القدس عنوانها وفلسطين بوصلتها

القدس عنوانها وفلسطين بوصلتها
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجزء الحادي عشر

روابط الأجزاء :

تـقديــــم / الجـــزء 1 / الجـــزء 2 

الجــزء 3 / الجــزء 4 / الجــزء 5  

الجــزء 6 / الجــزء 7 / الجــزء 8 

الجـزء 9 / الجـزء 10 / الجزء 11 

الجـزء 12 /الجزء 13 الجزء 14

الجـزء 15 / الجزء 16 الجزء 17

الجزء 18 / الخاتمة / المحتوى كامل  

فرز واحد ... أم فرز متعدّد ... ؟

دراسة في أقوال ومواقف الدكتور عصمت سيف الدولة .

-11-

نصل الان في ما يهمنا من هذا التصنيف للمواقف ، الى موقفين أساسيين يخصان القوى القومية وهما : الموقف القومي (موقف القوى القومية ) ، والموقف من وجهة نظر قومية (الموقف القومي كما يجب أن يكون) .. والفكرة كلها من المحاضرة المعروفة بعنوان "المقاومة من وجهة نظر قومية " .. وقد جاء تعريف الموقفين في المرجع المذكور كما يلي : " المقاومة من وجهة نظر قومية تعني المقاومة كما يجب ان تكون . اما الموقف القومي من " المقاومة " فيعني موقف القوى القومية التقدمية (منظمة او غير منظمة) من المنظمات الاخرى المشتبكة في القتال ضد الغزو الصهيوني للأرض العربية . وهذا الموقف يتحدد بالموقف القومي من المعركة وقواها" ...

غير ان المشكل الذي يقوم في أول خطوة تتصل بالواقع هو في تحديد السبل الى الموقف القومي ذاته الذي ستتحدد من خلاله كل المواقف كما جاء في الفقرة السابقة .. اذ أن هذه المواقف القومية لا بد لها من مرجعية فكرية مبلورة وموحدة .. وهي معضلة – كما سنرى – تشهد تداخلا على عدة أبعاد ومستويات ، ولا يلبث هذا التداخل ان يُحدث خلطا كبيرا في المواقف لدى القوميين ، فيحصل الخلاف مع كل جديد ..

وهل هذا يعني أن القوميين أمام موقفين مختلفين أو أكثر لمواجهة الواقع ، وان كان الامر كذلك فما هي الظروف المحددة للتعامل بهذا الموقف أو بالآخر ؟

قبل الإجابة لا بد من الاجتهاد في فهم الأسباب .. وقد يكون من أهمها تعدد المرجعيات القومية وهو سبب كاف لحصول الاختلاف في قراءة الواقع وتعدد الحلول والمواقف التي يظهر فيها الخلاف .. غير أننا – ونحن نحاول فهم الأسس التي يقوم عليها الفرز عند الدكتور عصمت سيف الدولة – سنختصر الحديث في اطار هذه المرجعية ونحن واثقون بأن مثل هذا التخصيص لا ينتقص شيئا من فهمنا للمشكل في اطاره العام طالما أن المرجعية القومية لاداة الثورة العربية غير محسومة ، وما نقوله في هذه الخصوصية ينطبق على جميع المرجعيات .. أما أهم الأسباب فهي :

- وجود المشروع القومي الجاهز والمبلور فكريا والمتمثل في مشروع الدكتور عصمت سيف الدولة ، والذي يلقى تجاوبا كبيرا لدى شرائح واسعة من القوميين .. مع تميّز هذا المشروع بخصوصيات فكرية لها صفة وسمة البناء النظري الحاسم التي تتطلب مجهودا جماعيا لبلورة المواقف القومية ذات الخصوصية الحركية المرنة والملائمة للواقع الظرفي المتغير .

- استحالة اعتماد هذا المشروع أو غيره كمرجعية نهائية ووحيدة لبلورة المواقف قبل وجود التنظيم صاحب الاختصاص الوحيد في تحديد الأسس الفكرية الجامعة للمشروع القومي المستقبلي .

- بروز ظاهرة "الشللية" وطغيان المواقف النظرية الفردية في غياب الاطار التنظيمي الجامع والحاسم للمواقف ..

- عدم التمييز في كثير من الأحيان بين الأهداف الاستراتيجية القومية كمحصلة نهائية للمقولات الفكرية الحاسمة والمحسومة نظريا في هذا المشروع (منهجا ومنطلقات وغايات واسلوبا) وبين والاستراتيجية القومية كتطبيق وفعل في الواقع لا يتحدد على مستوى الافراد .. ولا تقوم فيه الاستراتيجيات الفردية مقام المصادرة لأي تكتيك الا بالقدر الذي يتعارض مع الأهداف القومية ..

فلا بد اذن من استحضار كل هذه العناصر والاسباب المتداخلة عند كل حديث في المتغيرات لبناء الموقف السليم الذي يتلاءم مع ظروف المرحلة ، وهي مسألة على قدر كبير من الأهمية ، وحلها يلخصه الدكتور عصمت سيف الدولة بكل بساطة في جملة وحيدة نجدها تتكرر في كتاباته بعد كل حديث نظري وعند كل رجوع الى الواقع قائلا : " من الممكن الى ما يجب أن يكون " ..

انه يعني تقريبا وفي أغلب الحالات - ونحن في ظل غياب أداة الثورة العربية – أن التعامل مع الواقع سيكون قائما على أساس الموقف القومي للقوى القومية كما تسمح به ظروفها حتى وان كان لديها تصور للموقف كما يجب ان يكون من وجهة نظر قومية .. اذ أن هذا الموقف هو موقف التنظيم نفسه ، الذي يحمل اسمه دلالاته العميقة وخصائصه العملية كما وصفها الدكتور عصمت سيف الدولة في كتابه "حوار مع الشباب العربية" حين قال متحدثا عن أسباب عجز دولة الوحدة على مواجهة الانفصاليين وعلى رأسها غياب التنظيم حيث استطاعت قلة منظمة الانتصار على القاعدة الجماهيرية التي تضم الملايين ، وذلك : " لأن التنظيم ، تلك العلاقة التي تربط القائد بجنوده ، وتحدد لكل فصيل ساحة ، ولكل ساحة عملا ، ولكل عمل وقتا ، وتتابع النشاط في مواقعه ، وتبقي على قنوات الاتصال بين القواعد والقيادة بحيث تستطيع القيادة في أي يوم وفي أي ساعة أن تحدد بدأ المعارك وقواها ومداها وأهدافها في أي مكان .. ذلك التنظيم كان مفقودا " .. وعندما يتحقق هذا ، بانتهاء التعدد في مستوى القوى التي تمثل الوجود القومي ، ويصبح التنظيم القومي حقيقة ماثلة ، ستنتهي معه تلك الثنائية في المواقف ، أي ثنائية الموقف القومي والموقف من وجهة نظر قومية .. لتصبح كل المواقف التقدمية التي يتبناها مواقف قومية ممثلة لوجهة النظر القومية بالكامل ، دون تردّد ودون نقصان ودون ازدواجية ، بحيث يكون موقف التنظيم هو الموقف القومي ذاته ، أي كما يجب أن يكون وفقا لإستراتيجيته القومية وتخطيطه وتكتيكه الذي يتحكم في حركة الأفراد تبعا لظروفهم في كل موقع وفي كل وقت بناء على مرجعيته الفكرية التي حددها .. وهذا ما وجدناه فعلا في نظرية الثورة العربية حينما قام الدكتور عصمت سيف الدولة في كتاب الغايات بصياغة الموقف من مشكلة فلسطين تحت عنوان "الموقف القومي" لانه يمثل موقف التنظيم ذاته عند قيامه ، فهو الموقف النهائي السليم لكل من يؤمن بالمشروع القومي العربي ومستقبله بشكل خاص .. أما من حيث انسجام المواقف مع طبيعة الحركات القومية بشكل عام ، فان خروجها عن حدود المصلحة القومية - ولو بعد تحقيقها للوحدة - بجنوحها للاستغلال أو بعدوانها على الشعوب الأخرى ، يخرجها موضوعيا من طبيعتها القومية حتى وان كانت تدعي ذلك .. وفي هذا تفصيل وجدناه في كتاب المنطلقات حين تحدث الدكتور عصمت سيف الدولة عن مواقف الحركة القومية الأوروبية بعد تحقيق الوحدة القومية ، حيث خرجت تلك الحركات الرأسمالية بمواقفها الرجعية عن الموقف القومي في مرحلة أولى ، ثم أصبحت لا قومية بتحولها الى حركات استعمارية في مرحلة ثانية ، وصارت مواقف الشعوب وحدها المناهضة للاستعمار في تلك الأمم ممثلة للموقف القومي ، وقد جاء فيه : "إنما الذي نريد أن نطرحه هو السؤال الآتي : في أية مرحلة وإلى أي مدى كانت تلك الحركات التي أقامت الدول القومية الموحدة ثم تجاوزتها الى الاستغلال الرأسمالي ، الى أي مدى وفي أية مرحلة كانت قومية ؟ لا شك في أنها كانت حركات قومية في مرحلة ما قبل الوحدة والى أن تمت الوحدة . فقد كانت تلتزم الرابطة القومية التي تنفي التجزئة ، ولكنها بمجرد أن حققت الوحدة انقسمت قوى متصارعة : الرأسماليون من ناحية يريدون مصالحهم الخاصة ، وهو موقف مناقض لوحدة المصير القومي ، والشعب من ناحية يريد ان يحقق من التقدم ما تتيحه له الرابطة القومية ، وذلك موقف قومي . ثم لما ان تجاوز الرأسماليون استغلال شعوبهم ذاتها واتخذوا من الحروب العدوانية سبيلاً الى قهر الشعوب الأخرى واستغلالها ، كانوا أبعد ما كانوا عن القومية . القومية كما نعرفها ونفهمها .. وحتى كما فهمها الليبراليون (الرأسماليون) لم يكن تجاوز الوحدة القومية الى الاستغلال والاستعمار حركة قومية " .. 

وهكذا ، قياسا على الموقف من المقاومة ، وفي كل المراحل – ونحن نتحدث في اطار هذه المرجعية الفكرية -  يمكن صياغة عدد لا حصر له من المواقف تجاه القضايا المطروحة في الواقع العربي ..الا أنه يكون من اللازم والمفيد  بالنسبة للقوى القومية - في هذه المرحلة تحديدا - أن تكون قادرة على التمييز بين الموقفين : "الموقف القومي" و "الموقف من وجهة نظر قومية" بكل ما يتميز به هذا أو ذاك من خصائص استراتيجية وتكتيكية .. وبما يصلهما من علاقات خاصة بالمشروع القومي بجزأيه : الجزء النظري الحاسم في تحديد أهدافه اللازمة لتحقيق الوحدة الفكرية بين أصحاب المشروع ، والجزء العملي المرن بما يتماشى والظروف الذاتية والموضوعية المتغيرة ، في مسيرة طويلة محفوفة بالمخاطر والصعوبات ، يسهل فيها تحديد النظري في شكله النهائي الحاسم ، ويصعب أحيانا ، ويستحيل أحيانا أخرى تحديد الاشكال العملية لأي خطوات لاحقة في غير وقتها وظروفها ، ومن غير تدخل أصحابها المعنيين أولا وأخيرا لتغيير ما يجب تغييره في المستقبل ، وهم غائبون .. مع ملاحظة مهمة اننا نميز ولا نخلط - حينما نتحدث عن الحسم النظري -  بين المشروع الفكري الجاهز للدكتور عصمت سيف الدولة ، وبين المشروع الفكري للطليعة العربية الذي لا يجهز ولا يحسم نهائيا الا بوجودها ، وهذا من عنده كما بينا سابقا وليس من عندنا .. وهي معضلة اخرى وسبب اضافي لاستمرار الخلاف ..

الى هذا الحد ، وفي اطار هذه الحدود ، فان المشكل الرئيسي - كما نعتقد - يكون قائما بالأساس على الخلط بين هذين المفهومين ، أحدهما مرتكز على الجانب الفكري والأخر على الجانب العملي في الواقع .. أي المشروع النظري والمشروع الثوري للمشروع القومي (الفكر والممارسة) ان صح التعبير .. أو بمعنى أدق بين الأهداف الاستراتيجية والاستراتيجية ..

كيف ؟

من المعروف ان الدّين به المحكم والمتشابه لان الواقع متغير ومتطور ، لكن شرائح واسعة من القوميين المتحمسين لمشروع الدكتور عصمت سيف الدولة ، يريدون ان تكون كل القضايا محكمة  اي من الثوابت ، فيغرق الكثيرون في المتشابهات ويبنون عليها صرحا من الافكار والمواقف والتجاذبات فيتحول اغلبها الى مهاترات وخلافات لا يستفيد منها سوى اعداء المشروع القومي ... والسبب كما يبدو في علاقة مباشرة بالخلط بين هذين المفهومين المتداخلين : الفكر القومي كمشروع نظري ، والممارسة الثورية كمشروع عملي ، وكل خلط تتبعه اخطاء في التأويل ، لعل اخطرها على الاطلاق الخطأ في تأويل الاستراتيجية .. حيث تتحول الاهداف الاستراتيجية الى استراتيجيا عملية بدون قيد من الزمان والظروف وهو غير صحيح ..

فالاستراتيجية النظرية واحدة ، محسومة ، وجاهزة عند الدكتور عصمت سيف الدولة بمنطلقاتها وغاياتها واسلوبها ، اما الاستراتيجية العملية فهي استراتيجيات غائبة مؤجلة حتى قيام التنظيم صاحب الحق الوحيد في تحديدها ..

فمن ناحية النظري والعملي نجد الدكتور عصمت سيف الدولة يشير الى هذه الثنائية بكل وضوح خلال حديثه عن علاقة القومية بالتقدمية في "المقاومة من وجهة نظر قومية" وقد جاء فيها وصف دقيق لخصائص الحركة القومية الثورية يربط فيها منطلقاتها بالفكر وحركتها بالاستراتيجية كما هو واضح في اخر جملة من هذه الفقرة : "عند هذا الحد ، حد اكتشاف المضمون التقدمي للقومية تصبح النظرية القومية ذات المضمون الاشتراكي عقيدة (ايديولوجيا) كافية لتقييم الواقع العربي وتحديد استراتيجية تغييره ، وتعبئة قواه وقيادة المعارك فيه وتحقيق النصر لجماهيره . أي تكون كافية للتحول الى حركة قومية ثورية ذات منطلقات فكرية واستراتيجية حركية " .

ثم بعد هذا التصنيف يزيد في التوضيح ، فيقسّم - أولا - المضامين الفكرية الى مضامين سلبية وأخرى إيجابية قائلا : "أما المنطلقات الفكرية فيمكن تلخيصها في جانبيها السلبي والايجابي في أمرين ".. ويربط الجانب السلبي بمشاكل الواقع العربي المتخلف ، والايجابي بالأهداف القومية .. ثم يقسّم - ثانيا - الاستراتيجية الى استراتيجيات فيقول : "وأما عن الاستراتيجية فهي على اساس تلك المنطلقات الفكرية . تبدأ بالواقع وتنتهي الى غايتها العظيمة " اقامة دولة الوحدة الاشتراكية والديمقراطية " . وبدءا بالواقع العربي يمكن تقسيم استراتيجية الحركة العربية التقدمية الى خمس مراحل" .. وهي المراحل التي يمكن أن يمر بها النضال القومي من واقع التجزئة والاحتلال والتخلف الى غاية تحقيق كل الأهداف القومية ، فهي خمس مراحل متتالية في الزمان ومتباينة في الأهداف ، وقد تشهد تداخلا حينما تتفاوت النتائج المتحققة من مرحلة الى أخرى ومن قطر الى اخر على المستوى القومي ، وهي على التوالي : "مرحلة الاعداد الفكري والبشري ، ومرحلة اقامة الاداة ، ومرحلة الثورة ، ومرحلة اقامة دولة الوحدة النواة ، ثم مرحلة ارساء دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية" ..

ومن هذه النواحي يفترض ان يقع التمييز بين المشروعين على اساس خصائص كل منهما . فاحدهما ثابت نسبيا والاخر متغير ومغير لما هو ثابت في المشروع النظري بما يتحقق عمليا من الأهداف الاستراتيجية للمشروع القومي . اذ لا أحد يطلب الوحدة غاية بعد تحقيقها ، أو تحرير فلسطين بعد تحريرها .. ومن خصائص المشروعين نجد :

-  المشروع النظري الحاسم المتعلق بالمنطلقات والغايات والاسلوب كمحددات فكرية موضوعية لمشكلات قائمة ومطروحة في الواقع : الاحتلال والتجزئة والتخلف ، من اجل تحقيق اهداف النضال العربي : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية  ..

وهو نظري بمعنى انه يقوم على مقاربات متداخلة فلسفية وعلمية وتاريخية وغيرها .. تنتهي بصياغة جملة من التعريفات والمفاهيم تكاد ان تكون الواحدة منها نظرية خاصة في المنهج وفي الامة والقومية والحرية والديمقراطية والاشتراكية والاخلاق وغيرها من الفروع .. وهو حاسم بمعنى ان كل المفاهيم الواردة فيه محددة بمنهجية علمية تقطع مع الافكار المثالية والميتافزيقية لتتحول الى ثوابت فكرية (عقيدة قومية) وضوابط  لازمة لتحديد الاهداف الاستراتيجية الكبرى التي تقود المسيرة النضالية نحو الغايات النهائية المرجوّة ، ولكنه متطوّر وقابل للانماء والاضافة في الوقت ذاته مع الواقع المتغير والمفتوح دائما على التغيير وفقا لمنهجه الذي يتميز بخصوصية الجدل داخل الانسان نفسه بين ضدين متصارعين باستمرار (الماضي متمثلا في الظروف والمستقبل متمثلا في الحاجات المتجددة) لإحداث التغيير والتطور الذي يطمح اليه الانسان .. ويقول الدكتور عصمت سيف الدولة في هذا الجانب مؤكدا فكرة النمو الفكري في حوار عن الناصرية مع جريدة القبس عدد 5522 بتاريخ 27 – 9 – 1987 ردا على سؤال "هل تشكل الناصرية نظرية متكاملة " ؟.. فأجاب قائلا : "أنا أعترض عن السؤال ، اذ لا يوجد في تاريخ البشرية نظرية متكاملة ، بمعنى أنها بلغت منتهاها ، وغير قابلة للنمو والتطوّر ، والدليل : الليبرالية والماركسية ، وظهور الكثير من النظريات كل يوم .

واذا قلنا أن النظرية الناصرية في بداية نشأتها ، باعتبار أن بذرتها الجنينية هي الميثاق ، وتربتها هي التجربة التاريخية لعبد الناصر ، فسوف تنمو من خلال حركة نضالية تضيف كل يوم جديد ، ولن تكتمل في جيل أو جيلين ، لأن النظريات غير قابلة للاكتمال النهائي" .. ثم يضيف معرجا على المنهج وأهميته في تطوير النظريات وضبطها خلال البعد الرابع ، الزمان ، الذي يمثل حجر الزاوية في تتالي حركات الجدل كما هو معروف في الأسس التي يقوم عليها منهجه .. فقال : "وبطبيعة الحال ، لا توجد كل الضوابط في النظرية الناصرية ، لأن ما سوف تسفر عنه الحركة الاجتماعية في المستقبل لا يمكن التنبؤ بها الان .

واذا لم يستنبط الناصريون قواعد عموم التجربة ، فسوف يظلون بدون منهج ، لأن الذي ينقص التجربة الناصرية : هو المنهج ، لأنه السلاح الموحّد لحركة الجماهير المنظمة .

فالمنهج نعمل على أساسه النظرية ، والنظرية نعمل على أساسها استراتيجية ، والاستراتيجية نعمل على أساسها التكتيك . ويوم أن يتوه منا التكتيك نعود للمنهج .

والمشكلة الجوهرية في نظريات المنهج كلها هي في حركة التطوّر ، في التأثير المتبادل بين الأشياء وبين الناس ، ما هو العنصر الذي يلعب الدور الأساسي ويقود العملية كلها . في الليبرالية : الفكر . وفي الماركسية : المادة . وعبد الناصر قال : "الانسان هو الأول والأخير" . وقد اختار هنا العنصر الثالث ، في أن الانسان يقود الأشياء وليست الأشياء هي التي تقود الانسان" ..

 وقد وردت كل التفاصيل لهذا المشروع الفكري في اجتهادات الدكتور عصمت سيف الدولة الذي توصل فيها الى ضبط المشكلات والحلول والأهداف الاستراتيجية بمنهجية واضحة : " المشكلة ، الحل ، العمل " في جميع القضايا المطروحة في الوطن العربي ، وهي افكار قديمة جديدة اغلبها قد انضجتها التجارب القومية الى ان صارت شعارات ومواقف معروفة ومتداولة حتى قبل ان تظهر كتابات المرحوم عصمت سيف الدولة  ...

- والمشروع العملي الشامل والنسبي الذي يلتقي فيه الثوريون العرب على مهمات نضالية تمتد وتقصر زمنيا حسب امكانياتهم الذاتية لإنجاز ما يجب انجازه في النهاية : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية  ..

وهو عملي بمعنى ان حركته النضالية تجري في واقع متحرك يضع المقولات النظرية واصحابها تحت الاختبار لمدة طويلة ، فلا تستمر المواقف والتحالفات على حالها  حتى تحقيق الاهداف النظرية كافة .. ونسبي بمعنى انه يواجه كل يوم متغيرات جديدة تقتضي تفاعلا على نطاق واسع مصحوبا باجتهادات ومواقف جديدة غير حاسمة بسب طبيعتها المرحلية ، وبسبب الاختلاف الموضوعي للمقدرة الجدلية للأفراد خصوصا في حالة التشتت التنظيمي .. وشامل بمعنى انه يشمل كل المراحل النضالية التي تعترض سبيل الحركة القومية خلال حركتها وهي تتفاعل مع واقها كما هو من اجل تغييره ، حيث تبدو كل مشكلة في الوطن العربي تحمل الشيء ونقيضه .. حتى الحركة القومية بتناقضاتها الخاصة : قومية - اقليمية .. قومية المنطلقات والغايات ، إقليمية الأساليب والحركة : احزابها اقليمية ، جمعياتها اقليمية ، تنظيماتها  الطلابية اقليمية ، وافرادها المستقلون اقليميون ، فلا يكاد واحد منهم ان ينجو - على مستوى الحركة - من صفة الاقليمية .. وهكذا ، تثور المشكلة  .. وتتفرع الى مشكلات فرعية ، فيتواصل العمل على حلها حسب الأولويات والامكانيات المتاحة .. وهذا الواقع عبّر عنه الدكتور عصمت سيف الدولة في فقرة من محاضرته بجامعة القاهرة بعنوان "تنظيم قومي من أجل الوحدة الاشتراكية" عام 1981 قال فيها : " كل قومي الانتماء هو في الوقت ذاته إقليمي الهوية . في هذا الواقع ، لا يوجد شعب قومي مفرز ، كما لا توجد أرض قومية خالصة . ولا يوجد شخص قومي متحرر تماماً من هويته الإقليمية ، بما تتضمنه تلك الهوية من قيود ، وحدود لا تتفق مع انتمائه القومي .  في هذا الواقع العربي الذي نعيشه تختلط القومية ، بالإقليمية اختلاطاً يفرض على الإقليميين أن يخوضوا معارك قومية ويسمح للمؤسسات الإقليمية بان تمد نشاطها إلى خارج إقليمها ، ويسمح للفكر الإقليمي بأن يندس في الفكر القومي ، أو أن يرفع شعاراته " .

ففي الوقت الذي يحاول فيه القوميون التأكيد على الخطاب القومي والثبات على المواقف القومية في كل قضية يشهدها واقعهم ، يحاصرهم الواقع الاقليمي ليجعل حركتهم الاقليمية عاجزة فيختلفون .. ثم لا يستطيعون - وهم يديرون معاركهم على المستوى النظري العام - ان يحسموا خلافات يتميز فيها الاجتهاد بخصوصية كل معركة من المعارك المتعددة التي يمكن ان تواجههم على المدى الاستراتيجي في ساحت وظروف ذاتية وموضوعية تختلف من مرحلة الى اخرى .. اي ان ما يميز المراحل النضالية في هذا المشروع هو تبدل وتغير المواقف التكتيكية والتحالفات بتغير محاورها النضالية وقواها المتصارعة وامكانياتها ..  ولا يتغير خلالها المعيار المحدد لتلك المواقف وهو المعيار القومي الاستراتيجي المحكوم دائما بالثوابت والعقيدة القومية  .. فلا يتعارض ولا يتناقض معه ، ولكنه يتغير تكتيكيا مع مواقف ومواقع القوى النشيطة على الساحة قربا او بعدا من الاهداف المرحلية والاستراتيجية للمشروع القومي في كل مرحلة من مراحله دون ان تحل الاستراتيجية محل التكتيك .. وهي مشكلة قائمة بالفعل لا تستوي وضوحا في اذهان القوميين ، فلا يتخذون منها نفس المواقف ويحصل الاختلاف  ..

ففي حين يفترض ان يتم الحكم على المواقف في الداخل قياسا الى الاهداف الاستراتيجية ، يكون من الانسب الحكم على مواقف الاخرين قياسا الى الاهداف المرحلية ، حيث يمكن ان تدخل وتخرج اطراف متعدة من دائرة التحالفات بانتهاء المهمات المرحلية ، بينما تستمر العلاقة بين القوميين حتى النهاية ، بكل مواقفهم المتنوعة من المشاكل الظرفية وبكل تفرعاتها الثانوية ، الى غاية بناء أداة الثورة العربية التي تحسم داخلها كل الخلافات المتعلقة بالمتغيرات  ..

وهكذا يكون المشروع النظري مشروع وحدة فكرية هدفها تحقيق الوحدة التنظيمية بما تهيئه من ارضية سليمة لخدمة القضايا الرئيسية على مستوى فهم المشكلات في بعدها القومي وعلى مستوى ايجاد الحلول المناسبة لها خلال كل مرحلة من مراحل النضال العربي .. فهو مشروع قائم على اساس فكري ايديولوجي دقيق ومفصل لكل النواحي الفكرية في اطارها المبدئي الحاسم في كل ما يتعلق بوحدة الوجود القومي ، وبحرية الوطن والمواطن ، وبعلاقة الكل بالأجزاء ، وباستغلال الثروات .. وبالمكون الحضاري للامة العربية وعلاقاتها التاريخية والمستقبلية بمن حولها ... فهو النقيض - على المستوى الفكري - من المشاريع الفكرية الاقليمية والاخوانية واليمينية بشكل عام .. وهو في النهاية مشروع منجز من ناحية البنية الفكرية ، ومتحقق ولو على مستوى الافراد الذين اقتنعوا بمضامينه قبل أن يصبح قناعة للتنظيم القومي ، لكنه يبقى مجرد ترف فكري لا يغير شيئا من الواقع طالما انه لم يتحول الى حركة منظمة وتخطيط محكم  لمشروع واضح ، فلا يوظف توظيفا سليما حسب متطلبات كل مرحلة وكل معركة من معارك النضال القومي .. وهو اذن على هذا المستوى وحده لا  يتجاوز - على اهميته وضرورته - الجانب السلبي في الموضوع  ..

بينما المشروع الثوري كمشروع للمستقبل هو مشروع عملي نضالي يحوّل تلك الافكار والمقولات والمبادئ والنظريات والدروس المستفادة  الى واقع حي حينما يلتحم من خلاله الثوريون العرب في اداة نضالية واحدة هدفها تفجير الثورة العربية لتحقيق تلك المبادئ في الواقع المعاش خلال مسيرة نضالية طويلة لا تستمر فيها الادوار والمهمات والمواقف والتحالفات على وتيرة واحدة في كل مرحلة من مراحل النضال ، ولن تكتمل اهدافها ببناء دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية قبل ان يكون القوميون العرب قد تحولوا الى قوة ضاربة منظمة .. فهو النقيض على مستوى الممارسة والفعل من المشاريع الرجعية الصهيونية الإمبريالية في الوطن العربي .. وعلى هذا الوجه يمثل المشروع القومي في بعده الحركي الجانب الايجابي في هذا الموضوع من حيث انه لا يتوقف عند المقولات النظرية المبلورة فحسب بل يتجاوزها الى مستوى الفعل الذي يسهم في تغيير الواقع من جهة ، وفي تطوير المقولات النظرية وتحيينها وتخليصها من الجمود وتطويعها عن طريق الممارسة النضالية من جهة ثانية حتى تكون قادرة فعلا على الاسهام في تحقيق هذا المشروع الحضاري المستقبلي بنجاح .. 

من هنا نفهم تكامل المشروع الفكري مع المشروع العملي ولا نخلط بين المضامين والخصائص المميزة لكل منهما عند الاحتكام الى الضوابط الفكرية والمنهجية لتحديد الاهداف الاستراتيجية للمشروع القومي وعند الحكم على المواقف التكتيكية خلال الممارسة من خلال التمييز المهم بين الأهداف الاستراتيجية والتخطيط الاستراتيجي ، فأحدهما نظري والثاني عملي .. وكلاهما غير محسوم نهائيا بالنسبة للتنظيم القومي حتى ونظرية الثورة العربية موجودة ، لأن التنظيم غير موجود .. ولكن التمييز غير الفصل ، لان المشروع القومي المستقبلي واحد ، فكرا وممارسة   ..

في الجانب الفكري العقائدي تحوّل المشروع النظري على يد المفكر القومي عصمت سيف الدولة الى سلاح نظري فعال بيد القوميين يستطيعون من خلاله حسم كل المعارك الفكرية ذات الصلة بمستقبل الحياة في الوطن العربي ، فكان الهدف الاساسي من وراء هذا المشروع اختصار الطريق للمستقبل ، فهو مشروع وحدة فكرية نضالية لبناء دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية .. وفي هذا الاطار قدم الاجابات الحاسمة لكل الاسئلة المطروحة على الساحة الفكرية في اطار بنية مفاهيمية موحدة مبنية على اساس واحد " منهج جدل الانسان " . لذلك يصعب على من لا يعرف المنهج الذي استعمله في كل اجتهاداته ، ان يفهم مشروعه سواء على مستوى الفكر او الممارسة  ..

وفي اطار هذا المشروع النظري الايديولوجي تتنزل كل المقولات الفكرية الواردة في نظرية الثورة العربية وتتبلور كل المواقف الحاسمة من القضايا الاساسية لمشكلات الحياة في الوطن العربي بالنسبة لمن يسلم بها ، بحيث تكون المواقف النهائية واضحة فيما يتعلق بالعديد من الثنائيات : الاحتلال والتحرر ، الاستغلال والاشتراكية ، التجزئة والوحدة ، الاستبداد والديمقراطية ، الرجعية والتقدمية الخ ... اي ان متطلبات صياغة الاسس النظرية تقتضي تقديم مواقف حاسمة من جملة هذه القضايا على المستوى النظري ، بحيث يكون القوميون دائما وحتى النهاية مع وحدة الوجود القومي وضد اي محاولة للرجوع بالمجتمع القومي الى المراحل السابقة على تكوينه ، اي ضد التجزئة الحالية والمواقف الاقليمية وضد اي مشروع يجزئ المجزأ ليعود بالوجود القومي الى المراحل السابقة  كالطائفية والقبلية والشعوبية .. وهم مع الحرية  والتحرير والمقاومة وضد الاستسلام والتسوية وضد القبول باي مشروع احتلالي قائم او بصدد التخطيط للتوسع او الاقدام على احتلال جديد على اي شبر من الارض العربية .. وهم ايضا وعلى الدوام مع التكامل والتقارب والوحدة وضد  التجزئة والاقليمية فكرا وممارسة حتى تتحقق الوحدة الشاملة وتزول الدويلات الاقليمية المصطنعة .. كما انهم مع الديمقراطية الشعبية والاشتراكية وضد الاستبداد والقهر المادي والمعنوي حتى يتحرر المواطن العربي نهائيا من كل القيود في دولة قومية مدنية اشتراكية ديمقراطية ، بقطع النظر عن الانظمة القطرية القائمة ، سواء كانت رجعية او تقدمية ، اقليمية او قومية ، اشتراكية او رأسمالية طالما انها لا تخطو خطوة نحو الغايات القومية الاستراتيجية ، ولا تختلف طريقة التعامل معها الا في أسلوب تحقيق الغاية (تغيير ثوري حيث الاستبداد وسلمي ديمقراطي حيث الديمقراطية) .. فهي مواقف عامة مبدئية ثابتة من خصائص الموقف من وجهة نظر قومية كما يجب ان يكون  ..

اما في الجانب العملي من المشروع ، فان الدكتور عصمت سيف الدولة لم يدخل في اي تفاصيل خاصة بالمهمات الاستراتيجية وما يمكن ان يتفرع عنها من خطط تكتيكية للحركة القومية لأنه ببساطة مشروع تغيير تجري احداثه في الواقع الاقليمي والدولي يتطلب اداة ثورية تكون في تفاعل مباشر مع الاحداث ، وفي مواجهة ميدانية لا يمكن توقعها . وكلها مهمات يعود فيها الاختصاص للتنظيم ، مجالاتها خلافية  مفتوحة على الاجتهاد والحسم عن طريق الجدل والحوار داخل الاطر الديمقراطية لصياغة المواقف من القضايا المطروحة كما تقتضيه طبيعة كل مرحلة .. فلا يخضع فيها نصيب كل واحد من الخطأ او من الصواب سوى لمعيار واحد : المقدرة الجدلية لكل فرد . فلا يستهان فيها برأي او بموقف مهما كانت قيمته بالنسبة للآخرين ، ولا يفترق فيها القوميون الصادقون مهما اختلفت آراؤهم طالما لم يحيدوا عن الثوابت القومية  ..غير ان الواقع غير هذا .. ولا سبيل أمام هؤلاء الصادقين سوى العمل على محورين : تغيير ما يمكن تغييره في الواقع العربي لصالح الجماهير ، والعمل من أي موقع على توفير الظروف الملائمة لبناء أداة الثورة العربية المفقودة .. وتلك من أهم أهداف الفرز المطلوب ، وسبيله الممكن الوحيد أن تكون شروطه في حدود الولاء القومي والالتزام بالعقيدة القومية .. اما قبل ذلك ، فان الممارسة تظل محكومة بالمرونة من خلال التعامل مع الواقع بما هو متاح : الموقف القومي التقدمي الجدلي الاجتهادي الحركي الملائم للظروف الذاتية والموضوعية  ، ومحكومة أيضا بالتنسيب فلا يصح فيها حكم الافراد على مواقف الافراد في الوقت الذي تفتقد فيه الساحة القومية الطرف الوحيد المخول له الحكم واتخاذ القرار ..  وهذا ما وجدناه عند الدكتور عصمت سيف الدولة وهو يتعامل بمرونة تامة مع القضايا المطروحة ، فلا يتحرج من تبني مواقف دون الموقف الحاسم من وجهة نظر قومية  في العديد من المناسبات ..

قد تبدو المسالة محسومة بالنسبة للعديد من القوميين ، لكنها ليست كذلك بالنسبة للبعض الاخر  وهم يشدّدون ويؤكدون على فرز الصفوف بناء على مواقف متذبذبة من احداث جارية ومتغيرة ، والمشكلة دائما في علاقة بين الفكر والممارسة .. اذ ان الفرز الداخلي ، لا يتم على اساس المتغيرات الظرفية والتأويلات المتعلقة بفروع كل مشكلة ، بل بمدى الالتزام بالثوابت المتعلقة بالخيارات الكبرى للمشروع القومي ككل .. اي لا يكون على اساس الاجتهاد في صياغة مواقف متعلقة بالمشكلات الظرفية ، بل على اساس قرب المواقف او بعدها عن الاهداف الاستراتيجية في جانب او اكثر من جوانبها حسب نوع المشكلات ، قومية او قطرية ، أي باختصار على أساس العقيدة القومية .. وهكذا يصبح الهدف من الفرز واضحا في المراحل التي تسبق التنظيم وهي فرز الكوادر النوعية لغاية التأسيس لا اكثر ولا ابعد من ذلك .. وما على الذين يلزمون انفسهم بهذه المهمة الا ان يمارسوا قناعاتهم دون صخب وافتعال حروب كلامية مدمرة ومنفرة للعام والخاص مع إضافة واحدة نأخذها من الدكتور عصمت سيف الدولة حتى نعطي هذا الجانب حقه : النقد البناء عند الخروج عن المنطلق القومي .. فبعد أن حدّد في "المقاومة من وجهة نظر قومية" آليات التعامل مع المنظمات الإقليمية المقاومة والدول التي تواجه إسرائيل (من حيث الدعم والتأييد ، وإعطاء الأولوية للمعركة تجنبا للصراع الذي لا يفيد الا الأعداء ..) نجده يؤكد على أمرين قائلا : " (1) دعم المقاومة ككل في مواجهة القوى المعادية وحمايتها ، من محاولات الاضعاف او التصفية والوقوف معها ضد اي قيود تفرضها عليها الدول العربية  .. (2) نقد المقاومة في خصوصية "الاقليمية" عن طريق التركيز على ما تسلبه تلك الاقليمية  (فكرا ، وصيغة ، وعلاقات) من اضعاف لمقدرتها على النصر"  .. علما ان كل هذه الأطراف المعنية اقليمية ، وبالتالي يفترض أن يكون النقد الداخلي على درجة من الحذر والتفهم والمودة أكبر بكثير من النقد الخارجي ..

اما اذا كان الفرز على مستوى المجتمع ككل فهو يتم بين التقدميين والرجعيين بحسب المحاور النضالية المطروحة في كل ساحة من الساحات وبحسب الملابسات التي تحف بكل مشكلة وانعكاساتها على مستقبل الصراع وتأثيرها على الاهداف الاستراتيجية ، فتأخذ التأويلات والاولويات مكانها في الجدل .. وقد يكون الفرز احيانا شاملا فئات مختلفة من القوى السياسية سواء من الانظمة او من صف المقاومة او من الاحزاب والسياسيين والاعلاميين وغيرهم تبعا لمواقفهم ولمتطلبات كل مرحلة اي قياسا على الاهداف المرحلية ، كأن يكون الفرز احيانا بين التحرريين والمستبدين ، وبين انصار الوحدة والاقليميين ، وبين انصار المقاومة والمستسلمين ، وبين الاشتراكيين والرأسماليين المستغلين ، وبين العملاء والوطنيين .. الى غير ذلك  من المعارك التي يمكن ان تؤدي الى الاشتباك بين اطراف هذه الصراعات في كل مرحلة من مراحلها ، وكلها مراحل مهمة من مراحل الثورة العربية والمشروع القومي ككل وبالخصوص قبل امتلاك الآداة القومية ..  وكل هذا من اجل رص الصفوف المقاومة – اي مقاومة – لهزيمة المشروع الرجعي الصهيوني  الامبريالي في الوطن العربي ، في الاقطار ، وفي المدن والارياف وفي الجامعات وفي النقابات ، وفي الخارج وفي كل مكان ، وفاء بالمسؤولية القومية .. اي بمعنى اخر ان كل ما يثار خارج هذا السياق من معارك جانبية لا يستفيد منها سوى اعداء المشروع القومي ، وتلك من صفات المناضل الرديء الذي قال عنه الدكتور عصمت سيف الدولة في بيان طارق :  " أن بعض الشباب العربي الذين تمرسوا بالنضال ، وتوافرت لهم مقدرة خاصة عليه ، يبدأون التفكير في النضال العربي من أنفسهم مفترضين فرضاً غير صحيح هو أن كل الشباب يجب أن يكونوا مثلهم . و ينقلب الأمر بهم إلى اتجاه عقيم ، إلى اتهام الناس جميعهم ، والاستعلاء على الجماهير العربية ، والمن عليها بما قدموا ، من قبل أن يصبحوا من أردأ أنواع المناضلين . لا لأنهم غير قادرين على النضال الثوري ، بل لأن العمل الجماعي لا ينبني على الأساس الجماهيري إلا حيث يكون العمل الجماعي هو الصيغة العلمية للنضال الثوري . والعمل الجماعي لا ينبني على أساس التفوق الفردي بل هو منوط بمدى ما يتوافر في التنظيم من انضباط ، ومدى تعود المناضلين على إسقاط نوازعهم الشخصية ، واستعدادهم لقبول رأي الأكثرية ، ولو خالف رأيهم ..

... وأهمية هذا هنا ألا نتناول معالجة العقبات التي تقف في سبيل مولد الطليعة العربية بمنطق المناضل الرديء . وهذا يقتضي أن تكون المعالجة ، معالجة موضوعية على ضوء الاستعداد التام ، والصبر على المعالجة ، وعدم الخضوع لاستفزاز الأحداث فلا نتسرع ، وعدم الخضوع للطموح فلا نندفع ، وعدم السقوط في هاوية "الولاء الشخصي" أو الإقليمي ، فننسى أن نعالج عقبات تقف في طريق الأمة العربية "..

(القدس - م .ع / فيفري 2018). 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق