روابط الأجزاء :
تـقديــــم / الجـــزء 1 / الجـــزء 2
الجــزء 3 / الجــزء 4 / الجــزء 5
الجــزء 6 / الجــزء 7 / الجــزء 8
الجـزء 9 / الجـزء 10 / الجزء 11
الجـزء 12 /الجزء 13 / الجزء 14
الجـزء 15 / الجزء 16 / الجزء 17
الجزء 18 / الخاتمة / المحتوى كامل
فرز واحد ... أم فرز متعدّد ... ؟
دراسة في أقوال ومواقف الدكتور عصمت سيف الدولة .
-16-
انتهينا الى طرح السؤال التالي : ما الذي أقدم عليه الدكتور ، وما الذي انتهى اليه باختصار ؟..
إننا بطرح هذا السؤال نكون قد تجاوزنا الإجابة عن كل المسائل الأولية أو أغلبها ، وقد كانت مدخلا منهجيا لهذا الحديث الطويل .. وإننا بهذا نكون قد وصلنا الى الاختيار .. اختيار الدكتور عصمت سيف الدولة وليس اختيارنا .. فما الذي اختاره في البداية ثم في النهاية ..؟
في الإجابة عن الجزء الأول من السؤال يكفي القول بأن الدكتور عصمت سيف الدولة خاض تجربتين عمليتين في موضوع التنظيم القومي ، الأولى كانت من خلال الدعوة لـ "أنصار الطليعة" عام 1966 حينما قرر جمال عبد الناصر مناقشة الميثاق الوطني وتحويله الى ميثاق قومي ، وكان ذلك على أساس وثيقة لا تتجاوز 20 صفحة عرفت فيما بعد تحت عنوان بيان طارق ، وقبل ظهور نظرية الثورة العربية بسنوات ..
والثانية حينما سافر الى ليبيا من أجل الحوار مع القيادة الليبية عام 1970 في نفس الغرض ، ثم قبل بنتائج الحوار والتزم بتنفيذها .. وقد تم ذلك أيضا قبل ظهور نظرية الثورة العربية وما تلاها من اجتهادات فكرية .. بل ان تلك الخطوة التي أقدم عليها هي التي كانت سببا في ظهور النظرية بعد أن قبل مهمة وضع مشروع الوثيقة التي ستلتقي حولها كل القوى القومية وهم غير مفرزين (بعثيين وناصريين وقوميين عرب وعروبيين ..) ، ولا يعرفون ، وربما لم يخطر على بال أحدهم أي مقاييس للفرز سوى ما يحمله المخلصون منهم من هموم قومية وولاء قومي وإصرار على تحقيق الحلم ، الذي بقي حلما الى الآن ..
أما بالنسبة للإجابة عن الجزء الثاني من السؤال فيكفي أن نذكر ما انتهى إليه الدكتور عصمت سيف الدولة من قول حاسم في موضوع التنظيم القومي عندما حصر مسألة البناء في وثيقة لا تتجاوز 30 صفحة وضع لها عنوانا مميزا سماه "معطيات مبدئية" .. والغريب أن من يقرأها من المطلعين والعارفين بمشروع الدكتور عصمت سيف الدولة يجد فيها خلاصة الخلاصة لكل المجهود النظري الذي كرس له حياته ، ولكل تجاربه الشخصية المختلطة بتجارب الواقع العربي الذي عاشه لحظة بلحظة ، مكتفيا بها ومقتصرا عليها ، بحيث تكون أكثر من كافية كمشروع للحوار حول مسألة التأسيس والبناء للحركة العربية الواحدة ، دون الزام بكل ما قاله قبلها ..
ولذلك فان هاتين الخطوتين بكل ما فيهما من مضامين مختصرة تضعان كل الخلافات القائمة بين القوميين خارج السياق ، سواء ما يتعلق منها بالجوانب النظرية أو بالجوانب العملية على الوجه الذي يدور حوله الخلاف .. والا كيف يمكن فهم ما أقدم عليه الدكتور في هاتين الخطوتين بكل ما فيهما من تحمل للمسؤولية التاريخية في انجاز أخطر مهمة تتعلق بمستقبل أمة بأسرها ، وهي مهمة تأطير جماهير غير مفرزة ـ ودون امتلاكها لسلاح نظري موحد يقود خطاها نحو المستقبل ؟..
وفي هذا الخصوص قد يحتج البعض بفشل المهمتين وهو غير صحيح ، لأن الفشل لا يتعلق باي سبب مباشر يتصل بتلك الجوانب (العوامل الذاتية) بقدر ما هو متعلق بالأطراف المرتبطة بالمشروع (العوامل الموضوعية) (أجهزة الدولة في مصر ، هزيمة 67 ، الغياب المفاجئ للزعيم الراحل جمال عبد الناصر ، تراجع القيادة في ليبيا ..) ..
في الخطوة الأولى ظهرت وثيقة بيان طارق على نطاق ضيق الى أبعد الحدود وبعد سنة واحدة من ظهور كتاب أسس الاشتراكية العربية الصادر عام 1965 ، مع دراسات قامت بنشرها حركة الوحدويين الاشتراكيين في سوريا باسمها عام 1966 قبل أن تظهر مطبوعة للعموم عن طريق دور النشر تحت عنوان "الطريق الى الوحدة" ثم "الطريق الى الاشتراكية " .. وقد وردت هذه المعلومة حول تاريخ النشر لأول مرة في مقدمة كتاب الطريق 1 – طبعة 1979 .. كما ورد توضيح مهم في هذا الشأن للدكتور عصمت سيف الدولة في رسالته الى تونس يؤكد تاريخ ظهور الدراسات مستعملا عبارة "أيضا" حينما تعرض لظروف ظهوره بيان طارق قال فيها : " كان عبد الناصر قائد الجماهير العربية في مصر وكان الشباب العربي من مصر منظما تحت قيادته ، وكان تصوري لحل مشكلة التنظيم القومي هو الدعوة له وإعداد الشباب العربي من أجل وحدة التنظيم تحت قيادة عبد الناصر . ومن هنا كانت دعوتي موجهة الى الشباب العربي من المحيط الى الخليج الذين كانوا ينتظرون آن يدعوهم عبد الناصر الى الالتحاق بالحركة العربية الواحد . وكنت ابحث عن حل لمشكلة الالتحام تلك بعيدا عن " الطليعة العربية " القائمة على أساس من الانفصال وليس الالتحام (التنظيم الذي اقامته أجهزة الدولة) . ولم يعقني عن البحث عن الحل موقف دولة عبد الناصر مني . من هنا توثقت علاقتي بكثير من القادة القوميين الذين كانوا ضيوفا على القاهرة في ذلك الوقت . وكان من بينهم الأخ الصديق محمد الخير (أبو مضر) أمين عام حركة الوحدويين الاشتراكيين المناضلة ضد الانفصاليين في سورية ، كان من أقرب ضيوف القاهرة الي عبد الناصر ..
سألني أبو مضر يوما : لقد أنشأت ثلاثة كتب كانت خاتمه کل کتاب منها هي : "أما كيف يقوم التنظيم القومي فهذا حديث آخر" . واعتقد - هكذا قال محمد الخير عليه رحمه الله - أن من حق الشباب العربي عليك أن تحدثهم هذا الحديث الآخر ان كان لديك حديث آخر . ثم أضاف کما أخذنا منك ما نشرناه باسم حركة الوحدويين الاشتراكيين اكتب للحركة رأيا تنشره عن مشكلات إقامة الحركة الواحدة .
قلت ـ وهذا ما سيتكرر قوله بعد ذلك - ولكني لا أريد للشباب العربي أن يتلقى رأيا في التنظيم القومي يكون مرتبطا بشخص . فان الموقف من الرأي سيكون متأثرا بالموقف من صاحبه آن سلبا وان إيجابا . قال : سننشره باسم الحركة لا باسمك . قلت اذن لبيك .
كان ذلك عام 1966 أيضا .
وانكببت على صياغة رأيي أو خلاصته في وثيقة عرفت باسم "بيان طارق" نشرت أولا في سورية ثم انتشرت ثم جذبت إليها غير قليل من الشباب من قليل من الأقطار العربية ، يبدو من رسالتك انك قرأتها فلا مبرر لإعادتها . اذكر فقط إنها كانت خطة لإعداد الشباب العربي للالتحام تحت قيادة عبد الناصر عام 1970 ، فقد كان عبد الناصر وعد بالدعوة الى مؤتمر "وطني" عام 1970 لإعادة النظر في "ميثاق العمل الوطني" الذي أصدره عام 1962. فكان تصوري لحل مشكلة التنظيم القومي - في ذلك الوقت - هو إعداد "اكبر عدد من الشباب العربي ليحضروا "المؤتمر الوطني" ويشاركوا في مناقشة " ميثاق العمل الوطني " من أجل تحويل المؤتمر الوطني الى مؤتمر قومي ، وتحويل الميثاق الوطني الى ميثاق قومي ، وتأسيس الحركة العربية الواحدة في القاهرة تحت قيادة عبد الناصر" ..
وهكذا نرى أن هذه المدة غير كافية لتداول كل ما صدر من اجتهادات فكرية في تلك الفترة الضيقة على نطاق واسع والاطلاع عليه والاقتناع بمضامينه ، فضلا عن الحصار الذي ضُرب عليه حتى بعد ظهوره بسنوات .. وقد كان بيان طارق عند ظهوره في ظروف خاصة أشبه ما يكون بعملية اجتهاد في إيجاد حل لمشكلة قائمة ومستعجلة ، قد نستنتج منها أنها موجهة لنخبة معينة للوصول الى غاية محددة التقت فيها الطموحات مع الظروف التي فرضها الواقع .. وقد وردت حوصلة من الدكتور عصمت سيف الدولة لمضمونه وكيفية إنشائه في نفس الرسالة قال فيها : "تطرقت الدراسة الى التجارب السابقة ، تجربة حزب البعث و تجربه القوميين العرب وتجربة "الطليعة العربية" لمعرفة لماذا فشلت تجارب قام بها قوميون لا شك في قوميتهم ، مناضلون لم يدخروا جهدا في سبيل وحدة أمتهم ، وانضمت الدروس الى خلاصات الدراسة ، فانتهت الى ما انتهت إليه في بيان طارق . لكي يكون التنظيم قوميا لا بد له من أن يختار ويراقب ويستبدل قيادته أو أن يكون قادرا على هذا اذا أراد . وان عملية إنشائه يجب أن تكون کانشاء الجيوش الحديثة لأول مرة . لا يبدأ بالقادة "الجنرالات" ولا يبدأ بالتجنيد ، ولكن يبدأ بالضباط . منهم تنبثق القيادة بمقياس الكفاءة . واليهم يجند الجند ليدربوهم ويقودوهم وبهذا يكتمل الجيش تكوينا ، ثم يبقى قوة ضاربة مهما تغير الجند ومهما تغير القادة ، فلا يتوقف التنظيم القومي وجودا وعدما ، حركة وعمودا ، فكرا وممارسة على قيادته . لا بد إذن من "مرحلة" إعداد الضباط .. وأسميت تلك "مرحلة الإعداد" التي تسبق تأسيس التنظيم القومي . والباقي تعرف تفاصيله من بیان طارق .
نشرت الدراسة وانتشرت وتكونت حولها حلقات من الشباب العربي في أقطار متفرقة وعرفوا باسم "الأنصار" . يعنون بذلك أنهم ليسوا التنظيم القومي عينه بل أنهم فقط أنصار التنظيم القومي الذي يعملون على أعداد أنفسهم للانخراط فيه حينما تكتمل شروط تأسيسه . وكان لا بد من أن يحدث جدل فكري بين "الأنصار" وبين المنتظمين في "الطليعة العربية" (التابعة للدولة) يدور حول المفاضلة بين أسلوبي الإنشاء .
.. وهكذا جاء بيان طارق والرسالة الموضحة له - بعد الشروع في التنفيذ - بتلك الصياغة المختصرة والمضمون التنظيمي المرتبط الى أبعد الحدود بالظروف السائدة كحل لمشكلة قائمة ، فكان عبارة عن استجابة لمطلب بعض القيادات القومية (في سوريا) من ناحية ، وتفاعلا مع وضع وظروف متسارعة (في مصر) من ناحية ثانية ، بحيث لم يتجاوز عرضا وتحليلا ما يفي بتلبية تلك الاحتياجات التي تجلت في ارتباط الحلول المقترحة لبناء التنظيم القومي بالاجتهادات الفكرية السائدة والتجارب الحزبية السابقة مضيفا ما يلزم من شروط تسبق وتصاحب التأسيس وتتلخص أساسا في الالتقاء على "خط فكري عام" واعتماد أسلوب البناء الديمقراطي من القاعدة الى القمة مع ضمان البعد القومي لهياكل التنظيم ، أخذا في الاعتبار العلاقة مع القيادة القومية في مصر في ذلك الوقت ، ثم - وهذا على قدر من الانتباه والأهمية - دون تجاهل أو اختلاق تعارض أو تناقض بين هذا المشروع ومشروع الدولة الجاري إعداده في مصر (الطليعة العربية) كما يظهر في الجملة الأخيرة من الفقرة السابقة ، ودون اعتبار الطابع الإقليمي عائقا لالتقاء المشروعين ، فضلا عما يمكن أن تدسه أجهزة الدولة في صفوفه من خلال تنظيمها من الانتهازيين والمنافقين .. وهو ما يعني بكل وضوح أن إمكانية قيام تنظيم قومي بدون نظرية مبلورة وجاهزة ممكن متى توفرت شروط التأسيس كتلك الظروف التي كانت تشهد فورة قومية منقطعة النظير في ظل القيادة التاريخية للزعيم الراحل جمال عبد الناصر ، وقد كانت الجماهير العربية بتأييدها والتفافها حول القيادة في شبه تنظيم غير معلن ، بل ان اشتراط الالتزام بنظرية قبل قيام التنظيم مناقض تماما لمبدأ نشأته كما بينا سابقا ..
أما بالنسبة للوثيقة الثانية فان الدكتور عصمت سيف الدولة ترك كل ما بذله من جهد في صياغة الأسس النظرية بكل تفاصيلها (منهجا ومنطلقات وغايات وأسلوب ..) .. واتجه فقط لوضع عصارة مجهوداته الفكرية في خلاصة هي الحوصلة النهائية وخلاصة الخلاصة في دراسة لا تتجاوز 30 صفحة اختار لها عنوان "معطيات مبدئية".. حدّد فيها بشكل حاسم ودقيق النقاط الأساسية التي يمكن أن ينطلق منها أي حوار متقدم حينما تأتي تلك اللحظة الحاسمة .. وهو ما يعني حسب النقاط الواردة فيها أن هذا الحوار يمكن أن يشمل كل من يؤمن بمضمون الوثيقة وحدها كمشروع للانطلاق في البناء والتأسيس للحركة العربية الواحدة دون أي اشتراطات أخرى ، وقد أصبح هؤلاء مشغولين فقط بالإجابة عن السؤال : ما العمل ؟.. لذلك فأن مثل هذا الحوار لا بد أن ينطلق من مسلمات لا تسمح عند الشروع فيه بأن يعود الحديث الى نقاط تثير الخلاف من جديد .. وهكذا يتقدم الحوار على ضوئها في وضع الأهداف الاستراتيجية الخاصة بالتنظيم (الخطوط العريضة للنظرية) ، ثم يحولها الى مقولات نظرية واستراتيجية وخطط عملية مدروسة وتكتيك ، لتحقيق ما يجب أن يتحقق في الواقع ، وهذا ما افتتح به الحديث قائلا : " تقوم هذه الدراسة على مسلمات غير مطروحة للمناقشة ، بمعنى أن كل ما يتصل بها من قضايا فكريّة و خبرات متراكمة من المرحلة التاريخيّة السابقة غير معاد طرحه هنا اكتفاء بخلاصته كمسلّمات . و يترتّب على هذا - من ناحية - أنّه إذا كانت تلك التي نسمّيها مسلّمات ما تزال موضع شكّ أو في حاجة إلى مزيد من البحث فلابدّ أن نبدأ الدراسة من نقاط سابقة . و يترتّب عليه - من ناحية أخرى - انها اذن ليست دراسة للكافة بل مشروع للحوار بين الذين تجاوزوا مرحلة الايمان بمسلماتها فهم مشغولون بالبحث عن الإجابة الصحيحة عن سؤال : ما العمل ؟ .. لقد كان لا بد من تحديد نقاط التقاء على مسلمات كمعطيات مبدئية ليكون الحوار مجديا وقابلا لمزيد من نقاط الالتقاء اذ أن أي حوار لا يبدأ من نقاط التقاء لن يلبث أن يتحوّل الى محاورات فكرية تلف وتدور حول مواضيع عدّة ولا تنتهي أبدا الى نتيجة معينة " ..
وهو ما يعني بالنسبة لموضوعنا أن الوصول الى هذه الخطوة ، أي حينما يكون القوميون في مرحلة الالتقاء حول المسلمات ، فهم على عتبات التنظيم .. وهو ما يفيد - من ناحية - بانهم في هذه اللحظة قد تجاوزوا كل مراحل الفرز وأصبحوا جميعا صفا واحدا مفرزا تجمعهم تلك المسلمات اللازمة لإدارة الحوار نحو الخطوة اللاحقة المتمثلة في التأسيس .... ومن ناحية ثانية فهو يعني أن موضوع الفرز لا يتجاوز مضامين تلك الوثيقة الجامعة المحصورة في المسلمات ، وهي نقطة هامة وحاسمة بالنسبة لأي اختلاف في وجهات النظر يتجاوز في مضمونه مضامين تلك الوثيقة من حيث تفاصيل العمل ومراحله وأليات تحقيقه .. بشرط أن يكون الحسم فيه قائما على الأسلوب الديمقراطي المستند الى تلك المبادئ ..
لكن ما هي هذه المسلمات التي يجب أن يجتمع حولها المتحاورون لينطلق منها الحوار ؟
اننا حينما نتأمل مضمون الوثيقة نكتشف أنها تنقسم الى عنصرين أساسيين .. العنصر الأول يتمثل في تحديد المسلمات البالغ عددها 12 عنصرا ، وهي باختصار نفس المسلمات العقائدية التي تتحدد من خلالها مرتكزات المشروع القومي للدكتور عصمت سيف الدولة في جانبيه الفكري والحركي بكل أسسه المعروفة (منطلقات وغايات واسلوبا) ، كأساس لعقيدة قومية صلبة يشمل منطلقها القومي وأهدافها الاستراتيجية مبادئها الفكرية ، وطريقها القومي مبادئها الحركية .. وهي مبادئ قام الدكتور بجمعها وتلخيصها كمبادئ عامة حتى تكون مشروعا لوحدة فكرية هي أساس كل حوار مثمر وبناء ..
أما العنصر الثاني من الوثيقة فهو يتمثل في التوضيح والتأكيد على البعد القومي للتنظيم وبيان خصائصه بكل جوانبها الذاتية (من حيث العلاقات الداخلية) ، والموضوعية (العلاقات الخارجية) ، مدعومة بأمثلة من التجارب القومية السابقة .. اجتهد الدكتور في تحديدها كأساس لضمان كل النجاح المطلوب عند تأسيس أداة الثورة العربية المفقودة ..
ولعل أهم ما جاء في هذه الوثيقة بالنسبة لموضوعنا - وقد أتينا على كل عناصرها - ما يتعلق :
أولا ، بصياغتها المنهجية في تحديد المسلمات ، وقد قسمها في بعدها النظري الى جوانب فكرية وحركية ..
ثانيا : قد جاء الجانب الفكري متضمنا العقيدة القومية بكل ما تشمله من منطلق قومي وأهداف استراتيجية في شكل مبادئ فكرية عامة ..
ثالثا : قد تضمّن الجانب الحركي كما حدده نظريا كل ما يتعلق ببناء التنظيم القومي بكل خصائصه المعروفة لدى الدكتور عصمت سيف الدولة ..
رابعا : اختتم الجزء الأول في جانبه العملي الوارد في العنصر الثاني عشر بالإشارة الى المهمات الضرورية المطروحة الواجب إنجازها قبل التأسيس سواء في ما يتعلق بمهمة مواجهة الواقع بما هو ممكن كأسلوب ضرورة ، أو بمهمة التحضير والاعداد للتنظيم .. وهو ما جاء في العنصر المذكور حين قال : " انّ عدم وحدة التنظيم الجماهيري الثوري وما قد يقتضيه إنشاؤه من جهد ووقت حتى يأتي ملائما علميا لتحقيق غاياته بعد توفير كافّة الضمانات الموضوعيّة لتلك الملاءمة لا يعني أبدا التخلّي عن - أو الانسـحاب مـن ، أو الاستسلام في - معارك الدفاع عن أمّتنا العربيّة أو تأجيلها إلى أن يتمّ إنشاء التنظيم الجماهيري الثوري . ومن هنا فلا بدّ لكلّ الذين يحتفظـون بولائهم لأمّتهم دون غيرها في أيّ مكان وموقع أن يواجهوا الواقع العربيّ بأسلوبين متـوازيين :
الأوّل : الدفاع "بما هو كائن" من أدوات وإمكانات مع التسليم بأنّ هذا "أسلوب ضرورة" لكي يتحقّق للشعب العربي هدفه الاستراتيجي أبدا ، وقصارى ما يؤدّي إليه منع مزيد من الخسائر في معارك التحرّر العربي أو الوحدة أو الاشتراكيّة .
الثاني : تكثيف وتنظيم كلّ الجهود المتاحة لإنشاء التنظيم الجماهيري الثوريّ بحيث تستطيع الجماهير العربيّة المنظّمة أن تدخل معارك التحرّر والوحدة والاشتراكيّة "بما يجب أن يكون" في تاريخ يحدّد منذ البداية فتكون لأوّل مرّة في تاريخها الحديث قد انتقلت من مرحلة النضال "ردّ الفعـل" الذي يلهث وراء الأحداث التي يفجّرها أعداؤها إلى مرحلة النضال "الفعـل" الذي يتمّ في المكان والزمان ومرحلة الهجوم" ..
ثم أنهى الجزء الثاني في جانبه العملي أيضا بما يشبه المضمون الأول تاركا ما يهم التنظيم للتنظيم ذاته : " هكذا نجد أنفسنا أمام عـدد من المهمّات المحدّدة التي يلزم توفيرها حتى يمكن أن يقوم التنظيم القومي في الواقع العربي الراهن أداةً صالحةً لتحقيق دولة الوحدة الاشتراكيّة الديمقراطية . و هـذا يطـرح سؤالين جوهريّين:
1 - من الذي يوفّرها ؟
2 - كيف تتوفّر ؟
إنّ الإجابة عن هذين السؤالين هي موضوع الجزء الثاني مـن هـذه الدراسة . فقـد كانت غاية هذا الجزء الأوّل أن يصفّي كـلّ المشكلات ليحصرها في مهمّات محدّدة ، و مـن خلال هذه التصفية أن يصل الى معطيات مبدئية جديدة تضاف الى المعطيات الأولى والتي وصلت بها هذه الدراسة الى مستوى المسلّمات ، بمعنى أنّ الانتقال إلى الجزء الثاني سيكون غير مجدٍ إذا كانت هذه المعطيات الجديدة محلّ شكّ أو ما تزال في حاجة إلى دراسة . هذه المعطيات هي:
أوّلا : إنّ عمليّة تأسيس التنظـيم القومي تحتاج إلى مرحلتين متتاليتين مستويتين مـن حيث موضوع الالتزام والأشخاص والتنظـيم والقيادة والمهمّات المرحليّة : الأولى هي مرحلة التحضير والإعداد لتأسيس التنظيم القـومي بتوفير شروط تأسيسه الداخليّة والخارجيّة وفي المكان والزمـان . والمرحلة الثانية هي مرحلة تأسيسه الفعلي . أمّا ما بعد ذلك فسيكون شأن التنظيم ذاته .
ثانيا : إنّ المطروح والممكن في الواقع العربي الراهن هـو التحضير والإعداد لتأسيس التنظيم القومي بتوفير شروط تأسيسه وليس مطروحا ولا ممكنا على أيّ وجه القفز إلى تأسيس تنظيم قومي قبل الوفاء وفاءً كاملا بمتطلّبات المرحلة الأولى .
ثالثا : أنّه لابدّ مـن "تأجيل" تأسيس التنظيم القومي إلى أن يتمّ الوفاء الكامل بمتطلّبات المرحلة الأولى . ولكن لابدّ من البدء "فـورا" في التحضير والإعداد له في نطاق خطّة تحضير وإعداد مرحليّة تستغرق زمنا محدّدا .
رابعا : إنّ مبرّرات التحضير والإعداد لتأسيس أداة الثورة العربيّة كما يجب أن تكون لا يجوز أن تكون على حساب أو بدلا من أدوات النضال القومي الكائنة والمتاحة وذلك إلى أن يتمّ تأسيس التنظيم القومي"..
وهكذا ينهى الدكتور عصمت سيف الدولة كل جزء من الجزأين المذكورين في جانبه العملي بخاصيتين حركيتين : ما هو ممكن وما يجب أن يكون .. فيربط الممكن بالظروف الذاتية والموضوعية ، وبالضرورات الحياتية الملحة الواجب تحقيقها في الواقع العربي .. ثم يترك - في كل مرة - ما يجب أن يكون لأصحابه بعد التأسيس ..
(القدس - م .ع / فيفري 2018).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق