهو يتحدث عن مشكلة الناصريين ومرجعياتهم الفكرية ـ يصرح بموقف يؤكد عكس المعنى الذي فهمه الكثيرون ، مستعملا نفس العبارات ونفس الترتيب تقريبا (منهجا وغايات واسلوبا ..!!) ناسبا اياها ـ كنظرية ـ الى الناصريين حين قال : " وأرجو أن يؤجل الشباب العربي الناصري محاولة الإجابة على هذه الأسئلة إجابة نهائية الى ان يتوحدوا فيتحولوا من ناصريين الى قوة ناصرية منظمة تجيب على كل الأسئلة الخاصة بالتراث الفكري والاجتهادات الفكرية .. عندئذ ستكون إجابة القوى الناصرية الموحدة هي الجواب الصحيح الملزم للناصريين المميز لهم عن القوى الأخرى أو الأفراد الآخرين حتى لو ادعوا أنهم ناصريون .... وأنا واثق تماما انه عندما يحدث هذا (لاحظوا الان) سأكون أول من يتبنى نظرية الناصريين ومنهجها أيضا وأسلوبها وغايتها والاعتراف بأنها هي فعلا الناصرية ، وبصرف النظر عما اجتهدت في أن أصوغه في كتب وكتابات قبل ذلك .. " ..

وهو ما يؤكد ـ دائما ـ نهجه الثابت في قول آرائه الحاسمة في الوقت المناسب وبالطريقة التي يراها مفيدة للقضية التي يدافع عنها بقطع النظر عن طرق معالجته للمتغيرات الظرفية حينما يتفاعل معها دون ان يناقض مبدأه ومنهجه ..

ثم - وهذا على قدر من الأهمية - وحتى نفهم مقولته في حديث مخصص للناصريين في مصر بالذات ، لا يجب ان ننسى أن جزءا كبيرا من تركيزه على مصر بعد غياب عبد الناصر كان اضطراريا بسبب التردّي والارتداد الذي شهدته أكبر دولة عربية ، بحيث أصبحت المعركة الرئيسية في نظره تدور في مصر ، حتى أنه - من فرط التركيز عليها في مواجهة الردّة - قال متسائلا : "أنها تكاد تكون اقليمية مصرية ؟ " .. أما في الجانب الخاص بالفرز تحديدا ، فقد وجدناه ينبع - أولا - من اعتقاد راسخ لديه بدور مصر التاريخي ، في قيادة أي مشروع حضاري مستقبلي للامة العربية ، وهذا ما عبر عنه في أكثر من مناسبة ، منها ما ذكره بكل تفصيل في رسالته الى تونس ، مذكّرا بالدور الذي لعبته مصر عبر تاريخها ، وصولا الى بيان العلاقة بينها وبين محيطها العربي خاصة بعد عزلها (او اقتطاعها كما قال) بقرار عربي بعد اتفاقية كامب ديفد وما آل إليه الوضع من تردّي وانهيار شامل بعد خروج مصر وتخليها عن هذا الدور الذي خطط  له الأعداء بإحكام .. وقد جاء في هذا الحديث الطويل استنتاج مهم يؤكد عن ضرورة فهم دور مصر في إنشاء التنظيم القومي حين قال : " أول الطريق الصحيح الى الوحدة العربية إذن أن تصبح مصر وحدوية . أن تُطهّر مصر من الإقليمية فكرا وأدبا وفنا وسياسة . واداة هذا التطهير هو التنظيم القومي . وبالتالي فلن يكون اي تنظيم قومي قادرا على بدء مسيرته الوحدوية - مجرد البدء - ما لم يكن له في مصر وجود متكافئ مع مقدرة مصر على التأثير وله في مصر طليعيون من العرب ، يحملون هوية الدولة المصرية أو هوية ايه دولة فهذا ما لا يتوقف عنده التنظيم القومي ، قادرون على تطهير مصر القاعدة من الإقليمية " ... وثانيا بسبب ما شهدته مصر دون غيرها من الاقطار العربية من تداخل في مفهوم "الناصرية"  وقد كان عبد الناصر قائدا لدولتها ، وهو وضع أكثر تعقيدا في مصر من أي قطر عربي اجتهد الدكتور عصمت سيف الدولة في توضيحه في عدة مراجع منها ما ذكرناه سابقا ، وهو يكرّره في كل مناسبة نظرا لما يلمسه بسبب ذلك من تأثيرات سلبية تعيق أي مجهود لتوحيد الناصريين في مصر بشكل خاص مما جعله يواجه هذا الوضع بدراسات خاصة بالغرض كما جاء في دراسة " الناصرية كيف" حيث قال : "اذن ، فقد بدأت المرحلة التاريخية التي قادها عبد الناصر وخطها الأساسي خط تحرّري مصري ، ثم اغتنت من التجربة النضالية فتحولت من خلال المعاناة في الممارسة إلى تجربة اشتراكية وحدوية ، وعبرت عن كل هذا في شعارها المثلث : حرية ، اشتراكية ، وحدة . 

خلال كل تلك المرحلة وعلى امتدادها ، التقت بجمال عبد الناصر فكريا وعملت معه أو تحت قيادته شخصيات وقوى عديدة . التقت به القوى التحرّرية عندما بدأ قائدا تحرريا ، والتقت به قوى قومية في فترة لاحقة عندما أصبح قائدا قوميا ، والتقت به قوى اشتراكية في فترة أخرى عندما أصبح قائدا اشتراكيا ، وأصبحوا جميعا " ناصريين " .

ناصريون بمعنى أنهم مناضلون تحت قيادة عبد الناصر . ولم تكن " الناصرية " تعني عندهم أكثر من الالتزام بالنضال تحت قيادته تحت شعار " حرية ، اشتراكية ، وحدة " . أما ما يتجاوز هذا فقد كان لكل واحد منهم فهمه الخاص " للناصرية " . لم يكن كل التحرريين اشتراكيين ، ولم يكن كل الاشتراكيين وحدويين . وكان كل فريق يحاول أن يدفع بالأحداث ويؤوّل أقوال ومواقف عبد الناصر على الوجه الذي يتفق مع فهمه للناصرية . وعندما يغيب القائد غيبته المفاجئة سنة 1970 لن تلبث بعض تلك الاتجاهات التي كانت تملأ الأرض ضجيجا بانتمائها " الناصري " ، أن تكشف عن فهمها الخاص  للناصرية وتتعرّض الوحدة والاشتراكية بوجه خاص لأقسى هجوم تعرّضت له من جانب الذين كانوا أكثر الناس ادعاء للناصرية والولاء لعبد الناصر ، أولئك الذين رفعوا الميثاق يوما إلى مصاف الكتب المقدسة . 

ثم يبقى الآخرون يحمل كل منهم في رأسه فهما خاصا " للناصرية " موروثا من فترة قيادة عبد الناصر ، مصوغا تبعا لفهم كل منهم أو عدم فهمه للناصرية الأصيلة : هل هي الناصرية بمعنى التحرّرية قبل أن تشوبها " الأفكار المستوردة " ، أم هي الناصرية بمعنى الاشتراكية بعد أن استفادت من خطأ تجربة التنمية الرأسمالية ، أم هي " الناصرية " بمعنى الوحدوية بعد أن استفادت من خطأ تجربة التحرّر الإقليمي ، أم هي " الناصرية " بمعنى كل هذا معا ، وإذا كان الأمر كذلك فهل ثمة أولوية في الأهداف أم ترتيب بينها ... الى آخره . وفي هذا يختلفون " .. ومثل هذا الموقف وجدناه في نفس الرسالة السابقة ، يصنف فيه الدكتور عصمت سيف الدولة الناصريين الصادقين الى ناصريين ينتمون لعبد الناصر قائد دولة مصر وناصريين ينتمون لعبد الناصر قائد الجماهير العربية بكل ما ينتج عن الانتماءين من تمايز في مفهوم الناصرية وصعوبة في الفرز والاندماج مضافا اليها الظروف التي تشهدها مصر بالرغم ممّا يحملانه من صدق الانتماء كما قال في نفس الرسالة  : " فبينما تزخر اغلب الاقطار العربية بالألوف من الشباب القومي التقدمي "الجاهز" للانخراط  في صفوف التنظيم القومي ، انقضت مرحلة عبد الناصر والشباب القومي في مصر محرومون من مجرد التطلع الى الاسهام في بناء التنظيم القومي ، وجاء السادات ومخاطر اقتطاع مصر فانشغلوا عن التنظيم القومي بالنضال من أجل الحفاظ على مصر عربية .

من هم هؤلاء الشباب القومي ..؟

انهم النبات النامي من بذور القومية التي نثرها عبد الناصر في تربة مصر الخصبة . درسوا القومية في جميع مراحل التعليم من الابتدائي الى الاعدادي الى الثانوي الى الجامعة . صدّقوا ما قرأوا ، امنوا به . أقول تربّوا على القيم القومية . انهم يسمّون أنفسهم "الناصريون" بالرغم من أن اغلبهم لم يعاصروا عبد الناصر فلم يجدوا بأسا في أن ينتسبوا الى عبد الناصر "الرمز" لما يحاول السادات تصفيته من منجزات ومكاسب . وهم مختلطون بناصريين آخرين ، كل من الفريقين صادق الانتماء . أنما ينتمي الناصريون القوميون الى عبد الناصر قائد الجماهير العربية ، وينتمي الناصريون الآخرون الى عبد الناصر قائد مصر . يفتقدون جميعا الخبرة التنظيمية فما يزالون مجموعات لم تتوحد بعد ، ولكنهم چميعا مناضلون صلبون ، اثبتوا صلابتهم في عشرات المعارك التي خاضوها ضد السادات" ..

وهكذا لو تتبعنا مواقفه في أكثر من مناسبة وفي أكثر من موضع حول هذا الموضوع لخلصنا الى استنتاج قاعدتين أساسيتين للفرز عند الدكتور عصمت سيف الدولة : قاعدة فكرية - مبدئية - إستراتيجية متعلقة بالمشروع القومي على المدى الطويل ، بيّن أسسها كاملة في كل الاثر النظري الذي تركه هنا وهناك (عقيدة قومية) ، وهي تستوجب قول كل ما يجب أن يقال حتى يكون الطريق الى المستقبل واضحا بلا غموض .. وقاعدة حركية - مرحلية - تكتيكية تقتضي فهم متطلبات كل مرحلة ، وإبداع الوسائل المناسبة لتحقيق أكبر قدر من النجاح في المعارك اليومية (من الممكن الى ما يجب ان يكون) .. كما تستوجب فعل كل ما يجب فعله لإنجاز المهمة الضرورية الأولى : بناء أداة الثورة العربية .. نفس القاعدتين لو بحثنا عنهما في مواضع أخرى غير التي عرضناها لوجدناهما أكثر تجليا ووضوحا .. ولنعد هذه المرة - ونحن نتحدث عن الفرز - الى كتاب الطريق  .. الذي يُطرح فيه الحديث في بعده القومي بعد أن توقفنا مطوّلا مع الدكتور في معالجة المشاكل التنظيمية على المستوى القطري في مصر ..

(القدس - م .ع / فيفري 2018).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق