روابط الأجزاء :
تـقديــــم / الجـــزء 1 / الجـــزء 2
الجــزء 3 / الجــزء 4 / الجــزء 5
الجــزء 6 / الجــزء 7 / الجــزء 8
الجـزء 9 / الجـزء 10 / الجزء 11
الجـزء 12 /الجزء 13 / الجزء 14
الجـزء 15 / الجزء 16 / الجزء 17
الجزء 18 / الخاتمة / المحتوى كامل
فرز واحد ... أم فرز متعدّد ... ؟
دراسة في أقوال ومواقف الدكتور عصمت سيف الدولة .
-9-
انتهينا في حديثنا عن الفرز من خلال ما جاء في وثيقة
مخصصة للغرض الى ربط الدكتور عصمت سيف الدولة بشكل مباشر الفشل في تحقيق الوحدة
بالفشل في تحقيق الفرز المطلوب بناء على
نفس الثوابت ، وقد وجدناها في هذه الوثيقة - كما في كتاب الطريق - ترتقي الى مستوى
"العقيد القومية" .. ثم يبقى جانب مهم عند الدكتور عصمت سيف الدولة فيما يخص فرز الصفوف بناء على الخلفية الأخلاقية ، بعد تجربته الخاصة مع من خدعه نتيجة لعدم اكتمال عقيدته القومية بالجانب الأخلاقي .. اذ نجده يطلق تحذيره في تلك الرسالة الموجهة للشباب القومي في تونس منتصف الثمانينات قائلا قولته الشهيرة المتداولة : " لقد كان توفيقا ان أخصص الفصل الأخير من كتاب " أسس الاشتراكية العربية " للحديث عن أخلاق الطليعي . ولكن ـ هناك ـ كنت أريد أن اثبت أن منهج جدل الإنسان قادر على ان يفسر لنا تفسيرا علميا تلك الأخلاق التي ربانا عليها تراثنا الروحي ، ومع ذلك كيف يمكن الاختبار ؟ الحمد لله على ان التنظيم القومي لم يؤسس من قبل حينما كان عشرات ومئات بل آلاف يرشحون أنفسهم للانخراط فيه يوم أن كان عبد الناصر يدعو له ، ويحاول أعوانه تأسيسه . فلما مات عبد الناصر انقلبوا يأكلون لحمه ميتا . وحمدت الله على ان دعوت في بيان طارق الى أن يسبق تأسيس التنظيم القومي مرحلة إعداد يختبر فيها الناس خلال نضال حقيقي دفاعا عن الشعب العربي ضد القهر الإقليمي فلا يجتاز الإعداد الى التأسيس الا قومي الفكر ، تقدمي الاتجاه ، وحدوي الغاية .. صلب الخلق . هكذا كنت أفكر بينما كان محمد عبد الشفيع يدلي بأقواله المذهلة .. ومنذئذ حفظت الدرس ودعوت الشباب الى أن يحفظوه . ولأن الدرس كان في ظروف قاسية فقد تبدلت عندي أولويات المقاييس : صلابة الخلق أولا ، وحدوية الغاية ثانيا ، تقدمية الاتجاه ثالثا ، ثم قومية الفكر رابعا وأخيرا .. أرجو أن تتأمل هذا الترتيب الغريب . فليس ثمة تنظيم في الأرض قد عرفه فالتزمه .. ولكن التزامه مسألة حياة أو موت بالنسبة للتنظيم القومي .. لأنه لا يوجد ولم يوجد تنظيم على الأرض يعد نفسه لتحقيق مثل ما هو مطلوب من التنظيم القومي : إلغاء مجموعة من الدول وإقامة دولة واحدة ، في ظروف عربية ودولية معادية جميعا لدولة الوحدة العربية ... صلابة الخلق أولا ، ومن هو على خلق يصدق إذا قال ان غايته الوحدة ، ومن كانت غايته الوحدة فهو تقدمي الاتجاه ، ثم يأتي الفكر القومي ليبرر ويفسر ويعمق منطلقات المسيرة وغايتها ، فان آمن به من هو على خلق فقد صح إيمانه وصدق ... (انتبهوا الان) أما صاحب الفكر القومي ولو كان مبدعا فهو آخر من يرجى منه في تأسيس التنظيم القومي إلا أن يكون ـ أولا ـ على خلق قويم .. " ..
ومن هذا التخصيص الأخير نفهم ان الفرز الأخلاقي قبل كل شيء هو فرز "وظيفي" من أجل غاية محدّدة تتمثل في سلامة البناء والتأسيس .. وكونه على هذه الصفة وعلى هذه الدرجة من الأهمية فسيبقى مستمرا قبل التأسيس وبعده لحماية التنظيم ومؤسساته من الاختراق أو الانحراف عن أهدافه المرسومة .. ولذات القواعد الأخلاقية والمبدأ الأخلاقي ، فهو فرز غير عشوائي ، وغير انفعالي ، وغير تشهيري ، يقوم على الموضوعية والتقييم العلمي غايته فرز الصادقين من الانتهازيين وصولا - في هذه المرحلة - الى فرز القادة والكوادر القومية الصلبة لضمان سلامة البناء لأداة الثورة العربية ، فلا مكان فيه للعاطفة او للمجاملة ، ولا دخل فيه الا للمبدأ ، حماية للتأسيس من أي عمل مخرب كما قال الدكتور في رسالته المذكورة وهو يتحدث عن عملية الإعداد في مصر التي يخوضها الشباب القومي : " ولقد كانت حراسة تجربتهم الذاتية من تسلل يأتي من خارجهم الى صفوفهم بدعوى "المساعدة" سببا في القطيعة بيني وبين اصدقاء قدامى من القوميين الورثة . كنت اعرف من أمر الساحة ما لا يعرفون فحذّرت باسم القومية من تخريب الأمل القومي الناشئ في مصر " ... وبمعنى أوضح فان ما يسمّى بعملية الفرز ، هي عملية نوعية من أجل تلك الغاية العظيمة : بناء آداة الثورة .. حتى يتوفر لها أكثر ما يمكن من ضمانات النجاح .. ولهذه الغاية بالذات لا يمكن أن يكون الفرز قائما على التعميم الذي يُرتّب على مواقف الافراد مواقف ملزمة للجماعة أو التنظيم الذي ينتمي اليه الفرد ، وفيه لفت انتباه وجدناه عند الدكتور عصمت سيف الدولة في كتاب المنطلقات وهو يتحدث عن أسلوب الفرز بين المؤسسات القومية والإقليمية دولا كانت أو أحزابا قال فيه : "لنستبعد أولاً المقاييس الذاتية . ان رفض أو قبول مؤسسة حزبية كتنظيم قومي على أساس الخبرة الذاتية بأحد ، أو بعض ، العاملين في أجهزتها أو المنتمين إليها موقف غير موضوعي وغير علمي . لا يكشف عن طبيعة المؤسسة بقدر ما يكشف عن طبيعة صاحبه . فكما أن وجود القوميين التقدميين في جهاز الدولة الإقليمية أو حتى في قيادتها لا يغير من طبيعتها شيئاً ، كذلك لا يغير شيئاً من طبيعة المؤسسة الحزبية القومية أن يوجد في أجهزتها أو حتى في قيادتها بعض الإقليميين . نحن نقيّم "مؤسسة" ولا نحاكم الأفراد فيها . والمؤسسة الحزبية ، إقليمية كانت أو قومية ، ستلفظ أو تهضم في النهاية الذين أخطأوا الاختيار فانتموا الى غير مؤسستهم" . كما لا يمكن أن تكون عملية فردية ، لان التقديرات الفردية تتأثر بالتأويلات الخاطئة ، وتخضع أحيانا للنزوات ، والتصورات المجانبة للواقع ، فتخطئ وتصيب ، والحديث فيه لا يمكن ان يصح دون ممارسة نضالية حتى يبرهن المناضلون أنهم أوفياء لعقيدتهم التي يدعون الناس اليها وحتى يقتدي بهم رفاقهم ويعرف العامة انهم مخلصون وصادقون في دعوتهم .. ولا تكون دون التزام بتنفيذ المشروع في الواقع بهدف تحقيق تلك الغاية حتى تكون الممارسة محكا لاختبار المناضلين الصادقين ، وكل هذه الضرورات تقتضي بدورها وجود شكل أو صيغة تنظيمية حركية ذات خصائص منسجمة مع طبيعة المهمّة التي تسمّى "الاعداد" أو التحضير لقيام التنظيم ، وفي هذا قول صريح جاء في نفس الرسالة :" ان خبرتي بهؤلاء الشباب عريضة وطويلة وعميقة ، وبالتالي استطيع ان اقول ان من بينهم سيكون بناء التنظيم القومي في مصر . وتتولّي الظروف العينية في مصر اعدادهم . فهم يخوضون معركة قومية وهم يدافعون عن حرية مصر وعروبتها وتقدمها . وهم يخوضونها في الشارع ملتحمين بالجماهير العربية . وهم يخوضونها بعيدا عن السلطة وضدها . وهم خلال كل هذا ينضجون فكرا وحركة . أهم من هذا كله انهم يكتبون خبراتهم التنظيمية من خلال الممارسة وليس تلقيا من اية قيادة علويه فكرية أو حركية ، وحينما تكتمل خبرتهم سيكونون هم الذين أنشأوا تنظيمهم ولم ينخرطوا في تنظيم انشأه غيرهم " .. وقد تقتضي تلك الصيغة أيضا وضع تكتيكات واستراتيجيات غير التي نعنيها في الحديث عن التنظيم القومي .. اذ أن الاستراتيجية بهذا المفهوم أي الاستراتيجية القومية ، لا يمكن أن تسبق التنظيم المنشود .. ومثل هذا التداخل يقوم فيه الخلط في الواقع بين ما هو من مهام الاعداد وما هو من مهام التنظيم القومي ، فيُنصّب بعض الاعداديين انفسهم وكلاء عليه من خلال تمثلاتهم الشخصية للاستراتيجية القومية كما وعوها من تأصيلها النظري في بعدها القومي ، فيُدخلون من يشاؤون الى صفوفهم ويُخرجون منها من يشاؤون .. وهو ما حذر منه الدكتور عصمت سيف الدولة في حديثه عن مفهوم الاستراتيجية القومية كتخطيط هادف ، يضبط الافاق المستقبلية للعمل السياسي ، الذي يضعه التنظيم القومي ويلتزمه بعد قيامه ، فيقسّم الخطط الى مهام ومراحل تضبط حركة الافراد .. وهذا ما جاء في كتابي الأسلوب والطريق بكل وضوح ..
فمن ناحية تعريف الاستراتيجية (التي هي من مهام التنظيم) يقول الدكتور عصمت سيف الدولة : " الاستراتيجية هي التخطيط الشامل الذي يتحكم به الحزب في النشاط السياسي ويحقق من خلال التزامه غايته . وكما أن الالتزام بغاية بدون استراتيجية لا يعدو أن يكون ثقافة فكرية مجردة فإن الالتزام باستراتيجية بدون غاية لا يعدو أن يكون التزاماً شكلياً غير ذي مضمون لا يمكن متابعته ولا يتحرج أحد في الخروج عليه .
على أساس النظرية ، وفي داخل اطار الاستراتيجية ، يتحول العمل السياسي الى ما لا حصر له من العمليات المتنوعة في طبيعتها ، المتفرّقة في مواقع التنفيذ ، المقسمة على القوى العاملة في الحقل السياسي .. أي تتحول الاستراتيجية الى مهمّات تكتيكية .."..
أما من ناحية التّنظّم في بعديه الانتقالي (الاعدادي) والنهائي (الاستراتيجي) ، فانه من غير الممكن أبدا الحديث عن الاستراتيجية القومية أو التكتيك المنبثق عنها قبل قيام التنظيم القومي ، صاحب المهمتين بامتياز .. ولا يصح للأفراد مهما كان عددهم ، ومهما كانت عبقريتهم ان يضعوا استراتيجيات يسمّونها استراتيجيات قومية قبل قيام التنظيم .. وليس أمام الاعداديين قبل ذلك سوى العمل على التحام صفوفهم والالتزام بمهامهم المحصورة في استراتيجية الاعداد واساليبها العلمية بما فيها ضرورة التنظم الانتقالي حتى لا تكون استراتيجياتهم وتكتيكاتهم المرحلية استراتيجيات وتكتيكات فردية ، وهو ما جاء تأكيده في هذه الفقرة من بيان طارق ، حيث يرى أن مهمة الاعداد تقتضي : " قيام تنظيم انتقالي لمدة محدودة تكون مهمته مقصورة على أعداد القاعدة الجماهيرية اللازمة لمولد الطليعة العربية ، وليبقى بعد مولد الطليعة العربية قاعدة جماعية منظمة لها ، تتولى الترشيح لعضويتها ، وتزويدها بالمناضلين ، بعد أن تكون قد أعدتهم فكرياً ، وتنظيمياً لهذه العضوية " ... و" لهذا فإن التنظيم الإعدادي المؤقت لازم لإيجاد الطليعة العربية حزباً قومياً واحداً من قلب التمزق القائم ، وبدون إحداث فراغ تنظيمي ، ومهمته التي يتبناها في الفترات السابقة على قيام "الطليعة العربية" ومدته المحدودة تمكنه من أداء هذه المهمة بنجاح ، إذ أن طبيعة عمله كتنظيم ، والتي هي الإعداد الفكري، لا تجعله تنظيماً موازياً ، أو منافساً للتنظيمات القائمة ، ولكنه ينمو في وجودها ، خارجه ، وفي قلب قواعدها ، بدون احتمال للاصطدام بها ، ولما كانت مرحلة الإعداد مقتصرة على التكوين العقائدي ، والإعداد النضالي ، فإن وجود المنظمات المتعددة ذاتها يقدم ميداناً منظماً لغزوها الفكري، ثم الاختبار الحزبي ، بدون مسؤولية على الطليعة العربية أو على فكرتها ، وبهذا تكون الأحزاب ، والمنظمات القائمة ساحات يتم فيها إعداد المناضلين ، حتى خلال المهمات التي تحددها قيادة تلك المنظمات ، وهكذا بينما تبقى المنظمات قائمة في مرحلة إعداد الطليعة العربية تكون قواعدها قد تهيأت فكرياً ، ونضالياً للتحول إلى قواعد للطليعة العربية ، بمجرد مولدها دون أن يحدث فراغ تنظيمي ، أو نضالي " .. وهكذا فان العلاقة الجدلية بين مهمة الاعداد ومهمة الطليعة تتلخص باختصار كما قال في نفس المصدر في الجملة التالية الحاسمة والمهمة : "إن الاستفادة من الممارسة النضالية لتحقيق وحدة فكرية هي الهدف المرحلي للتنظيم الانتقالي ، بينما تكون مهمة الطليعة العربية التي تنبثق عن هذا الإعداد الاستفادة من الوحدة الفكرية لتحقيق الممارسة النضالية" ..
ثم نضيف - في البعد الثاني (ضرورة التنظم الاستراتيجي) - عينات أخرى مما جاء فيها التأكيد للدكتور عصمت سيف الدولة في كتابي الأسلوب والطريق على جميع الضرورات الخاصة بهذا البعد الاستراتيجي .. فبعد التقديم للحديث من خلال البحث عن ضمانات للنجاح تقوم بالأساس على ما سمّاه في عنوان خاص بـ "الاسلوب العلمي" يطرح فيه العلاقة بين النظرية والاستراتيجية والتكتيك ، نجده يقرّر اولا بان لا جدوى للحديث عن اي عمل استراتيجي او تكتيكي بدون تنظيم موحّد حين قال : "تلك اذن هي عناصر الاسلوب العلمي للعمل السياسي (النظرية – الاستراتيجية – التكتيك) ، غير انه واضح - مما قلنا – ان مجرد توافرها لا يكون اسلوبا علميا الا ان تتوافر العلاقة المتبادلة بينها اي ان يكون كل منها عنصرا مكمّلا وفي خدمة العنصر الاخر ... فكيف يتم ذلك ؟.. بوحدة التنظيم . اذ مع تحول الاستراتيجية الى عدد لا حصر له من المهمات متنوعة الطبيعة .. تقوم بها اعداد كثيفة من الاشخاص ... يكون من الحتمي انتماؤهم جميعا الى تنظيم واحد ذي قيادة واحدة" .. ثم ينبّه - ثانيا – الى ما يجب الانتباه اليه في الجانب الخاص بالاستراتيجية وقد جاء واضحا لا يحتمل التأويل في الصفحات 89 و 90 و 91 من كتاب الأسلوب .. اذ بعد أن يؤكّد على ضرورة اكتمال الأسلوب العلمي الخاص بالاستراتيجية بالنسبة للحزب القومي ، يذكر ما يترتب عن ذلك من نتائج وهما : "نتيجتان ملزمتان لكل الجادين في رغبتهم ان تقوم في الوطن العربي دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية ..
الأولى : ان يُعفوا أنفسهم ويُعفوا الشعب العربي من عناء التصورات الاستراتيجية للنضال من اجل الوحدة الديموقراطية الاشتراكية قبل ان يقوم الحزب القومي الديمقراطي الاشتراكي او خارج دائرة الحوار الديمقراطي داخله . ان كثيرين من الشباب العربي يحمّلون انفسهم مجهودات فردية لوضع استراتيجيات للمستقبل العربي . ولو كان الأمر مقصوراً على مجرد التصور لما كان ضاراً لأنه ـ على الأقل ـ مران ذهني على فهم مشكلات الاستراتيجية . إلا ان الاستراتيجية تتضمن مواقف محددة من الواقع العربي وقواه وحركته والتصور الفردي لاستراتيجية تحقيق دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية ، السابق على قيام الحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي ، لا يلبث أن يتحول الى مواقف محددة من الواقع وقواه وحركته . تصبح لكل واحد استراتيجية خاصة بناها على أساس نظريته الخاصة وحدد بها لنفسه مواقف خاصة من غيره . ولما كان بمفرده عاجزاً حتى عن تنفيذ "استراتيجية" في الواقع الاجتماعي فإنه ينفذها بما هو قادر عليه : الكلام . ومع تعدد الافراد وتعدد الاستراتيجيات الفردية وتصدي كل واحد لمسؤولية تحقيق دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية بمفرده طبقاً لاستراتيجيته ينقلب "النضال" الى معارك كلامية . ولسنا نشك لحظة في ان السبب الاساسي للخلافات التي تمزق الشباب العربي الذين لاشك في اخلاصهم لهدف دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية ، هو أن كل منهم يحدد موقفه من الآخر طبقاً "لاستراتيجية" خاصة يتصورها . وعندما نعرف ان وضع الخطة الاستراتيجية لتحقيق دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية هو جزء من نظرية كاملة ومتكاملة في الاسلوب تحتم ان يكون الحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي هو واضع الخطة والمسؤول عن وضعها نؤجل كل خلاف بين تصوراتنا لاستراتيجيته الى ان نطرحها داخله ونتحاور فيها ديموقراطياً . نريد ان نقول ان عدم الالتقاء لسبب الخلاف في المنطلقات او في الغايات مفهوم وهو يحول دون الالتقاء في حزب واحد فلا مبرر للخلاف حول الاستراتيجية فسيلتزم كل واحد استراتيجية حزبه . وعندما نكون متفقين في المنطلقات والغايات والاسلوب بما فيه ضرورة التقائنا في حزب له استراتيجية فإن الخلاف حول ماهية الاستراتيجية يجب ان يؤجل الى ان نلتقي في الحزب فنحتكم فيه ديموقراطياً أما إذا كان الواقع العربي يضغط على اعصابنا ، ويثير فينا تصورات للمستقبل واستراتيجية مواجهته ـ وهو امر انساني ـ فعلينا ان نفلت بأنفسنا من هذا الضغط وتلك التصورات بان نبادر الى الالتقاء في تنظيم يحوّل تصوراتنا الى خطة استراتيجية أو نعرف فيه خطة استراتيجية افضل من تصوراتنا ، لأنها اوثق في تحقيق غاياتنا المشتركة" .
والثانية تخص مسألة تحديد الاستراتيجية والالتزام بها قبل وجود الحزب القومي فيحذّر من "ان يحدّد كل قومي تقدمي موقفه من استراتيجية النضال من اجل دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ، تحديداً نهائياً ، قبل الحزب القومي الديمقراطي الاشتراكي أو خارجه على وجه يعزله عنه لأنه يبدو كما لو كان يفرض رأياً مقدماً ولا يقبل الالتزام الديموقراطي فيشكك في صدق وعيه القومي وفي مقدرته على العمل الجماعي المنظم ، وهما شرطان اوليان ليقبل غيره ان يلتقي معه فكرياً او حركياً " ..
ثم يختم : "باختصار على الذين من مواقفهم يتصورون استراتيجية خاصة لتحقيق دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ألّا يأخذوا من اختلافهم سبباً لتمزقهم ، ولا يفرضوا استراتيجياتهم شروطاً للانتماء الى الحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي ، لأن الحزب وحده هو صاحب الحق في وضع استراتيجية ، والمسؤول وحده عن وضعها وإلزام كل فرد فيه تنفيذها وردعه إن حاد عنها " ..
وأكثر من هذا ، أننا نجده يكرّر نفس الفكرة في مناسبة أخري عن ضرورة أن لا تسبق الاستراتيجية قيام التنظيم وهو يتحدث الى الماركسيين على صفحات مجلة الشورى في مقال بعنوان " اعتاقة من أجل الوحدة " موضحا لهم طبيعة الاستراتيجية في حديث موجه لهم خصيصا حول الوحدة وقواها الفاعلة ، وقد نشر هذا المقال أيضا في مجلة الطليعة (1974) تحت عنوان "الوحدة .. دعاء أم دعوة" قال فيه : " ان إستراتيجية تحقيق دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية هي التي يضعها من يريدون أن يلتزموا بها .. انها خطة تضعها قوة منظمة التقت على الهدف ، وتريد أن تنظم حركتها النضالية على مراحل ، وتقسم العمل على مناضلين معروفي العدد والمواقع والمقدرة .. وضع الخطط الإستراتيجية أيها الشباب العربي ، ليس حذلقة فردية ، بل عمل نضالي على أكبر قدر من الجدية والخطورة تقوم به القوى التي التقت على الهدف بعد أن تكون قد التحمت في آداة نضالية واحدة .. بعد أن تكون قد أصبحت تنظيما .. إستراتيجية النضال الجماهيري لا تسبق أبدا الحزب الجماهيري وإلا أصبحت موعظة فردية لا قيمة لها .. وعندما يلتحم القوميون التقدميون في الوطن العربي في تنظيم جماهيري مناضل من أجل دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية ، لن يكون وضع الخطة الإستراتيجية على أسس واقعية وعلمية ومناقشتها ديمقراطيا ثم الالتزام بها ، إلا مهمّة عادية من مهامه النضالية ..
كل هذا ، والفرز متواصل في كل المراحل ، ومتغير في أولوياته وأهدافه من مرحلة الى أخرى ، وهو عملية جماعية منظمة خاضعة للتقييم الجماعي المنظم .. اذ أن التقييم في هذه الحالة ، هو تقييم قائم على أساس مرجعية فكرية وبرامج وخطط سياسية واضحة كلها من مهام التنظيم بعد قيامه ، يناقشها جميع المنتمين ثم يلتزمونها بعد أن يتم حسمها وضبطها ، فيعملون على هديها تحت نظر مؤسّساته الديمقراطية ومسؤوليتها .. أما قبل ذلك فان الامر أبسط من ذلك بكثير ، وهو لا يتعدى فرز العناصر العقائدية الصلبة المؤمنة بأهداف النضال العربي منطلقا وغاية واسلوبا ، من أجل غاية واحدة : تأسيس التنظيم المنشود .. وقد حدد الدكتور عصمت سيف الدولة تلك الغاية وآليات تحقيقها في بيان طارق حينما قال : " ويرى البيان أن هذه الدعوة ينبغي أن تتمكن ، ويتمكن الداعون لها من تحقيق نشاط مفيد ومثمر في الواقع ، أي داخل التنظيمات القائمة وخارجها ، من أجل تحضير الكوادر الفكرية والبشرية التي تحقق الانتقال السليم الى التنظيم القومي عندما تصبح قادرة فعلا على تأسيسه ، وليس قبل ذلك ! " .. وأضاف مشبّها تلك المهمّة بمهمّة انشاء الجيوش حين قال في رسالته الى الشباب العربي في تونس : " وان عملية إنشائه يجب أن تكون کانشاء الجيوش الحديثة لأول مرة . لا يبدأ بالقادة " الجنرالات " ولا يبدأ بالجنود ، ولكن يبدأ بالضباط . منهم تنبثق القيادة بمقياس الكفاءة . واليهم يجند الجند ليدربوهم ويقودوهم وبهذا يكتمل الجيش تكوينا ، ثم یبقی قوة ضاربة مهما تغپّر الجند ومهما تغير القادة ، فلا يتوقف التنظيم القومي وجودا وعدما ، حركة وعمودا ، فكرا وممارسة على قيادته . لا بد إذن من " مرحلة " إعداد الضباط " ..
وكل ما يأتي بعد ذلك من أفكار وبرامج وتخطيط .. متروك للتنظيم بعد مولده .. أما قبل ذلك ، وفي مواقع العزلة التنظيمية ، فما على الذين يرجونه الا ان ينتظروا ويصبروا حتى تلتق الساحات ، ويولد التنظيم ولادة طبيعية كما قال عصمت سيف الدولة في نفس الرسالة عام 1985 - حتى يبدأوا معا - وليس قبلهم أو وحدهم ، وان كان هذا الحديث قد طال عهده وجرت في النهر مياه كثيرة : " وإني لأتمنى ، وأدعو ، الشباب القومي الذي طال انتظاره حتى كاد ييأس من أن يملك اداة ثورته العربية المرتقبة ، الى أن يدرك ان اخوة لهم في مصر سيولدون من رحم الامة العربية المباركة في اقرب ما يظنون ، فليصبروا حتى يولد اخوهم ولادة طبيعية حتی یبدأوا معا بناء تنظيمهم القومي " ... واذا لم يعجبهم الانتظار ، أو اذا شعروا بطول مراحله فما عليهم الا ان يعدّوا عدتهم ويبادروا ان أرادوا ، وليتحملوا مسؤوليتهم التاريخية في النجاح أو الفشل ..
(القدس - م .ع / فيفري 2018).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق