القدس عنوانها وفلسطين بوصلتها

القدس عنوانها وفلسطين بوصلتها
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجزء الرابع عشر

روابط الأجزاء :

تـقديــــم / الجـــزء 1 / الجـــزء 2 

الجــزء 3 / الجــزء 4 / الجــزء 5  

الجــزء 6 / الجــزء 7 / الجــزء 8 

الجـزء 9 / الجـزء 10 / الجزء 11 

الجـزء 12 /الجزء 13 الجزء 14

الجـزء 15 / الجزء 16 الجزء 17

الجزء 18 / الخاتمة / المحتوى كامل  

فرز واحد ... أم فرز متعدّد ... ؟

دراسة في أقوال ومواقف الدكتور عصمت سيف الدولة .

-14-

وفي كل الأحوال ، ومهما تكن أقلية الدرجة لأي موقف قومي عن الموقف من وجهة نظر قومية ، فانه يبقى مرتبط دائما بالمبدأ وبالواقع الموضوعي من أجل تحقيق غاية مرحلية ممكنة ومفيدة .. وفائدتها أن لا تكون مناقضة أو على حساب الأهداف الإستراتيجية المحكومة بدورها بمدى الالتزام بنظرية تغيير الواقع .. وهو ما قاله الدكتور عصمت سيف الدولة في كتابه حوار مع الشباب العربي : "حجر الأساس في بناء أي تنظيم هو الوحدة الفكرية . وحدة النظرية التي تلتقي عليها الجماهير وتلتزم بها وتحتكم إليها ، فتضبط خطاها في مواقعها ولا تسمح للمعارك التكتيكية بان تكون على حساب الهدف الاستراتيجي " .. ورغم ان العلاقة بين النظرية والإستراتيجية والتكتيك بالنسبة للتنظيم الذي يتبناها ليست قي حاجة الى توضيح أكثر بالنسبة لعامة القوميين الا أننا نجد موقفا آخر استنبطه الدكتور - اجتهادا - من الموقف الديني في كتابه حوار مع الشباب العربي ، نذكره - لطرافته وقد كان على غاية من الإبداع والأهمية - وهو يعرض سلوك إبراهيم عليه السلام مع الكفار حينما قام بهدم آلهتهم ، قال فيه : " ... بدأ استجوابه ، " أنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم " ؟ . بماذا يجيب إبراهيم ؟ هل يصدقهم القول ؟ .. ذلك كان موقفه الأول في المرحلة الأولى . مرحلة الحوار والاحتكام الى العقل . مرحلة "الديمقراطية" أنهوا هم تلك المرحلة وبدأ هو مرحلة الصراع . الآن هو وهم أعداء يواجه بعضهم بعضا . " قالوا أنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم " ؟ .. ليس هذا السؤال في مرحلة الصراع بحثا عن الحقيقة بل بحثا عن مبرّر شكلي لبطش مبيّت . الصدق لا يكون الا بين الأصدقاء . لا حق للأعداء في أن يعرفوا الحقيقة لأنهم لا يبحثون عنها ولا يرتضونها . فلقّننا أبو الأنبياء واحد من أهم قواعد التعامل مع الأعداء . حجب الحقيقة عنهم . "قال بل فعله كبيركم هذا " . ولم يكذب إبراهيم عليه السلام . فقد كان صادقا في موقفه الثالث ، كما كان صادقا في موقفيه الأول والثاني . والعبرة في كل موقف بظروفه الذاتية والموضوعية . بحيث يظل الموقف التكتيكي ، محكوما دائما بالهدف الاستراتيجي كما يحدده المبدأ العقائدي . ذلك هو مناط الصدق في الموقف " .. فمصارحة الأعداء ليس صدقا بل خذلان للمبدأ ..

وهكذا ، أينما بحثنا عن ضالتنا ، سوف نصل الى التسليم بعلوية الموقف الاستراتيجي على المواقف التكتيكية وإخضاعها اليه ، وكذلك الموقف من وجهة نظر قومية بالنسبة للموقف القومي للقوى القومية .. ثم لا تبقى الا الممارسة محكا لفرز الغث من السمين .. غير أن السؤال الذي يطرح نفسه : كيف نستطيع من خلال الممارسة فرز المواقف - ونحن في هذه المرحلة - دون الوقوع في الخلط بين الموقف القومي والموقف من وجهة نظر قومية ، بحيث لا يكون الخلط القائم مجالا أو سببا في قيام الصراع كما هو حاصل في الواقع بين القوميين ؟

قبل الإجابة نحتاج من الناحية المنهجية الى الفصل بين الموقفين . لان الموقف من وجهة نظر قومية - في الظروف الحالية - هو الموقف القائم على الأهداف الإستراتيجية في جميع الجوانب المتعلقة بالمشروع القومي التي تنبثق منها - بالضرورة - الإستراتيجية القومية وهي مهمة لا يستطيع الوفاء بها الا تنظيم قومي قائم الذات .. وهو ما يعني أن إمكانية تجاوز الحديث بالنسبة لتلك المضامين التي تكاد أن تكون معروفة استنادا الى نظرية تغيير الواقع منطلقا وغاية وأسلوبا اذا سلمنا بالمشروع الفكري للدكتور عصمت سيف الدولة من جهة أننا نناقش موضوع "الفرز" المنسوب اليه منذ البداية .. بقطع النظر عن المشروع الفكري للتنظيم القومي الذي لا نعلمه وهو غير موجود .. لذلك لا يبقى أمامنا الا الحديث عن خصائص الموقف القومي للقوى القومية المتسبّب في كل الخلافات والصراعات عند كل اجتهاد يتعلق بالمتغيرات من الأحداث بين القوميين وهم في حالة التشتت التنظيمي ..

على هذا المستوى ، وإجابة عن السؤال من هذه الزاوية سنعود أيضا للدكتور عصمت سيف الدولة في محطات عديدة يحدّد فيها معيارا مهمّا للحكم على المواقف السياسية سواء بالنسبة للسلطة الحاكمة أو بالنسبة للأحزاب والحركات السياسية ، ويعبّر عنه "بالاتجاه العام" .. وقد سمّاه حينا بـ "الاتجاه العملي" ، وحينا اخر بـ "بالمقياس" وأحيانا أخرى "بالمعيار" .. كما ذكر له - مرّة - مفهوما مرتبطا بـ"القوانين الاقتصادية" الفاعلة في المجتمع ، ومرة ثانية بـ"المفهوم العلمي" ، وثالثة بـ"المنهج العلمي" ، ومرات عديدة بـ"حركة التطور الاجتماعي ، وكل هذا التنوع الذي لا يخرج في مجمله عن وحدة "الدلالة" للمفهوم المقصود "كمعيار للحكم" ينفي عن هذا التكرار أي احتمال للاستعمال العشوائي للعبارة في كل المناسبات التي وردت فيها  كما سنرى لاحقا  ..

المحطة الأولى كانت في حوار للدكتور عصمت سيف الدولة في 11 جانفي 1984 (حوار مع جريدة الرأي العدد 303) عن الوضع في مصر في عهد حسني مبارك الذي اعتلى كرسي السلطة  بعد فترة السقوط التي شهدتها مصر في عهد السادات ، وقد بدى - وقتها - كمنقذ لأكبر دولة عربية من الهوة التي تردت فيها .. وقد كان السؤال الذي أقرّ ضمنيا بمضمونه : نريد أن نعرف رأيك فيما قيل ويقال منذ تولي الرئيس حسني مبارك عن التغيير ؟ وهل هناك تغيير حصل فعلا ..؟

وقد كان جوابه بكل إفاضة : " أما عن التغيير في مصر منذ تولي الرئيس حسني مبارك فهو في الجزئيات وأسلوب الآداء وليس في الاتجاه العام لسياسة الحكومة . وفي رأيي أن هذه التفرقة مهمة جدا ذلك لان الأسلوب المتميز الذي كان يؤدي به الرئيس محمد أنور السادات اتجاهه السياسي كان أسلوبا فضا واستفزازيا لا تتوقف جسارته على أي اعتداء بردود الأفعال . باختصار كانت المميزات الشخصية للرئيس السادات مصاحبة لسياسته الموضوعية ، وكثيرا ما كانت تطغى على طابعها ، ولعلي اضرب لك مثلا بزيارة السادات للقدس .. فمن الناحية الموضوعية لم تكن هذه الزيارة لازمة لإنشاء العلاقات التي انتهت باتفاقية كامب ديفيد . وكان كل شئ ممكن لو لم تتم .. ولكن السادات وحده هو الذي كان يريد أن يلفت العالم الى حدث يقوم به هو وحده لأسباب نفسية لا أريد الخوض فيها بعد وفاته .. مثل ثاني أوضح ، السباب والشتائم التي كان يوجهها السادات إلى معارضيه .. وأمثلة كثيرة يؤدي الحديث عنها إلى المساس به وهو ما لا أريده بعد أن أصبح في ذمة الله .. كل هذه الأساليب الغليظة الاستفزازية اختفت وأصبح لدينا رئيس جمهورية يتعامل سياسيا بأسلوب موضوعي .. وأستطيع ان أقرر بأن كل الذين أرهقهم السادات يشعرون بأن التعامل مع حسني مبارك مريح .. وقد تأثر كثير من المعارضين السابقين للسادات بهذا الأسلوب المهذب الى درجة أن خلطوا بين التغيير في الأسلوب والتغيير في الموضوع .. فتحولت مواقفهم من المعارضة الى شبه التأييد أو التأييد الكامل . وهذه نقطة الخلاف الأساسية التي سمحت بقيام جدل حول التغيير وجودا أو عدما في مصر ولست أريد أن أتابع مواقف الآخرين حتى لا يعتبر تشهير بأحد ولكني أكتفي بأن اعبر عن رأيي الخاص وهو كما ترى رأيا غير متفق عليه .. أنا أرى أن التغيير في الأشخاص وفي أساليب الآداء وفي الجزئيات وفي المراحل أمور حتمية تقع بفعل التأثير المتبادل بين الإفراد والأشياء على مدى الزمان في أي مجتمع وتحت أي نظام .. وأن العبرة ليست ما يحدث من تغيرات جزئية أو في الأساليب ، ولكن في الاتجاه العام للسياسة ، بمعنى الى أين تتجه الدولة ؟ أما كيف ، والأدوار التي يقوم بها الأشخاص وأساليبهم في الآداء فهي تغيرات ثانوية ، بمعنى أنها محكومة في النهاية بالاتجاه أو الخط العام .. وأعتقد طبقا لهذا المقياس أنه لم يحدث أي تغيير في مصر منذ عام 1974 حتى الآن .. فابتداء من أول سبتمبر 1974 اتجهت سياسة مصر اتجاها واحدا واضحا وان كان تدريجيا هو أن تصبح دولة رأسمالية .. وفي سنة 1974 صدرت ثلاث قوانين في مصر حددت هذا الاتجاه الأول : قانون استثمار الأموال الأجنبية الذي منح رؤوس الأموال الأجنبية كل ما يخطر على البال من امتيازات مغرية للاستثمار في مصر بما فيها الإعفاء من الضرائب خمس سنوات والإعفاء من الجمارك 5 سنوات ، وحق إعادة تصدير رؤوس الأموال وإنشاء البنوك الأجنبية .. ثم قانون إلغاء احتكار الدولة للتجارة الخارجية وإباحتها للأفراد ..  ثم قانون التصريح بالوكالة عن المؤسسات الأجنبية للأفراد وكانت ممنوعة من قبل .. وهكذا فُـتحت مصر للنشاط الرأسمالي وأصبحت جزءا من السوق الرأسمالي العالمي ، وأصبح اقتصادها يخضع لقوانين المنافسة في السوق المحلي المحكوم بدوره بالمنافسة في السوق العالمية الرأسمالية .. وهذا جوهر ما يسمى سياسة الانفتاح الاقتصادي .. ولما كانت مصر اضعف إنتاجا من دول هذا السوق فقد تدفقت عليها أزماته ، فبدأ التضخم وارتفعت الأسعار وتعطل الإنتاج المحلي أمام المنتجات الأجنبية وكثرت البطالة التي أدت الى الهجرة الكثيفة واختل الميزان الاقتصادي مما حمل الدولة على أن تطلب المعونات والقروض التي بلغت الآن نحو عدة مليارات فأصبحت الحياة في مصر للشعب العادي متوقفة على استمرار إمكانية الحصول على تلك المعونات ..

طبقا لهذا عندما أريد أن ابحث عن التغيير في مصر فإنني انتبه الى أصل الداء والمميز للنظام ذاته لأعرف الإجابة عن السؤال التالي : هل حدث تغيير في نظام الانفتاح الاقتصادي أم لا ؟ هل مصر غيرت اتجاهها نحو الرأسمالية آم لا ؟ وإجابتي أن مصر ما تزال مندفعة نحو إكمال البناء الرأسمالي للدولة ، وأنها تؤدي هذه العملية بنشاط ملحوظ وبأسلوب أكثر عقلانية مما كان أيام السادات .. وهكذا نرى أن النظام الذي بدأ أيام السادات ، تجري الآن عملية تثبيته وعقلنته وترشيده في ظل حسني مبارك ليكون أكثر قبولا شعبيا وليس لتغييره " ..

وفي محطة ثانية ، وبعد هذا التصريح بعام واحد يعيد صياغة الموقف بأكثر وضوح مسميا ذلك الأسلوب الذي اعتمده في تحديد المواقف (الاتجاه العام) "بالمعيار" ، شارحا كل تفاصيله وهو يردّ على سؤال جريدة الوطن الكوتية في حوار معها  بتاريخ 5 / 3 / 1985 عن سؤال "ماذا يجري في مصر ؟" جاء فيه : "ان المعيار الوحيد لمعرفة ما يجري في أية ساحة والى أين ، هو تجاهل المفردات والتركيز على الاتجاه العام . طبقا لهذا المعيار أستطيع أن أقول أن مصر الآن في مفترق الطرق الى درجة يصدق معها ما يقوله البعض أن أحدا لا يعرف الى أين يتجه ذلك  لأن مصر قد بدأت بعد وفاة السادات على اتجاهه .

واتجاه السادات كان محدّدا بعلامات واضحة أدّت كل علامة منها الى ما يليها فتكوّنت منها سلسلة أوضحت معالم الاتجاه العام .

بدأت أول العلامات بعد حرب أكتوبر 1973 بما يسمى الانفتاح الاقتصادي ، أدّى الانفتاح الى اندماج الاقتصاد المصري في البنية الاقتصادية الرأسمالية . تدفقت الى مصر رؤوس الأموال والنشاطات الرأسمالية بكل أزمتها الناشبة منذ عام 1970 فعرفت مصر التضخم وغلاء الأسعار والمضاربة والنشاطات الطفيلية ، ولأن مصر اضعف إنتاجا من أن تتغلب على هذه الأزمة فقد لجأت الى الاستدانة لتعويض نقص الإنتاج . فأدّى ذلك الى تحول مصر بشكل أساسي الى سوق استهلاكي للسلع الرأسمالية المستوردة . أصبح إشباع الاحتياجات الأساسية للشعب من أول الخبز الى الفول الى ما فوق ذلك متوقفا على ما يأتي من الخارج.

قبضت الدول المتقدمة الرأسمالية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية على شعب مصر من أمعائه . ثم قدمت له الطلبات ، والنصائح ، والمشورات التي تدور كلها حول مقولة باردة الكلمات قاطعة الأثر : لكي يمكن الاستمرار في المعونات الاقتصادية وتدفق رؤوس الأموال .. لا بد من أن يطمئن الرأسماليون .. ولكي يطمئنوا لا بد من إنهاء حالة الحرب . وإنهاء حالة الحرب أدّت الى القطيعة العربية ، فتفاقمت الأزمة ومات السادات" ..

ثم في المحطة الثالثة يذكر مثل هذا الرأي في سياق آخر في مقال بعنوان "الخروج من المستنقع أولا" نشر بجريدة السفير بتاريخ 7 فيفري  1981 .. تحدث فيه عن الوضع في مصر ، منتقدا مواقف بعض القوى السياسية خاصة اليسارية منها في فترتين مختلفتين ، فترة ثورة يوليو 52 وما بعدها .. وهو مقال يحمل أفكار ومعايير في تطابق تام مع المعيار الذي استعمله في الحكم على فترة مبارك ، لكنه في سياق جديد يحمل إضافة طريفة يصلح فيها تطبيق هذا المعيار على الحكم والمعارضة معا .. فبعد ان يُذكّر في مقاله بقصة اليسار واليمين في فرنسا بعد الثورة ، وما شهدته الساحة السياسية الفرنسية  من تقلبات وتبادل للأدوار في تلك الفترة ، ينتقل للتمهيد في الحديث لما يتصل بالأوضاع في مصر فيقول  : "بحكم ان المجتمع في حركته يتغير دائما بفعل التأثير المتبادل بين عناصر تكوينه الداخلي ، وبينه وبين المجتمعات الأخرى لا تبقى المواقف الثابتة على مضمون واحد ، ففي كل لحظة  في اي مكان تُطرح على المواقف مضامين جديدة ... وهكذا ننتهي الى انه لا يوجد في الحقيقة الاجتماعية موقف يميني ثابت او موقف يساري ثابت ، ولكن يوجد اتجاه (موقف في حالة حركة) يميني او اتجاه يساري هو الذي تتحدّد به المواقف الجزئية والمرحلية ، وعندما يتحدّد الاتجاه لا يستطيع الموقف الجزئي أو المرحلي ان يتناقض معه ، فإذا تناقض يكون قد خرج عليه . وهكذا يكون من الخطأ الفادح تحديد انتماء الناس الى اليسار او الى اليمين على ضوء مواقف جزئية أو مرحلية ، فعلى هذين المستويين قد يلتقي اليمين واليسار في موقف جزئي واحد ، وقد يلتقيان في مرحلة واحدة ، وقد يختلطان في بعض المواقف الجزئية والآنية ، فلا يبقى مميزا لأي منهما الا الاتجاه الذي يحدّد حركته الى المستقبل ، اي الى حيث لم يلتقيا بعد " .. وعلى هذا الأساس انتقد الدكتور عصمت سيف الدولة مواقف القوى اليسارية في مصر من ثورة 23 يوليو باعتبارها مواقف خاطئة حين اتخذت منها موقفا مضادا بناء على مواقفها الجزئية المتذبذبة ، متجاهلة كليا اتجاهها التحرّري بداية ، ثم الاشتراكي لاحقا حتى أصبحت العلاقة صدامية .. وقد ورد تأكيد مماثل لهذا الموقف قبل ذلك بكثير في موضوع اليسار واليمين في كتاب الأسلوب حين قال : "أن اليسار واليمين لا بد ان يُنسبا الى اتجاه ثابت " ، حتى يتوقف نهائيا عبث اليمين واليسار ، اذ أن .. " اليسار الفرنسي مثلاً ظل يساراً حتى وهو يشن علينا في مصر والجزائر حرباً استعمارية . واليسار الشيوعي ظل يساراً حتى وهو يناهض الوحدة . وفي عدد خاص من مجلة ” الازمنة الحديثة ” جمع سارتر كلاماً كثيراً ممن قيل أنهم يمثلون اليسار العربي واليسار الاسرائيلي ، فأصبح بعض الاسرائيليين يساراً على الأرض التي اغتصبوها أو شرّدوا أهلها " ..

أما في المحطة الرابعة ، فنجد رأيا مطابقا تماما للاراء السابقة ورد في كتاب الأحزاب ومشكلة الديمقراطية ، وقام فيه الدكتور عصمت سيف الدولة بعرض الأساليب التي تم بواستطها التلاعب بالديمقراطية في تلك الفترة مستعملا نفس المعيار في الحكم على الممارسة الديمقراطية من خلال رصد الاتجاه العام للسياسة المعتمدة في الجانبين التشريعي والواقعي ، خصص له فصلا كاملا ب 35 صفحة من الكتاب ، واستهله بعنوان "الاتجاه العام" . وقد تكرّر استعمال هذه العبارات عديد المرات خلال التحليل والتقصّي للأساليب العبثية المتبعة في الانقلاب على الدستور للخروج من الاتجاه الاشتراكي الى الاتجاه الليبرالي .. نذكر منها بعض الفقرات لأهميتها في الموضوع ، وقد بدأ حديثه بالتأكيد على جدوى هذا المعيار في حسم المواقف : "والآن ما هو الاتجاه العام للمرحلة التي بدأت عام 1971 ؟ هل كان اتجاها ديمقراطيا او كان اتجاها غير ديمقراطي ؟ على أساس الإجابة على هذا السؤال يتحدد الموقف من أزمة الديمقراطية في المرحلة الحاضرة ، ونحن نعيد ونكرر ونؤكد ان العبرة بالاتجاه العام ، أولا ، لان التفاصيل والمفردات تخضع للاتجاه العام وتخدم غايته .." .

وكيف نفهم ذلك او نقيس ذلك الاتجاه بطريقة علمية صحيحة ؟

فيجيب : ...."ان المفهوم العلمي والواقعي للديمقراطية الان هو الاتجاه اليها ، وتطور المجتمع ، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا الى ان تتحقق كاملة حين تتحقق شروطها الموضوعية والذاتية كاملة ..".

ثم يواصل معرّجا على ربط تطور الديمقراطية بحركة تطوّر المجتمع ..." إنما تقاس ديمقراطية اي نظام بقدر الخطوات التي يحققها في اتجاه الديمقراطية او - كما يقال عادة - بقدر المكاسب الديمقراطية التي تحققت  . وهذا يعني انه قبل عدد الخطوات المتقدمة او المتعثرة لا بد من تحديد اتجاه تلك الخطوات ، هل هي في اتجاه الديمقراطية او أنها في الاتجاه المضاد المنحرف .. كل هذا ونحن نعني الاتجاه بالنسبة الى الشعب . الذي نحاول ان نقف موقفه .‏ ونرى حركة التطور على ضوء حركته وليس بالنسبة الى الشريحة "الممتازة" من المصريين الذين لا نشك في انهم يسبقون شعبهم معرفة بالديموقراطية ومقدرة على ممارستها ، بنصف قرن على الاقل" ..

وهكذا .. " إننا حين نحدد الاتجاه العام للمرحلة الحاضرة يكون من التعسف ان نحسب عليها الحدود والقيود والعقبات التي ورثتها من مراحل سابقة .. " ... ويسرد العديد من القوانين سارية المفعول منذ 1910 ، و1914 ، 1923 ، 1925 ،1939 ،و1972 .. ثم يضيف : " كل هذه قيود وحدود للديمقراطية لا بد ان تزول ، لكنها لا تدخل في عناصر تكوين الاتجاه العام للمرحلة الحاضرة .." .... ثم يتساءل : " بعبارة أوضح الى اين تتجه مصر في شان مشكلة الديمقراطية ابتداء من عام 1971 وانطلاقا منه ؟ " ...  ويجيب : " ليس للسؤال السابق جواب واحد بسيط . ذلك لان في قلب دولة مصر القائمة ، شرخا يتعمق باستمرار ويكاد يفصل بين اتجاهها الشرعي واتجاهها العملي .." .

" اما على المستوى الشرعي فان دستور 1971 القائم ذو اتجاه ديمقراطي واضح . ولقد أوضحنا من قبل بعض خصائصه الديمقراطية .. " ... وهو ما يعني ان اتجاها ديمقراطيا لا شك فيه ما يزال قائما في مصر على المستوى الشرعي ... ولكن ، في مواجهة ، وضد ، هذا الاتجاه الدستوري الشرعي  ، بدأ ينمو في مصر بشكل ظاهر ، وبعد حرب أكتوبر 1973 بالذات اتجاه مضاد للديمقراطية ، وقد قلنا من قبل ، ونعيد الان ، انه انقلاب ضد الدستور والشرعية بكل المعاني الدستورية للانقلاب " ..

... وهكذا نواصل مع الدكتور حتى نهاية الفصل في تشريح الجانب العملي من هذا الاتجاه الانقلابي من خلال رصد التوجهات الجديدة نحو المزيد من الانفتاح الاقتصادي الذي يسير نحو تثبيت الاتجاه المعادي للديمقراطية كما يفهمها عصمت سيف الدولة ، وصولا الى فترة صدور الكتاب ، وهو يعاين المزيد من الخروقات للدستور فيقول : "عبرنا عن راينا في الاتجاه الذي بدأ - فعلیا -‏ عام 1974 وقلنا انه انقلاب . ولكن هذا وصف له من حيث الشرعية . عنينا به انه ضد الدستور . دستور 1971 . هذا الوصف لا يعني‌ وحده انه اتجاه ديمقراطي او انه اتجاه ضد الديمقراطیة . انما تتبین صفته هذه بقیاسه على اتجاه الدستور ذاته وهو قياس نسبي بمعنی اننا لا نفترض ان دستور 1971 هو منتهى التطور الديمقراطي ولكنه ، كما نراه بيقين ، اكثر ديمقراطية بما لا يقاس من أي دستور ليبرالي . ولقد اوضحنا من قبل ان الاتجاه الذي يجري تحت انوفنا اتجاه ليبرالي راسمالي .‏ وهو ما يعني - في راينا - انه اتجاه مضاد للديمقراطية . ديمقراطية الشعب ، أغلبية الشعب ، من العمال والفلاحين وصغار الموظفين الامناء وصغار التجار واصحاب الورش والحرفيين وكل الكادحين وابنائهم .‏ وهو اتجاه غير ديمقراطي لانه يسلبهم الان ، وسيسلبهم المزيد غدا ،‏ ذلك القدر الذي تحقق لهم من الديمقراطية الاجتماعية حتى لو كان قليلا" ...

وبما أن الممارسة قد أصبحت أكثر وضوحا في تأكيد "الاتجاه الانقلابي" فان كل الممارسات الحاصلة أصبحت بدورها ذات اتجاه محدّد يسميه "الاتجاه العملي" ويقول بأنه "اتجاه فعلي غير ديمقراطي "  ، ثم يضع ما حصل من تغيير جرّاء تلك الممارسة في اطاره العام مؤكدا القول : "بدون تردد نقول انه التغيير الذي حصل في الاتجاه العام من اتجاه ديموقراطي آشتراكي الى اتجاه لا ديموقراطي لا اشتراكي".. (ص 189 – 190).

ولهذا فان هذا "الاتجاه العملي" نحو المزيد من ترسيخ "الاتجاه الليبرالي" يجعل الدكتور عصمت سيف الدولة يذهب الى المزيد من القول الحاسم موضحا أهمية التركيز على "الاتجاه العام" في تحديد المواقف الصحيحة ومعرفة المواقف الخاطئة في نفس الوقت حينما تختلط المفاهيم ، أو حينما يتم التركيز أكثر من اللازم في بناء المواقف على الجزئيات المرحلية ، مبيّنا الحد الفاصل بين الديمقراطية في ظل "الاتجاه الليبرالي" و "الاتجاه الاشتراكي" مؤكدا على الارتباط الموضوعي بين "الاتجاه العام" و"القوانين الاقتصادية" الفاعلة في المجتمع حين قال : "فحيث يكون النظام راسماليا لا يمكن آن تقوم الا ديمقراطية ليبرالية . وحيث نجد الديمقراطية الليبرالية لا بد ان يكون النظام الاقتصادي راسماليا .. ولا يستطيع احد أن يفصل بينهما . ولما كانت حركة التطور الاجتماعي غير ثابتة وبالتالي تتداخل معالم نظم مختلفة في مراحل التحول من نظام الى نظام فان الانتباه الى الاتجاه العام يكون اجدى من التوقف عند المفردات المختلطة . فعندما يكون الاتجاه العام اقتصاديا الى الراسمالية لا بد أن يصاحب المبادرات الراسمالية مبادرات ليبرالية ليكتمل النظام الليبرالي اقتصادا وسياسة في مرحلة لاحقة . في حين انه عندما يكون الاتجاه العام اقتصاديا الى الاشتراكية لا بد أن يصاحب مبادرات التحول الاشتراكي مبادرات تحول عن الديمقراطية الليبرالية . ومن هنا ندرك الخطأ الجسيم الذي يضع فيه اولئك الذين تجذب انتباههم الجزئيات المرحلية فيسلخونها من اتجاه المجتمع كله . يحسبون مثلا أن تأميم بعض المؤسسات في نطاق نمو النظام الراسمالي اجراء اشتراكيا ، او يحسبون اباحة الاحزاب في نطاق اتجاه رأسمالي ديمقراطية شعبية.

العبرة في دراسة وتقييم أي نظام هو باكتشاف قانونه الاساسي الذي يضبط حركته ويحدد اتجاهه " ..

ثم بعد أن يُجري مقارنة طويلة بين ما يجري في المجتمعات المتقدمة والمجتمعات المتخلفة ، نجده يكرّر نفس الفكرة ونفس المضمون الوارد في الجملة الأخيرة مؤكدا أن العبرة - دائما - بالاتجاه العام وليس بالتفاصيل حين قال : "... ‏هناك اذا تعرّض الشعب لمزيد من القهر الاقتصادي لا يستطيع العامل او الفلاح ان يشتري صحيفته المفضلة او كتابآً ظهر حديثا او يقضي اجازة نهاية الاسبوع (الويك اند) .

 هنا لو تعرّض الشعب لمزيد من القهر الإقتصادي لأصبح في موقف الخيار بين الموت او الثورة .‏ فهناك لا يبيع احد حريته السياسية ولو وُجد المشترون لانه يستطيع الحياة وهنا يبيع حريته السياسبة ليعيش ... ونكرّر ،‏ أن العبرة بالاتجاه العام لاي نظام وليس بدعاويه التفصيلية . فهناك مع الأزمة الامل وامكانيات تحقيقه ٠‏ وهنا مع الأزمة اليأس من امكانيات الحياة . والاتجاه العام للنظام الليبرالي في العالم المتخلف ديموقراطيا واقتصاديا هو الى الثورة . الموارد المحدودة لا تسمح بمزيد من الثراء الا مع مزيد من الفقر .. وكلما ازدادت الهوة نشطت سوق الطغيان حيث تباع الحرية وتشترى . الاثرياء بشترونها والفقراء يبيعونها . ولن يفض هذا السوق غير الانساني ، غير الديموقراطي ، الا الثورة "..

كما وجدناه يكرر استعمال هذا المعيار أيضا أكثر من مرة في علاقة بالديمقراطية ، وقد ورد هذا التكرار في دراسته المقدمة لندوة 23 يوليو 1986 تحت عنوان "ثورة يوليو والمسألة الديمقراطية" ، وكان الاستعمال الأول في سياق الحديث العام عن تطوّر مفهوم الديمقراطية حينما أصبحت الشعوب تناضل من أجل المكاسب الاجتماعية وتدافع عنها حتى تفرضها على الحكومات ، قال فيه : "فلما تطورت الحريات الى حقوق تلتزم الدولة بالوفاء بها ، ذات مضامين اجتماعية يجب ان تتحقق لم يعد المتساوون في المواطنة متساوين في الحقوق ، وأثر هذا في النظام الديمقراطي من ناحيتين . الأولى : دخلت الظروف الاجتماعية للمواطنين عنصرا أساسياً في ترتيب أولويات الحريات والحقوق التي يجب على النظام الديمقراطي الوفاء بها ليبقى ديمقراطياً على ضوء المعيار الأول والأساسي للديمقراطية ومنطلقها التاريخي : المساواة . فأصبحت وظيفة النظام ، أي نظام يستحق ان يقال عنه أنه ديمقراطي ، الاتجاه الى إلغاء الفوارق في الظروف الاجتماعية بين المواطنين لتحقيق المساواة الاجتماعية إضافة الى المساواة السياسية وإكمالا لمفهوم المساواة بين البشر . هذا الاتجاه يطبع "الديمقراطية الاجتماعية" في كثير من الحالات ، خاصة في حالات الخلل الجسيم في المساواة بين المواطنين ، بطابع ظاهر الانحياز الى من هم أكثر حاجة الى تدخل الدولة ، هذا الانحياز الظاهر في حقيقته ، على ضوء غايته ، اتجاه عادل الى المساواة بينهم وبين غيرهم تحقيقا لشرط جوهري من شروط الديمقراطية" ..

أما الاستعمال الثاني في هذه الدراسة فكان في إطار الحديث الخاص بتطوّر المضامين الاجتماعية التي سعت الثورة لتحقيقها منذ بدايتها وقد جاء فيها : "ان ثورة 23 يوليو لم تفصح في سنواتها الأولى عما تعنيه بالعدالة الاجتماعية وأسلوب تحقيقها . ولقد بادرت الثورة بعد شهر ونصف فقط من قيامها الى إصدار قانون الإصلاح الزراعي رقم 178‏ لسنة 1952‏ (9 سبتمبر 1952) . ولكن هذا القانون لا يعبر عن اتجاه الى مفهوم معين للعدالة الاجتماعية بقدر ما يعبر بوضوح عن إرادة تحرير الفلاحين من سيطرة كبار الملاك . فهو ترجمة لهدف القضاء على الإقطاع وليس لهدف العدالة الاجتماعية " .. والدكتور عصمت سيف الدولة يذكر بكل تفصيل كل النقائص التي تضمنها قانون الإصلاح الزراعي ، كما يذكر الايجابيات .. ثم يمضي في التقييم متتبّعا التطوّر الحاصل في المضامين السياسية والاجتماعية للديمقراطية فيقول في محطة ثالثة مستعملا نفس المعيار : " احتفظت ثورة 23 يوليو المتطورة من الديمقراطية السياسية الى الديمقراطية الاجتماعية خلال الفترة من 1957 حتى 1967 بكل ما كان مميزا للديمقراطية السياسية وأهمه التمثيل النيابي عن طريق الانتخاب الدوري والاقتراع العام السري المباشر ، ولكن إضافة المضمون الاجتماعي الى الديمقراطية السياسية ، كما غيّر في وظيفة الدولة غيّر في مفهوم الشعب ، اذ دخلت الظروف الاجتماعية المتفاوتة ، والمتعارضة والمتناقضة في بعض الحالات ، في تحديد من هو الشعب صاحب الحق السياسي في الإسهام في اتخاذ القرارات العامة . وظهر هذا الاتجاه مصاحبا صدور دستور 1956 . فقد نصت المادة 197 منه على أن يكون المواطنون اتحادا قوميا للعمل على تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الثورة ولحث الجهود لبناء الأمة بناء سليما من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، ويتولى الاتحاد القومي الترشيح لعضوية مجلس الأمة" .. ثم يستمر في توضيح الخلفية الديمقراطية لمثل هذه التشريعات خاصة في جانب الربط بين تولي الوظيفة والالتزام بتحقيق أهداف الثورة .. أما بحلول مطلع الستينات ودخول مصر مرحلة الاشتراكية فتصبح العبارة عنده مقترنة بالتوجه الجديد لسياسة الدولة ومعبرة عن ملامحها الجديدة حين قال : " قد أصبح الأمر أكثر وضوحا وحسما - على مستوى النظام - ابتداء من أواخر عام 1961 قبل ان يصدر الميثاق ، وقبل أن يلغى دستور 1956 ، وقبل أن يصدر دستور 1964‏ .

في صيف 1961‏ صدرت سلسلة من القوانين ، عرفت باسم القوانين الاشتراكية ، ألغت الملكية الخاصة لكافة البنوك ومؤسسات الائتمان والادخار والتأمين والصناعات الكبرى وفرضت احتكار الدولة للتجارة الخارجية وأممت عديداً من المؤسسات التجارية والصناعية والمقاولات ، وبشكل عام غيّرت إلى حد كبير الطبيعة الاقتصادية وعلاقاتها في الدولة وحولتها من مجتمع رأسمالي ووضعتها في أول الطريق إلى الاشتراكية . وفي 28‏ سبتمبر 1961 وقع انقلاب عسكري في سوريا انتهى بفصل سوريا عن مصر . اعتبر تعاصر الحدثين مؤشرا قوي الدلالة على المخاطر الكامنة في إباحة وظائف الدولة ، التنفيذية او التشريعية ، للذين أضيروا بالقوانين الاشتراكية والذين لا يتفق الاتجاه الاشتراكي مع مصالحهم ؛ فكان طبيعياً ان تعيد الدولة النظر في تكوينها الدستوري وأن تصوغ وظائفها على وجه لا يسمح بانقضاض القوى الرجعية على السلطة مرة أخرى كما حدث في سوريا ، وان يتجه التكوين الجديد الى حماية مجموعة المصالح الجديدة التي يطلق عليها معا اسم "الاشتراكية" .." .. الخ ..

وبما أن الدكتور عصمت سيف الدولة قد خص ثورة يوليو بالعديد من الكتب والدراسات والمحاضرات فان أغلبها قد أتى متصلا بمشكلة الديمقراطية وهي من أهم الجوانب المتصلة بخلاف الثورة وصراعها مع مناهضيها ، وقد يكون - من الأصح القول - بأنها من أهم ما يحتجّون به عليها في هذا الصراع .. لذلك فانه لم يكتف بتناول مضامينها الفكرية والعملية فقط ، بل انه قد تعرض أيضا للاسباب الموضوعية والتاريخية للقصور والتعثر الذي شهدته التجربة الديمقراطية في الواقع وقد سمّاها في بعض المراجع بالاخطاء .. ومن أهم الأسباب التي تتصل بموضوعنا نجد سببين على الاقل وردت في كتابه "هل كان عبد الناصر ديكتاتورا" أولها افتقادها للمنهج واعتمادها على التجربة وحدها ممّا جعلها تفقد الاتجاه للموقف الديمقراطي الثابت وقد عبّر عنه مستعملا نفس العبارة  حين قال : "لا شك في ان متغيرات موضوعية كثيرة قد أسهمت في تعدّد مواقف الثورة ، وتناقضها في بعض الاوقات ، من مشكلة الديمقراطية . ولكن هذا لا يحجب العامل "التجريى" ودوره الاساسي في ان الثورة قد افتقدت لفترة طويلة المنهج العلمي الذي كان قادرا ، لو توفر لها ، على ان يمكنها من السيطرة على تلك المتغيرات ودفع حركة التطور في اتجاه الموقف الذي تحدّده لها نظريتها في الديمقراطية " .. والثاني ، سبب لا يخلو من الطرافة في علاقته بهذا المعيار الذي نبحث عنه في أقوال عصمت سيف الدولة ، وقد ذكره في سياق الحديث عن الأخطاء تحت عنوان فرعي سمّاه "الخطأ الأساسي" ، ولكنه جاء هذه المرة  على لسان عبد الناصر عام 1962 في فقرة من خطابه وهو يواجه تلك الأخطاء بالمراجعات التي انبثقت منها كل التحولات الثورية ، التي وصفها عصمت سيف الدولة في الحوار المشار اليه مع جريدة القبس "بثورة عبد الناصر على ثورة يوليو" .. وقد قال نقلا لما جاء في تلك الفقرة : " قال عبد الناصر يوم 2 پوليو 1962‏ وهو يتحدث عن الفترة السابقة : ((ان الفكر الثوري في تلك الفترة ، وهو يتطلع الى الوحدة الوطنية ويدرك ضرورتها الحيوية داحل الوطن وفي مواجهة الظروف المحيطة به قد وقع في الخطاً حين توهم ان الطبقة المحتكرة التي كان لا بد ان تسلبها الثورة امتيازاتها الاستغلالية يمكن ان تقبل الوحدة الوطنية مع قوى الشعب صاحبة المصلحة في الثورة . ولقد كان من أثر ذلك ان محاولات التنظيم الشعبي التي جرت في ضباب هذا الوهم وما حدث داخلها من عوامل الصدام بین القوی الثورية بالطبيعة والقوى المضادة للثورة بالطبيعة ما أصابها بالشلل وأقعدها عن الحركة بل وکاد ان پنحرف بها في بعض الاحیان عن الاتجاه الثوري الاصيل ..)) " ..

ولعله من الطرافة أيضا أن نكتشف بأن ذلك الخطاب ليس هو الوحيد الذي وردت فيه تلك العبارة .. بل نجدها أيضا في فقرة من خطاب لعبد الناصر عام 1957 نقلها عصمت سيف الدولة وهو يتحدث في نفس المرجع وفي نفس السياق عن أخطاء التجربة ومحاولات عبد الناصر التصحيحية .. التي لم تتوقف منذ بداية الثورة وحتى وفاته .. وقد جاء في هذا الخطاب اشارة لمواقف "الاتجاه اليميني" و "الاتجاه اليساري" من الاصلاحات التي سعت الثورة لتحقيقها في مراحلها الأولى مع تحديد المضامين التي بُنيت عليها تلك المواقف حتى صارت مميزة على هذا الأساس الى اتجاهين متضادين قال عنها : " معركة الانتخابات ظهرت فيها بعض الاتجاهات . كلنا لا بد أن نعرف ما هي هذه الاتجاهات وما هي مصلحتها . ظهر اتجاه يميني يشكك في عملية التمصير وكان يقول اننا نحن المصريين لن نستطيع أن نقوم باقتصادنا بأنفسنا ولا نقدر أبداً أن نمشي في طريقنا إلا معتمدین عل الأجانب وأثبتث الأيام أن هذا الاتجاه خاطئ لاننا كمصريين عندنا القدرة أن نعمل أي شيء . استطعنا أن ندير قناة السويس ونسيّر فيها الملاحة ... واستطعنا أن ندير الاقتصاد والبنوك والشركات الممصّرة ، ولكن الفرق بين اليوم وبين ما مضى أن الأوامر في الماضي كانت تأتي من الخارج والیوم تسیر مع الثورة  .... طبعا الذين كانوا ينادون بهذه الاتجاهات اليمينية لعلهم كانوا يدافعون عن مصالحهم الشخصية لأنهم ‏ كانوا يستفيدون دائما من هذه المؤسسات . كانت هذه المۇسسات تعطيهم مكافات لأجل أن تكسب تأييدهم" .. كما انتقد الاتجاه اليساري المطالب بالمزيد من تحديد الملكية مبررا النهج الذي اعتمدته الثورة بهدف تحرير الفلاحين من سيطرة الاقطاع وليس القضاء على الملكية .. الخ ..

وبالرغم من ذلك ، وفي ظل ظروف تاريخية خارجة عن ارادة الثورة فانها – في نظر عصمت سيف الدولة - قد سعت منذ بدايتها لحل تلك المشكلة ، حين قال في نفس المرجع مستعملا نفس العبارة : "سخرت الثورة ، وعبد الناصر شخصياً ، كل الامكانات المتاحة بشرياً ومالياً وإعلامياً وثقافياً للإنجاح هيئة التحرير . ولقد كان الإصرار على إنجاحها قاطع الدلالة على ثبات عبد الناصر في الاتجاه الدمقراطي وان تحديد فترة الانتقال بثلاث سنوات كان يرجع إلى الاعتقاد بأنها مدة كافية لنجاح مشروع هيئة التحرير . ولقد حققت بقيامها أول نجاح جزئي هام . هام لأنه يتصل بالمبداً الدمقراطي ذاته إذ حسمت الشك في إتجاه الثورة ديمقراطياً بعد أن كان الاستبداد بالسلطة يثير الشلك وان كان لا يطفىء الأمل" ..

وقد تكرر أيضا استعمال هذا المعيار في نفس الموضوع المتعلق بالديمقراطية في كتابه "النظام النيابي ومشكلة الديمقراطية الصادر عام 1975 مرات عديدة وهو يشرح  التوجهات الفكرية والسياسية ذات العلاقة بالديمقراطية .. فالتوجه في الممارسة نحو الليبرالية هو "اتجاه ليبرالي" ، والتوجه نحو الاشتراكية هو "اتجاه اشتراكي" وكل تطوّر ملموس نحو تحقيق الديمقراطية سواء على المستوى الفكر أو على مستوى الممارسة في جوانبها الدستورية والتطبيقية هو "اتجاه ديقراطي" .. وقد جاء الاستعمال الأول لابراز كيفية تطوّر مسألة الديمقراطية في المجتمعات الليبرالية فكرا وممارسة قال فيها : " بالرغم من أن جان جاك روسو قال عام 1763 ، في كتابه " العقد الاجتماعي " (لو كان هناك شعب من الآلهة لحكم نفسه بطريقة ديمقراطية فهذا النوع من الحكم الذي بلغ حد الكمال لا يصلح للبشر) ، فإن الشعوب لم تكف عن محاولة الوصول إلى هذا الهدف المقدس . وهي تحقق في كل مكان ، وفي كل زمان خطوة ، مهما تكن صغيرة ، تقربها من هدفها .. قد تتعثر المسيرة أو تتوقف أو حتى ترتد في مكان محدّد أو في زمان معين ، ولكن الاتجاه العام لمسيرة الشعوب الديمقراطية في تقدّم مستمر " .. أما الاستعمال الثاني فكان خاصا بمصر حين كان يرصد بدايات التخلي عن التوجهات الليبرالية وظهور المضامين الاجتماعية والشعبية في التشريعات التي أصدرتها الثورة بداية من دستور 1956 وصولا الى دستور 1964 مستعملا هذا المعيار بعبارتيه حين قال : "إنه اتجاه عام لا يتفق مع النظام النيابى يسود دستور 1964 فى مقابل روح شعبية أخرى تسوده ، ليس تقرير ضمان نصف المقاعد فى مجلس الأمة للعمال والفلاحين إلا ترجمة دستورية لها" ..

وقبل هذا كله ، نجد في هذا الرد للدكتور عصمت سيف الدولة على أحد كتاب الشورى في جزئيّة دقيقة ومهمّة تتعلق بمحاولة تحديد اتجاه ثورة يوليو من ناحية الاعتماد على تقييم الأهداف التي قامت عليها قولا يؤكد نفس هذا الرأي .. ففي حين يعتبر الكاتب ان اتجاه الثورة تحدّد تدريجيا في ظل الممارسة فقط باعتبار ان أهدافها الستة لم تكن ممثلة لكل الأعضاء مجتمعين ، يرى الدكتور عكس ذلك باعتبار أن اجتماع الأهداف في حد ذاته أوجد اتجاها جديدا مختلفا عن اتجاهات الأعضاء قبل اجتماعهم في تنظيم الضباط الأحرار مهما كانت مواقعهم وانتماءاتهم السابقة ، وقد عبر عن هذا الرأي قائلا : "يقول الدكتور عبد الكريم أحمد في ختام مقاله "الثورة الناصرية : أثرها في الفكر السياسي المصري" : ان الاتجاه الحقيقي للثورة لم يكن محدّدا مسبقا بل انه تكوّن بعد ذلك من خلال الممارسة ، ونضيف : الا الاتجاه الذي يمثله ويعبّر عنه اجتماع المبادئ الستة التي كانت من قبل شعارات يرفع كل حزب ما يختار منها" ..

ثم قبل هذا أيضا (1966) ، نجد استعمالا لهذا المعيار في حديث للدكتور عصمت سيف الدولة عن المنطلق الإقليمي للوحدة في كتاب الطريق 1 ، حيث يتحجج بعض الإقليميين بضرورة توفر القوة الذاتية للدولة الإقليمية حتى تكون قادرة على تحقيق الاندماج والوحدة دون توجهات واضحة في ساساتها المعلنة لتحقيق تلك الغاية مما يجعل أثرها غائبا في الواقع قال فيه مستندا الى نفس المعيار : "مضمون القوة الذاتية لا يحتاج الى حديث طويل : تنمية اقتصادية سريعة لتعويض فترات التخلف تقوم على قاعدة صناعية واسعة لتحرير الاقتصاد من التبعية ثم توزيع عادل للإنتاج لتحرير الجماهير من الاستغلال . وبعد ذلك تتوافر الكفاية المادية والبشرية ، أي تتحقق القوة الذاتية . وهو هدف عظيم لا يماري فيه أحد ويستحق أن تُحشد الجهود من أجله . ولكن النمو الاقتصادي والاجتماعي ، النمو في القوة الذاتية لا حدود له ، وسيظل هدفا للنشاط الإنساني الى ما لا نهاية ، لهذا يكون من المهم معرفة اتجاهه عندما يبدأ في إقليم ومدى التقاء هذا الاتجاه بالوحدة العربية . ان أحدا لا ينكر أن القوة الذاتية شرط أولي لتحقيق غاياتنا العظيمة ، فهل تحقيق الوحدة أحد هذه الغايات العظيمة ؟ كيف تحقق القوة الذاتية في الإقليم الوحدة العربية ؟ ان الإقليميين لا يجيبون عن هذه الأسئلة "..

وفي النهاية ، تجدر الإشارة الى الأهمية التي يتميز بها هذا المعيار من حيث الموضوعية والمنهجية ، اذ لو لم يكن الأمر على هذه الدرجة من الأهمية لما كان الدكتور عصمت سيف الدولة يصر على تكرار استعماله في الحكم على المواقف السياسية في اكثر من مناسبة . ومنها أننا نجده يكرر هذا الاستعمال أيضا بعد سنوات أخرى ، في مقال بعنوان "شرخ في جدار النظام" منشور بجريدة الشعب يوم 5 افريل 1988 ، يذكّر فيه بما ورد في كتاب الأحزاب ومشكلة الديمقراطية (1977) ، مؤكدا على ازدياد الفجوة (من خلال رصد الاتجاه) الى حد التصدع في العلاقة بين الاتجاه العملي للسياسات الاقتصادية في مصر والدستور  مجدّدا استعمال عبارة "الشرخ" الذي أصبح أكثر اتساعا من خلال الإصرار على السير في نفس الاتجاه "الانفتاحي" دون اعتبار للقيود الدستورية ، وقد وصلت جرأة "الانفتاحيين" كما سماهم الدكتور ، الى الخروج العلني عن فصول الدستور مؤكدا من جديد على النهج الانقلابي الذي تحدث عنه قبل عشر سنوات منذ عهد السادات .. وقد جاء في المقال هذه الإشارة الى نفس الفكرة في سياق الحديث عن التراكمات الانقلابية : " لسنا نريد أن ندخل طرفا في الحوار أو في الصراع حول القطاع العام الدائر داخل الحكومة وحزبها . ولكنا نريد أن نشير لكل من يهمه مصير هذا البلد مصر الى أن ثمة شرخا في جدار النظام ذاته بدأ منذ 1974 ولا يزال يتسع ويمتد حتى أدرك الحكومة ذاتها ، وأصبح يهدد بانهيار النظام كله . هذا الشرخ فاصل فالق بين شرعية النظام وممارساته . بدأ بما أسمي الانفتاح كممارسة واقعية وبين الدستور كمصدر وإطار للشرعية .. هذا الشرخ الخطير هو بؤرة الخلل الذي لا يزال يهز استقرار النظام الشرعي في مصر وينعكس اضطرابا في سياساتها الدولية والعربية والداخلية على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ثم امتد أخيرا الى الحكومة وحزبها فتقطعت علاقات التفاهم بين العاملين فيها . ولن تتوقف الا بتصفية الانقلاب .

في أوائل عام 1977 قلنا في كتاب منشور تحت عنوان "الأحزاب ومشكلة الديمقراطية في مصر" - وكان الشرخ في بدايته - " أنه يمثل انقلابا ضد الاشتراكية والديمقراطية الشرعية يحدث في الواقع العملي خطوة خطوة ، وأن دورهم - الانقلابيون - هو التغطية على هذا الانقلاب وشد انتباه الشعب الى قضايا جانبية أو فرعية أو تاريخية حتى لا يشعر بصدمة الانقلاب ...

الانقلاب وصل الان الى ذروته ، ولم تكن معركة "سان استيفانو" الأخيرة الا معركة اختبار انهزم فيها الانقلابيون .. ولكنهم لن يكفوا نهائيا الا اذا انهزموا نهائيا . وغدا أو بعد غد سيعرف جميع الأطراف أن النظام الشرعي في مصر كان مهددا منذ 1974 بالتصدع والانهيار .." (و"سان استيفانو" هو نزل ضخم أراد بعض الرأسماليين تصفيته وبيعه للقطاع الخاص) ... 

ومثل هذا التذكير والتأكيد على قيمة هذا المعيار وأهميته - كمنهجية ثابتة - لدى الدكتور عصمت سيف الدولة في فهم الظواهر الاجتماعية نجده في توضيح وارد على لسانه في مناسبة أخرى (27 سبتمبر 1987) في حوار مع جريدة القبس حول موضوع ثورة يوليو يربط فيه "مفهوم الاتجاه العام" بـ "حركة التطور الاجتماعي" حين قال فيه : "في البداية أقول أن تاريخ الشعوب والأمم متصل ، ومستمر ، وبالتالي التقسيم الذي أضعه لهذه المرحلة التاريخية المهمة في تاريخ الشعب المصري ، هو محاولة تمييز المراحل طبقا لمعايير عامة ، وليست النظرة العادية للحياة ، وأنا معني جدا بالاتجاه ، اتجاه حركة التطوّر الاجتماعي ففي مجتمع معين قد تتميز مراحله ، وان كانت حتى التفاصيل التطبيقية متشابهة في مراحل كثيرة .

فلو أخذنا من عام 1952 ، نجد أن الثورة ، ثورة 23 يوليو :

( - من حيث القوى ، تشكيل الضباط الأحرار ..

- ومن حيث الاستيلاء على السلطة وإسقاط الدستور ، الاستعانة بالقوات المسلحة ..

- من حيث الاتجاه في العلاقات الخارجية ، فالاتجاه بقوة نحو التحرر من الاستعمار ..

- ومن حيث النظرة لمسؤولية الدولة بالنسبة للحالة الاقتصادية ، المحاولة المكثفة للتنمية والخروج من التخلف ..

- من حيث الإدارة والأسلوب ، إبعاد التشكيلات الليبرالية من أحزاب وغيرها من إمكانية لعب دور في المشاركة في اتخاذ القرار ، توحيد الشعب في منظمة واحدة أخذت اسم هيئة التحرير ثم الاتحاد القومي) ..

كان اتجاها يتميز أساسا بأنه تحرري عن طريق ثوري ، ذي اهتمام بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية ، مضاد تماما للاتجاه الليبرالي الملكي الذي كان سائدا قبل 1952 " ..

ثم بعد الحديث مطوّلا عمّا يسميه "مرحلة الثورة" بكل المشاكل التي واجهتها في اتجاه التنمية على الطريق الرأسمالي الذي شهد نكوص القطاع الخاص عن الوفاء بدوره الوطني المطلوب ، يتحول في الحديث عن المرحلة الحاسمة التي يسمّيها ب"مرحلة عبد الناصر" وهي المرحلة التي شهدت كل التحولات الجذرية في الاتجاه العام لسياسة الدولة فيقول : "هذه المرحلة كلها هي مرحلة عبد الناصر ، صاغ مبادئها وأفكارها كلها كما جاءت في الميثاق في 1962 ، والذي بدأ به يحكم كل أجهزة الدولة ، ثم بدأ تنفيذ الخطة من تمويل الأموال المؤممة ، وبدأ الحديث عن التحول الاشتراكي .

لقد تغير الاتجاه العام في المجتمع من محاولة السير نحو التنمية على الطريق الليبرالي سياسيا ، الرأسمالي اقتصاديا ، الى الاتجاه الى التنمية على طريق الاشتراكية اقتصاديا ، والاشتراكية ديمقراطيا"..

بناء على ما تقدّم ، واذا أخذنا بهذا المعيار الذي ينطلق في الحكم على المواقف من الاتجاه العام (مواقف في حالة حركة) ، وهو - كما رأينا - معيار ثابت عند الدكتور عصمت سيف الدولة استعمله في كل مجال .. حتى المقاومة في محاضرته الشهيرة قسمها اتجاهات : "اتجاه إقليمي عربي" يمثل الدول ، "اتجاه إقليمي فلسطيني" ، و"اتجاه قومي غير متبلور نهائيا وغير مفرز" ، وتشترك جميعها من خلال هذا الاداء المقاوم لمحو آثار العدوان في "الاتجاه التحرري" في تلك المرحلة حتى وهي مختلفة في المضامين الأخرى الاجتماعية وغيرها .. وانقلاب السادات على مبادئ الثورة هو "ارتداد عن الاتجاه القومي التقدمي لثورة يوليو الناصرية" ... وتوجّهات عبد الناصر القومية ذات "اتجاه تقدمي ثابت انقطع فجاة بوفاته المفاجئة "(عن النصريين و اليهم) .. "والمنجزات التحرّرية والوحدوية شكلت الاتجاه العام لفترة قيادة عبد الناصر" (الناصرية كيف ) .. وحتى "الناصريين" الذين اختلفوا وتشرذموا حول مفهوم "الناصرية" في مصر لأكثر من عقدين بعد وفاة عبد الناصر كما قال في نفس المرجع : "ما كان كل أولئك في حاجة إلى "ناصرية" لو أن الحياة في الوطن العربي قد أطردت تقدماً في الاتجاه الذي سار فيه عبد الناصر . ما كان أولئك في حاجة إلى "ناصرية" لو أنهم التفوا بعد وفاة عبد الناصر بمزيد من الحرية . بمزيد من الاشتراكية . بمزيد من التقدم نحو الوحدة " .. بينما "الناصرية" كهوية نضالية "فلتكن إذن "ناصرية" ولو تعبيراً عن حقيقة ان أسسها الأولى قد جاءت في الميثاق الذي صاغه عبد الناصر وان اتجاهها هو ذات اتجاه مرحلة عبد الناصر" (عن الناصريين واليهم)  .. أما تعدّد الطرق الى الوحدة فهي " أمثلة لكشف اتجاه يدعو الى الوحدة ولا يعرف الطريق إليها " (كتاب الطريق) .. وهكذا فان للحكام أو للأنظمة اتجاهات عامة قد تجعل المواقف منها وأسلوب التعامل معها يختلف باختلاف الاتجاه المسيطر على سياساتها في مرحلة من المراحل (دعم المقاومة مثلا والتصدي للتطبيع مع العدو ، أو مقاومة الفساد في الداخل والدفاع عن استقلالية القرار الوطني وعدم الخضوع للاملاءات الخارجية ..) ، وللأحزاب اتجاهات عامة فكرية وحركية تجعل التعامل معها يخضع للتنسيب بحسب المصلحة الوطنية والقومية في كل مرحلة وهذا بشكل عام ، أما في موضوعنا ، فانه لا يصح الحكم بالتجريم أو الاتهام بالتحريف أو بالانتهازية او بالخيانة من خلال مواقف جزئية متغيّرة .. بل - كما جاء في توضيح عصمت سيف الدولة - من خلال الاتجاه العام الذي تتنزل فيه المواقف الجزئية (التكتيكية) ومدى تأثيرها على ثوابت الموقف المبدئي (الاستراتيجي) .. وهكذا يكون الحكم ... بمعنى هل الموقف من الأحداث المتغيرة يحافظ على الاتجاه نحو الهدف الاستراتيجي ، أم يبتعد عنه في الاتجاه فيناقضه أو ينقضه بالتراكم ومرور الوقت ؟ ... وهذه الفكرة نجدها واضحة في مقال للدكتور عصمت سيف الدولة بعنوان "حرية الإرادة الوطنية بين الشكل والمضمون" المنشور في جريدة السفير بتاريخ 4 / 8 / 1975 ، يتخذ فيها "الإستراتيجية" كمعيار ومحك لاختبار سلامة التكتيك المرحلي وهو يتحدث عما أسماه أسلوب "التحكم غير المباشر" الذي يتبعه الأعداء من خلال التخطيط بعيد المدى والمناورة المدروسة لجعل أي قيادة وطنية - وهي تتصرف بكامل إرادتها الحرة - تتخذ مواقف تتفق مع ما يخطط له أعداء المصلحة الوطنية حينما تبالغ القيادة في التركيز على الجزئيات المتعلقة بموضوع الصراع متجاهلة أهدافه الإستراتيجية ، وقد جاء في المقال تأكيد على أهمية هذا المعيار في إفشال تلك المخططات حين يقع استغلال : " نقطة الضعف في أسلوب التحكم غير المباشر .. ونقطة ضعفه أنه يدفع بنا الى مواقف إستراتيجية غير معلنة من خلال ثغرات تكتيكية ، جزئية او مرحلية . يضع أمامنا في كل جزئية أو في كل مرحلة أهدافا مغرية لنختارها ثم ينتقل بنا الى أهداف أخرى .. وهكذا في سلسلة من الجزئيات نجد أنفسنا بعدها وقد أصبحنا أمام أمر واقع ولا بد لنا من أن نقبله بعد أن قطعنا كل تلك المراحل إليه ونحن في كامل قوانا العقلية وبملء إرادتنا . ان الاستغراق في التكتيك وفرحة تحقيق الانتصارات الشكلية أو الجزئية يرشحان أحسن الناس نية ليكون ضحية سهلة للتحكم المباشر في حركته ، وبالتالي فان وسيلة الإفلات من هذا الشرك هو الأهداف الإستراتيجية في كل مرحلة . واتخاذها مقياسا حاضرا في كل حين لقياس مدى سلامة أية خطوة . التركيز – مثلا – على هدف استرداد أرض فلسطين المحتلة منذ 1948 . سيضرب كل خطط التحكم غير المباشر التي تحاول الولايات المتحدة الامريكية أن تصل بنا من خلالها الى الاعتراف بإسرائيل " ..

وفي هذا أيضا نجد توضيحا وافيا من الواقع للدكتور عصمت سيف الدولة نأخذه من مرجعين ..

الأول من كتاب حوار مع الشباب العربي في رد على أحد كتاب الشورى في مسألة التداخل بين المهمات النضالية القومية والقطرية جاء فيه : "قلت أن العمل الثوري العربي هو التطبيق القومي على المستوى القطري في كل ما تطرحه الثورة العربية من قضايا على مستوى قطري والنضال في نفس الوقت من أجل انجاز مهام الثورة العربية في كل ما تطرحه على مستوى قومي .. إننا نستطيع أن نقبل منك هذا القول على أساس تكتيكي ، بمعنى أنه في نطاق إستراتيجية الثورة العربية التي تستهدف إقامة دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية يتعين على قوى الثورة العربية أن تضع طاقتها القومية في خدمة القضايا القطرية والمرحلية للجماهير العربية . نقبله لأن أحدا لا يتوهم أن الحياة ستتوقف الى أن تتم الوحدة . ونقبله لأن كل مشكلة يعانيها الشعب العربي في أي مكان هي مشكلة قومية عند القوميين بالرغم من الحصار القطري . ونقبله لأن قوى الثورة العربية القومية تعتبر نفسها مسؤولة عن قضايا الشعب العربي في أي قطر . ولا نقبل ولا يمكن أن نقبل الحدود الإقليمية حائلا بينها وبين جماهير أمتها العربية" ..

والثاني من دراسة للدكتور عصمت سيف الدولة بعنوان "هذه الدعوة للاعتراف المستحيل" يشرح فيها التداخل بين المواقف الإستراتيجية والمواقف التكتيكية فيما يتعلق بموضوع الاعتراف بإسرائيل باعتبار طول المراحل النضالية وظروف المقاومة من جهة ، وعلاقة كل هذا بالنواحي المبدئية من جهة ثانية ، وهو ما يحدده فعلا منذ بداية النقاش في الفرضيات المطروحة ، فيقول : " ليس لهذه الكلمات المهيبة :  المبدأ والاستراتيجية والتكتيك أي معنى إلا إذا كانت منسوبة الى واقع معين" .. وبعد التقدم خطوات في تحديد منهجية الحكم على المواقف يحسم الموقف نهائيا بميزان واضح للتحكيم وهو المبدأ ، فيقول : "نريد أن نقول بأكبر قدر من الوضوح أن معرفة ما اذا كان الاعتراف بإسرائيل خطوة تكتيكية لا تضر بالهدف الاستراتيجي لمنظمة التحرير الفلسطينية لا يمكن أن تتم الا في نطاق مبدأ ، أو نظرية ، أن أرض فلسطين من حق الشعب العربي" .. وهكذا يمكن أن تختلف المواقف باختلاف الظروف بشرط عدم الإخلال بميزان الحكم (المبدأ) ، بحيث تكون المواقف مقبولة تبعا للهدف المحدد لكل صاحب موقف من موقفه .. فيسأل ثم يجيب : " لماذا نقول هذا ونركز عليه ؟ لأن مع تراكم المتغيرات التي تحولت الى واقع خلال الصراع العربي الصهيوني تحولت كثيرا من الأهداف التكتيكية بالنسبة الى هدف تحرير فلسطين الى أهداف إستراتيجية بالنسبة الى أصحابها . تحرير جنوب لبنان مثلا هدف استراتيجي بالنسبة الى الكتائبيين وهو هدف تكتيكي بالنسبة الى تحرير فلسطين ، تحرير المرتفعات السورية وسيناء هدفان استراتيجيان بالنسبة الى الإقليميين السوريين والمصريين وهدفان تكتيكيان بالنسبة الى هدف تحرير فلسطين . كذلك استرداد غزة والضفة الغربية هدف استراتيجي بالنسبة الى الإقليميين الأردنيين ولكنه هدف تكتيكي بالنسبة الى هدف استرداد فلسطين للشعب العربي الذي قامت الثورة الفلسطينية من أجله ... ولعله مما يوضح هذا الموقف "حركة تحرير فلسطين" (فتح) التي تعتبر القوة القائدة الرئيسية في منظمة التحرير الفلسطينية عسكريا وسياسيا ، هذه المنظمة أنشئت ثم بدأت نشاطها الثوري في أول يناير 1965 . في ذلك الوقت لم يكن قد تم احتلال جنوب لبنان أو المرتفعات السورية أو الضفة الغربية أو غزة أو سيناء . نشأت وبدأت الثورة من أجل هدف استراتيجي محدد : استرداد أرض فلسطين التي اغتصبت عام 1948 . على مدى الصراع وساحته تراجعت قواتها الرئيسية ومركز قيادتها من الضفة وغزة الى الأردن بعد 1967 ثم من الأردن الى لبنان بعد 1970 ، من لبنان الى حيث هي الآن  عام 1982 ، كل هذه التراجعات بالنسبة الى هدفها الاستراتيجي تراجعات تكتيكية لأنه لم يحدث أبدا أن استردت فلسطين المحتلة عام 1948 ثم عادت فسلمتها الى الصهاينة ليعيدوا بناء دولة إسرائيل عليها .. كما لم يحدث أن كفت عن النضال منتصرة أو منهزمة متقدمة أو متراجعة من 1965 . وينطبق هذا بشكل عام على منظمة التحرير الفلسطينية ، كان ، وما يزال هدفها الاستراتيجي استرداد كامل أرض فلسطين" ..

وهذه المنهجية نجدها حاضرة أيضا عند الدكتور عصمت سيف الدولة في فهم وتحليل الواقع كأسلوب علمي يتبعه في تحديد المواقف بناء على جدلية العلاقة بين الثابت (المبدأ والإستراتيجية) والمتحرك (التكتيك).. ففي مقال له حول الدولة الفلسطينية المرتقبة بجريدة القبس بتاريخ 30 – 10 – 1988 نجده يكرّر نفس الفكرة في هذا الجانب موضحا العلاقة بين المبدأ والإستراتيجية والتكتيك المرحلي حين قال : "سنحاول بقدر ما نستطيع أن نجعل حديثنا موضوعيا وذلك بأن نرد الفروع الى أصولها ، ونحتكم في أمر المواقف المرحلية والتكتيكية الى الهدف الاستراتيجي ، ونتخذ من المبدأ الذي يحكم الصراع العربي – الصهيوني معيارا لتحديد هذا الموقف . ثم أن نحدّد دلالات الألفاظ "المتشابهة" لنتجنّب مخاطر التأويل المنحرف " .. ثم يمضي بإسهاب في تفكيك ملابسات الموقف الخاص بتلك المسألة على قاعدة تلك المحدّدات الأولية ..

هل هذا هو كل شيء ؟

أبدا . وانه من التعقيد والتسلسل بمكان ، ما لا يمكن معه اقتطاع ما ورد في المقال الأول من الفرضيات .. فلنصبر على الإطالة ، ولنتابع التحليل الى الآخر لإعطاء الفكرة ما تستحق من متابعة لفهم تلك العلاقة بين العناصر الثلاث من خلال الوقائع الخاصة بالدعوة الى الاعتراف بالعدو ، فيقول : "... والمفروض ، ولو من قبيل الأمانة مع النفس أن الذين يوجهون الى منظمة التحرير الفلسطينية الدعوة الى الاعتراف بإسرائيل "معتقدين" أن الاعتراف خطوة تكتيكية لا تضر بالهدف الاستراتيجي أن يكون اعتقادهم هذا (صح أو لم يصح) قائما على نسبة الاعتراف الى الهدف الاستراتيجي لمنظمة التحرير الفلسطينية ، أي استرداده كامل أرض فلسطين من قبضة الصهيونية الغاصبة . أما إذا كانوا يدعونها الى الاعتراف كخطوة تكتيكية الى ما دون هذا من أهداف تعتبر بالنسبة إليهم إستراتيجية مثل الجلاء عن جنوب لبنان ، أو تحرير المرتفعات السورية ، أو تحرير الضفة الغربية وغزة أو ما هو دون ذلك من أهداف يعتبرونها هم أهدافا تكتيكية حتى بالنسبة  الى أهدافهم الإستراتيجية ، مثل كسب الرأي العام العالمي ، أو وضع العالم أمام مسؤولياته ، أو الحوار مع أمريكا ، أو السلام في الشرق الأوسط .. الخ ، فليس مطلوبا منهم إلا "الاعتراف" بأنهم يريدون لمنظمة التحرير الفلسطينية أن تعقد صفقة تبيع فيها هدفها الاستراتيجي في مقابل هدف تكتيكي بالنسبة إليها حتى ولو كان هدفا استراتيجيا بالنسبة الى أصحاب الدعوة . أو ما هو أدهى من هذا ، أن تبيع هدفها الاستراتيجي مقابل هدف تكتيكي بالنسبة إليهم .

إذا لم يعترفوا بهذا فإنها "جريمة احتيال" بالغة الغباء ، إذ الأغبياء وحدهم هم الذين يتصورون أن شعبا له مثل وعي وخبرة وقيادة الشعب العربي الفلسطيني سيبيع جزءا من وطنه مقابل جزء منه ، أو مقابل ـ وهذا هو الاحتيال ـ أن يحققوا أهدافهم الخاصة . 

بعد استبعاد "المحتالين" من دائرة الحوار لا نستبعد أن يكون من أصحاب دعوة منظمة التحرير الفلسطينية من ضللته الكلمات فاعتقد صادقا مع نفسه أن اعتراف المنظمة بإسرائيل لا يضر بهدفها الاستراتيجي . هؤلاء وحدهم هم الذين قد يكونوا من حقهم دعوة منظمة التحرير الفلسطينية الى الاعتراف بإسرائيل ، ويستحقون الحوار معهم حول ما يعتقدونه من أن هذا الاعتراف لا يضر بالهدف الاستراتيجي . مصدر استحقاقهم أنهم ينطلقون من مبدأ أن أرض فلسطين لشعبها العربي وأن الهدف الاستراتيجي هو استردادها كاملة للشعب العربي .

إلى هؤلاء نقول : عندما يتحدد استرداد كامل التراب العربي في فلسطين هدفا استراتيجيا يجب أن تسقط المثالية الفاشلة التي توهم ذاتها بأن ما تريد أن تحققه في الواقع سيتحقق لمجرد إنها تريد أن تحققه . فهنا ، بعد تحديد الهدف الاستراتيجي ، يأتي دور المواقف والخطوات والمراحل التكتيكية ، وليس للمواقف أو الخطوات أو المراحل التكتيكية صيغة معينة سلفا ، أو مضمون محدد من قبل ، تلتزم به الحركة النضالية مقدما وهي في طريقها الى هدفها الاستراتيجي ، التقدم قد يساوي التوقف قد يساوي التراجع قد يساوي الالتفاف في مدى ضرورته لتحقيق الهدف الاستراتيجي الكلمة قد تساوي البندقية ، والمعارك السياسية قد تكون أكثر لزوما من المعارك العسكرية في سباق النضال من أجل تحقيق الهدف الاستراتيجي ، نعني أنه لا يمكن حصر المواقف والخطوات والمراحل التكتيكية التي تترجم الخطوط الإستراتيجية" .. ومن المهم بعد هذا أن ننتبه - أولا - الى إشارة للدكتور عصمت سيف الدولة الى ما يميز المبدأ والأهداف الإستراتيجية من خاصيات فكرية وحركية مؤثرة في اختيار الأسلحة الملائمة لمواجهة الأعداء حينما تتنزل تلك الأهداف في الواقع وتتحول الى مهمات تكتيكية ، فيواصل مسترسلا : ".. تلك الخطوط التي تربط بين "المبدأ" وبين "الهدف الاستراتيجي" .. ذلك لأنه على المستوى التكتيكي تدور المعارك الفعلية ، الفكرية والحركية ، السلمية والعنيفة ، السياسية والثورية ، المحلية والدولية ، ويلتحم المتصارعون ويتعدد الأطراف بحيث لا يستطيع أي طرف أن ينفرد باتخاذ موقف أو خطوة تكتيكية غير متأثر بالموقف أو المواقف التكتيكية المضادة أو حتى الحليفة ، ولا أن يستعمل سلاحا فكريا أو دعائيا أو سياسيا أو قتاليا بعيد عن قياس مضائه الى مضاء الأسلحة التي يواجهها " .. وأن ننتبه - ثانيا - الى علاقة التكتيك بالمبدأ رغم مرونته في الواقع وهذا أمر مفهوم على أساس أن التكتيك هو مجرد خطة إستراتيجية مرنة قصيرة المدى ، حيث العبرة في النهاية بالنجاح الاستراتيجي الذي يتطلب نجاحات تكتيكية متراكمة ، وفي هذا شرح وتفصيل مدعوم بأمثلة من واقعنا ومن واقع الشعوب الأخرى جاء فيه : "باختصار يمثل المستوى التكتيكي المبدأ المرن للمناورة وفيه تتجلى كفاءة المناضلين والقادة ، لا في القتال فقط ، ولكن أيضا في المهارة في مواجهة المواقف الطارئة ، والأفخاخ المنصوبة ، والخدع المموهة ثم الملائمة بين تحركاتهم وتحركات  القوى المضادة ، وتتوقف تلك المهارة الى حد كبير على الإدراك الثابت بأن الهزيمة أو النصر لا يتم قط ، ولم يتم قط على مدى تاريخ الشعوب ، في معركة تكتيكية أو مرحلية . إنما تتم هزيمة طرف حين يتنازل عن هدفه الاستراتيجي أي يستسلم .

وفى تاريخ فلسطين بالذات دليل على ما نقول . فمن قبل هزمت ثورة 1920 و1921 و 1935 و1939 ، وفى 1948 و1967 تخلى الكثيرون من الشعب العربي في فلسطين عن الأرض وغادروها منهزمين ولكنهم لم يلبثوا أن تحولوا خارج الأرض الى منظمات مقاتلة بدأت آخر ثوراتها من اجل تحقيق الهدف الاستراتيجي فثبت أن كل الهزائم السابقة كانت هزائم تكتيكية لم تحل دون العودة الى النضال من جديد .

وفي تاريخ الصراع العربي الصهيوني أدلة كثيرة . لقد هزمت الدول العربية عام 1948 وعام 1956 وعام 1967 . وهزم الصهاينة عسكريا عام 1973 . وكانت كلها معارك تكتيكية . كانت كل معركة تؤكد السمة التكتيكية للهزيمة في المعركة التي قبلها الى أن أعلنت حكومة مصر العربية أن معركة 1973 هي آخر الحروب ، وكان لا بد لها وقد تنازلت عن خيار الحرب أن تقبل ما تقدم لها بشروطه . فكانت اتفاقية 26 مارس 1979 هزيمة للسادات وحكومته لم يقبلها الشعب العربي في مصر قط .

وفى تاريخ الصراع العالمي . تخلى الروس عن الأرض وحرقوها ودمروها متراجعين أمام نابليون وأمام هتلر ، وتراجعت قوى الحلفاء حتى انحصرت في الجزيرة البريطانية ، وكانت كلها هزائم وتراجعات ومعارك تكتيكية لم تؤثر في انتصار الهدف الاستراتيجي ، لروسيا ضد نابليون وللحلفاء ضد النازية .

إذن .. فلا حصر لما تستطيع أن تتخذه منظمة التحرير الفلسطينية من مواقف أو خطوات في سبيل الحفاظ أو الاقتراب أو تحقيق هدفها الاستراتيجي ، بل إنها تستطيع أن تتوقف عن النضال أو تحل نفسها معلنة انتهاء تمثيلها للشعب العربي الفلسطيني وعجزها عن الاستمرار في الكفاح من أجل تحقيق الهدف الاستراتيجي تاركة له حرية اختيار من يمثلوه أو يقودوه في مسيرته المناضلة الى أرضه وسيكون من السهل اعتبار كل هذا خطوات تكتيكية …

إلا الاعتراف بإسرائيل ، اعترافا صريحا أو ضمنيا ، يستحيل أن يكون خطوة تكتيكية .

لماذا ؟

لأن الاعتراف بإسرائيل هو إقرار ملزم بأن دولة إسرائيل بكل عناصرها (الشعب والأرض والسيادة) دولة مشروعة . وعلى وجه خاص إقرار ملزم للمعترف بأن أرض فلسطين من حق الشعب اليهودي . الاعتراف هنا ليس إقرارا بالهزيمة على مستوى تكتيكي ، ولا هو إقرار بالهزيمة على مستوى استراتيجي ، لا .. ولا هو اعتراف بالأمر الواقع ، بل هو حسم للصراع مع الصهيونية على مستوى المبدأ ذاته .

وأن إدراك هذا لعلى أكبر قدر من الأهمية ، ذلك لأن الاعتراف بأن إسرائيل الصهيونية المدعمة بالولايات المتحدة الأمريكية غير قابلة للهزيمة الى الحد الذي يمكن فيه تصفيتها كدولة واسترداد أرض فلسطين للشعب العربي في هذه المرحلة التاريخية ، أي الاعتراف بالأمر الواقع ، والكف عن محاولة تحرير فلسطين ، يعتبر تخليا عن الهدف الاستراتيجي . ولكنه لا يحول دون العودة الى محاولة تحقيقه في مرحلة تاريخية أخرى تكون الظروف فيها مواتيه أو مشجعة ، مثال هذا اتفاقيات الهدنة التي أبرمت في رودس عام 1948 . 

أما الاعتراف بدولة إسرائيل فهو إقرار ملزم " بالمبدأ " الصهيوني الذي وضعت على أساسه الإستراتيجية الصهيونية منذ قرن والذي ينفذه الصهاينة على مراحل تكتيكية . هذا المبدأ الذي تقوم على أساسه دولة الصهاينة كدستور وتستغني به عن أي دستور هو : أن فلسطين هي أرض إسرائيل . فلا شبيه في أن الاعتراف بدولة إسرائيل هو اعتراف بأن فلسطين هي أرض إسرائيل لا حيلة لأحد في هذا ، ولا يجدي أحدا أن يحاول المقارنة أو القياس في أي حالة اعتراف يعرفها لأنه لا توجد في العالم المعاصر حالة اغتصاب مشابهة لاغتصاب الأرض العربية . لا يوجد صراع ضد استعمار استيطاني إلا في فلسطين ، فلا يجوز القياس في شأن الاعتراف بإسرائيل على الاعتراف بأية دولة أخرى .

في جملة واحدة أن الاعتراف بدولة إسرائيل هو اعتراف بشرعية " الصهيونية " فهو موقف صهيوني فإذا تذكرنا أن الصهيونية ليست هي اليهودية بل هي الحركة السياسية التي تلتزم بالمبدأ الذي يقول بأن للشعب اليهودي حقا تاريخيا مشروعا في أرض فلسطين ، وأن بعض اليهود لا يدينون بهذا المبدأ فهم ليسوا صهاينة ولو كانوا يهودا ، وأن من غير اليهود كثيرين يقرون هذا المبدأ فهم صهاينة ولم يكونوا يهودا ، ندرك بوضوح ، ونتمنى أن يدرك أصحاب الدعوة الى الاعتراف بإسرائيل بأن اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل اعترافا صريحا أو اعترافا ضمنيا يحوّلها فورا من منظمة تحرير فلسطينية الى منظمة يهودية ، إذ بمجرد أن يصدر هذا الاعتراف ، صريحا أو ضمنيا تصبح منظمة التحرير الفلسطينية مسلمة بأن أرض فلسطين المقامة عليها دولة إسرائيل هي ملك للشعب اليهودي . هي أرض إسرائيل " .. وفي نهاية هذا العرض نتوقف على ملاحظة مهمة تتعلق ببيان علاقة التأثير والتأثر بين الإستراتيجية والتكتيك عند الدكتور عصمت سيف الدولة في حالة الهزيمة .. بحيث تكون الهزيمة إستراتيجية إذا كانت مسببة لضرر ينهي إمكانية تحقيق الهدف الاستراتيجي ويمنع أي خطوة للقيام من جديد بتكتيك أو بمناورة جديدة ، محققا نصرا تكتيكيا للعدو على طريق استكمال تحقيق هدفه الاستراتيجي "أرض إسرائيل من الفرات الى النيل" .. وهذا ما جاء التنبيه اليه في هذه الفقرة الأخيرة : "فهل يمكن أن يعتبر هذا الاعتراف " خطوة تكتيكية " لا تضر بهدف التحرير الاستراتيجي ؟ لا نعتقد هذا إذ ليس بعد الاعتراف تكتيك آخر . ولكنه يمكن أن يعتبر خطوة تكتيكية بالنسبة الى الهدف الاستراتيجي الصهيوني . ذلك لأن أرض اسرائيل ، ولينتبه جيدا الذين يلعبون بنار الاعتراف الآن ، التي يعتبر استردادها للشعب اليهودي هدفا استراتيجيا للحركة الصهيونية أوسع بكثير من فلسطين . من الفرات الى النيل كما يقولون هم وكما نعلم نحن . وبمجرد أن تكسب الصهيونية المعركة المبدئية ضد العرب ، بمجرد أن يقر لها بمبدأ الحق التاريخي في أرض فلسطين ستنتقل الصهيونية ، مدعمة بهذا الاعتراف ، الى ميدان المعارك من أجل إكمال استرداد أرض اسرائيل حتى لا يبقى الحق المعترف به منقوصا …

هذا مثال من الأمثلة العديدة ، المتشعبة والمعقدة في الواقع العربي .. ذكرناه من مصدره كما ورد بكل تفاصيل لكي يفهم من له مصلحة فعلية في تحقيق الفرز الحقيقي المطلوب ، بان مسألة الحكم على المواقف ليست فهلوة أو فذلكة فكرية ولا هي مسألة إبداع في مجال الخيال الاستراتيجي ، بل هي أولا وقبل كل شيء ، مسألة مبدأ متصل ببناء مشروع خطير يتوقف عليه مستقبل الأمة العربية وجودا أو عدما ، لا بد أن يكون خاضعا لمنهجية واضحة وأسلوب علمي دقيق بعيد عن التسرع والمناكفات والاتهامات والتشهير والتخوين .. فضلا عن كون هذه الأساليب مرفوضة من حيث المبدأ ، ومن حيث الأخلاق التي يتميز بها الطليعيون العرب في تعاملهم مع عامة الناس ، ومن باب أولى مع الذين يشاركونهم في المبدأ ، وخاصة حين تكون تلك الأحكام غير موضوعية ودون حجة يقينية أو تتعلق بالنوايا ، أو حينما تتعلق بالحكم على مواقف ظرفية متغيرة غير مؤثرة على الأهداف الإستراتيجية .. وسنعود الى مواقف كثيرة منها للدكتور في حديث خاص عن "السفود" ..

(القدس - م .ع / فيفري 2018). 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق