القدس عنوانها وفلسطين بوصلتها

القدس عنوانها وفلسطين بوصلتها
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجزء الخامس

روابط الأجزاء :

تـقديــــم / الجـــزء 1 / الجـــزء 2 

الجــزء 3 / الجــزء 4 / الجــزء 5  

الجــزء 6 / الجــزء 7 / الجــزء 8 

الجـزء 9 / الجـزء 10 / الجزء 11 

الجـزء 12 /الجزء 13 الجزء 14

الجـزء 15 / الجزء 16 الجزء 17

الجزء 18 / الخاتمة / المحتوى كامل  

فرز واحد ... أم فرز متعدّد ... ؟

دراسة في أقوال ومواقف الدكتور عصمت سيف الدولة .

-5- 

لقد عرضنا من قبل موقف عصمت سيف الدولة الواضح من المضامين الفكرية وتأكيده على ما اسماه بنفسه " الخط الفكري العام " ، ولكن من الضروري في البداية أن نتوقف عند ملاحظة مهمّة ، حيث يبدو للمتأمّل من هذا التأكيد وكأنه يتجاهل منتوجه الفكري ، مما يجعلنا نطرح سؤالا على غاية من الأهمية : لماذا ظل الدكتور عصمت سيف الدولة طوال حياته يؤكد على عدم توخي أسلوب الإلزام بأي أفكار مسبقة للطليعيين الذين كان يتوجه إليهم بالحديث عن الخط الفكري الذي كرس له حياته في بلورة أسسه ومنطلقاته وغاياته وأسلوبه على مدى ثلاثين عاما أو أكثر ، وفي المقابل نجده يطلق تلك المقولة الشهيرة منتصف الثمانينات في حديثه " عن الناصريين واليهم " : "  أريد أن أقول بأكبر قدر من الوضوح ، أنني كنت ولم أزل على يقين يتحدى أي شك بأن " الناصرية" هي " نظرية الثورة العربية " . وأن الناصري هو من يقبلها ويلتزمها وينميها بخبرة ما أنقضى من سنين الردة ولكن طبقا لمنهجها ، ومن منطلقاتها ، إلى غايتها ، بأسلوبها . وأن من يناقضها منهجا أو منطلقا أو غاية أو أسلوبا لا يستحق عندي على أي وجه أن ينسب إلى الناصرية ولن تثبت نسبته إليها ولو كانت بيده شهادة موقعة من عبد الناصر شخصيا  .. " ؟ . ألا يعتبر مثل هذا القول الصريح مناقضا لما أكد عليه في بيان طارق ؟

لا شك هنا أن المسألة حول هذا الموضوع بدأت تتشعب وتأخذ أبعادا مختلفة على عدة مستويات ..

في المستوى الأول نجد بعدا أو مفهوما خاصا بالسياق الثوري الذي أسس له الدكتور عصمت سيف الدولة في علاقة بالأهداف الإستراتيجية للمشروع القومي ، كمشروع فكري جامع لكل المبادئ والثوابت الفكرية التي تتجلى  فيها مواقف المفكر والداعية الذي شغل نفسه طوال حياته بالعمل من أجل هذا المشروع ، وهو المشدّد باستمرار على التناقض الجذري بين القومية والإقليمية  في الفكر والممارسة ، الحريص بشكل دائم على تنقية هذا المشروع من أي أسلوب أو شبهة إقليمية ، المؤكد على فشل تلك الأساليب في تحقيق الوحدة أو حتى في تحقيق فائض من الرخاء للجماهير العربية في ظل التجزئة .. وهذه المواقف ليست في حاجة لأي عرض لتوضيحها لأنها متناثرة في كل كتاباته ومحاوراته ، وهي الأساس الذي أقام عليه مشروعه الذي يقتضي منه قول ما عنده حتى يكون واضحا ، مكتملا ومتكاملا ، صالحا وجاهزا للالتقاء على مضامين فكرية واضحة .. وفي هذا الإطار نعتقد أن مقولته السابقة تتنزل في هذا السياق ، وبالتأكيد أننا حينما ندقّق في ما صرح به في هذا الكتاب سنجد أنه كان يرغب في الإفصاح عن ذلك الموقف منذ زمن كما سنرى ... وهذه الناحية على درجة كبيرة من الأهمية .. إذ أن عصمت سيف الدولة مفكر وليس سياسي فحسب .. تحدث بكل موضوعية في كل القضايا المطروحة في الوطن العربي وصاغ منها نظريات ومواقف عقائدية صلبة ، وأصبح رائدا وداعية لما يعرف في الساحات العربية بالفكر القومي التقدمي .. وهو حينما يطرح أفكاره على الملأ يطرحها بشكل قاطع وحاسم كأسس صلبة لمشروع له دعاة كثر غيره وأتباع من المحيط الى الخليج .. فهو لا يلزم أحدا بما يقوله او ينشره للناس ولكنه لا يستطيع أن يطرحه الا على هذا الوجه القاطع طبقا لمنهجه .. ومن ذلك مثلا انه حين تحدث عن الاستراتيجيا أكد أن الاستراتيجيا القومية في مواجهة الصهيونية لا بد أن تكون استراتيجيا هجومية بحكم طبيعة الصراع معها .. كما قام بضبط خمس قواعد حاسمة وواضحة مبنية على أسس منهجية دقيقة في تعامل الحزب القومي مع القوى الأخرى داخل وخارج الدولة والموقف منها ومن الدولة أيضا باعتبارها من القوى التي يتعامل معها ، وقد جاء هذا في موضعين ، في كتاب الاسلوب وفي كتاب الطريق ـ 2 ، يختمه بالقول مؤكدا على دور هذه القواعد في فرز القوى من تلك النواحي التي ذكرناها (فرز خارجي) : " ان معرفة القوى وموقفها وتحديد موقف من كل منها يمثل القاعدة الثالثة في نظرية الأسلوب . لا ينبغي للحزب القومي الديمقراطي الاشتراكي ان يغفل عن أية قوة في الوطن العربي أو ان يقف منها موقفاً سلبياً ، ليكون قادراً في كل موقع وفي كل مرحلة أن يفرق بين الحلفاء والأعداء . وتفيدنا القواعد الخمس السابقة في فرز القوى وتحديد الموقف الصحيح منها على الوجه الآتي .. " .. ثم يذكر خمسة مواقف أخرى مترتبة عن القواعد السابقة  في التعامل مع القوى المعادية لأهداف النضال العربي بجميع أشكاله المتصلة بالديمقراطية والوحدة والاشتراكية وبطبيعة القوى المعادية وأفكارها وأساليبها وعلاقاتها ..

وفي هذا السياق أيضا نجده قد حدّد في الفصل الخاص بالطليعة العربية من نظرية الثورة العربية أسلوب نشاط الحزب القومي في الواقع بحسب الظروف التي يتواجد فيها عند قيامه : "فحيثما كان الشعب العربي قادرا مقدرة مشروعة قانونا على الكفاح الديمقراطي في سبيل غاياته ، يكون أسلوب نضال الطليعة العربية توعية الجماهير ، وتنظيمها ، وقيادتها ، في نضال ديمقراطي لتحقيق غاياتها ، إذ حيث تقوم الديمقراطية لا يوجد مبرر الثورة إلا مجازا ببذل الجهد المضاعف لبناء الحياة . أما حيث تفرض على إرادة الجماهير قيود تسلبهم حريتهم .. فإن الطليعة العربية تحطم النظم والقوانين والعلاقات التي يصوغها المستبدون قيودا على إرادة الجماهير . وحيث تبيح القوانين العنف ضد الشعب ترد الطليعة العربية العنف بمثله ، وتحطم القيود لتعود بالشعب الى الحرية ، فتعود الى توعيته وتنظيمه وقيادته لا تقتل ولا تقهر ولا تستبد . وعلى هذا تحدّد الطليعة العربية موقفها من أعدائها ، فلا تطغى ولا تقبل الطغيان" .. والأمثلة كثيرة على مستوى المقولات الفكرية الحاسمة التي يفرضها بناء أي مشروع من هذا النوع في الحد الأدنى الذي يسمح بالالتقاء لبناء تنظيم موحّد على أسس جامعة  ..

ودائما في المستوى الأول ، حيث يتميز الجانب العملي للمشروع ببعد نظري متصل باسلوب التغيير واداته " الحركة العربية الواحدة " التي تلقى إجماعا وتأييدا عاما بين مختلف المدارس القومية ، لا شك أنها تحتاج الى أسس فكرية ومنطلقات وغايات لا يجب في نظر الدكتور عصمت سيف الدولة أن يتم تجميع الناس حولها بناء على أفكار مسبقة .. لذلك رأيناه في بيان طارق ، تلك الوثيقة الفكرية في بعدها القومي الاستراتيجي ، أو في حواراته مع الناصريين في مصر ، ومع فصائل المقاومة وكافة الشباب العربي الذين صادفهم وتحدث معهم عن المشاكل المطروحة في بعدها الاقليمي المرحلي .. كيف كان يدعو للالتقاء على الحد الأدنى من المنطلقات القومية الجامعة ، وإرجاء الحسم في النواحي الفكرية الى حين بناء التنظيم القومي .. كما رأينا كيف كانت ردّة فعله  حينما عاين تجاوز بعض الأنصار لتلك الحدود التي تقوم عليها دعوتهم بالأساس .. اذ أن ما يراه أي انسان كحلول لمشاكل الواقع  مسألة خاصة به يستطيع أن يحسمها ويقدمها للناس كما يشاء وكما يعتقد بأنها "ما يجب أن يكون" .. لكن ما سيختاره الناس مسألة لا يستطيع أي انسان فرضها عليهم .. لذلك وجدناه يحرص باستمرار على وضعها موضع الاختيار لـ "ما هو ممكن" كبداية لتحويل هذا المشروع من القول الى الفعل ..

وهكذا ، فان موقفه الحاسم في تعريف الناصريين بتلك الصيغة القاطعة لا يبدو أنه مطروح في اطار تلك الحدود (ما يستطيع أن يقوله وما يمكن أن يقبله الناس) .. بل انه يأتي خارج تلك الأسوار وبالتحديد في اطار التعبير عن رأيه الحاسم ومفهومه للناصرية من موقع المفكر والداعية حتى يعرفه الناس على تلك الصيغة النهائية استكمالا لرؤيته الشاملة للمشروع الناصري ، وقد عاين طويلا واقع التشتت والتشرذم في صفوف الناصريين في مصر وهم يعيشون حالة الضياع عاجزين عن الاتفاق حول الأسس التي يجب ان يقوم عليها الفرز للصفوف المتداخلة .. وقد تأخر التصريح بمثل هذا الموقف الحاسم أكثر من اللازم عسى أن يصل الناصريون بأنفسهم ، ودون تدخل منه ، الى تحديد منطلقات وغايات وأسلوب المشروع الناصري ، لعل أن يمكّنهم الاجتهاد الموضوعي في التراث الغني للتجربة الناصرية من الوقوف على ما توصل اليه من خلال البحث العلمي المنهجي ، وقد كان هذا الحسم استنادا الى تقييم علمي لتطور التجربة الناصرية ذاتها ، واستنتاجا مما توصل إليه من مقولات حاسمة عن طريق منهجه الخاص في بيان منطلقات وغايات وأسلوب المشروع القومي ، وقد أصبحت كلها قواسم مشتركة بين النظرية والتطبيق .. وقد وجدناه يدلي بنفس الموقف تقريبا في نفس الفترة التي ظهر فيها كتابه "عن الناصريين واليهم" مكرّرا ما جاء في تلك الفقرة بأكثر مرونة هذه المرة ، في حواره المذكور مع جريدة القبس قال فيه : "وفي الواقع ، فان هذا المجهود هو نوعية من الجهود التي يجب على الناصريين أن يتعاملوا معها ، وأنا اعتقد أن الناصرية "صياغة" هي ما جاء في "نظرية الثورة العربية" .. ولكن علينا أن نتجنب ذلك ، فليس ما أعتقد حجة على صحته ونقول : ان المادة الخام سواء الفكرية أو التطبيقية لصياغة مبادئ يمكن أن ترقى الى مستوى النظرية موجودة في تجربة عبد الناصر".. ثم انه لم يكتف بالقول والتوجيه وحده ، بل انه قد اجتهد فعلا في دراسة خاصة بهذا الجانب (الناصرية كيف) مبينا ما يمكن للناصريين فعله واتباعه في خطوات منهجية لغربلة التجربة الناصرية وصولا لتحديد ما يلزم منها لبناء مشروع نظري مستقبلي للناصريين .. لم يتردد في تسميته " بالنظرية الناصرية" ثم قال متسائلا : " كيف يبنونها ؟  .. كيف يمكن استخلاص مبادئ واضحة محدّدة ، صالحة للالتقاء عليها والالتزام بها والاحتكام إليها من وعاء الخبرات الفكرية والتطبيقية التي خلفها الزعيم القائد جمال عبد الناصر ؟.

أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال هي المساهمة الممكن تقديمها لكل من يعنيه أن يتصدى للمهمة الأصعب . مهمة البناء النظري . 

وعلى قدر ما استطيع ان أسهم فأقول باختصار شديد : ان ثمة أربعة ضوابط منهجية للبحث عن عناصر النظرية " .. ثم قدم رأيته للضوابط الأربعة تاركا للناصريين مهمة تحديد النظرية .. وهكذا - ومن حيث المبدأ - ظل ممتنعا عن التدخل في شؤون الناصريين أو ممارسة الوصاية عليهم لأنهم أصحاب الشأن وهم أدرى بشؤونهم كما صرح بذلك مرات عديدة ..

ولهذا السبب أيضا – أي الموقف المبدئي – كانت الخصائص الموضوعية التي توصّل الى تحديدها بالنسبة للتنظيم القومي ، والتي آمن بها ، تصدّه دوما وتمنعه من اتخاذ أي خطوة أو مبادرة تناقض دعوته القائمة على تلك الأسس والخصائص التي جاء بها بيان طارق  ، أي أن ما كان ـ في نظره ـ ملزما للطليعيين في إتباع ذلك المبدأ ، يُعتبر أكثر إلزاما له من أنفسهم .. الى درجة أنه كان يرفض التعجيل بقيام هذا التنظيم على غير تلك القاعدة ، أو قبل أن تتوافر ظروفه الموضوعية .. كما كان دوما يحرّم على نفسه أي تدخل أو وصاية في موضوع إنشائه .. وفي هذا المجال نجده يقول لمحاوره في مجلة الموقف العربي المصرية العدد 61 : " منذ ربع قرن وأنا أدعو الى أن التنظيم القومي هو آداة قيادة الجماهير العربية من منطلق وحدة الأمة الى هدف دولة الوحدة . ولكن التنظيم القومي ليس استجابة ذاتية لدعوة ما ، بل إن له مضامين موضوعية لا تنشئها إحدى الدعوات إذا لم تكن متحققة في الواقع  .

المضمون الموضوعي اللازم لقيام التنظيم القومي غير قابل للاكتشاف  إلا إذا قام التنظيم القومي فعلا ، أعني على وجه التحديد أنه مهما تكن الرغبة في إنقاذ الأمة العربية ومهما يكن فهم مشكل إنقاذها صحيحا ، ومهما يكن التنظيم القومي هو الحل العلمي الصحيح ، فان عدم قيام تنظيم قومي حتى الآن يعني أن طلائع الشعب العربي لم يصلوا بعد الى درجة من نضج الوعي والمقدرة على الحركة المنظمة تؤهلهم موضوعيا لتحمل مسؤولية بناء التنظيم القومي ... أما قبل ذلك فانه لن يقوم إلا مصطنعا ، وعندما يكون التنظيم مصطنعا لا يكون قوميا ، فلنصبر مع الصابرين ، ولندعو مع الدعاة ثم لنترك الشعب العربي يختار آداته " ..

لكن الدكتور عصمت سيف الدولة – كان مقابل ذلك - يصر على التحريض الدائم ، ويعمل بكل ما أوتي من قدرة على الاجتهاد والنصح للتقدم على خطى الفرز بين القوى العربية التقدمية في الوطن العربي والقوى الإقليمية الرجعية دون خوف او هروب حتى تصبح كلاهما قوى مفرزة ، ليس فيما يتصل مباشرة بصفوفهما المتداخلة فحسب مما يساعد القوى التقدمية على تحمل مسؤولياتها وهي لا تخشى الطعن من الخلف ، بل وحتى تصبح كل القوى مفرزة أمام الجماهير أيضا .. وفي هذا الجانب يقول في نفس الحوار : " وقد آن الأوان بأن تفرز القوى وأن تتحمل كل قوّة مسؤولية مواقفها ، وان تُرغم ـ إذ لزم الأمر ـ على أن تتحمل هذه المسؤولية وذلك بعدم السّماح لها بالاختفاء وراء تعبيرات قد تصدق عليها وعلى  غيرها  من  القوى المختلفة معها " ... وليس هذا من باب قول الموقف ونقيضه بل هو دائما ـ وكما نرى في نفس الحوار ـ من باب تثبيت المبدأ والأخذ بمحاذيره في نفس الوقت ..

وفي هذا السياق ، فان ما يجب التفطن إليه في علاقة بهذا الجانب هو حرصه الشديد على تأجيل معارك الفرز التي لم يحن وقتها .. ومثل هذه الخلفية تظهر بوضوح في بعض المواقف التي يتعرض لها في محاوراته ولقاءاته المباشرة حين تطرح عليه بعض الأسئلة  فيتعمد تجنّب الإجابة الصريحة عنها تفاديا لتداعياتها على مستقبل المشروع القومي ، ومنها الموقف الخاص بتعريف الناصريين حينما يلتقي بالشباب أو بالإعلاميين .. ومثل هذا التمشي لدى الدكتور عصمت سيف الدولة سواء من ناحية الحرص على ضرورة ملاءمة ظروف إقامة التنظيم القومي مع ظروف الوحدويين المتأثرة حتما بواقعهم ، او من ناحية التأكيد على التخفيف ـ مرحليا ـ من حدة الفرز يستحق التوقف لأنه على غاية من الأهمية ، وهو يعلمنا أن تأجيل بعض معارك الفرز وتغيير أساليبها من حين الى آخر صفة من صفات المناضل الفطن ، الصلب ، العارف بتكتيك المعركة ، الحريص على فرز الأولويات قبل الذهاب الى فرز الصفوف على غير أسس وأهداف واضحة ، حتى لا تكون تلك المعارك عبئا مضافا لأعباء النضال اليومي حين تكون المهمات النضالية غير ملائمة للواقع الموضوعي أو غير متفقة مع المصلحة القومية ، وقد وجدناه أكثر من مرة يبدع أساليب عملية للفرز تقوم على محاور نضالية مدروسة نذكر منها مثالين ..

في المثال الأول يمكن أن نذكر موقفه من تصفية الحسابات مع الأنظمة الإقليمية وقت الأزمات التي تمر بها الأمة العربية على غرار ما جاء في رسالته الى الجماهير العربية بعنوان "ما العمل ؟ " بعد هزيمة 5 يونيو 67 وقد جاء فيها بيانا واضحا متصلا بمسالة بناء التنظيم القومي في علاقة بالظروف وأولويات المعارك الميدانية نذكره بكل إفاضة : " حذار من المثالية . إن تصفية الإقليمية واجب قومي حتى لا تجر أمتنا مرة أخرى للهزيمة والقتل والتدمير والألم والحزن والعار ، ولكن ليس الآن وقت تصفية الإقليمية . ليس هذا أوان البحث عما يجب أن يكون والتخلي عن الممكن المتاح ، إنما هو أوان استعمال الممكن الى أقصى حدود إمكانياتنا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ... ولكنه على أي حال ليس أوان الانقضاض علي الإقليمية وسحقها أو إسقاطها بما يتطلبه هذا من صراع في الجبهة العربية . كما أنه ليس وقت تلفيق وحدة عربية بمنطق الإقليمية والإقليميين تحت ضغط الخطر القائم لتنفصل بعد زواله . وغدا أو بعد غد ، طال الزمان أو قصر ، سيصفي الشباب العربي حسابه مع الإقليمية المدمّرة . أما الآن فلتكن الدول الإقليمية أدوات في أيدي الشباب العربي لتكون لهم المقدرة بعد تصفية آثار العدوان على تحطيمها . إن الدول الإقليمية ـ الآن ـ هي الأدوات المتاحة في معركة لا تزال محتدمة ، فلتبق  أدوات ولكن لتكن الإرادة للشباب العربي . إرادة الصمود . إرادة الاستمرار في المعركة . إرادة إزالة آثار العدوان . وليفرض الشباب العربي هذه الإرادة على الأعداء والمتآمرين والمتخاذلين والمنهزمين جميعا .. فما العمل ؟

مرة أخرى ـ ودائما ـ من الممكن إلى ما يجب أن يكون . من الواقع إلى المستقبل . إن التخلي عن الاشتباك مع العدو في المعركة التي تدور الآن لمحاولة خلق تنظيم قومي يحقق الوحدة ليتدارك ما فات مثالية عقيمة . إن كثيرين من الانهزاميين سيفرّون من المعركة بحجة التحضير للجولة القادمة . إن هـذا هروب لأن الجولة القائمة لم تنته بعد والمعركة لا تزال مستعرة ... إن وحدة العدو، ووحدة الساحة ، ووحدة المرحلة تفرض عليكم أن تكونوا جبهة واحدة مع كل الذين يقاتلون . والذين يقاتلون فعلا فئتان مفرزتان عقيدة وغاية فلا تختلطان . أنتم القوى القومية التي تخوض في الأرض المحتلة معركة التحرر العربي في سبيل الوحدة . والقوى الإقليمية التي تخوض المعركة من أجل إزالة آثار العدوان أو من أجل تحرير فلسطين ثم لا يزيدون . أولئك حلفاء المرحلة رضيتم أم أبيتم وإن أبيتم فإنكم لا تخذلون سوى أمتكم ولا تعزلون  سوى قوتكم ولن تجديكم عزلتكم فتيلا . والحلف غير الوحدة فلا يجديكم في المعركة شيئاً أن تطلبوا وحدة المقاومة مضمونا وتنظيما . تلك وحدة تنطوي على أسباب الفرقة فلن تلبث حتى تمزق الصفوف كرة أخرى . إنما هي الجبهة العربية الموحدة بين القوى القومية والقوى الفلسطينية المقاتلة . كذلك فعل كل الذين أحرزوا من قبل النصر في معارك التحرير " .

طبعا مثل هذا الموقف يصبح على درجة قصوى من الأهمية اذا علمنا أنه يتزامن في الواقع مع إنشاء مشروع ما سمّي في تلك الفترة بأنصار الطليعة ( 1966 ) الذي كان يمكن ان يُحدث منعطفا خطيرا في الأحداث وفي المستقبل العربي برمته بحلول العام 1970.. ووجه الأهمية في هذا الموقف هو التحول الفوري في وجهة نظر عصمت سيف الدولة تجاه أسلوب مواجهة الواقع حينما حصلت فيه تغيّرات جذرية استطاع أن يقدّر خطورة تداعياتها في الحين ، متخليا عن دعم تلك المهمة العظيمة كما هو واضح في موقفه السابق الصادر بعد عشرين يوما فقط من هزيمة 1967 ، للانتقال فورا من الدعوة "لأنصار الطليعة" الإعدادي الى الدعوة "لكتائب الأنصار" المقاومة .. وما يهمنا في هذا الموقف هو ما يتصل بتغيير أهداف النضال من تغيير لمعايير الفرز وغايته .. فبعد أن كان الفرز يتم في الواقع حول شعار من هم الأنصار الذي لا يقبل تداخلا في الصفوف ، أصبح الفرز حول من هم مع المواجهة والمقاومة وإزالة آثار العدوان وكله مجال لتداخل القوى واختلاط الشعارات والمفاهيم ، لذلك دعا عصمت سيف الدولة في نفس الوثيقة لأن تكون المقاومة معيارا جديدا للفرز وتحويل ساحات القتال الى ساحات لمولد الطليعة العربية .. وفي هذا السياق يمكن ان ننقل تأكيدا على هذه الفكرة للأستاذ حبيب عيسى في منبر بساط الثلاثاء جاء فيه : "هكذا نلاحظ أن د . عصمت سيف الدولة تحسس الخطر منذ اللحظة الأولى لزلزال 1967 لكنه استمر في الهجوم على الواقع بهدف تغييره ، ودعا الشباب العربي إلى تشكيل "كتائب الأنصار المقاتلة" في معركة فلسطين ، وأن تنبثق "الطليعة العربية" من خلال التوحد في ساحة المعركة " ..

والأستاذ حبيب عيسى يذكر بعد ذلك أسبابا أخرى ساهمت في فشل تجربة أنصار الطليعة بعد الهزيمة منها رحيل عبد الناصر سنة 70 ثم انقلاب السادات على المشروع القومي والذهاب بمصر الى الموقع المعادي للقضايا العربية مسببا المزيد من الانهيار والهزائم والانكسارات ، وقد شهدت تلك الفترة اعتقال عصمت سيف الدولة بتهمة إنشاء تنظيم لقلب الأنظمة العربية كما جاء توضيحه في رسالته الى تونس عام 1985 .. 

أما المثال الثاني فقد ورد في مقال بمناسبة ذكرى الوحدة ، نشر بمجلة الفكر المعاصر عدد 48 ، شهر فبراير 1969 بعنوان "الوحدة أساس النصر والهزيمة" جاء فيه الإشارة الى عدم التركيز على أي حديث ينكأ الجروح ويثير الفرقة أو يدفع الى الهروب من المسؤولية في وقت لا يتسع فيه الحديث الا لما يساعد على تجاوز المرحلة بعد الهزيمة وحشد امكانيات المعركة حين قال : "نحن ، إذن ، على أبواب مرحلة عاصفة تفرض علينا أن نحشد لها كل فكرة ، كل كلمة ، كل حركة ، كل قوة ، إذ فيها سنخوض واحدة من اخطر معارك المستقبل العربي . إن هذا يلقي على الجادين من الناس مسؤوليات جسيمة وملحة تحجب قضايا الماضي وتحيل الحديث عنه إلى نوع من الاجترار الكسول الذي لا تطيقه الظروف الخطيرة التي تمر بها أمتنا العربية . فلماذا الحديث عن الوحدة ، ولمن الحديث عن الوحدة ؟

لقد كانت وحدة 1958 قمة انتصار النضال العربي . نعم ولكن الا ينبغي أن نتعلم كيف نكون "واقعيين" فنشغل أنفسنا بالمشكلات الجسيمة التي يطرحها علينا الواقع المهزوم بدلا من إعادة الحديث عن أيام النصر الذي انقضى .

لقد كانت وحدة 1958 "نواة" دولة الوحدة العربية الكبرى . نعم ، ولكن أليس أجدى علينا من الحديث عن "نواة" الدولة التي كنا نريد أن نغرسها في الأرض العربية أن ننتبه إلى القوى التي تغتصب منا الأرض قطعة قطعة ؟

الوحدة .... مع من ؟

ألا  يعني طرح السؤال أو البحث عن إجابة عنه – الآن - أننا ننكأ جروحا قديمة بينما جروح ؛ المعركة تنزف ؛ وتخلخل جبهة الخطر الداهم بما نثيره من أسباب التمييز المستفز ؟

الوحدة .... كيف ؟

ألا يعني طرح السؤال أو البحث عن إجابة عنه ـ الآن - أننا نشدّ انتباه المناضلين في ساحة المعركة المحتدمة الى ساحات معارك أخرى غير قائمة ، وأننا نشغلهم عن المواجهة المسلحة ضد الصهيونية بمواجهة كلامية ضد الإقليمية .

الوحدة .... متى ؟

ألا يعني طرح السؤال أو البحث عن إجابة عنه - الآن ـ أننا نحاول الهروب من المسؤوليات المحدّدة التي تطرحها الظروف التي نحياها الى تاريخ الوحدة في مرحلة انتهت أو إلى آمال الوحدة في مرحلة لم تحل ؟

من أجل هذا كله ، لن نتحدث في الذكرى الحادية عشرة لوحدة 1958 إلى الذين يبحثون عن الوحدة مع من ؟ أو عن الوحدة .. كيف ؟ أو عن الوحدة .. متى ؟ ولن نتحدث حديثا ينكأ الجروح ويثير الفرقة ، او يصرف انتباه المناضلين عن ساحة المعركة المحتدمة ، أو يفتح أبواب الهروب من مسؤوليات المرحلة التاريخية التي نواجهها ؛ بل سيكون حديثا الى الذين يحاولون ، ولو بالدم ، أن يجدوا الإجابة عن أخطر الأسئلة المطروحة في الوطن العربي ، وأكثرها " واقعية " كيف ننتصر ؟ " .. ثم بعد الإشارة الى علاقة الحديث عن الوحدة بالنصر في كل الظروف و واقعيته يطرح السؤال : لماذا يجب أن نقاتل ؟ حتى يكون الحديث متجاوزا أي مبرر للخلاف حول مهمّات المستقبل وصولا الى النصر المطلوب ..

كما يمكن أن نذكر – في نفس السياق - ما كان يبديه من تحفظات حول ذكر كثير من التفاصيل والأحداث والتجارب التي عاشها مع العديد من الأطراف القومية لما كان يرى فيها من ضرر بالمرحلة أكثر من نفعها حين لا تكون في وقتها .. بينما كان أحيانا أخرى يتهرب من الإجابة عن أسئلة كثيرة تطرح عليه ، وكان لا يرى نفعا في الإجابة عنها نذكر منها على سبيل المثال ما جاء في حواره مع جريدة الأنوار التونسية عام 87 حينما واجه سؤالا عن المرحوم العقيد معمر القذافي فكان ردّه الحاسم قاطعا لأي توظيف أو تأويل حين قال لمحاوره : " دعك من هذا السؤال وسؤالك أعرفه مسبقا ، وقد ألقوه علي عديد المرات ، وأنا أعرف الغاية منه ، وأنا لا أجيب عليه لكي لا يستعمل ضد الأمة العربية ، وكي لا يركبه البعض ويجعلونه مطية لتحقيق أهداف خسيسة  .." .

ونذكر منها أيضا تحفظه عن ذكر تفاصيل تهم القوى الناصرية في حواره المذكور تحت عنوان حوارات ناصرية حين قال بالحرف الواحد : "ان إجاباتي على هذه الأسئلة قد تعمق خلافات موجودة" ، مؤكدا فقط على دوره وأسلوبه في مساعدة الناصريين على حسم خلافاتهم داخل الأطر التنظيمية حين قال : " إنني لاحظت من خبرتي واتصالاتي بالشباب الناصري ، ان التركيز على المضامين او الصيغ الفكرية للناصريين بقصد الوصول الى تحديد لها ، كان من أسباب الخلاف بينهم وما يزال ، ولا يوجد ناصري شاب ممن قابلتهم ، وهم كثيرون ، لم يسمع قولي بان الصيغة الناصرية في المنهج والنظرية والأسلوب ليست مهمة فرد ولا مجموعة افراد ، ولكنها مهمة التنظيم الناصري الموحد " .. 

بل أنه يكرّر نفس التحفظات في مناسبة أخرى في نفس الفترة (27 سبتمبر 1987) في حواره مع جريدة القبس جاء فيه في بداية الحوار :  "في البداية أود أن أفتح قوسا ، أو أبدي تحفظا ، وهو لا أدري ان كان نشر هذا مفيدا أو غير مفيد للمشروع الناصري ، وأقصد محاولة الناصرية إنشاء حزب لهم إنما – على أي حال – سأجيب ، وعليك أنت وحدك مسؤولية نشر ما تراه ، وأرجو ألا تنشر ما يمكن أن يحدث أي خلخلة أو فرقة أو إضعاف لمحاولات توحيد الناصريين في حزب في هذه المرحلة" .. ثم يكرّر ذلك في نهاية الحوار حينما سأله محاوره الناصري : هل لك إضافة تودّ أن تطرحها ؟ فقال : ".. واضح من حديثي معك ، أن كلامي يمكن تأجيله للمستقبل ، إنما النقطة المهمّة المطروحة حاليا : هي تجسيد الناصريين أنفسهم في حزب ، يأتي بعد ذلك اختيار الفكر .. لكن أخشى أن تكون الأفكار ضارة بمشروع الحزب ، لأنه دخل مرحلة التأسيس . حيث تجمع أفراد لتكوين جسم ، لا يجوز أن تطرح أفكارا تثير الخلاف أكثر مما تثير الاتفاق .. "..

كما نجده يهوّن في بعض الأحيان من درجة الخلاف للدفع قدما نحو الحل وتجاوز العقبات مثلما جاء في ردّه على محاوره الناصري "سليمان الحكيم" ، الصحفي بمجلة المنابر المصرية حين سأله عن رأيه في وضع الناصريين وخلافاتهم قال فيه : "في رأيي ان الخلاف الذي حدث ، حدث نتيجة لعدم وجود المعيار الذي يقاس عليه ، من الصحيح ومن الخطأ ؟ هذا يحتاج الى معيار يتمثل في لائحة وبرنامج وورقة عمل ، وهذا بدوره يحتاج الى حزب . وقبل وجود الحزب كل الخلافات مقبولة وطبيعية وصحية ، بل وضرورية . وفي وجود الحزب يوجد المعيار ويوجد الانضباط وتنظيم الحركة في مسارها المقدر . وبالتالي تذوب جميع الخلافات أو تقل نظرا لوجود المعيار والحكم الذي يتفق عليه الجميع ويحتكمون اليه في حالة الخلاف" ..

(القدس - م .ع / فيفري 2018).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق