القدس عنوانها وفلسطين بوصلتها

القدس عنوانها وفلسطين بوصلتها
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

فرز واحد ... أم فرز متعدّد ... ؟

روابط الأجزاء :

تـقديــــم / الجـــزء 1 / الجـــزء 2 

الجــزء 3 / الجــزء 4 / الجــزء 5  

الجــزء 6 / الجــزء 7 / الجــزء 8 

الجـزء 9 / الجـزء 10 / الجزء 11 

الجـزء 12 /الجزء 13 الجزء 14

الجـزء 15 / الجزء 16 الجزء 17

الجزء 18 / الخاتمة / المحتوى كامل  

فرز واحد ... أم فرز متعدّد ... ؟

دراسة في أقوال ومواقف الدكتور عصمت سيف الدولة .

تقديم

لا شك ان المتابع للجدل الدائر داخل العائلة القومية حول الإحداث والمتغيرات في الواقع العربي يلاحظ غياب الاتفاق حول الأولويات والخيارات المطروحة رغم وجود الفهم المشترك لعقدة المرحلة وهو ما يسبب هذه المواقف المتباينة والموجات المتصاعدة من المعارك الكلامية المستعرة  في أغلب الأحيان .. 

وتلك العقدة هي أننا امة مجزأة يطمح أبناؤها للتحرر والوحدة دون آداة نضالية موحدة قوميا تتجاوز دائرة الفعل الإقليمي في كل قطر ، وتتضافر فيها كل الجهود والإمكانيات القومية البشرية والمادية لبناء المستقبل المستحق .. وهو ما يجعل القوى القومية خارج المشهد الذي تتحكم فيه قوى أخرى فاعلة في الواقع  منها الأطراف النظامية في السلطة القطرية ، ومنها الأطراف الخارجية متعددة الأهداف والأطماع والمصالح  ، ومنها حتى بعض حركات المقاومة وأحزابها التي استطاعت بأسلوبها القتالي افتكاك موطئ قدم داخل ساحة الصراع في الوطن العربي للمناورة وفرض شروطها على جميع الأطراف الأخرى .. وفي مثل هذا الوضع تجد قوى التحرر القومي نفسها - وهي في حالة العجز - مجبرة للبحث عن قوى فاعلة تؤيدها او تؤيد الاطراف المحلية المتحالفة معها ، الا انها لا تجد من بينها من يرتقي كليا الى مستوى طموحاتها ، فلا تتفق حولها جميعا .. ويزداد الخلاف تعقيدا بتعدد القوى المتدخلة والمتحالفة ، ثم يستمر باستمرار المشكلات والتدخلات والتحالفات ..

واننا في مثل هذا الوضع لا نملك سوى التساؤل باستغراب : هل الحل في إدانة التحالفات حين تكون دون مستوى طموحاتنا .. او في استمرار إدانة المواقف منها حين نكون عاجزين عن تغييرها ونحن نعيش  خارج المشهد ..؟ أم في معالجة الخلل الذاتي الذي يسبب هذا العجز  وصولا بالممارسة الى مستوى التحديات المطروحة ، بحيث لن نكون - بعد ذلك - في حاجة الى لوم الآخرين حينما يكونون في صفنا او ضدنا ، او حينما لا ترتقي مواقفهم ـ من موقع  العجز او من موقع المصلحة - الى مستوى الطموحات المطلوبة ..  وحتى نصل بإمكانياتنا الى موقع الفعل والتأثير والقيادة ، بمثل ما كانت تحظى به مصر وقيادتها التاريخية لثورة 23 يوليو 1952 .. ؟

وهل يُحل المشكل بالصراع حول هذه المواقف في الفضاءات المفتوحة ، بكل ما يترتب عنها من سلوك يترجمه البعض الى إجراء عملي يسمونه " الفرز " .. حيث تصبح مقولة الفرز قائمة عند البعض على  أساس الموقف من إيران او من حلفائها او من هذا النظام العربي او ذاك وعلاقتهم بالأحداث الظرفية الجارية والمتغيرة .. ؟

للأسف هذا هو الواقع .. وقد وصل الأمر الى أقصى درجات التمييع لهذه العبارة بحيث أصبح استعمالها بلا معنى ، فقد شاهدنا اخر الحالات استهجانا لمقولة الفرز ما رأيناه يرتبط مؤخرا (نهاية 2017) بالسجال بين القوميين حول الاحتجاجات الشعبية في ايران بين مؤيد ومعارض ، بكل ما يتبع ذلك من تلاسن يصل أحيانا الى حد التخوين والاتهام بالعمالة لإيران ، وكلاهما يبني تحليلاته وتوقعاته بناء على مواقف سابقة من الصراع الدائر في مواقع كثيرة من الوطن العربي ، بما لها من ارتباطات سابقة ايضا بالأحداث الجارية في كل موقع  .. والحال ان هذه الاحداث لا تزال في بدايتها ، فلا يزال الحكم على ما يجري هناك سابقا لأوانه ، وقد ينتهي حتى قبل ان تتجلّى الصورة بالكامل للمتابعين والمحلّلين ، وعلى خلاف ما تروجه بعض المصادر الاعلامية ..  لذلك كان يبدو واضحا منذ البداية ان القول بان ايران تشهد ثورة شعبية ستعصف بالنظام مجانب للحقيقة  .. وان من ذهب بخياله ابعد من ذلك معتقدا امكانية ان يقع لإيران ما وقع لسوريا او ليبيا فهو بعيد كل البعد عن الواقع .. حيث لا مجال للمقارنة بين الواقع الايراني وواقع الدول العربية  لعدة اساب منها بالأساس : 

- ان ايران دولة قومية تحكمها سلطة مركزية قوية ، محاطة بحاضنة شعبية ممتدة تحمل وعيا قوميا متقدما على مثيلاتها في  الدول العربية ..

- وان "الاسلام السياسي" الايراني ـ كما "الاسلام السياسي" التركي ـ هو قومي الولاء لإيران ـ كما الاخر لتركيا - على خلاف "الاسلام السياسي" العربي العميل للخارج ..

لذلك فان مثل هذه الدول  يمكن ان تشهد احتجاجات وغضب شعبي بسبب الظروف المعيشية ، لكن غالبية الشعب في ايران لن ينجر الى اسلوب التدمير الذاتي الذي تسعى الاطراف الخارجية لتغذيته كما حصل في الدول العربية .. وقد رأينا كيف تصرفت فئات كثيرة من الشعب التركي ضد الانقلاب رغم الخروقات التي حصلت ضد كل المشبوهين ..

قبل ذلك كانت واقعة اغتيال المرحوم علي عبد الله صالح محطة أخرى من محطات " الفرز " على الفضاء الافتراضي عند البعض  .. حيث يظهر التشنج بين القوميين  مع كل جديد في الوطن العربي له علاقة بإيران او بحلفائها .. وقبلها حول مواقف من داخل المعارضة الحزبية على الساحة السياسية في تونس كما في مصر بعد 30 يونيو ، في علاقة بأسلوب التعامل مع الحكومات والانظمة .. وقبلها وحتى اليوم حول الاحداث في سوريا ... الخ ...

ورغم ان الاختلاف حول قراءة الاحداث أمر عادي ولا يثير اي استغراب حينما يكون تلقائيا ومقترنا بالحوار ، لأنه في النهاية يطفو على السطح ثم يتبخر مع تغير الاحداث .. الا ان تكرر استعمال هذه المقولة وكثرة تداولها بين منتمين لتيار معين دون غيره ، وبمشاركة " رموز" معروفين احيانا من رموز هذا التيار على الفضاء الافتراضي ، ثم توظيف هذا الاستعمال من طرف البعض في تصفية حسابات مبنية اساسا على مواقف سابقة من اطراف ومجموعات وقيادات واحزاب بعينها ، سرعان ما ينتهي  بالاتهامات والتخوين والتجريح .. مما يحوّل الحالة المتكررة الى ظاهرة مرضية أضرارها على مستقبل العائلة القومية اكثر مما يظهر فيها من ايجابيات النقد والاختلاف والجدل ...

ما يهمنا من هذه الظاهرة هو انعكاساتها السلبية حينما يصبح استعمال كلمة الفرز خارج السياق ، فتتحول الى معول للهدم على غير وجه حق لعدة أسباب ..

- أولا ان السعي لفرز القوى لا يكون في الفضاءات المفتوحة بين متحاورين افتراضيين لا تربطهم في الواقع أي صلة ، بل يفترض أن يكون على أساس العمل الميداني والحوار والجدل الهادف في ندوات ولقاءات مباشرة ، بغرض تقريب وجهات النظر وتطوير أساليب العمل بمنهجية علمية وبقدر كبير من الحكمة والمسؤولية القومية ، وليس العكس .. 

- ثانيا ان الفرز الحقيقي ـ بين أصحاب الفكر الواحد - يكون على قاعدة الثوابت وليس في التفاصيل والاجتهادات المتعلقة بالمتغيرات التي لا نملك في الغالب الماما كافيا بحيثياتها في بداية وقوعها فيحصل الاختلاف .. 

- ثالثا ان الفرز البناء لا يكون بإدانة الاجتهاد الخاطئ الذي يمكن ان يصحّحه الجدل الاجتماعي بدل التشهير به عن طريق المواقف الفردية .

- رابعا اذا كان البعض يعتمد على " القسوة " كأسلوب للفرز "اقتداء" بأسلوب "السفود" عند الدكتور عصمت سيف الدولة ، فان الفرز بهذه المفاهيم المتداولة ابعد ما يكون عن ذلك الأسلوب .. 

- خامسا اذا كان المقصود من الفرز - على المدى الطويل - هو بناء الحركة العربية الواحدة ، فانه يتم على أساس الموقف من الهدف الاستراتيجي : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية . اي بين التقدميين والرجعيين ، وليس بين أصحاب الفكر الواحد والهدف الواحد حول ما يشهده الواقع من أحداث ومتغيرات ..  

ولكن ماذا يعني الفرز على أساس المتغير من الأحداث .. ؟ 

معناه أولا ، ان وراء كل عملية فرز ستظهر عملية فرز جديدة تحوّل الفرز الواحد ، بين أنصار دولة الوحدة وأعدائها ، الى فرز متعدد ومتجدد مع كل جديد ، بين أنصار نفس المشروع .. 

ومعناه ثانيا ان مثل هذا الفرز سيؤدي الى ظهور شكل جديد من أشكال التجزئة على مستوى الدعوة لقيام التنظيم القومي ، ظاهرها انتصار الكل لنفس المشروع وباطنها مشاريع تجزئة "دعوية" تبعا لموقف كل مجموعة من الإحداث بكل ما فيها من تكتلات وتحالفات واصطفافات ، وبعض مظاهرها وتداعياتها موجودة في الواقع الآن (فيفري 2018) .. 

فالبعض يتكلم عن التنظيم القومي وهم يقصدون تنظيما يجمع مناهضي النظام السوري وإيران وحزب الله معتبرين غيرهم منحرفين وخارجين عن الصف القومي .. 

والبعض الآخر يتكلم عن نفس التنظيم وهم يقصدون تنظيما يجمع مؤيدي هذا الحلف ، مع نفس الموقف  الذي يتبناه الفريق الأول من مخالفيهم .. وهكذا قياسا على كل الاختلافات الحاصلة .. كل تعدد في الأسس التي يقوم عليها الفرز ، يتبعه تعدد في المقاصد والمفاهيم التي تقوم عليها الدعوة للتنظيم القومي ، وصولا الى تعدد القوى التي تمثله ... فلا يُستغرب ان يكون في اذهان البعض تصورات مماثلة لقيام :

- تنظيم يجمع مؤيدي النظام الحالي في مصر وحلفائه على خلفية تصديه للاخوان وتنظيم يجمع معارضيهم ..

- تنظيم يجمع مؤيدي العمل الحزبي الاقليمي على خلفية المقولة " من الممكن الى ما  يجب أن يكون " وتنظيم يجمع رافضيه ..

والبقية تأتي مع الأحداث والمتغيرات ... فلا يتردد هذا الفريق او ذاك في التشهير بالآخرين تحت عناوين ومسميات كثيرا ما تستعمل بحسب التوظيف الذي يتبعه كل فريق من خلال فهمه للأولويات .. ما يجعلهم عاجزين - ولو على مستوى الموقف - على مواجهة الواقع وقواه الفاعلة بما لها من امتدادات واصطفافات معقدة لا يملكون لها حولا ولا قوة ... !! والكل يستشهد بمواقف الدكتور عصمت سيف الدولة ، مردّدين نفس العبارات عند كل اختلاف : فلتفرز القوى !! .. وهو ما يحيلنا مباشرة لطرح سؤالين : ماذا كان يقصد صاحب المقولة حينما تحدّث عن فرز القوى ؟  .. وكيف تنجز هذه المهمّة عنده ..؟

-1-

في البداية نتوقف عند هذين السؤالين لنلاحظ ان  أحدهما يتعلق "بالقصد" وهو يعني أنه لا بد أن يكون لعملية الفرز مفهوم واضح ومحدّد عند الدكتور عصمت سيف الدولة ، والآخر يتعلق "بالكيفية" أي أن تكون له آليات وأساليب معلومة منذ البداية حتى يتم إتباعها للوصول الى تحقيق الغرض المطلوب .. أي أن تكون هذه العملية مطلوبة لتحقيق غاية محدّدة يعلمها الجميع حتى يتم انجازها على أحسن وجه .. اذ أنه من غير الممكن أبدا أن يطرح الدكتور عصمت سيف الدولة مهام نضالية بهذه الاهمية دون تحديد مفاهيم واضحة وأساليب عملية قابلة للانجاز وفقا لأهداف مضبوطة ..

وهكذا نرى أن الإجابة عن هذين السؤالين تقتضي التطرق الى هذه النواحي : المفهوم والأساليب والأهداف ، في كل مراحل الحديث للوصول الى أجوبة دقيقة .. وهو ما يجعل مسألة الدقة المطلوبة في الإجابة تمر حتما عبر  مجموعة من الأسئلة الثانوية ذات العلاقة بموضوع الفرز لا بد من الإجابة عنها للإحاطة بكل جوانب الموضوع ومنها :

1 – حينما نتحدث عن فرز القوى والصفوف كما طرحه الدكتور عصمت سيف الدولة ، هل هو مهمّة فردية أم جماعية ؟ بمعنى هل هي مهمّة أفراد أم تنظيم ؟

2 – هل الغاية من الفرز فكرية نظرية أم حركية ، أم تشمل الفكر والحركة معا ، وما هي آلياتها في كل حالة ؟

3 – هل للفرز غاية إستراتيجية أم تكتيكية أم تشمل الاستراتيجي والتكتيكي معا وما هي الآلية المناسبة لكل حالة ؟

4 – هل الفكر الطليعي هو المشروع الفكري للدكتور عصمت سيف الدولة ؟

5 – هل يلتقي القوميون لبناء التنظيم القومي على مشروع فكري جاهز يحسمونه قبل قيام التنظيم القومي ؟

6 – هل الغاية من الفرز بناء مشروع فكري أم بناء مشروع تنظيمي مشروعه الفكري غير محسوم ؟

7 – هل للقوميين مفهوم موحّد للفرز ، ومن يتولى تحديد هذا المفهوم ؟

8 – هل يقوم الفرز على الثوابت أم على المتغير من الأحداث ، أم على كلاهما معا ؟

9 – هل يخضع الفرز - وجوبا - لأسلوب علمي محدّد مرتبط - وجوبا - بغاية محددة ؟

10 – هل يتغير الفرز بتغير المراحل فتتغير مضامينه أم هو متواصل على مضمون ثابت ؟

11 – هل الفرز الداخلي يخضع لنفس المقاييس والمعايير التي يقوم عليها الفرز الخارجي في أي مرحلة من المراحل النضالية ؟

12 – هل يمكن مثلا ، أن يكون اختيار مترشح في محطة انتخابية معيارا للفرز بين القوميين ؟

13 – هل الفرز المطلوب كما طرحه الدكتور عصمت سيف الدولة معلن ومفتوح في كل الفضاءات أم يستوجب تأطيرا واليات خاصة بمن يهمهم هذا الأمر الخصوصي ؟

14 – هل أسلوب الفرز المعتمد حاليا يخدم المشروع القومي أم يعيقه ؟

15 – هل يتم الاحتكام – في عملية الفرز – الى التكتيك أم الى الاستراتيجيا ؟

16 – هل هناك استراتيجيا سابقة على قيام التنظيم القومي ؟

17 – هل الاستراتيجيا هي الأهداف الإستراتيجية التي جاء بها المشروع الفكري للدكتور عصمت سيف الدولة ؟

18 – هل حدد الدكتور عصمت سيف الدولة في مشروعه الفكري الاستراتيجيا أم الأهداف الإستراتيجية ؟

19 – هل التكتيك في المعارك القومية والإقليمية يحدّده الأفراد أم هو مهمّة تنظيم ؟

20 – هل الانتماء للأحزاب الإقليمية جريمة لأن الإقليمية مجرمة ؟

21 – هل تستطيع الأحزاب الإقليمية ذات الخلفية القومية بناء استراتيجيات قومية ؟ وما هي خصوصيات استراتيجياتها الإقليمية في حدود ولائها القومي ؟

22 – هل الولاء القومي عقيدة قومية أم تموقع تنظيمي ؟

23 - هل العقيدة القومية تتأثر بالمواقع الحركية ؟

24 – هل وجود الأحزاب القومية في شكلها الإقليمي معيق للمشروع القومي أم مساعد على تحقيقه ؟

25 - هل وجود القوى القومية في السلطة يخدم المشروع القومي أم يعيق تحقيق أهدافه ؟

 26 ـ ما هو دور القوميين وأسلوبهم حينما يكونون في قطر يحكمه الاستبداد ، وفي قطر آخر به هامش من الحريات السياسية الليبرالية تحت حكم القوى الرجعية ، وفي قطر ثالث تتوفر فيه أرضية تسمح بتحقيق قدر هام من الديمقراطية السياسية والاجتماعية ؟

27 ـ لماذا تبنى الدكتور عصمت سيف الدولة مبدأ الدفاع عن حق الناصريين في مصر للحصول على ترخيص من أجل النشاط الحزبي الإقليمي ، مع الاجتهاد الفكري والتحريض المستمر لإنجاح هذا الخيار وهو صاحب الدعوة للتنظيم القومي ؟

28 ـ لماذا استجاب الدكتور عصمت سيف الدولة لدعوة الثورة في ليبيا سنة 70 وقبِل فكرة بناء التنظيم القومي تحت إشراف دولة إقليمية ؟

29 ـ لماذا كان الدكتور عصمت سيف الدولة يتفاعل ايجابيا مع أي مبادرة إقليمية من الأنظمة حينما تكون بها أي مضامين وحدوية ولو كانت شكلية على غرار اتفاق الوحدة في بني غازي ؟

30 ـ ما هي شروط  وحدود هذا التفاعل الايجابي مع المبادرات الوحدوية سواء على المستوى الرسمي للدول الإقليمية أو للأحزاب ؟

31 – لماذا كان يتفاعل بمرونة مع التكتيك المرحلي لفصائل المقاومة سواء داخل منظمة التحرير أو خارجها ؟

32 – لماذا كان يتعامل معها بأسلوب النصح والاقناع والتنبيه الى الأخطاء ممتنعا عن التشهير مهما بلغت الأخطاء ؟

33 ـ لماذا غير الدكتور عصمت سيف الدولة موقفه من الدعوة لأنصار الطليعة بعد هزيمة 67 وبدأ التحريض على تكوين خلايا المقاومة معتبرا أن حضن المقاومة أفضل أرضية لبناء التنظيم القومي (ما العمل - رسالتان الى الشباب العربي 67 - 69) ؟

34 ـ الا يعتبر فرض أسلوب بعينه في تحقيق الوحدة على القوى الثورية يتنافى مع حرية  الإرادة الإنسانية التي تعتبر حجر الأساس في بناء كل مقولات الفكر القومي التقدمي ؟

35 ـ لماذا كُتب بيان طارق في نسختين مختلفتين إحداهما لسوريا والأخرى لمصر ؟ (حبيب عيسى – "ملاحظات للدفاع في القضية 37 لعام 1972" ) .

36 - هل تجاوزت الأحداث أسلوب البناء للتنظيم القومي الوارد في بيان طارق (1966) أم انه أسلوب صالح لكل زمان ؟

37 ـ هل تمت الوحدة في الأمم الأخرى ، الألمانية والايطالية والأمريكية وغيرها .. بنفس الأسلوب الذي جاء في بيان طارق ؟

38 ـ هل يعتبر تحقيق الوحدة في الوطن العربي كما جاء وصفه في بيان طارق أسلوبا عربيا خاصا بواقع موضوعي أم أسلوبا عاما لتحقيق الوحدة ؟

39 ـ هل القوميون الوحدويون الاشتراكيون قوة واحدة أم قوى متعدّدة ؟

40 - هل التنظيم القومي تنظيم نخبوي أم تنظيم شعبي ؟

41 - هل يمكن للممارسة الإقليمية - في الواقع العربي – أن تكون جزء من الأسلوب القومي أم مناقضة له ؟ 

42 ـ ألا يعتبر تصريح الدكور عصمت سيف الولة بأن الناصرية هي نظرية الثورة العربية مناقضا لبيان طارق ؟

43 ـ اذا كان الاحتلال مدانا بجميع أشكاله ، فهل يستوي المحتلون للأرض العربية حكما وإدانة ومقاومة أم يختلفون باختلاف المراحل النضالية وتداعيات الاحتلال على المصير القومي ؟

44 ـ هل يتحدد الموقف من المقاومة على أساس خلفية الآداء والفعل المقاوم للأعداء أم على أساس منابعها ومرجعياتها الفكرية والعقائدية ؟

الخ ...

هي اذن عشرات الأسئلة التي يمكن أن تخطر على البال اثر كل سجال يدور بين القوميين حول أبسط القضايا المطروحة مع كل جديد .. وقد يكون بعضها  غريبا أو مستفزا بالنسبة للبعض .. لكن مبرّرها أننا نسمع كل يوم كثيرا من القول المستفز حول موضوع الفرز دون أن نجد له اتصالا بمنابعه الأصلية .. وقد يتساءل البعض المستغرب عن علاقة تلك الأسئلة بموضوع الحديث وفيها ما يبدو أقرب الى التشكيك في المشروع القومي منها الى البحث في اشكالياته المطروحة .. وان كان في هذه الأسئلة ما يثير تلك الحالة ، فلعل الأجوبة تكون أكثر استغرابا حينما تكون على لسان عصمت سيف الدولة نفسه ..!!

وعلى اي حال فنحن لا نريد ان نطرح أسئلة عبثية غير ذات صلة بالواقع ... بل نريد أن نقول من وراء الأسئلة بان موضوع الفرز هو - أولا - على صلة وثيقة بقضايا مطروحة كان الدكتور عصمت سيف الدولة يتفاعل مع أغلبها حتى قبل أن يخطها في كتاباته ، ودون أن يكون ما كتبه مقيّدا لحركته ، وهي أمثلة حية سنرى الى أي مدى يمكن أن تساعدنا على كثير من الفهم والتدقيق في هذا الإشكال القائم .. وثانيا فان موضوع الفرز على صلة وثيقة بمشروع مستقبلي لأمة بأسرها لا يجب أن يكون خاضعا لردود الأفعال العشوائية المنفلتة ولا الى نزوات الأفراد وأهواءهم مهما كانت النوايا حسنة  ..

-2-

وقبل الذهاب الى جوهر الموضوع بالتفاعل مع هذه الأسئلة لا بد من الاشارة الى أن الفكرة كلها مستوحاة من منهجية الدكتور عصمت سيف الدولة في تناول المسائل المعقدة والمتداخلة وخاصة حينما تكون الأحكام المتصلة بها والمواقف المترتبة عنها بالغة الأثر في صياغة الأفكار وتحديد وجهات النظر اللاحقة من القضايا المصيرية المطروحة .. وهو أسلوب وجدناه يتكرر بشكل ملفت في كل القضايا التي يتناولها عصمت سيف الدولة بالبحث والدرس ولو في مسائل جزئية كما سنرى في كثير من الأمثلة .. ولعلنا في مستهل هذا الحديث نستحضر أسلوبه "المنهجي" في محاولة فهم وتقييم "المضمون الديمقراطي" لثورة 23 يوليو ضمن ورقته التي قدمها لندوة ثورة يوليو (مايو – أيار 1986 بالقاهرة) تحت عنوان "ثورة يوليو والمسألة الديمقراطية" جاء فيه طرح مسألة مهمة سماها بـ "المسائل الأولية" ، مستفيدا من خبرته في مجال تخصصه الأكاديمي والمهني حين قال في هذا السياق : "التقييم حكم طبقا لمعايير سابقة وثابتة . ولا يكون الحكم عادلا إذا ما كانت المعايير ذاتها في حاجة إلى تقييم . هكذا يمتنع على القضاء – في إجراءات التقاضي – أن يحكم في موضوع محدد إذا كان الحكم فيه متوقفا على حكم في مسالة خارج نطاقه . يسمون تلك المسألة ، إن وجدت ، مسألة أولية ويوجبون الفصل فيها أولا قبل تناول الموضوع . ونحن مطالبون بأن نقيّم "ثورة يوليو والمسألة الديمقراطية" . فما هي ثورة يوليو ؟ هل هي الحدث الذي وقع في مصر صبيحة 23 تموز 1952 ؟ أم هي الحركة الثورية التي بدأ الإعداد لها منذ عام 1942 وانتصرت عام 1952 ؟ أم هي السلطة الحاكمة في مصر من منذ 1952 حتى 1970 ؟ أم هي الأفكار أم هي الآثار أم هي الانتصار أم هي الانهيار والى أي مدى من الزمان امتدت ثورة 23 يوليو بعد 1952 ؟ "..  

ثم انه لا يكتفي بهذا التحديد الأوّلي من خلال الأسئلة المطروحة ، بل انه يذهب أكثر من ذلك في تقييد مجالات البحث محددا منذ البداية المجالات المتاحة له موضوعيا للوصول الى التقييم الموضوعي في الحكم على "المضمون الديمقراطي لثورة يوليو" من خلال الفصل في المسائل الأولية المتعلقة بموضوع البحث .. وهكذا فان اختلاف وتباين مواقف الثورة في مراحل مختلفة من مسيرتها لمفهوم الديمقراطية ، مسألة أولية قال فيها : "فقد كانت للثورة رؤى ومواقف مختلفة من المسألة الديمقراطية . كانت ثورة ضد ديمقراطية ما قبل 1952 من أجل "الديمقراطية السليمة" في مرحلة الإعداد . وكانت ثورة بلا شكل ديمقراطي في مرحلة الانتقال من 1953 حتى 1956 ، تخللتها فترة اضطراب كان موقف الثورة من المسالة الديمقراطية فيها يتردد بين متناقضات لا يمكن التوفيق بينها"  .. ثم بعد أن يذكر الأمثلة يختم بالقول : "هذه زاوية رؤية لثورة يوليو والمسألة الديمقراطية عرضناها تفصيلا في كتاب "الأحزاب ومشكلة الديمقراطية في مصر – 1977" بدون تقييم . فما الذي يمكن أن نحسبه لثورة يوليو وما الذي يمكن أن نحسبه عليها ونحن نحاول تقييمها الان من بين المراحل المتعاقبة المتغايرة وتناقضاتها ؟ هذه مسألة أولية"  ..

ثم ان النظر في العلاقة بين الجوانب الفكرية والنظرية المتطورة للثورة  وممارستها الفعلية في الواقع مسألة أولية ثانية قال فيها : "ثمّة زاوية تحدّدها أجوبة أخرى على الأسئلة التي ذكرناها . زاوية العلاقة بين أفكار ثورة يوليو عن المسألة الديمقراطية وبين تطبيقها . فعلى امتداد الفترة من 1952 حتى وفاة قائد الثورة جمال عبد الناصر لم يكن موقف الثورة من المسألة الديمقراطية كما هو موضوع في الوثائق الدستورية أو الفكرية متفقا دائما مع الممارسة" .. ثم بعد أن يذكر الأمثلة المؤيدة لهذه الناحية على غرار ما حدّده دستور 1956 في الأسلوب الشعبي لإنشاء الاتحاد القومي أو في ما تلاه بالنسبة للاتحاد الاشتراكي ، يختم بالقول : " لقد عرضنا بالتفصيل موقف ثورة يوليو من المسالة الديمقراطية على مستوى الافكار والمواثيق الدستوريسة في كتاب صدر عام 1976 تحت عنوان "النظام النيابي ومشكلة الديمقراطية" بدون "تقييم" فما الذي يمكن أن نحسبه لثورة يوليو أو نحسبه عليها وتقييمها الان : الافكار والوثائق أم الممارسة والتطبيق . هذه أيضا مسألة أولية" ..

كذلك ، زاوية النظر الى الثورة في علاقة بقائدها مسألة أخرى أولية مهمة ومعقدة لا يمكن تجاهلها في نظر عصمت سيف الدولة قال فيها : " وأخيرا عبد الناصر وثورة يوليو والمسألة الديمقراطية . هذه زاوية ثالثة للرؤية وأكثر تعقيدا . ان جمال عبد الناصر ، بدون خلاف هو مدبر ومفكر ومفجر وقائد ثورة يوليو . لم يكن حتى عام 1962 منفردا بالقيادة السياسية ، ولم يكن حتى عام 1967 منفردا بقيادة الدولة (كان عبد الحكيم عامر حتى عام 1987 قائدا منفردا في المجال العسكري) بل كان قائدا مرموقا - نعم - لمجلس قيادة الثورة أو أعضائه ، وهم جماعة مختلفة الرؤى والمواقف الى حد لن يظهر صارخا الا بعد وفاة عبد الناصر وان كان لهم مواقف ورؤى فردية مختلفة منذ البداية" .. وبعد أن يذكر أمثلة من مواقف متباينة لأعضاء مجلس قيادة الثورة من مسألة الديمقراطية يختم قائلا : " لقد عرضنا موقف عبد الناصر من الديمقراطية في كتاب ظهر عام 1978 تحت عنوان "هل كان عبد الناصر ديكتاتورا" ، بدون تقييم أيضا . فما الذي يمكن أن نحسبه لثورة يوليو أو نحسبه عليها من بين رؤى ومواقف قادتها ونحن نحاول تقييمها الان . هذه أخيرا مسألة أولية" ..   

وبالرغم من طرح كل هذه المسائل الأولية يواصل الدكتور عصمت سيف الدولة في طرح مسائل أخرى لا تقل أهمية ، ولا يمكن تجاهلها أيضا في مسألة الحكم والتقييم منها بالخصوص مسائل تتعلق بالمفاهيم الخاصة بالديمقراطية ذاتها : " ما هي ؟ وهل ماهيتها هذه مطلقة بالنسبة لكل زمان ومكان أو نسبية في الزمان والمكان ، وما علاقتها بالحرية أو المساواة ، وما مضمون كل منهما في العالم المعاصر ، وهل يتسق مضمونها في المجتمعات المتقدمة والمجتمعات المتخلفة ، وهل يتأثر سلبا أو ايجابا بالتمايز الحضاري ، وما أثر الاغتصاب الاستيطاني والاستعمار الامبريالي والهيمنة الثقافية على الحرية والمساواة وبالتالي على الديمقراطية لوجدنا أنفسنا في مواجهة عشرات أو أكثر من "المسائل الأولية" التي لا بد من تقييمها ابتداء حتى نملك بحق معيار أو المعايير اللازمة لتقييم ثورة يوليو والمسألة الديمقراطية تقييما عادلا  " ..

وأمام كل هذا التعقيد يتساءل الدكتور عصمت سيف الدولة قائلا : " فما العمل ؟ " .. ثم يجيب : بـ" الاختيار " ..  وهو اختيار مزدوج :

- اختيار الفترة التي استقر فيها حكم عبد الناصر المباشر وهي الفترة الممتدة من 1957 الى 1967 ..

- واختيار معيار الحكم على المضمون الديمقراطي الذي سعت الثورة لتحقيقه متمثلا في "الديمقراطية الاجتماعية" ..

وهكذا ، ووفقا لهذه المنهجية قام الدكتور عصمت سيف الدولة بحصر الموضوع في حدود ما يسمح به مجال البحث المحدّد بطبيعته في ورقة مقدمة للندوة في وقت محدود ..

وبالعودة الى موضوعنا ، فان طرح مسألة الفرز على ذلك النحو – دون حصر لمجال البحث - وبذلك الاسلوب المنهجي المفتوح للاحاطة بكل جوانب الموضوع ، يحوّل امكانية البحث فيها الى مهمّة شبه مستحيلة ، لا يمكن حلها وتجاوزها الا بالبحث والاستقصاء لكل الأثر الذي تركه المرحوم عصمت سيف الدولة ، الى جانب "الغربلة" لكل مواقفه الفكرية والحركية ذات العلاقة بمشروعه عامة ، وبأسلوبه في ممارسة قناعاته خاصة ، من خلال ما عرف وما ثبت عنه فعلا من أساليب حركية في التفاعل والتعامل مع القضايا المطروحة ..

ثم إن محاولة الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالقصد يثير الكثير من الغموض باعتبار إن المسألة تتحول إلى ما يشبه البحث في النوايا التي يستحيل معرفتها معرفة يقينية دون قول صريح من صاحبها تعبيرا منه عما يقصده من وراء استعمالها .. وهذا الحكم نأخذه من الدكتور عصمت سيف الدولة نفسه وقد ذكره في حوار فكري مع الشيخ محمد حسين فضل الله حينما أراد أن يجتهد في فهم ما يقصده من حديثه عن العروبة والقومية معتمدا على ذلك الفهم كأساس للحوار قال فيه : " حينما قال الشيخ محمد حسين فضل الله "العروبة قومية" لم يعد ثمة أي وجه لينسب إليه انه يستعمل كلمة "العروبة" بدلالتها السابقة على التكوين القومي العربي ، أي بدلالتها الأسرية او العشائرية  او القبلية او الشعوبية . ويصبح حقا له ان تؤخذ كلمة العروبة في أي موضع استعملها على انها تعني القومية العربية . ولكن هذا لا يعني ان يكون من حق احد ان يسند اليه مفهوما معينا  للقومية  لم يصرح هو به " .. وهكذا فأن الشيء بالمثل في موضوعنا أيضا .. لذلك فان هذا الجانب يحيلنا مرة ثانية الى نقطة البداية ، وهو أمر يتطلب - كما قلنا - جهدا كبيرا من المسح والاستقصاء والبحث في كل الأثر الذي تركه الدكتور عصمت سيف الدولة من كتب ومحاضرات وحوارات ومقالات صحفية مما يمكن الوصول إليه وهو على غاية كبيرة من الصعوبة لعدم توافره كاملا ومجمّعا ، وبعضه متناثر في الدوريات والمجلات والجرائد بكل ما له من أهمية فكرية وبحثية فضلا عن أهميته السياسية المتعلقة بمشروعه .. وقد يكون هذا النهج - بما يتضمنه من عملية بحثية معقدة ومتشعبة : مسحا وتجميعا وتحليلا واستنتاجا دون الذهاب بعيدا في فهم سياقاته ومعانيه ومقاصده عن الأسس التي يقوم عليها المشروع - هو الأسلوب الوحيد الذي نستطيع من خلاله فك رموز تلك العبارات المتداولة ، وصولا الى جمع حوصلة نهائية تتعلق بالمفهوم الذي كان يقصده والدعوة التي يدعو اليها  .. فلنبدأ من البداية من خلال المراجع والمصادر المتاحة .. ولنرجو ما رجاه الدكتور عصمت سيف الدولة في كتابه حوار مع الشباب العربي "أن يصبر القراء على ما ننقل لأننا نريد أن يكون الحوار مفيدا " ...

المنهجية اذن مسألة أولية .. وأول شروطها أن يكون آخرها متصلا بأولها ..

ثم ان الحديث في موضوع الفرز الذي نخوض فيه لم يكن اختيارا ، بل كان اضطرارا ، لفرط ما تكرر الحديث فيه - بين القوميين - مرتبطا "بتأويل" أفكار الدكتور عصمت سيف الدولة وهم الذين نتقاسم معهم تلك القناعات .. لذلك نعتقد ان طرح كل الأسئلة السابقة مسائل أولية مهمّة تحتاج الى أجوبة – ولو دون ترتيب - للإحاطة بكل جوانب الموضوع من خلال النهج الذي حدّدناه .. 

-3-    

وفي هذا الصدد عندما نعود الى كتابات عصمت سيف الدولة نجد أول استعمال لمصطلح الفرز في "بعده القومي" في الفقرة السادسة من نظرية الثورة العربية المتعلقة بالمنهج الليبرالي وقد جاء فيها : " ان هذا القصور في النظرية قد سمح بأن تختلط بالقوى القومية التقدمية ، داخل الحركة القومية ، قوى رأسمالية متراجعة أو لا قومية متراجعة أو انتهازية ترفع جميعاً شعارات واحدة وتحتفظ كل منها بفهم خاص وتفسير خاص للشعارات الموحدة . فإذا بالحركة القومية "المنتفخة" بقواها غير قادرة على أن تحقق شعاراتها أو حتى أن تجمع في قوة واحدة جماهيرها العريضة . وأن الفشل المتكرر يعني أن ثمة خطأ ما في المسيرة كلها لا يكفي لتصحيحه مجرد الجمع في شعار واحد بين الحرية والوحدة والاشتراكية . فلا بد لنا من  نظرية لتغيير الواقع العربي أكثر وضوحاً وأكثر بلورة وأكثر مقدرة على فرز القوى المختلطة داخل الحركة القومية . نظرية نلتقي بها في قوة واحدة ولو كانت أقل عدداً . ونلتزم فيها بخطة واحدة ولو كانت أطول مدى . وتقود خطانا ولو كانت أبطأ حركة . فإننا حينئذ سنتقدم تقدماً مطرداً بدلاً من أن نقفز إلى الأمام لنعود فنقفز الى الخلف ولا نتقدم الا قليلاً " .. والمقصود كما هو واضح : الفرز المتعلق بالأفكار على أساس نظري أولا ..

ثم تكررت نفس الجمل في كتاب الأسلوب الفقرة 66 ، وهو حديث عن المقدمات النظرية والفكرية اللازمة التي يجب أن يقوم عليها موضوع الفرز في هذه المرحلة من الحديث ، وقد رأينا كيف ربط في مواضع شتى من نظرية الثورة العربية بين التخبط الفكري الذي ساد طويلا في الوطن العربي ، وبين الهزائم الحاصلة في تاريخ العرب الحديث ..

ثم بقليل من الجهد في تصفح كتاب الأسلوب نجد العنوان الأبرز في الفقرة 67 تحت عنوان " فلتفرز القوى " ..  حيث يمكن أن نتبيّن القصد بوضوح وهو فرز القوى التقدمية من القوى الرجعية ، ونحن نعرف ان الدكتور عصمت سيف الدولة يعي ما يقول ويدرك مدلول الكلمات التي يستعملها  .. وانه واضح في تبويبه لكل فقرة واردة في كتاباته .. فهو على وعي تام بان مضمون هذا الكتاب موجه للتقدميين الذين خصهم وحدهم بالاجتهاد في أسلوب تحقيق دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية التي قال عنها في نهاية الحديث عن القوى التقدمية التي تؤمن بتلك الغاية بأنه " لا يوجد خارجها تقدمي واحد .. " ، باعتبار وحدة المشكلات ووحدة الحلول المناسبة لها في الواقع .. ولذلك نجده يستهل الحديث في كتاب الأسلوب بقوله : " قد لا يختلف اثنان من التقدميين في الوطن العربي على الغاية التي انتهينا إليها : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية . ولكنهما يختلفان ، ويختلف كثير غيرهم ، في الإجابة على السؤال : كيف تتحقق ؟ " .. 

وقد بدأ التمهيد لمفهوم الفرز في الفقرة المذكورة بما جاء في آخر الفقرة 66 ، من كتاب الأسلوب ، بالقول الواضح في موضوع الفرز الذي طرحه على أساس ما يعرف بثوابت المشروع القومي او ما سماه عصمت سيف الدولة بالمنطلقات والغايات والأسلوب وهو ما قاله في تلك الفقرة : " ... وهكذا كانت غيبة نظرية في الأسلوب على المستوى الفكري وفشل الأسلوب التجريبي على مستوى الممارسة هو الذي حملنا على تلك المراجعة لمنطلقاتنا وغاياتنا وعلى ان نعود فنبدأ من جديد بحثاً عن المنهج . فكأن كل ما قلنا كان بحثاً عن حل لمشكلة الأسلوب . ولقد بدأنا بذلك المنهج بسيط الكلمات (جدل الإنسان) وحملناه معنا في كل سطر من فقرة وفي كل فقرة من موضوع فحددنا به منطلقاتنا وحددنا به غاياتنا وأجبنا به على كل الأسئلة التي خطرت لنا خلال الحديث . غير ان هذا كله أصبح معلقاً على صحة الإجابة على السؤال الذي يصل الفكر بالواقع وتتحول به الغايات الى حياة : كيف نحقق دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية في الوطن العربي . ولقد أعدنا كل هذا لنعرف أمراً على جانب كبير من الأهمية : ان الأسلوب ليس متروكاً للاجتهاد الفردي في ساحة الممارسة ولكنه جزء من النظرية التي نلتقي عليها ونلتزم بها ونحتكم إليها ... (انتبهوا الآن) ... وعلى أساس الالتزام بالمنطلقات والغايات والأسلوب معاً تفرز القوى كل يلتقي على نظريته ويلتزم بها ويعمل على تحقيقها في الواقع بأسلوبها . وعندما تفرز القوى  تكون كل واحدة منها أقدر بذاتها على تحقيق غاياتها منها وهي مختلطة بغيرها تحت ستار وحدة الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية . وهذا الفرز هو أول خطوة في سبيل حل مشكلة الأسلوب .. ". .. أي انه كان يقصد الفرز بين القوى التقدمية والقوى الرجعية وليس بين التقدميين أنفسهم الذين يحملون نفس الغاية ويختلفون في بعض القراءات والتأويلات والمواقف الخاصة بالمتغيرات ..

ولما كان القوميون تقدميين والإقليميون رجعيين عند الدكتور ، فان الموقف من الفرز يزداد وضوحا وتأكيدا في مقال له بعنوان "صوت الأصيل الغائب" يشدّد فيه على أن الفرز المقصود ـ في هذه المرحلة ـ هو فعلا بين القوميين التقدميين والإقليميين قال فيه : "  تفرز القوى في الوطن العربي على أساس مواقفها من الواقع وتناقضاته ، القوميون التقدميون قوّة مفرزة والإقليميون بكل اتجاهاتهم قوى مفرزة . كل قوة تمثل واقعا موضوعيا ماديا وبشريا . أحدهما الواقع القومي ، والثاني الواقع الإقليمي . وعندما تفرز القوى على هذا الوجه سيكون التناقض بينهما أعمق مما تجدي فيه المصالحة أو الحلول الوسيطة ، وسيكون الصراع بينهما أكثر ضراوة من كل صراع عرفته الأرض العربية . وهذا هو ما تدركه القوى الإقليمية تماما وتخشاه حتى الموت "...

لكن السؤال الذي يمكن أن يتبادر الى الذهن : من هي القوى الإقليمية التي يقصدها الدكتور ؟ والجواب يأتي منه في نفس الفقرة  : " ولما كانت القوى الإقليمية هي المسيطرة حاليا بأجهزتها الإقليمية "الدول" فإن كل تلك الدول تسخر قواها الظاهرة والخفية وتتعاون فيما بينها ومع أعداء الأمة العربية في كل مكان للحيلولة دون أن تفرز القوى القومية نفسها فتصبح قوة مواجهة ضارية " . ثم يضيف : " إن القوى الإقليمية السائدة لن تسمح أبدا للقوى القومية التقدمية بأن تفرز نفسها وتلتحم معا لتكون قوة مستقلة عن الدول العربية وقواها الإقليمية " .

اكثر من هذا في موضوع الفرز ما جاء في محاورات الدكتور عصمت سيف الدولة للناصريين وهو يجتهد معهم في ما يجب غربلته من تجربة عبد الناصر الغنية لبلورة  نظرية المستقبل . فبعد ان يؤكد على ان التجربة لم تكن تستند الى نظرية جاهزة بحكم ظروفها التاريخية وباعتراف جمال عبد الناصر نفسه ، وبعد ان يستبعد إمكانية ان يكون كل تراث ثورة 23 يوليو ومواقف عبد الناصر وتصريحاته وخطبه نظرية مبلورة ومكتملة باعتبار صدورها عنه وهو في موقع المسؤولية لدولة إقليمية ذات سياسات ومصالح ظرفية فضلا عن اختلاط تجربته بجهود الوصوليين والانتهازيين الذين أساءوا للتجربة ذاتها وهم يرفعون الولاء للثورة وقائدها ، نجده يتطرق الى ضرورة فهم خصوصيات التجربة سواء من ناحية إطارها الزماني والمكاني (كرد فعل غير منظم جماهيريا على واقع ما قبل الثورة)  او من حيث ظروف نشأتها وتطورها على المستوى الفكري والحركي (من الأفق الإقليمي التحرري الى الأفق القومي الوحدوي الاشتراكي) ، وهو ما يقود الناصريين ـ حسب هذا الطرح ـ الى ضرورة الفرز على أساس الأفق الذي انتهت اليه الثورة ، ليضع الناصريين أمام "ثوابت" النضال العربي الذي كانت تخوضه ثورة 23 يوليو : تحت شعار : حرية اشتراكية وحدة ، فيقول في دراسته الناصرية كيف ؟ المنشورة بمجلة الشورى : " لا تجوز الاستهانة بالصعوبات الواقعية التي تعترض استخلاص مبادئ الناصرية من الوعاء التاريخي الغني لمرحلة عبد الناصر .

انها صعوبات واقعية يقتضي التغلب عليها جهودا مخلصة ، ومعرفة علمية صحيحة بالواقع التاريخي الذي انقضى ، وبالأسلوب العلمي لاكتشاف المبادئ الأساسية التي أسهمت في تطويره . ولكن التغلب على تلك الصعوبات ليس مستحيلا . بالعكس . ان عوامل مساعدة كثيرة متوافرة الآن لتسهيل مهمة التغلب عليها . أهم تلك العوامل هو انكشاف سقوط أدعياء الناصرية بعد وفاة عبد الناصر ، وارتدادهم الى مواقع الهجوم على تجربته التاريخية .

من العوامل المساعدة أيضا وضوح المواقف الفعلية لكثير من القوى والأفراد من المنجزات التحرّرية  والوحدوية التي شكلت الاتجاه العام لفترة قيادة عبد الناصر .. ففي مواجهة الارتداد أو السلبية تنمو حركة جماهيرية ايجابية للدفاع عن تلك المنجزات وتطويرها . وهكذا تكاد القوى التي كانت مختلطة تحت قيادة عبد الناصر أن تفرز كل منها نفسها فيتحدّد موقفها من المستقبل التقدّمي الذي يرمز له شعار عبد الناصر : حرية ، اشتراكية ، وحدة .  وإذا كان كل هذا قد أدّى إلى انكماش حجم الناصريين عددا فانه أدّى بالمقابل إلى وضوح هويتهم ، وبالتالي أصبحوا أكثر مقدرة على بناء نظريتهم . وعندما يبنونها سيعرف الجميع الإجابة الصحيحة عن السؤال : ما هي الناصرية ؟ " .

للإجابة على هذا السؤال يضع الدكتور عصمت سيف الدولة ثلاث ضوابط موضوعية لبلورة الأسس النظرية لالتقاء الناصريين وفرز صفوفهم على ان تؤخذ ـ كما يقول - " في بناء النظرية المبادئ الفكرية في درجة نموها القصوى التي وصلت إليها في حياة عبد الناصر . ان هذا يقتضي تتبع نشأة ونمو وتطور تلك المبادئ خلال الفترة التاريخية التي انتهت سنة 1970 وطرح كل المبادئ الفكرية التي تجاوزتها تجربة عبد الناصر وصححتها وطورتها .. " .

ويحصر هذه المبادئ في ثلاث أمثلة وهي :

المثال الأول " الذي يمكن أن نضربه  لبيان ضرورة هذا الفرز هو الموقف من الوحدة العربية " .

والمثال الثاني " الذي نستطيع ان نضربه بيانا لضرورة هذا الفرز هو موقف عبد الناصر من الاشتراكية " .

والمثال الثالث " الذي نستطيع أن نضربه لضرورة هذا الفرز يمكن أن نستمدّه من مشكلة الديمقراطية " .

أي انه يعود مرة أخرى في موضوع الفرز الى التركيز على أهداف النضال العربي التي تؤدي في النهاية الى بناء دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية مع التأكيد دائما على وحدة الاداة النضالية اللازمة لبنائها .. بل انه في موقف آخر (منتصف الثمانينات) ينتقل فيه الدكتور للحديث عن المشكل في "بعده القطري" ورد في كتابه عن الناصريين واليهم ، نجده يكتفي بالميثاق باعتباره ثمرة لنمو فكر عبد الناصر الذي صقلته التجربة على مستوى وضوح الأهداف الثلاث فيقول مستعرضا ما جاء على لسان عبد الناصر وهو يحاور قادة البعث خلال مباحثات الوحدة ليؤكد بان الميثاق يمثل أسس نظرية شبه مكتملة لفرز الناصريين وتوحيد صفوفهم : "  أين هي نظرية حزب البعث .. أحنا عندنا تجربة طلعنا منها بنظرية .. وطلعنا منها بوسيلة للتطبيق . عندنا الميثاق .. أحنا كان عندنا الشجاعة في أول الثورة لنقول إن ما فيش نظرية . فيه مبادئ محددة . مشينا في التجربة والخطأ وبقينا نقول إن أحنا بنغلط 40 % وبنغلط 50  % وبقينا نقول ما عندناش نظرية . وبعد كده .. قدرنا نعمل تطبيق .. وبعدين عندنا تجربة تطبيق 11 سنة مستمرة أدت أساس للنظرية .. بالنسبة للاشتراكية وبالنسبة للوحدة كل شيء مبين في الميثاق ” . (جلسة مساء يوم 6 ابريل 1963) . ثم يعلق عصمت سيف الدولة على هذا قائلا : " هذا القول صحيح في نصه وفي دلالته . فقد فرق عبد الناصر بين مرحلة التجربة والخطأ (الممارسة) ومرحلة الميثاق . وهي تفرقة صحيحة . فلا شك في ان الميثاق أكثر تقدماً على المستوى الفكري من الأفكار المرحلية المختلطة بالتجربة والخطأ . أكثر تقدماً بكثير . وما عناه عبد الناصر في بداية الحديث من انه قد خرج من التجربة بنظرية عاد فحدده في نهاية الحديث بان ما أسفرت عنه التجربة وتضمنه الميثاق هو أساس للنظرية . وهو صحيح فلا شك في أن الميثاق قد تضمن معطيات فكرية مبدئية تصلح أساساً لنظرية متكاملة . ولا ينقص الأساس إلا البناء عليه " . وقد كان مبرر عصمت سيف الدولة ان الميثاق كوثيقة فكرية لم يقع تطبيقه بالكامل خلال التجربة ، كما انه - في نظره - يساعد  بما فيه الكفاية المؤمنين بهذه الأفكار على بناء الاداة النضالية القادرة وحدها على حسم الخلافات والتأويلات  داخل أطرها الديمقراطية ، بل لعله يضيف مبررا آخر وهو عدم الهروب من معارك الواقع ، فيقول موضحا كل المبررات وهو يستعرض موقفا قديما له من هذه الوثيقة طرح فيه فكرة تحويل الميثاق الى ميثاق قومي : "  لم يكن هذا يعني ، ولا يعني حتى الآن ، أنه ليس في الميثاق ما يصلح لالتقاء الناصريين عليه والاحتكام إليه عند الخلاف ، بالعكس . فإن المبادئ الأساسية التي تضمنها الميثاق مازالت كافية لهذا الالتقاء بل إنها ـ عندنا ـ أكثر من كافية كبداية في هذه المرحلة من تاريخ الناصريين . أما إنها كافية فلأنها لم تجرب أبداً في التطبيق منذ أن صدر الميثاق وحتى وفاة عبد الناصر . ولقد أوضحنا بالتفصيل كيف ان الميثاق لم ينفذ في أهم ما جاء به من مبادئ وما استحدثه من نظم ( الأحزاب ومشكلة الديمقراطية في مصر ـ 1977 ) وبالتالي فإن مهمة تطبيق الميثاق ما تزال تنتظر من يؤديها وهي مسؤولية الناصريين . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى إن الميثاق هو الوثيقة الفكرية التي لا يستطيع أحد ان يشكك في نسبتها إلى عبد الناصر ، وبالتالي فهو ـ بالقطع ـ يصلح كبداية على الأقل لالتقاء كل الناصريين بدون أن يحول بينهم وبين تنميته وتطويره على هدي المرحلة التاريخية التي انقضت منذ صدوره . ولقد استمع إليّ كثيرون من شباب الناصريين وأنا أردّد هذا الرأي تحريضاً لهم على ألا يبدّدوا الوقت والجهد في صياغات واجتهادات تثير الخلاف قبل ان يملكوا ما يختلفون داخله ويختلفون إليه ليحكم فيما بينهم . ولكن كل من له إلمام ولو بسيط بألغاز النفوس يعلم أن اصطناع معارك فكرية بدون مبرر واقعي ، هي اصطناع مبرر للهروب من معارك الواقع " ..

وقد وجدناه يضيف في نفس الفترة في حوار مع جريدة القبس عدد 5522 بتاريخ 27 – 9 – 1987 مبررا من نوع آخر لخيار الحد الأدنى حين قال : " خطأ كبير أن تفرض نظرية تفصيلية متكاملة على المستقبل ، كما هو خطأ جسيم أن يلتقي الناس على برنامج براغماتي .. فالخطأ الأول مغامرة او أحلام . والخطأ الثاني لا يعصم الناس من أن ينشقوا ، ومن هنا الحاحي على المشروع الناصري (الحزب) أن ينطلق من الميثاق تحديدا ".

ثم ان الدكتور يذهب أكثر من ذلك في التحريض معتبرا ان الأهداف التحررية لثورة يوليو أكثر من كافية معتبرا بقية الأهداف أهدافا إستراتيجية بالنسبة للمرحلة فيقول : "ولقد زدنا ونزيد أن الميثاق أكثر من كاف كبداية يلتحم فيها الناصريون حزباً . ذلك لأن الردة قد عادت بالواقع العربي إلى مرحلة التحرر القومي ، أي إلى معارك ما قبل 1952 ، حيث يكفي التحام القوى على هدف التحرر ، ويبقى في الميثاق فائض من الأهداف (الاشتراكية والوحدة) التي تعتبر إستراتيجية بالنسبة للواقع الملح بمعنى ان الخلاف الفكري حولها الان عبث ، اما اشتراط تصفية هذا الخلاف قبل الالتحام في قوة تحررية فهو هروب صريح " .

وهكذا نستخلص من هذه الفقرة الدعوة الضمنية لمرحلتين من الفرز : مرحلة أولى من اجل إنشاء التنظيم يقوم على الحد الأدنى من الأفكار التي تضمنها الميثاق ، ثم مرحلة ثانية بعد قيام التنظيم بحيث يصبح الحسم النهائي في جميع الجوانب الفكرية والسياسية - او الغربلة كما سماها عصمت سيف الدولة - من مهام التنظيم ، وهذا أمر على غاية من الأهمية نتعلم منه منذ البداية ، فرز الأولويات ، ثم الغاية المطلوبة من الفرز ..

نفس هذا الموقف المتضمن المرحلتين تكرّر في حوار مع الأستاذ رياض الصيداوي في شهر يوليو 1991 تحت عنوان حوارات ناصرية حين سئل عن المشكل النظري بالنسبة للناصريين جاء فيه : " إنني لم اكف أبدا عن اقتراح ان يبدأ الناصريون وحدتهم التنظيمية على أساس وثيقة جيدة الصياغة عميقة المضمون متقدمة فكريا ، وضعها عبد الناصر شخصيا ، وأعني الميثاق ، وأن يكمل التنظيم من خلال الممارسة ما قد يكون في الميثاق من قصور " . 

ليس هذا فحسب بل ان الدكتور عصمت سيف الدولة لديه معيارا عمليا للفرز اعتبر من خلاله ان الناصريين هم فعلا أولئك الفئات الواسعة من المصريين الذين لا يزالون يحلمون بعودة المكاسب التي جاءت بها ثورة يوليو حين قال : " ومع ان أحدا لم يسأل الفلاحين والعمال والفقراء والمقهورين عن ما هي الناصرية فكرا ، فان الناصرية التي ينتمي إليها هؤلاء الذين اسميهم جماهير عبد الناصر هي الناصرية الحقيقية ولا ينقصهم الا مؤسسة تجمع كل أولئك الذين عرفوا عبد الناصر وآمنوا بالناصرية وما يزالون يتطلعون إليها نتيجة مكاسب عينية ، وليس نتيجة حوارات فكرية ، أقول جميعهم في مؤسسة منظمة يعبرون فيها عن إجاباتهم عن السؤال ما هي الناصرية ؟ ليتولى المثقفون في الحزب صياغتها . إذن هي الناصرية في الواقع وليست في أذهان المثقفين ".... وهو ما يؤكد أن الدكتور عصمت سيف الدولة لم يكن ينشد تحقيق فكرة مثالية مجردة غير ذات صلة بالواقع حتى ولو كانت بحجم  دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية ، بقدر ما كان يبحث عن حلول للمشاكل الموضوعية التي تعيشها الأمة العربية في ظل واقع التجزئة والتخلف . لهذا كان الفرز في نظره يقوم دوما على أسس  موضوعية ، وهو ما يعني انه في علاقة دائمة بالظروف التي تمر بها قوى التغيير في الواقع العربي وبالقدر الذي يتلاءم مع تحقيق غايتها .. وهو ما يعني ـ أولا ـ أن ما ورد على لسانه في ما يخص تحديد ضوابط الفرز بالنسبة للناصريين في مرحلة التأسيس على أساس المبادئ التي جاء بها الميثاق ليس مجرد رغبة في تحقيق امنية بأي ثمن ، بقدر ما كان يعني بالنسبة إليه أن وحدة الناصريين على تلك المبادئ العامة كان يمثل حاجة ملحة بالنسبة لمستقبل النضال العربي في ظل الظروف التي شهدتها مصر والأمة العربية في تلك المرحلة ، فكانت ـ في نظره ـ  إمكانية الالتقاء على المبادئ التحررية التي جاء بها الميثاق أكثر من كافية لجمع الناصريين وحشدهم لمواجهة الردة ، فضلا عن مبادئ الاشتراكية والوحدة .. وهو ما يعني ـ ثانيا ـ أن الجانب المبدئي في هذا التوجه القائم على "المختصر" من المضامين الفكرية عند الدكتور عصمت سيف الدولة  ليس مجرّد استنتاج في علاقة بموضوع الفرز قد يختلف فيه المجتهدون ، بقدر ما هو موقف ثابت وصريح ورد على لسانه وبإقرار صريح منه ـ رحمه الله ـ نجده مفصلا في العديد من الوثائق ومنها ما ورد في رسالته المعروفة بعنوان " رسالة من الأبدية " ..

-4-

في هذه الوثيقة الهامة ، وبعد أن يعرض علينا تفصيلا إضافيا لمسألة الإعداد الذي يؤدي الى قيام التنظيم القومي كما ورد في بيان طارق ، نجده يتطرق بإسهاب لمعضلة الفرز ، مؤكدا فكرة الالتقاء على الحد الأدنى من المبادئ الفكرية العامة على امتداد فترة الاعداد  ، والتي يسميها حرفيا " خط فكري عام " تجعل مهمة الحسم النظري مهمة من مهام التنظيم القومي وليس من مهام  الإعداديين ..

في هذا الجانب ، وبعد تذكيرنا بمراجعته الدقيقة لما جاء في بيان طارق ، يقول الدكتور عصمت سيف الدولة بأكبر قدر من الحسم والوضوح ان : " الإعداد الفكري والبشري على قدر ما فهمت من البيان ، يعني أن أنصار الطليعة العربية ليسوا ملتزمين نهائيا بشكل مسبق واشتراطي بمضمون فكري مبلور يدعون الناس إليه ويشترطون قبوله كما هو .. ليكون النصير نصيرا . بل إن الوصول الى هذا الفكر هو غايتهم النهائية التي يسعون لتحقيقها . ومؤدى هذا أنهم يبدؤون بالتجمع حول " خط فكري عام " هو ما يمكن تسميته : الفكر القومي التقدمي الذي ينطلق من الوجود القومي مستهدفا الوحدة الاشتراكية . يجمعون هذا الفكر من كل مصادره أيا كانت ويقبلون الاجتهاد فيه جميعا دون تحفظ  . ويديرون الحوار حوله لينتهي في النهاية الى أكبر قدر من الوضوح والتحديد ، كمشروع يقدمونه الى المؤتمر التأسيسي للتنظيم القومي الذي يكون من حقه وحده أن يعيد النظر فيه من جديد لإقراره وإعطائه صفة الإلزام .. إذن فليس من مهمات أنصار الطليعة ، وليس من واجبهم أو حقهم أن يلزموا أنفسهم أو يلزموا غيرهم بفكر معين يكون هو مناط اللقاء بينهم ومقياس الانتماء لعملهم . إنهم لو فعلوا ذلك لصادروا مهمتهم الأساسية بالذات على المستوى الفكري . أي لما كان ثمة مبرر لدعوتهم على الإطلاق ، ولوجب عليهم أن يفتشوا لأنفسهم عن اسم آخر أو عمل آخر لا يعنيني على الإطلاق .. ! " ..

ثم يضيف مستكملا توضيحه لمثل هذا الرد الاستنكاري قائلا  : "ان هذا الاتجاه موجود للأسف . وهو يناقض "بيان طارق" مناقضة صريحة ، ويلغي جوهر دعوة الأنصار تماماً . كما يصادر الجهود الحقيقية القائمة في الوطن العربي ، لبناء التنظيم القومي بناءً ديمقراطياً . وأسباب ذلك هي ما يلي :

1 - لأنه يتقدم بأفكار معينة نهائية على أساس ، أنها ، فكر التنظيم القومي .

2 -  ويتخذ مواقفه من الآخرين كما لو كان ، هو ، التنظيم القومي .

3 - ويستقطب حوله الأتباع كما لو كانوا ، هم ، مؤسسو التنظيم القومي ..! " ..

يجرنا هذا الموقف الصريح الى طرح سؤالين مهمين في علاقة بعملية الفرز :

ـ أولا ، هل تقوم عملية الفرز على أساس المبادئ الفكرية العامة التي سمّاها الدكتور عصمت سيف الدولة في هذه الوثيقة " بالخط الفكري العام " وفي وثائق أخرى – ولو من حيث التسمية وليس المضمون - بالمنطلقات والغايات ، أم على أساس الاجتهادات المتعلقة بالمتغيرات الظرفية ؟

ـ وثانيا ، هل يجب أن تكون عملية الإعداد قائمة بذاتها ومستقلة عن التنظيمات الحزبية التي يحمل منتسبوها هذا الخط الفكري العام لأنصار الطليعة العربية ، أم تكون عملية شاملة ؟

الإجابة الطويلة والمفصلة من الدكتور عصمت سيف الدولة تغنينا عن الرد عن السؤالين . إذ يقول في نفس الوثيقة : " أعتقد أن هذا واضحا نصا وروحا في بيان طارق الذي حذر تحذيرا صريحا من فكرة انسلاخ الشباب عن انتماءاتهم التنظيمية القائمة أو دعوتهم الى هذا بحجة الانضمام الى أنصار الطليعة العربية ، لأن هذه الأخيرة ليست تنظيما جديدا أو بديلا عن التنظيمات الجديدة ، بل هي دعوة فكرية وبشرية من أجل تأسيس التنظيم القومي . ويرى البيان أن هذه الدعوة ينبغي أن تتمكن ، ويتمكن الداعون لها من تحقيق نشاط مفيد ومثمر في الواقع ، أي داخل التنظيمات القائمة وخارجها ، من أجل تحضير الكوادر الفكرية والبشرية التي تحقق الانتقال السليم الى التنظيم القومي عندما تصبح قادرة فعلا على تأسيسه ، وليس قبل ذلك ! " ..

وهكذا فان : " أنصار الطليعة العربية هي صفة الموقف من التنظيم القومي ودعوته وأهدافه ، وليست اسما أو عنوانا لأي تنظيم .. " .

ثم يضيف موضحا لما كانت الظروف وحدها كفيلة بإيضاحه : " بعض الأنصار نسوا مهمتهم أو لم يستوعبوا ما جاء فيها ، فلم يفطنوا الى ما يجري تحت أنوفهم . وهكذا وجدوا أنفسهم مشلولين في عزلة تامة ، واليكم الدليل ..

ـ ان هذه الأحداث وعمق تأثير الهزيمة والفشل المتلاحق الذي مني به العمل العربي تحت وطأة القوى الإقليمية لمواجهة النكسة ، وعلى وجه خاص فشل المقاومة وتعرضها للتصفية بفعل القوى الإقليمية .. كل هذا أدّى الى عملية فرز عميق يدور الآن في الوطن العربي .."

على أي أساس يقوم هذا الفرز وبين أي قوى ؟

تأتينا الإجابة مفصلة من الدكتور ، وهو يعود الى التأكيد بأن عملية الفرز حينما تقوم على أسس سليمة تنتهي الى بلورة الفكر القومي التقدمي ، وكأنه ينمو نموا جنينيا لكي يثمر خلقا جديدا متكاملا ، فيقول :

ـ 1 " على المستوى الفكري تنكر كثيرون لأفكارهم أو استبدلوها بأفكار أخرى . ذهبت لسلة المهملات أغلب الكتابات والأفكار المنشورة قبل عام 67 ، ورويدا رويدا يتبلور الفكر القومي التقدمي  ويقترب من أكثر مضامينه نضجا ! " ..

" ألم تكن عملية الفرز والبلورة هذه من مهمات الشباب العربي ، بل أغناها وأحوجها على الإطلاق ! .. لقد قامت الظروف بتأدية هذه المهمة دون أي جهد ايجابي من هؤلاء ، بل ربما تصدى بعضهم ، ممن اعتبروا أنفسهم من غلاة الأنصار لاعتراض هذه المهمة ونصب كل العراقيل والأفخاخ أمامها .. يكفي مراجعة المواقف الفكرية لكثير ممن كان يقال عنهم مفكرين قوميين أو مفكرين ماركسيين أو غيرهم ، لنرى بوضوح أن هزيمة 67 وما بعدها قد كشفت .. وفضحت .. وصحّحت .. وبلورت كثيرا من المواقف والاجتهادات الفكرية التي كانت تتزاحم على أبواب التنظيم القومي هي الأفكار التي يقوم عليها ، بينما قامت مرحلة التنظيم القومي من أجلها أصلا لكنها منعت من ذلك ! .. "

ـ 2 " وعلى المستوى البشري تأخذ عملية فرز القوى شكلا حديا ، ويتحرر الجهد المبذول لقيام التنظيم القومي بدونهم . فإذا بهم الآن وقد ألقت بهم الهزيمة في مواقع الحقيقة ، فلا هم قوميون ، ولا هم تقدميون ، ولا هم من أنصار التنظيم القومي ! .. "

ولكن ما عيوب هؤلاء الذين تكفلت الظروف ببيان فشلهم ؟

انها مشكلة الأسلوب أكثر من أي ناحية أخرى .. حيث يجيب الدكتور في الفقرات اللاحقة مبينا الحد الفاصل بين النجاح والفشل في أسلوب الصفوة وأسلوب الشباب المتحفز لبناء التنظيم القومي على وجه مغاير من خلال بعض المعطيات المتعلقة بأسلوب هؤلاء وهؤلاء : 

" ألم تكن عملية الفرز هذه لاكتشاف هذه العيوب قبل انفجارها ، هي إحدى أهم مهام الشباب العربي . لقد تكفلت الظروف بتحقيق هذه المهمة دون أي جهد ايجابي منهم ! .. "

ـ 3 " أكثر من هذا فان الأسلوب الديمقراطي في بناء التنظيم القومي يمكن أن نسميه أسلوب الشباب العربي بامتياز " .

" فمن ناحية قضى الجانب الذاتي للناصرية الذي كان يمثله الولاء الشخصي للرئيس . لكن الناصرية لم تنقضِ بل أصبحت أكثر وضوحاً بمعناها الموضوعي وهو الولاء لخط  فكري وسياسي كان لعبد الناصر موقع القيادة فيه وهو يحتل قدراً مهماً من الفكر القومي التقدمي .

" ومن ناحية أخرى فإن وفاة الرئيس قضت على أكبر الآمال التي كان يتطلع إليها الشباب العربي في بناء التنظيم القومي من القيادة إلى القاعدة أي من قيادة عبد الناصر إلى قاعدته الشعبية . ذلك أن هذا الأمل كان يستمد بقاءه وقيمته من شخص الرئيس عبد الناصر . ووفاته إذ تُنهي هذا الأمل فهي لا تُبقي إلا أسلوب بناء التنظيم القومي من القاعدة إلى القمة ديمقراطياً وهذا هو أسلوب الشباب العربي بامتياز . لهذا ليس غريباً أن نرى أخلص الناصريين في الوطن العربي يتطلعون الآن لبناء التنظيم القومي والانفتاح عليه بدءاً من القواعد إلى القيادة بعد أن قطعوا فترات طويلة من رهن هذه المسؤولية بشخص الرئيس " .

ثم يستكمل الحديث مؤكدا علاقة الفشل بالمسائل المبدئية : القاعدة الفكرية ، وأسلوب البناء : " ان هذه المعطيات تكاد تجعل الشباب العربي في وضعية تماثل الوضعية التي دعا لها البيان من حيث بناء التنظيم القومي ديمقراطياً من القاعدة إلى القمة . لكن هذه المعطيات جميعاً فاتت عن وعي البعض لأنهم لم يستطيعوا رؤية إلا أنفسهم ، بحسبان أنهم الأصل وكل ما عداهم شيء طارئ أو عَرَضي :

1 ـ فهم لا يرون ولا يساهمون ولا يدفعون حركة التبلور الفكري ، لأنهم بلوروا أنفسهم بالفعل على فكر جاهز اختاروه لأنفسهم ، وأصبحوا يشترطونه على الآخرين كما هو . فأغلقوا عقولهم عن أوسع الأفكار والآراء التي كانت تتبلور بالفعل ، وكان يتوجب عليهم مساعدتها في التبلور ودفعها للأمام طيلة فترة التحضير للمستقبل . .

2 ـ وهم لا يرون ولا يساهمون ولا يدفعون حركة الفرز البشري . لأنهم تشللوا وأصبحوا تنظيماً (بحسب ظنونهم) يطلب انضمام الناس إليه . فعزلوا أنفسهم عن الناس جميعاً .. بما فيهم أولئك الذين كانوا يسعون من مواقعهم الخاصة لإقامة التنظيم القومي بشكل ديمقراطي !

3 ـ وهم لا يرون ولا يساهمون ولا يدفعون التحركات التي تشغل أعرض الشباب العربي ، خصوصاً الذي يسمى ناصرياً . والذي أحسب أنّ قضيته تسبق جهودهم وما يحسبون ! " ..

من اللافت هنا ان نشير الى بعض الغموض المتعلق بالأحداث في ما ورد في هذه الوثيقة من إيحاءات وتلميح لأطراف عديدة لا شك ان عصمت سيف الدولة قد تعمد إخفاءها أو تجاوز عن ذكرها لأسباب نعتقد أنها تتعلق بمبدأ التحفظ عند عصمت سيف الدولة والذي سنتحدث عنه لاحقا ، وكأننا به يريد إيصال الفكرة دون الدخول في ملابسات الأحداث المتصلة بها ، وهو ما يتطلب جهدا إضافيا لفهمها من خلال الرجوع الى وثائق أخرى تتعرض لأحداث تلك الفترة التي يتحدث فيها عن أنصار الطليعة .. بعضها وثائق في شكل رسائل للدكتور عصمت سيف الدولة (كالرسالة التي بعثها الى تونس) ، وأخرى وثائق نشرها الأستاذ حبيب عيسى تتحدث عن تجربة أنصار الطليعة وغيرها من المقالات التي تحيل الى نفس الحقبة ، وتتيح الفرصة لمعرفة الكثير من المعلومات الهامة حول تفاصيل تجربة الأنصار .... فقط  في علاقة بهذا الجانب ، وبعد كل ما نقلناه من توضيح لموقف عصمت سيف الدولة بخصوص التأكيد على الخط الفكري العام ، فإننا لا نستطيع ان نقفز على المقصود من التحريض على نشر ما سمّاه بـ " الفكر الطليعي " خلال فترة الإعداد كما جاء في هذه الفقرة : " يتم هذا بتحقيق الوحدة الفكرية قبل الوحدة التنظيمية ، إذ أن النظرية تسبق الثورة دائما ، أو يجب أن تسبقها ، ليصبح ولاء المناضلين من أجل أهداف أمتهم ولاء عقائديا لهذه الأمة ، وليس ولاء حزبيا ، أو شخصيا لقيادتهم . ولما كانت مهمة التنظيم هي الأعداد للطليعة العربية ، وكانت تلك المهمة مؤقتة في الوقت ذاته فإن مهمته الأساسية لن تكون القيادة السياسية ، والنضالية للجماهير العربية ـ فتلك مهمة الطليعة العربية عندما توجد ـ بل ستكون إكمال ، وتعميق ، ونشر الفكر الطليعي ، وتثبيته في أذهان الجماهير على الوجه الذي يحقق قاعدة فكرية واحدة تجمعها ، أي أن عدم تحمل التنظيم بحكم مهمته الإعدادية ، والمؤقتة ، لأعباء النضال السياسي سيجعله تنظيما للوعي الفكري ، والتوعية غايته تحقيق الوحدة الفكرية في أعرض قاعدة جماهيرية . و معاركه كلها ستكون بصيغة أساسية متجهة إلى طرد كل فكر مناقض للفكر الطليعي ، وتثبيت هذا الفكر الطليعي في كل مكان " .

والسؤال أو الاعتراض الذي يمكن ان نتوقعه هو ماذا كان يقصد عصمت سيف الدولة بالفكر الطليعي ؟ ألا يقصد نظرية الثورة العربية تحديدا ؟؟ والإجابة قطعا : لا .. وذلك لتوفر عدة قرائن وحجج واضحة  .. أهمها وببساطة أن بيان طارق سابق على النظرية .. فالبيان ظهر في شهر يوليو سنة 1966 في حين لم يعرف من أفكار عصمت سيف الدولة في ذلك الوقت وعلى نطاق ضيق سوى ما جاء في كتاب أسس الاشتراكية العربية المنشور في شهر يناير 1965 ، أي قبل سنة ونصف وهي مدة غير كافية لتداول أفكاره بالطريقة الواسعة التي أصبحت بها متداولة بعد ذلك ، أي بعد نشر نظرية الثورة العربية في شهر شباط سنة 1972 بسنوات طويلة ، وهذا البطء يعود الى الحصار المضروب عليها من قبل أجهزة الدولة الإقليمية في مصر وفي كافة الدول العربية ، حيث قوبلت النظرية بالرفض من طرف الرقابة ولم تنشر الا في بيروت ثم حوصرت على نطاق واسع في كل الأقطار .. 

من الحجج الأخرى الداعمة للإجابة بالنفي ما ورد في مرجعين حول ماهية الفكر الطليعي ومضمونه الذي هو غير محسوم وغير نهائي .. فهو متنامي في تبلوره من خلال الصقل والتعديل والإضافة ، بحيث يكون مفتوحا – دائما - على الاغناء من خلال الممارسة .. وهو أيضا محل اختبار في بناء الوحدة الفكرية وفي مصيره عند الفشل في تحقيق أهدافه .. المرجع الأول نعتمده في بعده القومي من بيان طارق ، ويقول فيه الدكتور عصمت سيف الدولة في هذا السياق : " .. ومن خلال هذا التنظيم الانتقالي ستتاح الفرصة كاملة لاختبار الفكر الطليعي ، ومدى قدرته على أن يحقق الوحدة الفكرية اللازمة لزوما لا يمكن تجاهله ، أو تخطيه لأي تنظيم قومي ، أو تتاح فكرة صقله أو إكماله أو تعديله خلال الممارسة بحيث يصبح عند مولد "الطليعة العربية" على أكثر قدر من النضج ، والتكامل ، والصلابة ، والوضوح ، وأن أي فشل لا يكون محسوبا على "الطليعة العربية "، فلا يهز الثقة ، وتتسع الفرصة مرة أخرى لمزيد من الاجتهاد الفكري والطليعي  " .. أما المرجع الثاني ، فنأخذه في بعده القطري من حديث الدكتور عن التنظيم الناصري في مصر وقد ورد لاحقا في حوار مع جريدة القبس حول المسألة النظرية للفكر الناصري بتاريخ 27 سبتمبر 1987 ردّا على سؤال " هل تمثل الناصرية نظرية متكاملة ؟ " قال فيه : " .. أنا أعترض عن السؤال ، اذ لا يوجد في تاريخ البشرية نظرية متكاملة ، بمعنى أنها بلغت منتهاها ، وغير قابلة للنمو والتطوّر ، والدليل : الليبرالية والماركسية ، وظهور الكثير من النظريات كل يوم .

واذا قلنا أن النظرية الناصرية في بداية نشأتها ، باعتبار أن بذرتها الجنينية هي الميثاق ، وتربتها هي التجربة التاريخية لعبد الناصر ، فسوف تنمو من خلال حركة نضالية تضيف كل يوم جديد ، ولن تكتمل في جيل أو جيلين ، لأن النظريات غير قابلة للاكتمال النهائي ... وفي الواقع ، ان كل الخصائص اللازمة لصياغة نظرية بمعناها السياسي موجودة ، من خلال التجربة التاريخية ، وان كانت لم تُصنع بعد بشكل يمكّن كل واحد من أن يضع هذه الصياغة في جيبه أو مكتبه ، بحيث لا تكون كتابا من تأليف فلان ، انما مثلا كالميثاق ، أو للإضافة التي سوف تأتي نتيجة التفاعل الإنساني للتجربة ، ولحركة الحزب الناصري" ..

وهكذا نجده يذكّر في كل مرة باختصار دعوته للناصريين للالتقاء على الحد الأدنى .. بل وفي هذه المرة ، على جزء فقط من الميثاق لمواجهة الرّدّة كما قال في نفس الحوار إجابة عن سؤال يتعلق بالقواعد النظرية للناصرية مؤكّدا مرة أخرى عن استحالة اكتمال النظرية : "القواعد : ضبط حركة . وأين الحركة : في المجتمع . ولكل مرحلة في المجتمع ضوابط حركة . نحن الآن في مرحلة تصفية الرّدّة السّاداتية ، والحركة هنا يجب أن تتجه لإيقاف الرّدةّ . فضوابط مواجهة مثل هذا الوجود السّاداتي موجودة في الميثاق ، وان كنت غير محتاج الآن للضوابط الاشتراكية . مثال اخر ، ضوابط مواجهة الهيمنة الأمريكية موجودة في الميثاق ، كما هي موجودة في تجربة عبد الناصر.

وبطبيعة الحال ، لا توجد كل الضوابط في النظرية الناصرية ، لأن ما سوف تسفر عنه الحركة الاجتماعية في المستقبل لا يمكن التنبؤ بها الان " ..

والحجة الاخيرة المتعلقة بالتسمية – أي الفكر الطليعي - وكما يبدو من توصيف وتعريف عصمت سيف الدولة نفسه " للطليعة العربية " إنما يتعلق بالارتباط الموضوعي بين الوصف والموصوف أو كما قال في الفقرة المشار  إليها سابقا بأن " أنصار الطليعة العربية هي صفة الموقف من التنظيم القومي ودعوته وأهدافه " .. وقد وجدنا هذا التعريف مفصلا في كتاب الأسلوب يشرح فيه ماهية التسمية وخصائصها في علاقة بالاهداف والمضامين النضالية قال فيه : "عرفنا أن القومية ديموقراطية (فقرة 52) اشتراكية (فقرة 62) . وان الحل الصحيح للمشكلات القومية في هذا النصف الثاني من القرن العشرين هو دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية (فقرة 65) . فيكمّل هذا معرفتنا بخصائص التنظيم القومي .

ما اسمه ؟ .. لا يهم . حتى لو لم يسم حزباً وأسمي الحركة العربية الواحدة .

غير ان اصدق الأسماء دلالة على طبيعته سيكون "الطليعة العربية" انه اسم يصف ماهيته . فهو طليعة من حيث هو جزء غير منفصل عن الشعب العربي يشق أمامه الطريق الى التقدم . وهو طليعته على الطريق الى الحرية فهو طليعة تحريره . وهو طليعته على الطريق الى الوحدة فهو طليعة وحدوية . وهو طليعته على الطريق الى الاشتراكية فهو طليعة اشتراكية . وقد كسب هذه الجوانب المتعددة من واقعه العربي متعدد المشكلات ، ولكنه طليعة واحدة ، فيكفي للدلالة على وحدته في مواجهة واقعه بان يكون طليعة عربية "..

ثم - وهذا على قدر من الأهمية - فان سياق الحديث عن الفكر الطليعي في بيان طارق في علاقة مباشرة بالأهداف المطلوبة من وراء مرحلة الإعداد التي ستشهد نشرا لهذا الفكر ليس من أجل تحقيق الوحدة الفكرية بين صفوف الأنصار فحسب (الخط الفكري العام) ، بل ـ وهذا هو المهم ـ من أجل تحقيق معايير موضوعية تُختبر من خلالها الصلابة النضالية المطلوبة عقائديا وحركيا لفرز المناضلين من الكوادر والقياديين حتى يكونوا طلائع متقدمة في صفوف أمتهم يتحركون بكل وعي ومسؤولية بقطع النظر عن مصادر هذا الفكر سوى انه فكرا تقدميا (طلائعيا) ، وهذا تقريبا ما عبر عنه عصمت سيف الدولة في الوثيقة المذكورة سابقا وفي بيان طارق أيضا حينما قال : " وبهذا ينبثق التنظيم القومي من الجماهير العربية ذاتها صاعداً خلال مدة محدّدة من هذه القاعدة الجماهيرية لينتهي بالمستويات العليا حتى القيادة القومية ، بحيث أنه في نهاية المرحلة الانتقالية يكون قد تحققت في هذا التنظيم قاعدة من الجماهير الواعية بالفكر الطليعي ، والمدرّبة على العمل معا في سبيل غاية واحدة ، والمصقولة والمفرزة خلال العمل العقائدي والنضالي في فترة الأعداد . في نهاية تلك الفترة يمكن أن يتكون من أصلب عناصرها القيادية مؤتمر قومي تأسيسي تنبثق عنه " الطليعة العربية" تنظيما قوميا " ..... " و هذا ذاته سيفرز المناضلين أيا كانت مواقعهم ، لأن مدى الوعي سيتحدّد بمدى مقدرة الواعين على التأثير في مواقعهم بدون أوامر قيادية . أي أنه من خلال مراقبتهم وهم يتحركون في كل الظروف بدون توجيه يمكن بسهولة معرفة إلى أي مدى يؤثر وعيهم العقائدي في تصرفاتهم ، ومواقفهم الذاتية ، أي يمكن معرفة مدى التزامهم العقائدي قبل معرفة مدى مقدرتهم على الانضباط التنظيمي ، وهذا في منتهى الأهمية بالنسبة إلى التنظيم القومي ، لأن القيادة التنظيمية هي التي تأخذ عادة القرارات الحركية ، و تقوم القواعد بتنفيذها ـ اتكالا ـ على أن القيادة قد أخذتها في حدود العقائد التي تربط ، أو من المفروض أن تربط ، القواعد بالقيادة  "..

وفي النهاية ، فان الحديث الوافي عن الطليعة العربية بكل خصائصها الفكرية والعقائدية والنضالية والأخلاقية وغيرها قد جاء مفصلا في فصل خاص من نظرية الثورة العربية ، مبرره الوحيد أنها أولا وقبل كل شيء ضرورة نضالية قد اكتسبت ماهيتها الطلائعية من هويتها النضالية ، اذ أن : "وعي الطليعة العربية أن الحل الجدلي للمشكلات لا يتأتى إلا بالمعرفة الجماعية لها ، والتصميم الجماعي للحلول ، والتنفيذ الجماعي للمستقبل ، يحتم عليها أن تكون تنظيما جماعيا يلتحم داخله كل التقدميين الثوريين في حركة عربية واحدة ، يتبادلون خلالها الجدل ، فيصقل كل منهم وعي أخيه ، ويغني ثقافته ، ويدعم نضاله ، في سبيل الحرية والوحدة والاشتراكية"  ..

من الواضح أن فهم فكرة الفرز عند الدكتور عصمت سيف الدولة ليست بالهينة ، وهي لا تكتمل وضوحا الا بقدر ما نستقيه ونجمعه من كتاباته ومواقفه المتصلة بهذا الموضوع ، على أن نكون حذرين كل الحذر من أي تعسف أو تأويل لا يجوز أن ننسبه إليه وهو لم يعنيه ..  ومن ناحية أخرى فان مفهوم الفرز ـ كما أثاره الدكتور عصمت سيف الدولة ـ على صلة مباشرة بموضوع غير عادي يهم ذلك المشروع الذي آمن به ملايين العرب الوحدويين الذين يسعون لتغيير واقع الحياة في الوطن العربي ، فلا يجوز بأي حال من الأحوال أن يكون خاضعا لنزوات الأفراد وأهوائهم وهم يؤوّلون أقواله دون رجوع الى سياقاتها ومنابعها الأصلية كما يفعل الكثيرون ... ورغم أن هذا الموضوع غير متوقف على ما قاله الدكتور عصمت سيف الدولة ، إلا انه لا يعنينا ما يقال فيه إلا بقدر ما يتردد منسوبا إليه بين صفوف الوحدويين ..

وفي هذا الإطار ، وبناء على ما تقدم من عرض نستطيع كخطوة أولى أن نقول بأن الفرز ـ كما فهمنا من الدكتور عصمت سيف الدولة ـ يظل قائما من الناحية الفكرية العامة على فرز المؤمنين بوحدة الوجود القومي وبكل ما يترتب عنه من الالتزام بالأسس اللازمة لبناء اداة الثورة العربية من أجل تحقيق دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية بقطع النظر عن الجوانب التكتيكية التي يفترض أن يحدّدها ـ مشتركين ـ كل المؤمنين بهذا الهدف على ضوء الممكن خلال الحركة والممارسة الميدانية الخاصة بكل مرحلة بعد قيام التنظيم .. وهو ما يحيلنا الى الناحية الثانية العملية  وهي تظل قائمة ـ كما فهنا أيضا ـ على أساس فرز الأساليب العملية وتنقيتها من كل شبهة إقليمية معيقة لتلك الغاية حتى لا تتحول الى قناعة تستدرج الوحدويين الى شراك الإقليمية البغيضة .. أما ما عدا ذلك وما سواه من المواقف والتأويلات الخاصة بالأحداث والمتغيرات فهو متروك للاجتهاد على قدر المساواة والحرية بين كل المؤمنين الصادقين بهذا الهدف الاستراتيجي العظيم والعاملين على تحقيقه في كل الساحات ، وفي كل مراحل البناء دون تبخيس أو تجريم أو تشكيك فيما يبذلونه في الواقع وفقا لاجتهاداتهم إن كانوا في حالة التعدد التنظيمي ، أو في حالة الوحدة  .. اذ أن الغاية الأولى والأخيرة من الحديث عن موضوع الفرز ليس إلا ما يفيد المشروع القومي الذي لا يستطيع ان يحتكره طرفا لنفسه قبل قيام الحركة العربية الواحدة ، الممثل الشرعي والوحيد لهذا المشروع ..

ألا يكفي ما تقدم من قرائن لبيان الغرض من الحديث وقد أتينا على تتبع آثارها في كثير من أقوال عصمت سيف الدولة وأفعاله التي انتهت بنا الى تحديد هذا المضمون ؟

بلى .. ولكن دعونا نستمر في الحديث أكثر حتى نصل الى فهم غايته بشكل قاطع  ..

-5- 

لقد عرضنا من قبل موقف عصمت سيف الدولة الواضح من المضامين الفكرية وتأكيده على ما اسماه بنفسه " الخط الفكري العام " ، ولكن من الضروري في البداية أن نتوقف عند ملاحظة مهمّة ، حيث يبدو للمتأمّل من هذا التأكيد وكأنه يتجاهل منتوجه الفكري ، مما يجعلنا نطرح سؤالا على غاية من الأهمية : لماذا ظل الدكتور عصمت سيف الدولة طوال حياته يؤكد على عدم توخي أسلوب الإلزام بأي أفكار مسبقة للطليعيين الذين كان يتوجه إليهم بالحديث عن الخط الفكري الذي كرس له حياته في بلورة أسسه ومنطلقاته وغاياته وأسلوبه على مدى ثلاثين عاما أو أكثر ، وفي المقابل نجده يطلق تلك المقولة الشهيرة منتصف الثمانينات في حديثه " عن الناصريين واليهم " : "  أريد أن أقول بأكبر قدر من الوضوح ، أنني كنت ولم أزل على يقين يتحدى أي شك بأن " الناصرية" هي " نظرية الثورة العربية " . وأن الناصري هو من يقبلها ويلتزمها وينميها بخبرة ما أنقضى من سنين الردة ولكن طبقا لمنهجها ، ومن منطلقاتها ، إلى غايتها ، بأسلوبها . وأن من يناقضها منهجا أو منطلقا أو غاية أو أسلوبا لا يستحق عندي على أي وجه أن ينسب إلى الناصرية ولن تثبت نسبته إليها ولو كانت بيده شهادة موقعة من عبد الناصر شخصيا  .. " ؟ . ألا يعتبر مثل هذا القول الصريح مناقضا لما أكد عليه في بيان طارق ؟

لا شك هنا أن المسألة حول هذا الموضوع بدأت تتشعب وتأخذ أبعادا مختلفة على عدة مستويات ..

في المستوى الأول نجد بعدا أو مفهوما خاصا بالسياق الثوري الذي أسس له الدكتور عصمت سيف الدولة في علاقة بالأهداف الإستراتيجية للمشروع القومي ، كمشروع فكري جامع لكل المبادئ والثوابت الفكرية التي تتجلى  فيها مواقف المفكر والداعية الذي شغل نفسه طوال حياته بالعمل من أجل هذا المشروع ، وهو المشدّد باستمرار على التناقض الجذري بين القومية والإقليمية  في الفكر والممارسة ، الحريص بشكل دائم على تنقية هذا المشروع من أي أسلوب أو شبهة إقليمية ، المؤكد على فشل تلك الأساليب في تحقيق الوحدة أو حتى في تحقيق فائض من الرخاء للجماهير العربية في ظل التجزئة .. وهذه المواقف ليست في حاجة لأي عرض لتوضيحها لأنها متناثرة في كل كتاباته ومحاوراته ، وهي الأساس الذي أقام عليه مشروعه الذي يقتضي منه قول ما عنده حتى يكون واضحا ، مكتملا ومتكاملا ، صالحا وجاهزا للالتقاء على مضامين فكرية واضحة .. وفي هذا الإطار نعتقد أن مقولته السابقة تتنزل في هذا السياق ، وبالتأكيد أننا حينما ندقّق في ما صرح به في هذا الكتاب سنجد أنه كان يرغب في الإفصاح عن ذلك الموقف منذ زمن كما سنرى ... وهذه الناحية على درجة كبيرة من الأهمية .. إذ أن عصمت سيف الدولة مفكر وليس سياسي فحسب .. تحدث بكل موضوعية في كل القضايا المطروحة في الوطن العربي وصاغ منها نظريات ومواقف عقائدية صلبة ، وأصبح رائدا وداعية لما يعرف في الساحات العربية بالفكر القومي التقدمي .. وهو حينما يطرح أفكاره على الملأ يطرحها بشكل قاطع وحاسم كأسس صلبة لمشروع له دعاة كثر غيره وأتباع من المحيط الى الخليج .. فهو لا يلزم أحدا بما يقوله او ينشره للناس ولكنه لا يستطيع أن يطرحه الا على هذا الوجه القاطع طبقا لمنهجه .. ومن ذلك مثلا انه حين تحدث عن الاستراتيجيا أكد أن الاستراتيجيا القومية في مواجهة الصهيونية لا بد أن تكون استراتيجيا هجومية بحكم طبيعة الصراع معها .. كما قام بضبط خمس قواعد حاسمة وواضحة مبنية على أسس منهجية دقيقة في تعامل الحزب القومي مع القوى الأخرى داخل وخارج الدولة والموقف منها ومن الدولة أيضا باعتبارها من القوى التي يتعامل معها ، وقد جاء هذا في موضعين ، في كتاب الاسلوب وفي كتاب الطريق ـ 2 ، يختمه بالقول مؤكدا على دور هذه القواعد في فرز القوى من تلك النواحي التي ذكرناها (فرز خارجي) : " ان معرفة القوى وموقفها وتحديد موقف من كل منها يمثل القاعدة الثالثة في نظرية الأسلوب . لا ينبغي للحزب القومي الديمقراطي الاشتراكي ان يغفل عن أية قوة في الوطن العربي أو ان يقف منها موقفاً سلبياً ، ليكون قادراً في كل موقع وفي كل مرحلة أن يفرق بين الحلفاء والأعداء . وتفيدنا القواعد الخمس السابقة في فرز القوى وتحديد الموقف الصحيح منها على الوجه الآتي .. " .. ثم يذكر خمسة مواقف أخرى مترتبة عن القواعد السابقة  في التعامل مع القوى المعادية لأهداف النضال العربي بجميع أشكاله المتصلة بالديمقراطية والوحدة والاشتراكية وبطبيعة القوى المعادية وأفكارها وأساليبها وعلاقاتها ..

وفي هذا السياق أيضا نجده قد حدّد في الفصل الخاص بالطليعة العربية من نظرية الثورة العربية أسلوب نشاط الحزب القومي في الواقع بحسب الظروف التي يتواجد فيها عند قيامه : "فحيثما كان الشعب العربي قادرا مقدرة مشروعة قانونا على الكفاح الديمقراطي في سبيل غاياته ، يكون أسلوب نضال الطليعة العربية توعية الجماهير ، وتنظيمها ، وقيادتها ، في نضال ديمقراطي لتحقيق غاياتها ، إذ حيث تقوم الديمقراطية لا يوجد مبرر الثورة إلا مجازا ببذل الجهد المضاعف لبناء الحياة . أما حيث تفرض على إرادة الجماهير قيود تسلبهم حريتهم .. فإن الطليعة العربية تحطم النظم والقوانين والعلاقات التي يصوغها المستبدون قيودا على إرادة الجماهير . وحيث تبيح القوانين العنف ضد الشعب ترد الطليعة العربية العنف بمثله ، وتحطم القيود لتعود بالشعب الى الحرية ، فتعود الى توعيته وتنظيمه وقيادته لا تقتل ولا تقهر ولا تستبد . وعلى هذا تحدّد الطليعة العربية موقفها من أعدائها ، فلا تطغى ولا تقبل الطغيان" .. والأمثلة كثيرة على مستوى المقولات الفكرية الحاسمة التي يفرضها بناء أي مشروع من هذا النوع في الحد الأدنى الذي يسمح بالالتقاء لبناء تنظيم موحّد على أسس جامعة  ..

ودائما في المستوى الأول ، حيث يتميز الجانب العملي للمشروع ببعد نظري متصل باسلوب التغيير واداته " الحركة العربية الواحدة " التي تلقى إجماعا وتأييدا عاما بين مختلف المدارس القومية ، لا شك أنها تحتاج الى أسس فكرية ومنطلقات وغايات لا يجب في نظر الدكتور عصمت سيف الدولة أن يتم تجميع الناس حولها بناء على أفكار مسبقة .. لذلك رأيناه في بيان طارق ، تلك الوثيقة الفكرية في بعدها القومي الاستراتيجي ، أو في حواراته مع الناصريين في مصر ، ومع فصائل المقاومة وكافة الشباب العربي الذين صادفهم وتحدث معهم عن المشاكل المطروحة في بعدها الاقليمي المرحلي .. كيف كان يدعو للالتقاء على الحد الأدنى من المنطلقات القومية الجامعة ، وإرجاء الحسم في النواحي الفكرية الى حين بناء التنظيم القومي .. كما رأينا كيف كانت ردّة فعله  حينما عاين تجاوز بعض الأنصار لتلك الحدود التي تقوم عليها دعوتهم بالأساس .. اذ أن ما يراه أي انسان كحلول لمشاكل الواقع  مسألة خاصة به يستطيع أن يحسمها ويقدمها للناس كما يشاء وكما يعتقد بأنها "ما يجب أن يكون" .. لكن ما سيختاره الناس مسألة لا يستطيع أي انسان فرضها عليهم .. لذلك وجدناه يحرص باستمرار على وضعها موضع الاختيار لـ "ما هو ممكن" كبداية لتحويل هذا المشروع من القول الى الفعل ..

وهكذا ، فان موقفه الحاسم في تعريف الناصريين بتلك الصيغة القاطعة لا يبدو أنه مطروح في اطار تلك الحدود (ما يستطيع أن يقوله وما يمكن أن يقبله الناس) .. بل انه يأتي خارج تلك الأسوار وبالتحديد في اطار التعبير عن رأيه الحاسم ومفهومه للناصرية من موقع المفكر والداعية حتى يعرفه الناس على تلك الصيغة النهائية استكمالا لرؤيته الشاملة للمشروع الناصري ، وقد عاين طويلا واقع التشتت والتشرذم في صفوف الناصريين في مصر وهم يعيشون حالة الضياع عاجزين عن الاتفاق حول الأسس التي يجب ان يقوم عليها الفرز للصفوف المتداخلة .. وقد تأخر التصريح بمثل هذا الموقف الحاسم أكثر من اللازم عسى أن يصل الناصريون بأنفسهم ، ودون تدخل منه ، الى تحديد منطلقات وغايات وأسلوب المشروع الناصري ، لعل أن يمكّنهم الاجتهاد الموضوعي في التراث الغني للتجربة الناصرية من الوقوف على ما توصل اليه من خلال البحث العلمي المنهجي ، وقد كان هذا الحسم استنادا الى تقييم علمي لتطور التجربة الناصرية ذاتها ، واستنتاجا مما توصل إليه من مقولات حاسمة عن طريق منهجه الخاص في بيان منطلقات وغايات وأسلوب المشروع القومي ، وقد أصبحت كلها قواسم مشتركة بين النظرية والتطبيق .. وقد وجدناه يدلي بنفس الموقف تقريبا في نفس الفترة التي ظهر فيها كتابه "عن الناصريين واليهم" مكررا ما جاء في تلك الفقرة بأكثر مرونة هذه المرة ، في حواره المذكور مع جريدة القبس قال فيه : "وفي الواقع ، فان هذا المجهود هو نوعية من الجهود التي يجب على الناصريين أن يتعاملوا معها ، وأنا اعتقد أن الناصرية "صياغة" هي ما جاء في "نظرية الثورة العربية" .. ولكن علينا أن نتجنب ذلك ، فليس ما أعتقد حجة على صحته ونقول : ان المادة الخام سواء الفكرية أو التطبيقية لصياغة مبادئ يمكن أن ترقى الى مستوى النظرية موجودة في تجربة عبد الناصر".. ثم انه لم يكتف بالقول والتوجيه وحده ، بل انه قد اجتهد فعلا في دراسة خاصة بهذا الجانب (الناصرية كيف) مبينا ما يمكن للناصريين فعله واتباعه في خطوات منهجية لغربلة التجربة الناصرية وصولا لتحديد ما يلزم منها لبناء مشروع نظري مستقبلي للناصريين .. لم يتردد في تسميته " بالنظرية الناصرية" ثم قال متسائلا : " كيف يبنونها ؟  .. كيف يمكن استخلاص مبادئ واضحة محدّدة ، صالحة للالتقاء عليها والالتزام بها والاحتكام إليها من وعاء الخبرات الفكرية والتطبيقية التي خلفها الزعيم القائد جمال عبد الناصر ؟.

أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال هي المساهمة الممكن تقديمها لكل من يعنيه أن يتصدى للمهمة الأصعب . مهمة البناء النظري . 

وعلى قدر ما استطيع ان أسهم فأقول باختصار شديد : ان ثمة أربعة ضوابط منهجية للبحث عن عناصر النظرية " .. ثم قدم رأيته للضوابط الأربعة تاركا للناصريين مهمة تحديد النظرية .. وهكذا - ومن حيث المبدأ - ظل ممتنعا عن التدخل في شؤون الناصريين أو ممارسة الوصاية عليهم لأنهم أصحاب الشأن وهم أدرى بشؤونهم كما صرح بذلك مرات عديدة ..

ولهذا السبب أيضا – أي الموقف المبدئي – كانت الخصائص الموضوعية التي توصّل الى تحديدها بالنسبة للتنظيم القومي ، والتي آمن بها ، تصدّه دوما وتمنعه من اتخاذ أي خطوة أو مبادرة تناقض دعوته القائمة على تلك الأسس والخصائص التي جاء بها بيان طارق  ، أي أن ما كان ـ في نظره ـ ملزما للطليعيين في إتباع ذلك المبدأ ، يُعتبر أكثر إلزاما له من أنفسهم .. الى درجة أنه كان يرفض التعجيل بقيام هذا التنظيم على غير تلك القاعدة ، أو قبل أن تتوافر ظروفه الموضوعية .. كما كان دوما يحرّم على نفسه أي تدخل أو وصاية في موضوع إنشائه .. وفي هذا المجال نجده يقول لمحاوره في مجلة الموقف العربي المصرية العدد 61 : " منذ ربع قرن وأنا أدعو الى أن التنظيم القومي هو آداة قيادة الجماهير العربية من منطلق وحدة الأمة الى هدف دولة الوحدة . ولكن التنظيم القومي ليس استجابة ذاتية لدعوة ما ، بل إن له مضامين موضوعية لا تنشئها إحدى الدعوات إذا لم تكن متحققة في الواقع  .

المضمون الموضوعي اللازم لقيام التنظيم القومي غير قابل للاكتشاف  إلا إذا قام التنظيم القومي فعلا ، أعني على وجه التحديد أنه مهما تكن الرغبة في إنقاذ الأمة العربية ومهما يكن فهم مشكل إنقاذها صحيحا ، ومهما يكن التنظيم القومي هو الحل العلمي الصحيح ، فان عدم قيام تنظيم قومي حتى الآن يعني أن طلائع الشعب العربي لم يصلوا بعد الى درجة من نضج الوعي والمقدرة على الحركة المنظمة تؤهلهم موضوعيا لتحمل مسؤولية بناء التنظيم القومي ... أما قبل ذلك فانه لن يقوم إلا مصطنعا ، وعندما يكون التنظيم مصطنعا لا يكون قوميا ، فلنصبر مع الصابرين ، ولندعو مع الدعاة ثم لنترك الشعب العربي يختار آداته " ..

لكن الدكتور عصمت سيف الدولة – كان مقابل ذلك - يصر على التحريض الدائم ، ويعمل بكل ما أوتي من قدرة على الاجتهاد والنصح للتقدم على خطى الفرز بين القوى العربية التقدمية في الوطن العربي والقوى الإقليمية الرجعية دون خوف او هروب حتى تصبح كلاهما قوى مفرزة ، ليس فيما يتصل مباشرة بصفوفهما المتداخلة فحسب مما يساعد القوى التقدمية على تحمل مسؤولياتها وهي لا تخشى الطعن من الخلف ، بل وحتى تصبح كل القوى مفرزة أمام الجماهير أيضا .. وفي هذا الجانب يقول في نفس الحوار : " وقد آن الأوان بأن تفرز القوى وأن تتحمل كل قوّة مسؤولية مواقفها ، وان تُرغم ـ إذ لزم الأمر ـ على أن تتحمل هذه المسؤولية وذلك بعدم السّماح لها بالاختفاء وراء تعبيرات قد تصدق عليها وعلى  غيرها  من  القوى المختلفة معها " ... وليس هذا من باب قول الموقف ونقيضه بل هو دائما ـ وكما نرى في نفس الحوار ـ من باب تثبيت المبدأ والأخذ بمحاذيره في نفس الوقت ..

وفي هذا السياق ، فان ما يجب التفطن إليه في علاقة بهذا الجانب هو حرصه الشديد على تأجيل معارك الفرز التي لم يحن وقتها .. ومثل هذه الخلفية تظهر بوضوح في بعض المواقف التي يتعرض لها في محاوراته ولقاءاته المباشرة حين تطرح عليه بعض الأسئلة  فيتعمد تجنّب الإجابة الصريحة عنها تفاديا لتداعياتها على مستقبل المشروع القومي ، ومنها الموقف الخاص بتعريف الناصريين حينما يلتقي بالشباب أو بالإعلاميين .. ومثل هذا التمشي لدى الدكتور عصمت سيف الدولة سواء من ناحية الحرص على ضرورة ملاءمة ظروف إقامة التنظيم القومي مع ظروف الوحدويين المتأثرة حتما بواقعهم ، او من ناحية التأكيد على التخفيف ـ مرحليا ـ من حدة الفرز يستحق التوقف لأنه على غاية من الأهمية ، وهو يعلمنا أن تأجيل بعض معارك الفرز وتغيير أساليبها من حين الى آخر صفة من صفات المناضل الفطن ، الصلب ، العارف بتكتيك المعركة ، الحريص على فرز الأولويات قبل الذهاب الى فرز الصفوف على غير أسس وأهداف واضحة ، حتى لا تكون تلك المعارك عبئا مضافا لأعباء النضال اليومي حين تكون المهمات النضالية غير ملائمة للواقع الموضوعي أو غير متفقة مع المصلحة القومية ، وقد وجدناه أكثر من مرة يبدع أساليب عملية للفرز تقوم على محاور نضالية مدروسة نذكر منها مثالين ..

في المثال الأول يمكن أن نذكر موقفه من تصفية الحسابات مع الأنظمة الإقليمية وقت الأزمات التي تمر بها الأمة العربية على غرار ما جاء في رسالته الى الجماهير العربية بعنوان "ما العمل ؟ " بعد هزيمة 5 يونيو 67 وقد جاء فيها بيانا واضحا متصلا بمسالة بناء التنظيم القومي في علاقة بالظروف وأولويات المعارك الميدانية نذكره بكل إفاضة : " حذار من المثالية . إن تصفية الإقليمية واجب قومي حتى لا تجر أمتنا مرة أخرى للهزيمة والقتل والتدمير والألم والحزن والعار ، ولكن ليس الآن وقت تصفية الإقليمية . ليس هذا أوان البحث عما يجب أن يكون والتخلي عن الممكن المتاح ، إنما هو أوان استعمال الممكن الى أقصى حدود إمكانياتنا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ... ولكنه على أي حال ليس أوان الانقضاض علي الإقليمية وسحقها أو إسقاطها بما يتطلبه هذا من صراع في الجبهة العربية . كما أنه ليس وقت تلفيق وحدة عربية بمنطق الإقليمية والإقليميين تحت ضغط الخطر القائم لتنفصل بعد زواله . وغدا أو بعد غد ، طال الزمان أو قصر ، سيصفي الشباب العربي حسابه مع الإقليمية المدمّرة . أما الآن فلتكن الدول الإقليمية أدوات في أيدي الشباب العربي لتكون لهم المقدرة بعد تصفية آثار العدوان على تحطيمها . إن الدول الإقليمية ـ الآن ـ هي الأدوات المتاحة في معركة لا تزال محتدمة ، فلتبق  أدوات ولكن لتكن الإرادة للشباب العربي . إرادة الصمود . إرادة الاستمرار في المعركة . إرادة إزالة آثار العدوان . وليفرض الشباب العربي هذه الإرادة على الأعداء والمتآمرين والمتخاذلين والمنهزمين جميعا .. فما العمل ؟

مرة أخرى ـ ودائما ـ من الممكن إلى ما يجب أن يكون . من الواقع إلى المستقبل . إن التخلي عن الاشتباك مع العدو في المعركة التي تدور الآن لمحاولة خلق تنظيم قومي يحقق الوحدة ليتدارك ما فات مثالية عقيمة . إن كثيرين من الانهزاميين سيفرّون من المعركة بحجة التحضير للجولة القادمة . إن هـذا هروب لأن الجولة القائمة لم تنته بعد والمعركة لا تزال مستعرة ... إن وحدة العدو، ووحدة الساحة ، ووحدة المرحلة تفرض عليكم أن تكونوا جبهة واحدة مع كل الذين يقاتلون . والذين يقاتلون فعلا فئتان مفرزتان عقيدة وغاية فلا تختلطان . أنتم القوى القومية التي تخوض في الأرض المحتلة معركة التحرر العربي في سبيل الوحدة . والقوى الإقليمية التي تخوض المعركة من أجل إزالة آثار العدوان أو من أجل تحرير فلسطين ثم لا يزيدون . أولئك حلفاء المرحلة رضيتم أم أبيتم وإن أبيتم فإنكم لا تخذلون سوى أمتكم ولا تعزلون  سوى قوتكم ولن تجديكم عزلتكم فتيلا . والحلف غير الوحدة فلا يجديكم في المعركة شيئاً أن تطلبوا وحدة المقاومة مضمونا وتنظيما . تلك وحدة تنطوي على أسباب الفرقة فلن تلبث حتى تمزق الصفوف كرة أخرى . إنما هي الجبهة العربية الموحدة بين القوى القومية والقوى الفلسطينية المقاتلة . كذلك فعل كل الذين أحرزوا من قبل النصر في معارك التحرير " .

طبعا مثل هذا الموقف يصبح على درجة قصوى من الأهمية اذا علمنا أنه يتزامن في الواقع مع إنشاء مشروع ما سمّي في تلك الفترة بأنصار الطليعة ( 1966 ) الذي كان يمكن ان يُحدث منعطفا خطيرا في الأحداث وفي المستقبل العربي برمته بحلول العام 1970.. ووجه الأهمية في هذا الموقف هو التحول الفوري في وجهة نظر عصمت سيف الدولة تجاه أسلوب مواجهة الواقع حينما حصلت فيه تغيّرات جذرية استطاع أن يقدّر خطورة تداعياتها في الحين ، متخليا عن دعم تلك المهمة العظيمة كما هو واضح في موقفه السابق الصادر بعد عشرين يوما فقط من هزيمة 1967 ، للانتقال فورا من الدعوة "لأنصار الطليعة" الإعدادي الى الدعوة "لكتائب الأنصار" المقاومة .. وما يهمنا في هذا الموقف هو ما يتصل بتغيير أهداف النضال من تغيير لمعايير الفرز وغايته .. فبعد أن كان الفرز يتم في الواقع حول شعار من هم الأنصار الذي لا يقبل تداخلا في الصفوف ، أصبح الفرز حول من هم مع المواجهة والمقاومة وإزالة آثار العدوان وكله مجال لتداخل القوى واختلاط الشعارات والمفاهيم ، لذلك دعا عصمت سيف الدولة في نفس الوثيقة لأن تكون المقاومة معيارا جديدا للفرز وتحويل ساحات القتال الى ساحات لمولد الطليعة العربية .. وفي هذا السياق يمكن ان ننقل تأكيدا على هذه الفكرة للأستاذ حبيب عيسى في منبر بساط الثلاثاء جاء فيه : "هكذا نلاحظ أن د . عصمت سيف الدولة تحسس الخطر منذ اللحظة الأولى لزلزال 1967 لكنه استمر في الهجوم على الواقع بهدف تغييره ، ودعا الشباب العربي إلى تشكيل "كتائب الأنصار المقاتلة" في معركة فلسطين ، وأن تنبثق "الطليعة العربية" من خلال التوحد في ساحة المعركة " ..

والأستاذ حبيب عيسى يذكر بعد ذلك أسبابا أخرى ساهمت في فشل تجربة أنصار الطليعة بعد الهزيمة منها رحيل عبد الناصر سنة 70 ثم انقلاب السادات على المشروع القومي والذهاب بمصر الى الموقع المعادي للقضايا العربية مسببا المزيد من الانهيار والهزائم والانكسارات ، وقد شهدت تلك الفترة اعتقال عصمت سيف الدولة بتهمة إنشاء تنظيم لقلب الأنظمة العربية كما جاء توضيحه في رسالته الى تونس عام 1985 .. 

أما المثال الثاني فقد ورد في مقال بمناسبة ذكرى الوحدة ، نشر بمجلة الفكر المعاصر عدد 48 ، شهر فبراير 1969 بعنوان "الوحدة أساس النصر والهزيمة" جاء فيه الإشارة الى عدم التركيز على أي حديث ينكأ الجروح ويثير الفرقة أو يدفع الى الهروب من المسؤولية في وقت لا يتسع فيه الحديث الا لما يساعد على تجاوز المرحلة بعد الهزيمة وحشد امكانيات المعركة حين قال : "نحن ، إذن ، على أبواب مرحلة عاصفة تفرض علينا أن نحشد لها كل فكرة ، كل كلمة ، كل حركة ، كل قوة ، إذ فيها سنخوض واحدة من اخطر معارك المستقبل العربي . إن هذا يلقي على الجادين من الناس مسؤوليات جسيمة وملحة تحجب قضايا الماضي وتحيل الحديث عنه إلى نوع من الاجترار الكسول الذي لا تطيقه الظروف الخطيرة التي تمر بها أمتنا العربية . فلماذا الحديث عن الوحدة ، ولمن الحديث عن الوحدة ؟

لقد كانت وحدة 1958 قمة انتصار النضال العربي . نعم ولكن الا ينبغي أن نتعلم كيف نكون "واقعيين" فنشغل أنفسنا بالمشكلات الجسيمة التي يطرحها علينا الواقع المهزوم بدلا من إعادة الحديث عن أيام النصر الذي انقضى .

لقد كانت وحدة 1958 "نواة" دولة الوحدة العربية الكبرى . نعم ، ولكن أليس أجدى علينا من الحديث عن "نواة" الدولة التي كنا نريد أن نغرسها في الأرض العربية أن ننتبه إلى القوى التي تغتصب منا الأرض قطعة قطعة ؟

الوحدة .... مع من ؟

ألا  يعني طرح السؤال أو البحث عن إجابة عنه – الآن - أننا ننكأ جروحا قديمة بينما جروح ؛ المعركة تنزف ؛ وتخلخل جبهة الخطر الداهم بما نثيره من أسباب التمييز المستفز ؟

الوحدة .... كيف ؟

ألا يعني طرح السؤال أو البحث عن إجابة عنه ـ الآن - أننا نشدّ انتباه المناضلين في ساحة المعركة المحتدمة الى ساحات معارك أخرى غير قائمة ، وأننا نشغلهم عن المواجهة المسلحة ضد الصهيونية بمواجهة كلامية ضد الإقليمية .

الوحدة .... متى ؟

ألا يعني طرح السؤال أو البحث عن إجابة عنه - الآن ـ أننا نحاول الهروب من المسؤوليات المحدّدة التي تطرحها الظروف التي نحياها الى تاريخ الوحدة في مرحلة انتهت أو إلى آمال الوحدة في مرحلة لم تحل ؟

من أجل هذا كله ، لن نتحدث في الذكرى الحادية عشرة لوحدة 1958 إلى الذين يبحثون عن الوحدة مع من ؟ أو عن الوحدة .. كيف ؟ أو عن الوحدة .. متى ؟ ولن نتحدث حديثا ينكأ الجروح ويثير الفرقة ، او يصرف انتباه المناضلين عن ساحة المعركة المحتدمة ، أو يفتح أبواب الهروب من مسؤوليات المرحلة التاريخية التي نواجهها ؛ بل سيكون حديثا الى الذين يحاولون ، ولو بالدم ، أن يجدوا الإجابة عن أخطر الأسئلة المطروحة في الوطن العربي ، وأكثرها " واقعية " كيف ننتصر ؟ " .. ثم بعد الإشارة الى علاقة الحديث عن الوحدة بالنصر في كل الظروف و واقعيته يطرح السؤال : لماذا يجب أن نقاتل ؟ حتى يكون الحديث متجاوزا أي مبرر للخلاف حول مهمّات المستقبل وصولا الى النصر المطلوب ..

كما يمكن أن نذكر – في نفس السياق - ما كان يبديه من تحفظات حول ذكر كثير من التفاصيل والأحداث والتجارب التي عاشها مع العديد من الأطراف القومية لما كان يرى فيها من ضرر بالمرحلة أكثر من نفعها حين لا تكون في وقتها .. بينما كان أحيانا أخرى يتهرب من الإجابة عن أسئلة كثيرة تطرح عليه ، وكان لا يرى نفعا في الإجابة عنها نذكر منها على سبيل المثال ما جاء في حواره مع جريدة الأنوار التونسية عام 87 حينما واجه سؤالا عن المرحوم العقيد معمر القذافي فكان ردّه الحاسم قاطعا لأي توظيف أو تأويل حين قال لمحاوره : " دعك من هذا السؤال وسؤالك أعرفه مسبقا ، وقد ألقوه علي عديد المرات ، وأنا أعرف الغاية منه ، وأنا لا أجيب عليه لكي لا يستعمل ضد الأمة العربية ، وكي لا يركبه البعض ويجعلونه مطية لتحقيق أهداف خسيسة  .." .

ونذكر منها أيضا تحفظه عن ذكر تفاصيل تهم القوى الناصرية في حواره المذكور تحت عنوان حوارات ناصرية حين قال بالحرف الواحد : "ان إجاباتي على هذه الأسئلة قد تعمق خلافات موجودة" ، مؤكدا فقط على دوره وأسلوبه في مساعدة الناصريين على حسم خلافاتهم داخل الأطر التنظيمية حين قال : " إنني لاحظت من خبرتي واتصالاتي بالشباب الناصري ، ان التركيز على المضامين او الصيغ الفكرية للناصريين بقصد الوصول الى تحديد لها ، كان من أسباب الخلاف بينهم وما يزال ، ولا يوجد ناصري شاب ممن قابلتهم ، وهم كثيرون ، لم يسمع قولي بان الصيغة الناصرية في المنهج والنظرية والأسلوب ليست مهمة فرد ولا مجموعة افراد ، ولكنها مهمة التنظيم الناصري الموحد " .. 

بل أنه يكرّر نفس التحفظات في مناسبة أخرى في نفس الفترة (27 سبتمبر 1987) في حواره مع جريدة القبس جاء فيه في بداية الحوار :  "في البداية أود أن أفتح قوسا ، أو أبدي تحفظا ، وهو لا أدري ان كان نشر هذا مفيدا أو غير مفيد للمشروع الناصري ، وأقصد محاولة الناصرية إنشاء حزب لهم إنما – على أي حال – سأجيب ، وعليك أنت وحدك مسؤولية نشر ما تراه ، وأرجو ألا تنشر ما يمكن أن يحدث أي خلخلة أو فرقة أو إضعاف لمحاولات توحيد الناصريين في حزب في هذه المرحلة" .. ثم يكرّر ذلك في نهاية الحوار حينما سأله محاوره الناصري : هل لك إضافة تودّ أن تطرحها ؟ فقال : ".. واضح من حديثي معك ، أن كلامي يمكن تأجيله للمستقبل ، إنما النقطة المهمّة المطروحة حاليا : هي تجسيد الناصريين أنفسهم في حزب ، يأتي بعد ذلك اختيار الفكر .. لكن أخشى أن تكون الأفكار ضارة بمشروع الحزب ، لأنه دخل مرحلة التأسيس . حيث تجمع أفراد لتكوين جسم ، لا يجوز أن تطرح أفكارا تثير الخلاف أكثر مما تثير الاتفاق .. "..

كما نجده يهوّن في بعض الأحيان من درجة الخلاف للدفع قدما نحو الحل وتجاوز العقبات مثلما جاء في ردّه على محاوره الناصري "سليمان الحكيم" ، الصحفي بمجلة المنابر المصرية حين سأله عن رأيه في وضع الناصريين وخلافاتهم قال فيه : "في رأيي ان الخلاف الذي حدث ، حدث نتيجة لعدم وجود المعيار الذي يقاس عليه ، من الصحيح ومن الخطأ ؟ هذا يحتاج الى معيار يتمثل في لائحة وبرنامج وورقة عمل ، وهذا بدوره يحتاج الى حزب . وقبل وجود الحزب كل الخلافات مقبولة وطبيعية وصحية ، بل وضرورية . وفي وجود الحزب يوجد المعيار ويوجد الانضباط وتنظيم الحركة في مسارها المقدر . وبالتالي تذوب جميع الخلافات أو تقل نظرا لوجود المعيار والحكم الذي يتفق عليه الجميع ويحتكمون اليه في حالة الخلاف" ..

-6-

لا شك أن مثل هذه المواقف للدكتور عصمت سيف الدولة تجعلنا نستخلص ميزة نضالية وأخلاقية عالية تحيلنا مباشرة الى المستوى الثاني ..

في هذا المستوى يتميز المشروع القومي بجانب عملي تتنزل فيه كل الأفكار والمقولات النظرية في الواقع ، ينجزها عدد هائل من الأفراد المؤمنين بهذا المشروع ، بحيث يتوجب عليهم مجابهة الظروف التي يريدون تغييرها دون أن يخرجوا بعيدا عن الضوابط التي تحدّدت نظريا وفكريا ، أي ان المشروع ككل سيخضع لقيود تحتّمها الظروف الموضوعية من جهة ، والظروف الذاتية من جهة ثانية ، ومن هنا يبدأ التعقيد والتداخل بين الواقع النظري والواقع العملي ، وهي عقدة لا تحل بين الأفراد الا بوحدة التنظيم . أما قبل ذلك فان هدفا رئيسيا سيظل قائما طوال المسيرة النضالية متمثلا في بناء التنظيم الذي يتوقف عليه تحقيق كل الأهداف النظرية .. ومن هنا تنشأ المشكلة المسبّبة للصراع والتشتت والتداخل في الصفوف ، مما يستوجب اللجوء الى فرزها . وستظل تلك المشكلة قائمة ومتواصلة  ومتفاقمة ما لم يهتد القوميون الى فهم السياقات المرحلية للمشروع القومي خلال كل مرحلة من مراحل النضال التي يخوضونها أينما كانوا في شتى التعبيرات والهياكل التنظيمية التي ينتمون إليها في جميع مواقع الصراع مع القوى الإقليمية سواء في الأحزاب أو في النقابات أو في أي موقع بين صفوف الجماهير وهم يخوضون معارك الممكن ، من أجل تحقيق ما يحتاجه المواطن العربي من مكاسب مادية ومعنوية .. وهم يعملون في نفس الوقت على الترويج والتعريف بالفكر القومي التقدمي ، دون أن تؤدي بهم رغبتهم من تحقيق الفرز المنشود الى التشتت والتشرذم الذي يعيق هدفهم الاستراتيجي : بناء الآداة التنظيمية الكفيلة وحدها بتحقيق النصر ، حينما ينتقلون من التركيز على الثوابت الى البحث عن المشترك في المتغيرات .. 

كل هذه الخصوصيات المتعلقة بطبيعة المشروع القومي ، نراها لازمة كإضافة لفهم المقولة السابقة الخاصة بتعريف الناصريين الواردة في كتابه "عن الناصريين واليهم" موجهة الى ساحة مصر بالذات (كنواة تنظيمية لهذا المشروع في موقع يعتبره الدكتور الاقليم القاعدة) ، وهي مقولة تتضمن قولا صريحا حاسما يتعلق بالفرز ، ولكننا لا نستطيع أن نفهم مغزاه دون أن نفهم السياق الذي جاء فيه : إعلان موقف حاسم ، مؤجل ، حان موعده .. وقد جاء الإعلان عن التوقيت والمبررات في مقدمة كتاب عن الناصريين واليهم ، وكأن الدكتور عصمت سيف الدولة ، يريد أن يفصح عن كل ما أخفاه سنين طويلة وتجنّب الخوض فيه حتى تتحقق تلقائيا كل النتائج المرجوّة ، وحتى لا يثير معارك في غير أوانها ، فيقول : " وبعد فإن رأسي مليء حتى التخمة بما اختزنته فيه لأخرجه مكتوباً في أوانه ، ولم يعد العمر قابلاً للمراهنة على امتداده . لا بد إذن أن اكتب وأكتب ولو في غير معركة . ولن افتقد على أي حال معركة اشترك فيها بما اكتب ، فالعالم كله والوطن العربي مليء بالمعارك التي لا يعرف حتى المشاركون فيها كيف نشبت ولماذا ؟ .. وأينما وليّت الوجه فثمة معركة تتصل من قريب أو من بعيد بالأمة العربية . لقد قال المارشال ماك لوهان فيما كتبه عن ” الإعلام ” أن الأرض قد أصبحت بفعل تقدم وسائل الاتصال قرية . إذا كان هذا صحيحاً فإنها قرية يحكمها ملوك المال وملوك السلاح . وملوك الدعاية وملوك الصهاينة . والملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ، هي إذن قرية يعيث فيها فساداً ذو القوة القادرين على البطش بالشعوب من أهلها . ونحن العرب ، لنا في هذه القرية دور ودروب وأغراض وأعراض لا بد من الدفاع عنها . المعارك إذن ، حتى العالمية تدور في دورنا ودروبنا فسنجد دائماً من يقاتلنا فنقاتله .. سقط العذر اذن . فلنكتب ولنستعن في المرحلة الأولى بما كتبنا من قبل ولم ننشره حتى لا نثير معارك في غير أوانها .. ولو لفترة قصيرة  .."

سقط العذر بعد أن انقضى العمر وفشلت كل محاولات النهوض بالناصريين وهو يتابع جهودهم ويدافع عنهم ويسدي لهم بالنصح اللازم دون وصاية حتى اقتربوا (عند اصدار الكتاب) من كسب حقهم في التنظم ، لكنهم لم يصلوا الى انجاز المهمة التاريخية المناطة بعهدتهم  ، أو هكذا توقف الفرز في صفوفهم وهم يخوضون صراعا مريرا غير متفقين حول من هو الناصري ؟ .. فتشرذموا قوى وأحزابا في ظروف تشهد فيها الامة العربية مزيدا من التردّي والتقهقر نحو الاسوأ .. وكثير من هذا ذكره في  مواقع أخرى عديدة من الكتاب وهو يقدّم قراءة معمّقة لواقع الناصريين ، ويسرد أهم الفترات والتحولات التي شهدها  تاريخهم عبر كل الأجيال ، مؤكّدا الحاجة الملحة لتنظمهم في ظل الردّة التي حلت بمصر وعادت بها سنوات الى ما قبل الثورة : " ارتدّ أنور السادات بمصر الدولة عن الاتجاه القومي لثورة يوليو الناصرية . أصبح إيقاف الردة وإنقاذ مصر من التردي الإقليمي بعد أن كانت مركز قيادة الحركة القومية ، أصبح هدفاً قومياً وأصبحت به مصر القضية المركزية للنضال القومي . هذا قلناه . ما لم نقله ، أن تحقيق هذا الهدف أصبح متوقفاً على حجم وتنظيم ونشاط القوى الجماهيرية التي تناضل من أجل تحقيقه . وقد استطاع فعلاً أن يستقطب الى ساحته قوى شعبية كثيرة ومتنوعة وإن لم تكن منظمة . كما استطاع ان يكسب مواقف بعض الأحزاب الرسمية . ولم يكن ذلك كافياً لإيقاف اندفاع دولة السادات الى الهاوية الفرعونية . كانت أعرض القوى وأكثرها مقدرة على التأثير فيما لو التحمت تنظيمياً . فناضلت هي القوى الناصرية " .. كما ذكر في مناسبات أخرى ضرورات من نوع اخر تهم الاتفاق على الحد الادنى من الأفكار للتعجيل بقيام التنظيم منها ما ورد في حواره مع جريدة القبس بتاريخ 27 سبتمبر 1987 حين قال : "وفي الحقيقة : هذه هي المهمّة التاريخية التي يجب على الناصريين أن يقوموا بها ، واذا لم ينجزوها ، سوف تصبح الناصرية مثل الفابية ، والفابية الان انقضت تاريخيا ... أيضا ، الدنيا لن تتوقف الى أن يصوغ الناصريون أفكارهم ، ستظهر أفكار أخرى ، ومنسوبة لعبد الناصر . واليوم على سبيل المثال مطروح في مصر عن طريق "الأخ كمال أحمد" حزب ناصري ، أفكاره هي بالضبط أفكار السادات ، ويسمّى حزب ناصري . وأنت ليست لديك السلطة لان تحرم الناس من أن تقول ، أو أن تفكر . والناصريون اذا أقاموا حزبهم ، فهم مرشحون لتصحيح المسيرة ، وما دامت مشكلة مصر ، فهي بالضرورة مشكلة الأمة العربية ، لأن مصر لها ثقل قومي ، وتؤثر في الوطن العربي كله .

ولأني قومي ، فاني أعتبر أن انقاذ مصر ممّا هي فيه مهمّة قومية وليست مصرية . واذا أُنقضت مصر سوف تتوقف الحرب في العراق ، وستتوقف المذابح في لبنان ، وستتغير الخريطة كلها ، لأن الخريطة العربية تمزقت يوم أن حوصرت مصر ، أو حاصرت نفسها .

ويقيني ، أن القوة المتاحة لإنقاذ مصر هم الناصريون ، بشرط أن يكون لهم حزب ، ويتحوّلوا من ناصريين الى قوة ناصرية . لذلك منذ أدركت هذا الأمر من أيام السادات وأنا أظاهر وأؤيد النشاط الناصري في سبيل الالتحام في حزب " .. 

وستبقى مثل هذه الحاجة ملحة ليس في مصر وحدها ، بل في الوطن العربي كله من أجل التغير والثورة والتقدم ، حيث تتوافر كل الظروف الموضوعية لقيام الثورة العربية الشاملة ، ولا تؤخرها غير الشروط الذاتية للقوى التقدمية .. ومثل هذا الموقف  يتحدث عنه في حواره مع جريدة الرأي التونسية في نفس الفترة تقريبا ، أي منتصف الثمانينات ، وردا على سؤال محاوره حول الظروف الموضوعية للثورة في مصر والوطن العربي ، يجيبه بإسهاب طويل معرّجا على مشكلة الفرز : " إن  الشروط الموضوعية للثورة العربية كما عرضتها في نظرية الثورة العربية متوفرة في الوطن العربي وفي مصر باعتبارها جزء من الوطن العربي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية . والواقع أن انتباه كثير من الكتاب والمفكرين والقادة العرب الى محاولة الإجابة على كيفية وشروط نجاح الثورة العربية منذ نحو ثلاثين عاما ، كان يعني وعيا بأن الظروف الموضوعية للثورة متحققة .. وأعني بالظروف الموضوعية تحول الواقع الى عقبة في سبيل التقدم الاجتماعي في الوطن العربي .. كان  واضحا  للكافة بأن تطور الحياة في الوطن العربي تطورا متكافئا مع الإمكانيات المتاحة فيه  للشعب  العربي أمر غير ممكن بفعل الاستعمار الخارجي والتجزئة الإقليمية والاستبداد  والقهر  الاقتصادي والسياسي داخليا . ولم يكن أحد يناقش في انه لا بد من ثورة عربية أولا ، بل كان الحوار دائرا حول كيف تقوم الثورة العربية وتنجح ..؟ وقد بلغ نضج الظروف الموضوعية حدا حمل المؤرخ الانجليزي " تونبي " على إبداء دهشته البالغة من أن الأمة العربية لم تتوحد رغم ضرورة هذه الوحدة ، وأنها ممكنة .. بل بلغ نضج الظروف للثورة العربية أن القوى التي كانت مرشحة لتقوم الثورة ضدها لتصفيتها تبنت هي شعارات الثورة وتصدرت بأساليبها التحقيق  السياسي لمطلب ثوري . وأعني بتلك القوى الدول العربية ذاتها .. اذ هي المستهدفة  كعقبة من الثورة العربية الوحدوية .. وقد كان كل ما كتبته منذ عشرين عاما يستهدف حل إشكالية كيف الثورة ..؟  وقد انتهيت في هذا الى أن ما يعوق الثورة العربية هو غياب الشروط الذاتية وليس الموضوعية لقيامها .. بمعنى فشل القوى المرشحة موضوعيا لإشعال الثورة العربية الشاملة وقيادتها في القيام بهذا الدور التاريخي .. أول عناصر الفشل الذاتي ، أن الثوار العرب أي المرشحين موضوعيا لقيادة الثورة لم يفرزوا أنفسهم فرزا واضحا من القوى المعادية موضوعيا للثورة والتي ترفع شعاراتها في نفس الوقت ، فتحول بوعي أو بدون وعي دون قيامها .. ومن هذه الثغرة لم يستطع الثوار العرب أن يدركوا أن الثورة لا يمكن أن تقوم إذا تداخلت في قواها الدول العربية أو قيادتها بصرف النظر عن أشخاص هذه القيادات .. 

واضح في هذه الفقرة ما يعنيه الدكتور عصمت سيف الدولة من حديثه عن الفرز ، وهو فرز صفوف الثوريين دعاة الوحدة من الانتهازيين والاقليميين أولا ، اذ هم أي الثوريون العرب كما قال : " لم يفرزوا أنفسهم فرزا واضحا من القوى المعادية موضوعيا للثورة والتي ترفع شعاراتها في نفس الوقت ، فتحول بوعي أو بدون وعي دون قيامها " .. أو من بين صفوفهم ثانيا ، ومنهم من لم يدركوا " أن الثورة لا يمكن أن تقوم إذا تداخلت في قواها الدول العربية أو قيادتها بصرف النظر عن أشخاص هذه القيادات .. إذ أن أي قومي ثوري يصل الى حكم دولة إقليمية يجد نفسه بحكم الدولة الإقليمية ذاتها ورغم أنفه حارسا للإقليمية المتجسدة في حدود دولته وهوية شعبها ومصالحها  الإقليمية  ودستورها " .. ومثل هذه المعضلات - في نظره - هي التي أدت الى " عجز الثوار العرب عن أن يملكوا آداة الثورة وهي تنظيم قومي تقدمي ثوري واحد يلتحم فيه كل الثوار ويقومون  به ومن خلاله بتعبئة الشعب العربي وقيادته نحو أهدافه وما يزال هذا الوضع قائما الى الآن" .. وهو حديث عن الفرز ـ كما نرى ـ ذو وجهين وبعدين في نفس الوقت : وجه داخلي ووجه خارجي ، وبعد مرحلي وبعد استراتيجي .. وغايتة - كما هو واضح في الجملة الاخيرة - هي تجاوز العجز الذي حال دونهم ودون بناء التنظيم ..

في المحطة الموالية من كتابه عن الناصريين واليهم يعرض علينا مشكلة الناصرين : " وهي مشكلة عويصة لأنها كانت تقتضي قبل أي بناء تنظيمي التحقق من أن كل فرد من القاعدة ناصري . وكل هذا التحقق يفتقد المعايير الموحدة كما يفتقد الحكم المقبول من الجميع أو حتى من الأغلبية ليتولى الفرز على ضوء تلك المعايير . باختصار كان مطلوباً لتسهيل مهمة تحول الناصريين أو أغلبهم إلى قوة منظمة الإجابة على سؤال : ” من هو الناصري ؟  " ..

نفس هذا الموقف نجده أيضا في الحوار مع جريدة الرأي ، وفي ردّه على سؤال حول من هم الناصريون  يقول لمحاوره : " الصعوبة في الإجابة على هذا السؤال هي تحديد ماهية الناصريين . فلا تنسى أن كل قيادات وكوادر ورجال وأحزاب الردة كانوا جزءا من دولة عبد الناصر .. أي لدى كل واحد منهم سبب تاريخي يستطيع أن يزعم به أنه ناصري . وأعتقد أن مكاسب كثيرة وقائمة ، ستظل قائمة الى ان يتحد الناصريون في مصر في حزب ناصري يكون هو محك الفرز بين   الناصريين   وأدعياء الناصرية " .. كما وردت هذه الفكرة بأكثر وضوح في الحوار مع جريدة القبس قال فيه : "ومع وقوع السادات في فخ الهيمنة الامريكية منذ 1974 ، بدأ يعمل على القضاء على عبد الناصر . ليس فقط في إنجازاته ، ولكن قي ذكراه ، ولو أن هذه "الرّدّة" كانت قد حققت تقدّما للناس فيما يتعلّق بالمسائل الاقتصادية أو التحرّرية أو العدالة أو المساواة أو سيادة القانون أو الديمقراطية ، لقال الناس حينذاك : أنه قد حدث تطوّر في ثورة 1952 ، كما كان يحلو للسادات أن يقول ذلك .

وفي مواجهة هذا الواقع الساداتي ، كان لا بد أن يجتمع الناس دفاعا عن ماضيهم الذي تحقّق فيه مكاسب لهم ، ويختاروا في محاور التقائهم "النقيض" للسادات ، أو الذي خلق منه السادات "نقيضا" .. فتكاثر "الناصريون" ، وبقي أن أكون "ناصريا" هو في الواقع ، التعبير عن رفض اتجاه السادات وسياساته ، لأن السادات عندما طرح هذه السياسات ، طرحها من قبيل أنها تصحيح لأخطاء عبد الناصر .

وهنا : جاء ما كتبته عن "الناصرية المستحيلة" لأن هناك من وقف ضد السادات وسياسته ، لأنه ضد عبد الناصر . أولئك الذين كانوا يستمدون هويتهم الناصرية من علاقتهم بالقائد والزعيم التاريخي عبد الناصر .

كانوا معه في التحضير لثورة يوليو ، وفي مجلس قيادة الثورة ، شاركوا في تفجير الثورة ليلة 23 يوليو ، كانوا معه في الحكم ، كانوا حوله مفكرين ، كانوا الجهاز الكبير الذي يقوده عبد الناصر ، وكانوا أيضا على علاقة شخصية به . حتى عبد الحكيم عامر بهذا المعنى ناصري .

بالإضافة الى ذلك فان نشاط عبد الناصر المكثف للدفاع عن الامة العربية ، حوله الى قائد قومي ، بصرف النظر على حكام هذه الأقطار ، فأصبح كل الذين يجدون انفسهم في موقع قيادة الجماهير العربية ، أو لكي يكسبوا هذه الجماهير ، عليهم أن ينتموا الى قائد هذه الجماهير . وهو عبد الناصر . فاصبح كثير من القادة في الأقطار العربية ناصريين بمعنى أنهم رجال عبد الناصر ، أو الذين يمثلون اتجاهاته ، أو ممثلو الثورة العربية التي يقودها عبد الناصر .

وبعضهم كان عبد الناصر يأتمنه على أدوار معينة ، فأصبح "فتحي الديب" وكيل المخابرات ، وصاحب المهمّة البطولية في التعامل مع "ثورة الجزائر" ناصري .

و"محمد حسنين هيكل" صاحب الكفاءة الصحفية الهائلة ، الذي اتخذه عبد الناصر متحدثا باسمه ، أو صحفيه الأول كما يقال ، وهو يستحق هذا الدور ، لأن عبد الناصر لم يكن ساذجا ، ما كان يمكن أن يضع هيكل في هذا المكان ، الا اذا كان هيكل فنيا كصحافي ، يستحق هذا الموقع . لذلك فهو ناصري .

كل هؤلاء الناصريون هبّوا للدفاع على عبد الناصر في مواجهة اتجاه السادات وأصبح من حق كل منهم أن يقول أنا "ناصري" .

من هنا ، فان هذه الناصرية مصدر الانتماء فيها العلاقة بالقائد ، بمعنى أن الذين نفذوا أو قاموا بمهمّات في عهد عبد الناصر ، هم منفذوها فقط ، فهي اذن مواقف ناصرية . وقد قلت عن هذه الناصرية : أنها ناصرية مستحيلة .

لماذا هي مستحيلة ؟ .... مستحيلة  للدلالة على الانتماء الناصري بالنسبة للمستقبل – أكرّر بالنسبة للمستقبل – في غياب القائد ، ذلك أن القائد الذي كان يحدّد الدّور ، ويقود النضال ، مصدر الثقة ، مصدر الانتماء للناصرية قد انقطع لأن عبد الناصر توفاه الله .

على كل واحد منهم – الان – أن يثبت أنه كان بجوار القائد لأنه كان يشاركه في معتقداته ، أنه نفذ المهام لأنه كان يؤمن بها ، أن مواقفه كانت مطابقة لمواقف عبد الناصر ، لأنها هي مواقفه – أيضا – حتى وان لم يكن عبد الناصر موجودا ..

هذه الناصرية المستحيلة متناثرة ، هناك ناصريون كثيرون بهذا المعنى .. عندما نقول له أنت ناصري بأي معنى ؟ يقول لك : أنا عملت كيت وكيت ، مثلا : سيد مرعي يقول أنا الذي نفذت الإصلاح الزراعي ، لذلك عليك بسؤاله : ما رأيك في الملكية الزراعية في المستقبل ؟ 

السيد علي صبري يقول لك أنا الذي نفذت التحول الاشتراكي . اذن يجب أن يُطرح عليه السؤال : وما رأيك في التحول الاشتراكي في المستقبل ، ما رايك في كمب دافيد ... في دور الرأسمالية الوطنية ؟ فيقول لك مثلا عن دور الرأسمالية الوطنية : أن عبد الناصر قال أنها جزء من تحالف قوى الشعب العاملة . لا ... أنا في حاجة لرأيك أنت ، وليس رأي عبد الناصر ؟ ! " ..

ومن هنا يتكرّر الحديث - في كل مناسبة - عن ضرورة تحديد الثوابت كمرحلة أولى للوقوف على أول القواعد اللازمة للفرز على المستوى القطري ، وهي مهمّة أولية للالتقاء ينهيها بشكل حاسم الحزب الناصري بعد قيامه  ، لذلك نجده - في نفس الحوار - يوجه كلامه للناصريين قائلا : " اذا كنتم بصدد تكوين حزبكم ، ضعوا أيديكم على الميثاق ، وتعاهدوا أن تلتزموه ، وتطوّعوه ، وتُغنوه ، كما كان يريد عبد الناصر أن يغنيه من خلال التجربة " .. ثم ، وبعد هذه الخطوة القطرية المهمّة ، سيكون التفاعل مطروحا على المستوى القومي  حيث قال : "هناك نقطة موضوعية أخرى وهي : اذا نظرنا الى الجزء من خلال الكل ، باعتبار أن قائد الحركة ، حركة التطوّر في مصر هو الشعب العربي في كل مكان ، ولم تطبق هذه المسألة للان . وقد حاولت طرحها للمناقشة الان بين الناصريين " .. فالمهم بالنسبة للدكتور هو الفعل والانجاز في الواقع .. وذلك لسببين : أولا لأنه : "لا يوجد في تاريخ البشرية نظرية متكاملة ، بمعنى أنها بلغت منتهاها ، وغير قابلة للنمو والتطوّر ، والدليل : الليبرالية والماركسية ، وظهور الكثير من النظريات كل يوم .

واذا قلنا أن النظرية الناصرية في بداية نشأتها ، باعتبار أن بذرتها الجنينية هي الميثاق ، وتربتها هي التجربة التاريخية لعبد الناصر ، فسوف تنمو من خلال حركة نضالية تضيف كل يوم جديد ، ولن تكتمل في جيل أو جيلين ، لأن النظريات غير قابلة للاكتمال النهائي " .. وثانيا لأن المسألة باختصار وفي جزء هام منها تقوم على الممارسة والانجاز : "ففي الشارع العربي والمصري ، المقارنة قائمة بين عام 1970 وعام 1980 على مستوى الأسعار .. الكرامة الوطنية .. والحقيقة أن الشارع لا يختار فلسفيا ، انما يقول (يا ريت أيام زمان تعود) .. لذلك تأتي المقارنة بين عهدي عبد الناصر والسادات . وهي في مصلحة عبد الناصر . وتتوقف المسالة هنا عما اذا كان الناصريون سوف يوفوا بالوعد الذي يدور في اذهان الشارع أم لا ، هل تعود أسعار كيلو اللحم الى 65 قرشا مثل أيام عبد الناصر ؟ هل يختفي المليونيرية والسماسرة ؟ هل تستأنف حركة التصنيع ؟ ذلك يتوقف على الناصريين .

والشارع المصري في حاجة الى انقاذ من الوضع المتردي ، والذي سينقذهم هو الذي سيحقق لقب الناصري ، والذي سوف ينقذهم ستعطيه الجماهير تفس الثقة والولاء والمحبة التي أعطيت لعبد الناصر حتى بعد وفاته .

الان : الشارع العربي ممزق ، محتل ، الذي يمكن أن ينقذه هي الحركة الناصرية ، لان الشارع العربي مازال يحتفظ في وجدانه ببطله عبد الناصر . وعبد الناصر عنده هو محرر العراق والجزائر واليمن ، والمدافع عن الأرض العربية ضد مبدأ ايزنهاور ومحقق أول مرحلة وحدة ..

والحزب الناصري لن يكون له كل هذا الحب ، لان الحزب لن يكون بطلا ، فستقاس إنجازات الحزب في الشارع العربي على مقياس البطل الحي في ذاكرة الشعب العربي ، اذن الحزب لا بد وأن يكون قوميا ، في مضامين ومنجزات ونضالات توازي بطولة عبد الناصر ، من أجل أن يبقى له هذا البعد في الشارع العربي " ..

وهو ما يعني انه على ضوء تحديد ثوابت الحزب وتوجهاته ومبادئه  العامة التي يحددها الناصريون - كبداية - ويتفقون حولها سيجد الفرز النهائي مكانه ومجاله من خلال النمو والإضافة لتتبلور كل الأفكار من الممارسة الطويلة .. أي على أسس موضوعية يحددها الناصريون جميعا في مؤتمراتهم الشعبية الديمقراطية وليس قبلها ، حتى لا تكون  أسسها المواقف الذاتية التي يحددها – اشتراطا - القادة المؤسسون .. اذ أنه خلال الممارسة الديمقراطية ستنمو تدريجيا وديمقراطيا كل الأفكار والمفاهيم المتعلقة بتفاصيل المشروع الناصري حتى يصل الى بلورة أسسه ومنطلقاته وغاياته دون فرض مسبق من أحد .. وهذا على قدر من الأهمية .. لأنه يتطابق بالكامل مع موقفه الذي عرضناه سابقا ، في الوثيقة التفسيرية لبيان طارق حينما أكد على ضرورة أن تحسم المسائل الفكرية بعد إنشاء التنظيم وليس قبله ، حتى يكون معبرا عنه وليس عن مواقف من أسّسوه  من الصفوة أو القادة ..

وهكذا ، الى أن يصل في محطة ثالثة من سرد الأحداث الخاصة بالناصريين في كتابه عن الناصريين واليهم ، وهو يساير لسنوات طويلة تطور مستوى الفرز داخل صفوفهم مبينا حرصه على كف تدخله في شؤونهم ، بمشيئة منه أحيانا ، أو بمشيئة الشباب أحيانا أخرى ، بالرغم مما كان يحدوه من رغبة في التوجه إليهم بقول حاسم ، فيقول : " هنالك ، منذ البدايات المبشرة ، قدرت أن أوفي بواجب أعتقد أنني قادر على الوفاء به : أن أنشئ وانشر دراسة اجتهد في أن تكون علمية وموضوعية تجيب على السؤال : ” من هم الناصريون ” علّها تساعد الناشئة من الشباب على فرز قواهم واختيار رفاق نضالهم بدون مخاطر الاحتواء أو الاختراق أو بأقل قدر من تلك المخاطر .. فبدأت في إنشائه عام 1983 على ما أتذكر . فلما فرغت من كتابة جزء كاف منه أقرأته بعض الشباب الناصري الذين كانوا وما يزالون على صلة حوار مستمر معي . فاقترحوا تأجيل إتمامه ونشره متحجّجين بأنهم ، طبقاً لمقتضيات المرحلة ، وهم أعلم بها مني ، يرون أن الكتابة في هذا الموضوع ستضيف الى متاعب اتفاق الناصريين متاعب الخلاف حول إجابة مطروحة على السؤال : ” من هو الناصري ” . وإن الوقت الملائم لمثل هذا الطرح لم يأت بعد ، فلم أستمر في الكتابة تقديراً لموقفهم من ظروف هم أعلم بها مني لأنها ظروفهم .. وقد ثبت صحة تقديرهم فعلاً ، إذ استطاعوا بدون إجابة على السؤال المؤجل أن يقفوا على أعتاب التنظيم الذي استهدفوه .." .

وقد تأجل ذلك فعلا دون الوصول الى نتائج ملموسة ..!

فلو حصل الفرز كما هو مرجو ، لن يكون - وقتها - عصمت سيف الدولة في حاجة لكتابة هذا الكتاب .. لكن هذا لم يحصل ، فلم يعد الانتظار والسكوت ممكنين بعد سنوات طويلة من المتابعة ، والتأطير ، والنصح ، وبعد كم الاجتهاد الفكري الغزير الخاص بالناصرية والناصريين ، وبعد الدفاع القانوني عن حقهم في النشاط الحزبي .. دون الوصول الى الغاية المرجوّة .. فكان الكتاب الذي جاء فيه القول الحاسم .. وهكذا لو عدنا الى محطة أخرى من هذا كتاب لوجدناه يعود الى الحسم ، مسترسلا في حديثه عن موضوع الناصرين ، مؤكدا مبررات ما دفع به في البداية الى تأجيل الحديث الحاسم ، ثم الى مبررات العودة لاستكمال القول فيما يجب أن يقال ، أي على ضوء ما انتهى اليه واقع الناصريين وقد منحتهم الظروف ما يكفي من الوقت لفرز صفوفهم من جهة ، وما أصبح عليه هو شخصيا في مرحلة متقدمة من العمر ، قدم عنها وصفا دقيقا  لحالته ، وهو يريد الوصول الى إنهاء هذا الحديث الحاسم من جهة أخرى .. ثم قال : " فعدت إلى ما بدأت أكمله .. لأنشره حديثاً ” عن الناصريين وإليهم ” .. إسهاما بقدر ما استطيع في حوار بدأ همساً ولا بد من أن ينتهي إلى ما يحقق الغاية القومية من التحام الناصريين في تنظيم يحقق الهدف القومي الملح الذي أشرنا إليه " .. أي لا بد من الحسم ..

وهل هذا يصادر حق الناصريين في بناء نظرية خاصة بهم ؟

أبدا .. ولكن كما قال في نفس المرجع مكررا نفس العبارة  من أن الفرز في صفوف الناصريين أصبح "ضرورة قومية" ، فان : "كل ما في الأمر أنه لا يملك احد حق انكار الهوية الناصرية على من ينسب نفسه اليها . ولا يملك أحد حق منحها لمن لا ينتسب اليها . ولا أحد يملك الختم الرسمي للناصرية ليبصم به على رؤوس الآخرين من خارج الجماجم أو في داخلها . ولكن ليس معنى هذا أن الناصرية هواية شخصية وليست هوية فكرية . أو أن الأمر منها ما قاله احد كبار هواتها حينما سئل عنها فقال يوجد ناصريون ولكن لا توجد ناصرية . لقد آن الأوان لهذه الفوضى في التفكير أن تنتظم حتى تستطيع القوى الناصرية ان تلتحم . ولما كان التحام الناصريين ضرورة قومية فإنا نقدم هذا الحديث عنهم وإليهم وفاء منا بمسئوليتنا القومية عله يسهم ولو بقدر في ان يفرز الناصريين عن أدعيائهم . كشرط اولي لالتحام الناصريين في تنظيم" . .

وقد يبدو من اللافت فعلا ان نجده في الحوار السابق (حوارات ناصرية) ـ وهو يتحدث عن مشكلة الناصريين ومرجعياتهم الفكرية ـ يصرح بموقف يؤكد عكس المعنى الذي فهمه الكثيرون ، مستعملا نفس العبارات ونفس الترتيب تقريبا (منهجا وغايات واسلوبا ..!!) ناسبا اياها ـ كنظرية ـ الى الناصريين حين قال : " وأرجو أن يؤجل الشباب العربي الناصري محاولة الإجابة على هذه الأسئلة إجابة نهائية الى ان يتوحدوا فيتحولوا من ناصريين الى قوة ناصرية منظمة تجيب على كل الأسئلة الخاصة بالتراث الفكري والاجتهادات الفكرية .. عندئذ ستكون إجابة القوى الناصرية الموحدة هي الجواب الصحيح الملزم للناصريين المميز لهم عن القوى الأخرى أو الأفراد الآخرين حتى لو ادعوا أنهم ناصريون .... وأنا واثق تماما انه عندما يحدث هذا (لاحظوا الان) سأكون أول من يتبنى نظرية الناصريين ومنهجها أيضا وأسلوبها وغايتها والاعتراف بأنها هي فعلا الناصرية ، وبصرف النظر عما اجتهدت في أن أصوغه في كتب وكتابات قبل ذلك .. " ..

وهو ما يؤكد ـ دائما ـ نهجه الثابت في قول آرائه الحاسمة في الوقت المناسب وبالطريقة التي يراها مفيدة للقضية التي يدافع عنها بقطع النظر عن طرق معالجته للمتغيرات الظرفية حينما يتفاعل معها دون ان يناقض مبدأه ومنهجه ..

ثم - وهذا على قدر من الأهمية - وحتى نفهم مقولته في حديث مخصص للناصريين في مصر بالذات ، لا يجب ان ننسى أن جزءا كبيرا من تركيزه على مصر بعد غياب عبد الناصر كان اضطراريا بسبب التردّي والارتداد الذي شهدته أكبر دولة عربية ، بحيث أصبحت المعركة الرئيسية في نظره تدور في مصر ، حتى أنه - من فرط التركيز عليها في مواجهة الردّة - قال متسائلا : "أنها تكاد تكون اقليمية مصرية ؟ " .. أما في الجانب الخاص بالفرز تحديدا ، فقد وجدناه ينبع - أولا - من اعتقاد راسخ لديه بدور مصر التاريخي ، في قيادة أي مشروع حضاري مستقبلي للامة العربية ، وهذا ما عبر عنه في أكثر من مناسبة ، منها ما ذكره بكل تفصيل في رسالته الى تونس ، مذكّرا بالدور الذي لعبته مصر عبر تاريخها ، وصولا الى بيان العلاقة بينها وبين محيطها العربي خاصة بعد عزلها (او اقتطاعها كما قال) بقرار عربي بعد اتفاقية كامب ديفد وما آل إليه الوضع من تردّي وانهيار شامل بعد خروج مصر وتخليها عن هذا الدور الذي خطط  له الأعداء بإحكام .. وقد جاء في هذا الحديث الطويل استنتاج مهم يؤكد عن ضرورة فهم دور مصر في إنشاء التنظيم القومي حين قال : " أول الطريق الصحيح الى الوحدة العربية إذن أن تصبح مصر وحدوية . أن تُطهّر مصر من الإقليمية فكرا وأدبا وفنا وسياسة . واداة هذا التطهير هو التنظيم القومي . وبالتالي فلن يكون اي تنظيم قومي قادرا على بدء مسيرته الوحدوية - مجرد البدء - ما لم يكن له في مصر وجود متكافئ مع مقدرة مصر على التأثير وله في مصر طليعيون من العرب ، يحملون هوية الدولة المصرية أو هوية ايه دولة فهذا ما لا يتوقف عنده التنظيم القومي ، قادرون على تطهير مصر القاعدة من الإقليمية " ... وثانيا بسبب ما شهدته مصر دون غيرها من الاقطار العربية من تداخل في مفهوم "الناصرية"  وقد كان عبد الناصر قائدا لدولتها ، وهو وضع أكثر تعقيدا في مصر من أي قطر عربي اجتهد الدكتور عصمت سيف الدولة في توضيحه في عدة مراجع منها ما ذكرناه سابقا ، وهو يكرّره في كل مناسبة نظرا لما يلمسه بسبب ذلك من تأثيرات سلبية تعيق أي مجهود لتوحيد الناصريين في مصر بشكل خاص مما جعله يواجه هذا الوضع بدراسات خاصة بالغرض كما جاء في دراسة " الناصرية كيف" حيث قال : "اذن ، فقد بدأت المرحلة التاريخية التي قادها عبد الناصر وخطها الأساسي خط تحرّري مصري ، ثم اغتنت من التجربة النضالية فتحولت من خلال المعاناة في الممارسة إلى تجربة اشتراكية وحدوية ، وعبرت عن كل هذا في شعارها المثلث : حرية ، اشتراكية ، وحدة . 

خلال كل تلك المرحلة وعلى امتدادها ، التقت بجمال عبد الناصر فكريا وعملت معه أو تحت قيادته شخصيات وقوى عديدة . التقت به القوى التحرّرية عندما بدأ قائدا تحرريا ، والتقت به قوى قومية في فترة لاحقة عندما أصبح قائدا قوميا ، والتقت به قوى اشتراكية في فترة أخرى عندما أصبح قائدا اشتراكيا ، وأصبحوا جميعا " ناصريين " .

ناصريون بمعنى أنهم مناضلون تحت قيادة عبد الناصر . ولم تكن " الناصرية " تعني عندهم أكثر من الالتزام بالنضال تحت قيادته تحت شعار " حرية ، اشتراكية ، وحدة " . أما ما يتجاوز هذا فقد كان لكل واحد منهم فهمه الخاص " للناصرية " . لم يكن كل التحرريين اشتراكيين ، ولم يكن كل الاشتراكيين وحدويين . وكان كل فريق يحاول أن يدفع بالأحداث ويؤوّل أقوال ومواقف عبد الناصر على الوجه الذي يتفق مع فهمه للناصرية . وعندما يغيب القائد غيبته المفاجئة سنة 1970 لن تلبث بعض تلك الاتجاهات التي كانت تملأ الأرض ضجيجا بانتمائها " الناصري " ، أن تكشف عن فهمها الخاص  للناصرية وتتعرّض الوحدة والاشتراكية بوجه خاص لأقسى هجوم تعرّضت له من جانب الذين كانوا أكثر الناس ادعاء للناصرية والولاء لعبد الناصر ، أولئك الذين رفعوا الميثاق يوما إلى مصاف الكتب المقدسة . 

ثم يبقى الآخرون يحمل كل منهم في رأسه فهما خاصا " للناصرية " موروثا من فترة قيادة عبد الناصر ، مصوغا تبعا لفهم كل منهم أو عدم فهمه للناصرية الأصيلة : هل هي الناصرية بمعنى التحرّرية قبل أن تشوبها " الأفكار المستوردة " ، أم هي الناصرية بمعنى الاشتراكية بعد أن استفادت من خطأ تجربة التنمية الرأسمالية ، أم هي " الناصرية " بمعنى الوحدوية بعد أن استفادت من خطأ تجربة التحرّر الإقليمي ، أم هي " الناصرية " بمعنى كل هذا معا ، وإذا كان الأمر كذلك فهل ثمة أولوية في الأهداف أم ترتيب بينها ... الى آخره . وفي هذا يختلفون " .. ومثل هذا الموقف وجدناه في نفس الرسالة السابقة ، يصنف فيه الدكتور عصمت سيف الدولة الناصريين الصادقين الى ناصريين ينتمون لعبد الناصر قائد دولة مصر وناصريين ينتمون لعبد الناصر قائد الجماهير العربية بكل ما ينتج عن الانتماءين من تمايز في مفهوم الناصرية وصعوبة في الفرز والاندماج مضافا اليها الظروف التي تشهدها مصر بالرغم ممّا يحملانه من صدق الانتماء كما قال في نفس الرسالة  : " فبينما تزخر اغلب الاقطار العربية بالألوف من الشباب القومي التقدمي "الجاهز" للانخراط  في صفوف التنظيم القومي ، انقضت مرحلة عبد الناصر والشباب القومي في مصر محرومون من مجرد التطلع الى الاسهام في بناء التنظيم القومي ، وجاء السادات ومخاطر اقتطاع مصر فانشغلوا عن التنظيم القومي بالنضال من أجل الحفاظ على مصر عربية .

من هم هؤلاء الشباب القومي ..؟

انهم النبات النامي من بذور القومية التي نثرها عبد الناصر في تربة مصر الخصبة . درسوا القومية في جميع مراحل التعليم من الابتدائي الى الاعدادي الى الثانوي الى الجامعة . صدّقوا ما قرأوا ، امنوا به . أقول تربّوا على القيم القومية . انهم يسمّون أنفسهم "الناصريون" بالرغم من أن اغلبهم لم يعاصروا عبد الناصر فلم يجدوا بأسا في أن ينتسبوا الى عبد الناصر "الرمز" لما يحاول السادات تصفيته من منجزات ومكاسب . وهم مختلطون بناصريين آخرين ، كل من الفريقين صادق الانتماء . أنما ينتمي الناصريون القوميون الى عبد الناصر قائد الجماهير العربية ، وينتمي الناصريون الآخرون الى عبد الناصر قائد مصر . يفتقدون جميعا الخبرة التنظيمية فما يزالون مجموعات لم تتوحد بعد ، ولكنهم چميعا مناضلون صلبون ، اثبتوا صلابتهم في عشرات المعارك التي خاضوها ضد السادات" ..

وهكذا لو تتبعنا مواقفه في أكثر من مناسبة وفي أكثر من موضع حول هذا الموضوع لخلصنا الى استنتاج قاعدتين أساسيتين للفرز عند الدكتور عصمت سيف الدولة : قاعدة فكرية - مبدئية - إستراتيجية متعلقة بالمشروع القومي على المدى الطويل ، بيّن أسسها كاملة في كل الاثر النظري الذي تركه هنا وهناك (عقيدة قومية) ، وهي تستوجب قول كل ما يجب أن يقال حتى يكون الطريق الى المستقبل واضحا بلا غموض .. وقاعدة حركية - مرحلية - تكتيكية تقتضي فهم متطلبات كل مرحلة ، وإبداع الوسائل المناسبة لتحقيق أكبر قدر من النجاح في المعارك اليومية (من الممكن الى ما يجب ان يكون) .. كما تستوجب فعل كل ما يجب فعله لإنجاز المهمة الضرورية الأولى : بناء أداة الثورة العربية .. نفس القاعدتين لو بحثنا عنهما في مواضع أخرى غير التي عرضناها لوجدناهما أكثر تجليا ووضوحا .. ولنعد هذه المرة - ونحن نتحدث عن الفرز - الى كتاب الطريق  .. الذي يُطرح فيه الحديث في بعده القومي بعد أن توقفنا مطوّلا مع الدكتور في معالجة المشاكل التنظيمية على المستوى القطري في مصر ..

-7-

بالعودة الى هذا المصدر ، سوف نعود الى الأصل ، أو المبدأ المتصل بالمدى الاستراتيجي للحركة القومية في هذه المرحلة .. فهو حديث حاسم لفرز المنطلق القومي من المنطلق الإقليمي كما يسميه الدكتور عصمت سيف الدولة في هذا الكتاب كما في كتاب الأسلوب ، وهو أيضا حديث من نوع خاص لأنه يبين القاعدة التي يجب أن يتم وفقها أي حوار .. وفي البداية نجده يستبعد من هذا الحديث كل المتسلقين والانتهازيين من القوى الرجعية المعادية للوحدة ، ليخص به القوى الوحدوية  دون سواها ، وكل حديث خاص من هذا النوع بالنسبة للدكتور عصمت سيف الدولة لا بد أن يكون على قدر كبير من الثقة والاحترام والجدية والصراحة .. فيقول في هذا المجال مؤكدا على الناحيتين : " ان الحديث عن الطريق الى الوحدة العربية يعني أنه حديث مقصور على الوحدويين من العرب ، أي أنه ـ على وجه ـ حديث خاص . وللحديث الخاص مميزات يستمدها من أنه قائم على افتراض أنه حوار بين إخوة انعدمت فيما بينهم الغربة الفكرية على الأقل . وأنهم ـ على الأقل أيضا ـ رفاق نضال بحكم الإمكان . ولهذا تكون للحديث الخاص ـ عادة ـ منطلقات مشتركة ولغة مشتركة ودلالة مشتركة للألفاظ التي يدور بها . فهو منطلق "فرضا" من منابع فكرية واحدة الى غاية واحدة يبحث عن الطريق اليها لينطلق عليها المتحدثون كتلة نضالية واحدة . من هنا لا يتحوط الحديث الخاص ضد سوء القصد والعسف في التأويل لأنه حديث بين إخوة فلا يغدرون ولا يدلسون ، ولا يخشى الخطأ في الاجتهاد لأنه خطاب الى رفاق لا ينكر بعضهم على بعض حق الإسهام في سبيل مصيرهم المشترك فلا يستعلون ولا يستأثرون .. وكل هذا يبدو مفترضا بين دعاة الوحدة من العرب ، وحملة شعارها ، الذين لا ينقصهم ـ فيما يزعمون ـ الا معرفة الطريق الى الوحدة فيتحاورون .." .

ثم يواصل للمزيد من التوضيح : " غير أن ليس كل "فرض" صحيحا في الواقع . وسنرى هذا فيما بعد .. يهمنا الآن أن نؤكد أن الحديث عن "الطريق الى الوحدة العربية" غير موجه الى أعداء الوحدة ، سواء أكان مرجع عدائهم لها إنكار وجود الأمة العربية أصلا ، أو قبولهم التجزئة ، أو الجهل لا أكثر . ومن الجاهلين من لا ينكرون وجود الأمة العربية ، ولا ينكرون أن التجزئة من صنع الاستعمار الذي يحاربونه . ولكن الفكر اللّاقومي يضللهم فلا يعرفون علاقة الوجود القومي بالوحدة السياسية  .. كل ذلك لا يعنينا الحديث إليهم في هذا الحديث الخاص .." .

هكذا إذن .. هذا الحديث هو حديث خاص ، غايته كما قال : " أن نكشف ما وراء تلك الظاهرة المفزعة القائمة بين دعاة الوحدة العربية أنفسهم . انهم ـ فرضا ـ يسلمون بوجود أمتهم العربية ، وبانتمائهم إليها ، ويسلمون بأن تجزئة وطنهم العربي الى دول ودويلات عدة يجب أن تزول ، ويستهدفون الوحدة العربية فيما يقولون وبرغم هذا كله لا يتفقون على الطريق الى تحقيقها . فلعلنا لو عرفنا لماذا يختلفون أن نعرف فيم يختلفون . وتكون تلك مقدمة لازمة لفصل القول في الطريق الى الوحدة العربية .." .

من المهم في هذا الجانب أن نفهم ما قصده الدكتور عصمت سيف الدولة بمن يعنيهم فعلا في هذا الحديث الخاص ، ومنهم فئة من الإقليميين كما يبين لاحقا ، وبعد أن يستبعد كل من فقد وعيه وولاءه القومي وأصبح من أعداء الوحدة الذين يسميهم "بالقلة التافهة" يوافينا بالتوضيح : " أما الكثرة الغالبة من الإقليميين فهم أولئك الذين لم يبقوا على أصلهم القومي خالصا ، ولم تكتمل صفتهم الإقليمية تشويها ، فاختلطت الأمور في وعيهم فهم غير قادرين على إدراك التناقض بين القومية والإقليمية فاحتفظوا بقدر من الولاء للاثنين معا . وأصبح لهم بهذا موقف خاص من التجزئة والوحدة . فهم يقبلون التجزئة كواقع ولا ينكرون الوحدة كغاية . ولما  كانوا يعيشون في واقع التجزئة ويتمسكون به ولاء إقليميا لدولتهم الإقليمية ، وكانوا في الوقت ذاته يتطلعون الى الوحدة كمستقبل يرجونه ويعلقون ولاءهم القومي على تحقيقه ، فان القدر المتيقن من ولائهم يكون لدولة الإقليم . فهم يبدأون من التسليم بالإقليمية في تصورهم للوحدة ، فيأتي تصورهم للوحدة العربية تصورا إقليميا ، وعندما يتصورون الطريق إليها يتصورونه إقليميا أيضا .. ذلك ما أسميناه التصور الإقليمي للوحدة . " ..

ومن المهم أن نعرف أيضا أن هذه الفئة من الناس يسميهم الدكتور عصمت سيف الدولة " الإقليميون ـ الوحدويون " ، كما يسمي خلفيتهم بالـ " الإقليمية ـ الوحدوية " التي يقدم لها تعريفا خاصا يقول فيه : " فالإقليمية ـ الوحدوية ، ليست عقائدية ، بمعنى أنه لا يتوافر لها النقاء الفكري لتكون عقيدة قومية ، ولم يتوافر لها التكامل الفكري الإقليمي لتكون عقيدة وطنية إقليمية ، لهذا فكل الإقليميين غير عقائديين في تصورهم للوحدة العربية والطريق إليها .. ويترتب على هذا أمران : الأول أن ليس للوحدويين ـ الإقليمين خط فكري متميز يمكن أن يلزمهم تصورا فكريا واحدا للطريق الى الوحدة العربية . لهذا قد يجتمعون على الوحدة ولكنهم  يختلفون حتما في الطريق إليها . الأمر الثاني أن عدم الالتزام العقائدي في الموقف الوحدوي ـ الإقليمي يسمح بأن ينظم إليه أو يتسلل ـ وهو اصح ـ عديد من ذوي العقائد اللاقومية أي من أعداء الوحدة .. " ..

لذلك فان : " تصورات الطرق الى الوحدة العربية من منطلق إقليمي لابد من أن تتعدد بتعدد الأقاليم بحكم التجزئة ذاتها .." ، وأن " تكثر الطرق بما يضاف اليها من طرق ضالة عمدا .. " .. وهو يشرح كل تلك الطرق الرسمية كما يسميها بقطع النظر عمّن يطلبها من الحكام أو المؤسسات أو المنظمات والأحزاب الإقليمية .. فطريقها واحد الى الفشل في تحقيق الوحدة حتى لو كانت النوايا صادقة لما فيها من بذور الإقليمية .. لذلك كما يقول في نهاية العرض لأغلب الأساليب الممكنة : " فلتسقط  الإقليمية " .. 

لكننا حينما نسترسل في متابعة هذا النهج الذي اتبعه الدكتور عصمت سيف الدولة في حديثه عن المنطلق الإقليمي ، نجده يتطرق أيضا الى فئة أخرى من الناس يسميهم " الرجعيون ـ الوحدويون " ويسمي أسلوبهم في طلب الوحدة بـ ـ " الطريق الرجعي الى الوحدة " ، وهم أولئك الذين يزعمون كما قال : " اننا أمة عربية واحدة لا شك في هذا ، وأن وحدتنا القومية لازمة لا شك في هذا أيضا ، ويمجدون الأمة والقومية والوحدة تمجيدا يتراوح بين الحنين الى عودة الماضي المجيد ، ووحدة التراث ، والتطلع الى الانتماء الى دولة قادرة على تصفية إسرائيل  ، ولهذا ـ هكذا يقول الحسين بن طلال مثلا ـ أنهم وحدويون حتى النخاع ، ويريدون الوحدة من جماع قلوبهم ، ومستعدون للفداء في سبيل الوحدة . ولكن يا أخي ـ هكذا يستدركون ـ قضية الاشتراكية شيء مختلف ، فان كثيرا من أخلص الوحدويين يصدهم عن النضال في سبيل الوحدة تلك الاشتراكية التي اقتحمت مسيرة النضال العربي وأصبحت عامل فرقة بين القوى الوحدوية .. " ..

من المهم أن نتوقف هنا بعد كل هذا العرض لنطرح السؤال التالي :  لماذا يقحم الدكتور عصمت سيف الدولة من سماهم بالوحدويين الرجعيين في هذا الحديث الجاد عن الوحدة .. أليس ذلك واضحا بما فيه الكفاية للوحدويين أصحاب العقيد القومية الواضحة .. أم هو حديث موجه أيضا لمثل هؤلاء وقد تولى من ناحية أولى ، الحكم بالفشل عن هذا الطريق معلنا أنه طريق مسدود .. كما تولى من ناحية ثانية ، الكشف ـ بما يكفي من الأمثلة ـ عما  يمكن أن يكون وراءه  من نوايا غير بريئة قد يكون بعضها بمرتبة الخيانة حين قال ان : " أول الطريق اللاّاشتراكي الى الوحدة خيانة قومية عفنة .." ، وهي خيانة قد بيّن أسبابها في تفاصيل طويلة نكتفي منها بما جاء في هذه الفقرة  : " عندما يناقض أي طريق الى الوحدة مصلحة الجماهير الكادحة في الوطن العربي ، فهو طريق مشبوه ، مجرد من الولاء للجماهير ، أي مجرد من السمة القومية ولو رفع شعاراتها ، ولا بد أن يكون منطلقا من ولاء للرجعية الإقليمية المستغلة التي تحتمي وراء سدود التجزئة ، أو ـ وهذا هو الأصح ـ  من ولاء مباشر للاستعمار تقاضى أصحابه أجر العناء في الدعوة إليه مقدما .. " ..

يجيبنا الدكتور عن السؤال موضحا الغاية من ذلك العرض الطويل :

إنها أولا : " أمثلة لكشف اتجاه يدعو الى الوحدة ولا يعرف الطريق إليها " .

وإنها ثانيا ، ورغم أن الغاية كما قال : " غير مقصورة على أن نكشف الطبيعة الفاشلة في المنطلق الإقليمي الى الوحدة عن طريق اختيار الطرق التي تبدأ منه ، فإننا لم نقيّم أي طريق منها تقييما كاملا ولم نحاكم الإقليميين تماما ، بل أخذنا كل فئة منهم بمنطلقها الخاص ، وتتبعنا طريقها من منطلقه الإقليمي الى غايته الضالة أو المسدودة ليكتشف الإقليميون بأنفسهم أنهم يبددون جهدهم في الوصول الى الوحدة العربية على طرق مسدودة . وإنهم إن فشلوا فليس مردّ هذا أن أحدا قد خانهم أو ضلّلهم أو أنهم قد قصّروا في الجهد المبذول على وجه أن يعوّض في تجربة وحدوية مقبلة . لا ليس السبب كل هذا ، أو أي من هذا فلا جدوى من أن يُخفوا فشلهم تحت ستار الشتائم والاتهامات التي يكيلها كل منهم لأخيه . ولا جدوى من العودة الى محاولة أخرى للبحث عن طريق آخر من ذات المنطلق الإقليمي ، إنها كلها طرق مسدودة بالفشل ، الابن الشرعي للإقليمية .. " . وهو ما يعني أنه حديث موجه أيضا الى بعض المخدوعين من الإقليميين .. لذلك يقول متحدثا عن الوحدويين الحقيقيين مؤكدا هذه الناحية ، وبذلك نصل نحن الى الغاية من كل هذا الحديث المستفيض الذي أردنا أن نربطه بموضوع الفرز :

" لا يعني هذا أن الوحدويين غير قادرين على تقييم هذه الطرق ومحاكمة أصحابها وكشف ما وراءها من دوافع أو محركات أو جهل مقيم ، كما لا يعني أنه لن يكون للوحدويين موقف من " الإقليميين" حاسم وصارم يوم أن تستعر معركة الوحدة على الطريق اليها . بل معناه أن الوحدويين يشعرون بولاء عميق للأمة العربية بما فيها بعض أبنائها الضالين لأنهم لا يعرفون ، وأن مسؤولية الوحدويين أن يأخذوا بأيدي الذين يستهدفون الوحدة ثم يخطئون في المنطلق ، وأن يسيروا معهم على الطريق التي يتصورونها حتى يلمسوا بأيديهم السدود القائمة عليها والتي تقطعها دون الوحدة ، لعلهم بعد هذا أن يعودوا معا الى بداية صحيحة تحدّد لهم الطريق الصحيح الى الوحدة العربية .. " ..

الى أين يأخذونهم يا دكتور ؟؟

الى المنطلق القومي .. بكل خصائصه وهو منطلق " مناقض تماما للمنطلق الإقليمي من حيث المضمون الفكري والسمة العقائدية والسلوك الحركي " .. فهو قائم على :

ـ " الوعي بأن الوجود القومي (الأمة) طور من التكوين الاجتماعي متقدم على التكوين الذي سبقه ويتميز عنه أساسا بوحدة الأرض المشتركة  (الوطن القومي) "..

ـ " ان التكوين القومي ذاته كان مرحلة حتمية تمت خلال ممارسة الحياة عبر التاريخ كحل لمشكلات اجتماعية عجزت التكوينات الاجتماعية السابقة عليه عن أن تحلها .... وبالتالي ... فان مشكلات الأفراد والأجزاء من الأمة الواحدة لا تجد حلها السليم ، الا داخل الوجود القومي التي هي جزء منه ... وهو ما نعبر عنه بوحدة المصير القومي "..

ـ " ان الوحدة الموضوعية لمشكلات الأفراد من الأمة الواحدة .... تحتم وحدة الدولة ، وهو ما نعبر عنه بالوحدة السياسية " ..

ـ " أن الأمة العربية اكتملت وجودا واتحدت مصيرا وكانت لها دولة واحدة قبل أن يقتطع الاستعمار منها أجزاء ثم يفرض عليها التجزئة ..... وبالتالي فان الوحدة العربية تعني إلغاء التجزئة الطارئة على الوجود القومي " ..

ـ " ان التجزئة غير مشروعة موضوعيا لتناقضها مع وحدة الوجود القومي ... وهي غير مشروعة سياسيا لأنها ثمرة عدوان غير مشروع .. وبالتالي فان الولاء أولا وأخيرا للأمة العربية ككل ، ولا يستحق أي إقليم الولاء الا لأنه جزء منها .." ..

بعد هذا ، لا يهم ان كانت حقيقة الوجود القومي قد بلغها أبناء الأمة الواحدة عن طريق "مناهج المعرفة " أو من خلال " ممارسة الحياة ذاتها " .. المهم أن يعرف كل الذين وعوا هذه الحقيقة السبيل لتحقيق الوحدة .. وهي لا تتحقق إلا إذا تحول ذلك الوعي الى سلوك وممارسة وتخطيط وتنظيم .. ونكون قد وصلنا مع الدكتور عصمت سيف الدولة الى تحوّل نوعي في الحديث الذي يقول فيه : " إننا عندما نعرف ما هو حق يتغير الوضع تماما . فها هنا وجدنا الذي كنا نبحث عنه تحت إلحاح الحاجة إليه ، فلا يبقى إلا أن يؤدي وظيفته . ان الخطوة التالية لاكتشاف حقيقتنا القومية أن نجسدها سلوكا ذاتيا عن طريق التزامها في الفكر والعمل  . عندئذ نصبح نحن والحقيقة التي اكتشفناها شيئا واحدا ، وبعد أن كانت حقيقة موضوعية تصبح مجسدة فينا أنفسنا . عندئذ تصبح القومية العربية عربا وحدويون . وعندئذ يتضح تماما أنه مهما كان حديثنا عن الطريق الى الوحدة العربية منشورا كاملا فهو حديثنا الخاص . فلا يفقد الوحدويين أنفسهم في زحمة المتطفلين .. " ... وهكذا يصبح الحديث عن الوحدة العربية حديثا عن قضية مصيرية مرتبطة بالمستقبل .. ويصبح الوحدويون العرب أصحابها وحماتها ودعاة تحقيقها جيلا بعد جيل ، من منطلقها القومي الذي وعوه ، الى غايتها : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية .. بآداتها وأسلوبها : الحركة العربية الواحدة .. فهو اذن حديث خاص أهدافه معروفة ، ولا يبقى غير تدبر المهام .. وعلى هذا الطريق الطويل الشاق يأتي الحديث عن الفرز من أجل تحقيق تلك الغاية البعيدة  .. وهذا ما ينهي به الدكتور عصمت سيف الدولة حديثه عن المنطلق الإقليمي والمنطلق القومي الذي يتخذه حدا فاصلا لفرز الصفوف فيقول : " هكذا تضيق حلقة المتحدثين عن الطريق الى الوحدة العربية أو يجب أن تضيق . فبعد أن خرج منها أعداء الوحدة منذ بداية الحديث يجب أن يخرج منها ـ من الآن حتى نهايته ـ أولئك الذين يستهدفون الوحدة من غير منطلقها القومي ، ليبقى مقصورا على المنطلقِين إليها من إيمانهم بأمتهم وولائهم لجماهيرها . فالإيمان بالوجود القومي يبدّد " افتراض " أن كل من يستهدف الوحدة العربية ذو حق في أن يسهم في البحث عن الطريق إليها أو أن يشترك في المسيرة العربية على ذلك الطريق . وهو " الافتراض " الذي بدأنا به وصبرنا عليه حتى هذا الموضع ليرى الذين يقبلونه أنه هباء موهوم . هنا لا بد من أن تفرز الصفوف باسم الأمة العربية ، ليقف الوحدويون على منطلقهم القومي صفا واحدا مطهرا في مواجهة كل الذين ينكرون وجود هذه الأمة فيحاربون وحدتها ، والذين لا ينكرونه ثم يريدون الى الوحدة طريقا يبدأ من منطلقاتهم الإقليمية ...... وعندما تصبح صفوف القوميين نقية فإنهم يعرفون طريقهم من منطلقهم القومي الى الوحدة العربية .. " .

كل ما يأتي بعد هذا في كتاب الطريق أو في كتاب الأسلوب من حديث عن الثورة وآداة الثورة وخصائصها وعلاقة الثوريين العرب بالسلطة وبالدولة الإقليمية ... وغيرها من القضايا والمهام المطروحة عليهم .. إما انه مطروح لبيان قصور في فهم مضامينه أو أنه حديث نوعي متقدم في ظل وجود التنظيم القومي (الاستراتيجية ، التكتيك ...) .. وكل حديث عن الفرز في علاقة بهذا الموضوع .. لا معنى له لأنه سابق لأوانه ، وخارج عن سياقه الزمني الا فيما يتصل ببعده الخاص ببناء هذا التنظيم .. حيث تطرح عشرات .. بل مئات المهام على الثوريين العرب قبل بلوغ تلك الغاية انتصارا للمنطلق القومي ، من زمان الى زمان ، ومن مكان الى مكان ، سيرا على الطريق القومي الى الوحدة المنشودة .. وجوهر ما يتصل بهذا الموضوع الالتزام بالمنطلق القومي على مستوى الفكر والعقيدة القومية العامة ، ثم بالطريق القومي الى تلك الغاية .. وسنحاول حوصلة كل ما يُلزم به الثوريين العرب منطلقهم القومي وعقيدتهم القومية كما وردت في معناها العام في هذا الفصل من المراجع المذكورة .. وهي تقريبا خطوط عريضة لن تلبث أن تتحول حتما الى مضامين للفرز من مرحلة الى أخرى .. وليس من القومية في شيء ، ولا من التقدمية أو الثورية  طرح أي محور منها خارج إطاره وظروفه ومعاركه الخاصة به كما بينّا سابقا في أسلوب عصمت سيف الدولة وممارسته .. ومن أبرز المضامين المحددة للمنطلق القومي :

ـ ان المشكلة الموضوعية التي يريد الوحدويون العرب حلها هي التجزئة ، والمشكلة هي التي تحدد دائما الطريق الى حلها وليست الأمنيات . ولما كانت التجزئة مفروضة على الأمة العربية ، فان حلها مفروض على الوحدويين العرب .. ولهذا فان التجزئة تحتم الثورة لتحقيق الوحدة العربية .. والمهم أن نعرف أن العنف ليس شرطا للثورة ، وان حدث فليس الثوريون العرب مسؤولون عنه ..

ـ ان الطريق الوحيد للوحدة العربية هي الثورة العربية الشاملة ، وان نجاح أي ثورة يكون مناط وضوح عقيدتها الثورية .. لذلك فان العقيدة القومية في بعدها الشامل وخصائصها الفكرية إنما تمثل جوهر الحلول لتلك المشكلات الموضوعية التي يطرحها الواقع العربي ، فهي بالأساس عقيدة قومية تحررية اشتراكية وحدوية .. ومهما تعددت العقائد في الأمة الواحدة ، ومهما كانت معارك الفرز التي يخوضها الثوريون العرب على طريق الوحدة العربية الشاملة ، فان العقيدة القومية في الأمة الواحدة لا تكون الا عقيدة واحدة مضامينها متعدّدة بتعدد مشكلاتها الأساسية .. يقول الدكتور عصمت سيف الدولة في هذا الجانب : " وقد تفرز الصفوف بقدر ما في الأمة من عقائد ويقتتل الناس من الأمة الواحدة تحت ألوية عقائدية مختلفة ألوانها ، فثمة القوميون وثمة الاشتراكيون وثمة الديمقراطيون .. الخ وهذا يعني أن المقتتلين جميعا على ضلال . اذ أن المضامين العقائدية وان تعددت في أمة واحدة فإنها حصيلة وجود اجتماعي واحد . وهذا يعني أن ثمة علاقة موضوعية بين تلك المضامين تحدد تأثيرها المتبادل . وان الصراع تحت ألوية العقائد في أمة واحدة لا يعني أنه صراع عقائدي ، بل يعني ـ انه صراع الجاهلين بوحدة الوجود الاجتماعي التي تجمعهم والتي تحدد في الوقت ذاته العلاقة بين ما يحملون في رؤوسهم من معتقدات ... وطبيعي أن أي ثورة تنطلق من مضمون عقائدي جزئي لتصوغ المستقبل في أمة واحدة ثورة فاشلة ، أي أنها طريق مسدود الى المستقبل . فلكي تستطيع الثورة في أي أمة أن تحقق غايتها لا بد من أن تتوافر لها ـ أولا ـ وحدة العقيدة ، تقابل وحدتها وحدة الأمة . ويقابل مضمونها المركب المضامين المركبة في الواقع ذاته ، ثم ـ وهذا بالغ الأهمية ـ تتكامل مضامينها وتتفاعل كمقابل لتكامل وتفاعل مضامين الحياة ذاتها . فوحدة العقيدة إذن لا تعني مضمونا عقائديا واحدا ولكن تعني عقيدة واحدة ذات مضامين عدة منبثقة من الواقع الموضوعي في كل امة ومقابل له .." ..

والواقع ان ما يعبر عنه الدكتور عصمت سيف الدولة في هذا الجانب الخاص بالعقيدة الثورية ليس من باب تقديسها لأنه يميز بين العقيدة الدينية والعقيدة الفكرية (العقيدة والثورة ص77 - 78) ، إنما هو ارتقاء بالمضامين الفكرية ، حيث يرفع من شأن الفكرة لتتحول الى  مثل عليا ومبادئ راسخة في أذهان حامليها فلا يساومون عليها ولا يبدلونها مهما كانت التضحيات .. وهي في أبعادها الفكرية تقابل تماما ما أطلق عليه في سياقات أخرى المنطلقات والغايات .. حيث تنبثق المنطلقات من الواقع ذاته لتصاغ منها بعد إدراكها إدراكا موضوعيا تاما غايات النضال العربي التي هي بدورها ليست الا تعبيرا عن الحلول الممكنة  للمشكلات المطروحة في الواقع .. وهو ما يقوله في هذا السياق موضحا له حين يأتي عليه كله ، فيربطه بالعقيدة ومنزلتها : " ليست الأمة العربية استثناء من الأمم التي تعلمت من التاريخ ومن ظروفها الخاصة مضامين يرتفع اليقين بها الى حد العقيدة . فقد عرفنا المضمون القومي فيما سبق من حديث . وعرفنا معرفة اليقين أن الثورة طريق الوحدة ، وعرفنا المضمون الاشتراكي مما تعلمناه من التاريخ المعاصر ومما نعلمه في أمتنا من تخلف واستغلال . ونعرف من واقع أمتنا أنها مجزأة دولا . كما نعرف أن الاستعمار يفرض سيطرته احتلالا لأجزاء من الوطن العربي ، وأن جزءا منه قد اغتصبه الصهاينة وأقاموا عليه دولة إسرائيل . كل هذا ثابت لدينا ثبوتا مطلقا لا شك فيه ، لأنه الواقع الموضوعي الذي نعيشه . وكل هذا يرتفع بثبوته الى مستوى المضامين العقائدية القادرة على تحريك الثورة في الارض العربية .. " .. ثم يضيف بعد ذلك وبشكل قاطع تطابق العقيدة الثورية مع منطلقاتها وغاياتها فيقول : " لهذا فان وحدة العقيدة لازمة لأية ثورة في الوطن العربي أيا كان الشعار الذي تحمله . ووحدة العقيدة هنا تعني أن تكون الثورة تحررية قومية اشتراكية معا . وأن تحتفظ بهذه الوحدة العقائدية طوال مسيرتها الثورية . ان هذه الوحدة العقائدية هي التي ستضيئ طريق الثورة في كل خطوة ، وتحدد موضع التقدم في الخطوة التالية .. " .. وهو ما يعني بالنسبة للدكتور عصمت سيف الدولة أنها عقيدة من أجل وحدة الممارسة ونجاحها معا .. أي أن غايتها هي المحددة لطبيعة الفرز وليس العكس ..

وكل هذا يتصل بالبعد النظري للمنطلق القومي والطريق القومي معا ، أما في المستوى العملي ، فان الطريق الى الوحدة وان كان محسوما من حيث أسلوبه واليات تحقيقه : الثورة واداة الثورة بكل تفاصيلها ، فان معالمه وتجلياته لا تزال غامضة في غياب شرطه الأول الذي سيحوّل القول الى فعل والأمنيات الى واقع حيث لا يمكن أن "تتحقق الوحدة تلقائيا ولو بلغ الاقتناع بها حد الإيمان . ولو بلغت إدانة التجزئة حد إدانة الكفر ، ولو رفع الوحدويون شعار الثورة . لن يتحقق شيء لمجرد تمسكنا به ورفعه شعاراً للمستقبل مع الصبر على الزمان لينجز لنا ما نريد . أو - وهذا أسوأ - بالاكتفاء الذاتي بالراحة النفسية التي يستمدّها أي منا من أنه أعلن وكرّر إعلانه بأنه وحدوي ، أو بأنه يرفض التجزئئة ، أو بأنه قد أسهم فكرياً في تحديد معالم الطريق الى الوحدة العربية - قال انها الثورة مثلا - فأراح ضميره . ان هذه "الطهارة" التي يبحث عنها كثير من العرب فيما يصخبون به من حديث عن الوحدة في المقاهي والصالونات ، وتريح كثيرا منهم فيرضون عن أنفسهم لن تفيد شيئاً ، وليست من الثورة في شيء ، وليست شيئاً على الطريق الى الوحدة العربية . انما الثورة عمل ايجابي على الطريق الشاق الى الوحدة " .. ولعل أول شروط تحقيق العمل الايجابي أن ينطلق - بعزم الثوار واصرارهم - من الواقع كما هو ، وبوسائله المتاحة والممكنة عملا بالمقولة المميزة للدكتور عصمت سيف الدولة "من الممكن الى ما يجب أن يكون" ، سيرا على ذلك الطريق ، نحو بناء اداته المفقودة ..

-8-

ما يؤكد أن العقيدة القومية من أهم معايير الفرز عند عصمت سيف الدولة هو رجوعه لهذا الموضوع في دراسة بعنوان "الوحدة بين القومية والاقليمية" نشرت عام 1970 في مجلة الفكر المعاصر عدد 70 ، جاء فيها تفصيل طويل وبيان واضح لأسباب الفشل في تحقيق الوحدة العربية ، مؤكدا على هذا الجانب الذي استطاع من خلاله تصنيف الوحدويين الى قوميين واقليميين .. فبعد أن يطرح السؤال : " لماذا يعجز الوحدويون في الوطن العربي بالرغم من أنهم يمثلون أعرض الجماهير العربية ، وتنتمي اليهم أخلص وأصلب الفصائل الثورية ، لماذا يعجزون عن تحقيق الوحدة العربية ؟ " .. وبعد أن يستعرض الإجابات المتداولة والمتعلقة بالعناصر الخارجية (الرجعية والاستعمار والصهيونية) متناولا تأثير مثل هذه العناصر على الأمم الأخرى في تحقيق وحدتها ، يقرّ بأنه " قول صحيح لكنه غير كاف لفهم المشكلة " .. ثم بعد أن يستطرد في توضيح طبيعة القوى المعادية بكل أنواعها يقرّ من جديد ثم يقرّر بأن القوى المعادية " معوّق للوحدة ، وهي معوّق طبيعي بحكم منطق العصر الذي نعيش فيه ، ولكن جوهر المشكلة لا يكمن في صفوف القوى المعادية للوحدة ، بل يكمن في صفوف القوى الوحدوية نفسها " .. ويضيف مباشرة : " ان اتهام القوى الوحدوية في الوطن العربي بأنها هي المسؤولة الأولى عن الإبقاء على التجزئة ، اتهام خطير لا يمكن أن نتحمل مسؤولية إعلانه بدون أن نطرح مبرّراته العقائدية " ..

وهكذا يعود بنا عصمت سيف الدولة لاستعراض خمسة أسس مفصّلة للعقيدة القومية ، التي ينتهي على أساسها الى تعريف الوحدويين القوميين قائلا : " فهم لا يهابون مخاطر النضال لأن هذا هو قدرهم التاريخي . ولا يقبلون عن الوحدة بديلا لأنهم يعرفون أن التاريخ قد تولّى حرق كل البدائل . ولا تلهيهم الانتصارات الإقليمية المؤقّتة لأنهم يعرفون أنها زائلة . ولا يخافون متاعب الوحدة لأنهم يعرفون أن في الوحدة تعويضا لكل المتاعب . ولا يتنازلون عن الوحدة الشاملة لأنهم يعون أن التاريخ الذي كوّن الامة العربية قد رسم حدود دولتها القومية.

أولئك الوحدويون القوميون .

ولو كان كل الوحدويين قوميين لتحققت الوحدة منذ وقت بعيد .. ولكن المشكلة في حقيقتها أن ليس كل الوحدويين قوميين".... ثم يطرح السؤال : " كيف ؟  "..

... وفي الإجابة عن هذا السؤال نصل معه الى تعريف ما يسمّيهم بالوحدويين الإقليميين ، وقد وردت الاشارة اليهم في كتاب الطريق كما ذكرنا سابقا .. ثم تأتينا الإجابة كاملة - من وجهة نظر عصمت سيف الدولة - عن أسباب الفشل في تحقيق الوحدة ، وعن طبيعة العملية التي يقوم عليها الفرز بين الوحدويين القوميين والوحدويين الإقليميين حتى يتمكن القوميون من بناء التنظيم القومي الذي يقتصر عليهم : 

" ان الإجابة على هذا السؤال أولى بانتباه كل القوى الوحدوية القومية . لأن فيها – كما أعتقد – نكتشف حقيقة المشكلة وقد نهتدي الى الحل .

فقد عرفنا من قبل أن الأمة العربية وجود تاريخي موضوعي ، وأن وحدة المصير القومي تعني أن ثمة علاقة موضوعية بين كل المشكلات التي يطرحها الواقع القومي ، وأنها بذلك لا تحل الا في اطار المصير القومي الواحد . وقلنا أن هذا كله لا يتوقف على معرفة الناس به . فسواء عرفوه أم لم يعرفوه ، هو قائم في الواقع الموضوعي . مؤدى هذا أن الامة العربية كوجود تفرض ذاتها على الإقليميين في الوطن العربي أرادوا هذا أم لم يريدوه . فاذا بكل دولة إقليمية تجد نفسها ، بعد محاولات الهرب من المشكلات القومية ، وتجاهل الوحدة الموضوعية بين تلك المشكلات ، تجد نفسها مضطرة الى أن تشارك في معارك المصير العربي . وكذلك يجد أنفسهم كل الإقليميين الذين يستهدفون غايات إقليمية سواء على المستوى التحرري أو المستوى الاشتراكي . أي يجرهم ويجبرهم الفشل من محاولات الإفلات بمصائرهم الخاصة على أن يقبلوا مرغمين دخول المعارك الدائرة حول المصير القومي الواحد ، ومنها معارك الوحدة .

فاذا بقطاع كبير من القوى التي ترفع شعار الوحدة ، من الإقليميين يرون في اختلاطهم بالقوى الوحدوية القومية كسبا لجهد يختلسونه بادعاء الوحدة . ويشاركون فعلا في معارك الوحدة ولكن من منطلقات إقليميه . ونعرفهم من نوع الدولة التي يقدّمونها تبريرا لموقفهم "الوحدوي" . فالوحدة عندهم مقرونة بمكاسب سياسية واقتصادية واجتماعية تحل مشكلاتهم الإقليمية . وهذا كما عرفنا صحيح . فالوحدة تحل مشاكل الإقليم . ولكن النضال من أجل الوحدة شيء اخر . انه صراع وتضحيات ومتاعب وهزات في الكيانات الإقليمية تقتضيها عملية لالتحام . وهنا عندما يطرح النضال من أجل الوحدة متاعبه ، وقبل أن تقدّم الوحدة عطاءها يتراجع الوحدويون الاقليميون ، ويخونون ، ويوقفون المسيرة كلها دون غايتها ، لأن غايتها عندهم أن تضيف الى ما عندهم لا أن تقتضي منهم التضحيات اللازمة لبنائها . فترى القوى الوحدوية كلها مشلولة ، ومتوقّفة ، أو مرتدّة عن غايتها العظيمة . وترى دعاة الوحدة يستعينون بالأمة العربية كلها ، باسم القومية وباسم وحدة المصير ، ليحرّروا قطعة من أرض الوطن العربي ، والأمة العربية تبذل وتعطي وتضحّي ، حتى اذا ما تحرّر شبر وثب اليه أحد "الوحدويين" وأقام عليه دولته ورفع علما أكثر تزويقا من أعلام الاخرين  ، وانقلب من مناضل الى حاكم . وقد تكرّرت هذه المأساة المهزلة في التاريخ العربي الحديث أكثر من مرّة . وذهب بعض الذين وصلوا الى النصر في معركة التحرير بالتضحيات الصّامتة التي بذلها الشعب العربي في أقطار أخرى الى حد معاداة القومية والارتداد الى أخطبوط علاقات الرأسماليين .

هذا واقع كلنا نعرفه .

وعليه فأقول بمنتهى الوضوح ، ان مشكلة القوى الوحدوية القومية أنها انخدعت في الإقليميين . يرفعون شعار الوحدة ، ويستغلون طاقات الأمة العربية في تحقيق غاياتهم الإقليمية . فارتضت بين صفوفها كل من قال أنه يستهدف الوحدة بدون أن تسأل لماذا اختار وأية وحدة تلك التي اختارها . فاذا بالناس في الوطن العربي ، كل الناس تقريبا ، فيما يزعمون ، وترى الناس في كل مكان في الوطن العربي يهتفون بالوحدة ، ويتظاهرون من أجلها ويصفّقون لدعاتها ويقسمون بأغلظ الايمان أنهم قابلون التضحية حتى بالحياة من أجل تحقيق الوحدة . فاذا جاء وقت التضحية لا بالحياة ، بل بما هو أقل من هذا بكثير ، أداروا ظهورهم وأصمّوا اذانهم واستكبروا استكبارا . فاذا بكل النضال الوحدوي قائم على حسابات وهمية في قواه ، فيتراجع أو ينهزم .

هذه هي المشكلة كما أراها .

انها اختلاط القوى الوحدوية القومية التي تستهدف الوحدة من منطلق قومي عقائدي ولا تعلق الوحدة على شرط ، بالقوى الإقليمية الانتهازية التي تستهدف الوحدة بشرط الحفاظ على مصالحها الإقليمية أو تنميتها على حساب الشعب العربي . وطالما بقي هذا الاختلاط قائما ، وطالما خشي الوحدويون القوميون فرز الصفوف ، وطالما تستروا على الخيانات يلمسونها بأيديهم كل يوم من الوحدويين الانتهازيين لن يستطيعوا على أي وجه أن يلتقوا فيلتحموا في تنظيم قومي مقصور عليهم ، مطهّر تماما من الفكر الإقليمي ، والولاء الإقليمي ، والمصالح الإقليمية ، والأهداف الإقليمية ، وقبل هذا من العقلية الإقليمية . وبغير هذا التنظيم القومي الثوري لن يستطيع الوحدويون القوميون فرض الوحدة على كل أعدائها ، وسحق كل القوى التي تقف في طريقها ، في صراع مفتوح لا تردّد فيه ولا تراجع عنه ، ثم الصبر على متابعته وتضحياته الى أن تتم الوحدة الشاملة .

هذا اجتهاد في حل مشكلة معقّدة ، لا نزعم أنه القول الأخير . ولكني أزعم أنه ممّا أرى صحيح وليست العبرة بما يزعمه كل واحد من صحة في رأيه ، ولكن العبرة بأن نجتهد جميعا حتى نكشف الحل الصحيح الذي يتوقف عليه مصير أمتنا " ... 

اجتهاد مهم وفيه تأكيد صريح على فرز صفوف القوميين الوحدويين الصادقين من الإقليميين أولا ومن "الوحدويين" الانتهازيين ثانيا حيث الانتهازية والنفاق والانحرافات الأخلاقية سلوكات  بشرية ، وليس البشر بالملائكة .. ولهاذا يبقى الفرز لازما قبل التنظيم القومي واثناءه وبعده ، ومستمرا في دولة الوحدة وهياكلها ومؤسساتها المدنية والعسكرية وفي كل الدول بوجه عام .. ولكن المقصود في هذه المرحلة ، هو أن يتم ذلك الفرز من أجل تحقيق غايته الأولى : بناء الحركة العربية الواحدة ..

-9-

ثم يبقى جانب مهم عند الدكتور عصمت سيف الدولة فيما يخص فرز الصفوف بناء على الخلفية الأخلاقية ، بعد تجربته الخاصة مع من خدعه نتيجة لعدم اكتمال عقيدته القومية بالجانب الأخلاقي .. اذ نجده يطلق تحذيره في تلك الرسالة الموجهة للشباب القومي في تونس منتصف الثمانينات قائلا قولته الشهيرة المتداولة : " لقد كان توفيقا ان أخصص الفصل الأخير من كتاب " أسس الاشتراكية العربية " للحديث عن أخلاق الطليعي . ولكن ـ هناك ـ كنت أريد أن اثبت أن منهج جدل الإنسان قادر على ان يفسر لنا تفسيرا علميا تلك الأخلاق التي ربانا عليها تراثنا الروحي ، ومع ذلك كيف يمكن الاختبار ؟ الحمد لله على ان التنظيم القومي لم يؤسس من قبل حينما كان عشرات ومئات بل آلاف يرشحون أنفسهم للانخراط فيه يوم أن كان عبد الناصر يدعو له ، ويحاول أعوانه تأسيسه . فلما مات عبد الناصر انقلبوا يأكلون لحمه ميتا . وحمدت الله على ان دعوت في بيان طارق الى أن يسبق تأسيس التنظيم القومي مرحلة إعداد يختبر فيها الناس خلال نضال حقيقي دفاعا عن الشعب العربي ضد القهر الإقليمي فلا يجتاز الإعداد الى التأسيس الا قومي الفكر ، تقدمي الاتجاه ، وحدوي الغاية .. صلب الخلق . هكذا كنت أفكر بينما كان محمد عبد الشفيع يدلي بأقواله المذهلة .. ومنذئذ حفظت الدرس ودعوت الشباب الى أن يحفظوه . ولأن الدرس كان في ظروف قاسية فقد تبدلت عندي أولويات المقاييس : صلابة الخلق أولا ، وحدوية الغاية ثانيا ، تقدمية الاتجاه ثالثا ، ثم قومية الفكر رابعا وأخيرا .. أرجو أن تتأمل هذا الترتيب الغريب . فليس ثمة تنظيم في الأرض قد عرفه فالتزمه .. ولكن التزامه مسألة حياة أو موت بالنسبة للتنظيم القومي .. لأنه لا يوجد ولم يوجد تنظيم على الأرض يعد نفسه لتحقيق مثل ما هو مطلوب من التنظيم القومي : إلغاء مجموعة من الدول وإقامة دولة واحدة ، في ظروف عربية ودولية معادية جميعا لدولة الوحدة العربية ... صلابة الخلق أولا ، ومن هو على خلق يصدق إذا قال ان غايته الوحدة ، ومن كانت غايته الوحدة فهو تقدمي الاتجاه ، ثم يأتي الفكر القومي ليبرر ويفسر ويعمق منطلقات المسيرة وغايتها ، فان آمن به من هو على خلق فقد صح إيمانه وصدق ... (انتبهوا الان) أما صاحب الفكر القومي ولو كان مبدعا فهو آخر من يرجى منه في تأسيس التنظيم القومي إلا أن يكون ـ أولا ـ على خلق قويم .. " .. 

ومن هذا التخصيص الأخير نفهم ان الفرز الأخلاقي قبل كل شيء هو فرز "وظيفي" من أجل غاية محدّدة تتمثل في سلامة البناء والتأسيس .. وكونه على هذه الصفة وعلى هذه الدرجة من الأهمية فسيبقى مستمرا قبل التأسيس وبعده لحماية التنظيم ومؤسساته من الاختراق أو الانحراف عن أهدافه المرسومة .. ولذات القواعد الأخلاقية والمبدأ الأخلاقي ، فهو فرز غير عشوائي ، وغير انفعالي ، وغير تشهيري ، يقوم على الموضوعية والتقييم العلمي غايته فرز الصادقين من الانتهازيين وصولا - في هذه المرحلة - الى فرز القادة والكوادر القومية الصلبة لضمان سلامة البناء لأداة الثورة العربية ، فلا مكان فيه للعاطفة او للمجاملة ، ولا دخل فيه الا للمبدأ ، حماية للتأسيس من أي عمل مخرب كما قال الدكتور في رسالته المذكورة وهو يتحدث عن عملية الإعداد في مصر التي يخوضها الشباب القومي : ولقد كانت حراسة تجربتهم الذاتية من تسلل يأتي من خارجهم الى صفوفهم بدعوى "المساعدة" سببا في القطيعة بيني وبين اصدقاء قدامى من القوميين الورثة . كنت اعرف من أمر الساحة ما لا يعرفون فحذّرت باسم القومية من تخريب الأمل القومي الناشئ في مصر " ... وبمعنى أوضح فان ما يسمّى بعملية الفرز ، هي عملية نوعية من أجل تلك الغاية العظيمة : بناء آداة الثورة .. حتى يتوفر لها أكثر ما يمكن من ضمانات النجاح .. ولهذه الغاية بالذات لا يمكن أن يكون الفرز قائما على التعميم الذي يُرتّب على مواقف الافراد مواقف ملزمة للجماعة أو التنظيم الذي ينتمي اليه الفرد ، وفيه لفت انتباه  وجدناه عند الدكتور عصمت سيف الدولة في كتاب المنطلقات وهو يتحدث عن أسلوب الفرز بين المؤسسات القومية والإقليمية دولا كانت أو أحزابا قال فيه : "لنستبعد أولاً المقاييس الذاتية . ان رفض أو قبول مؤسسة حزبية كتنظيم قومي على أساس الخبرة الذاتية بأحد ، أو بعض ، العاملين في أجهزتها أو المنتمين إليها موقف غير موضوعي وغير علمي . لا يكشف عن طبيعة المؤسسة بقدر ما يكشف عن طبيعة صاحبه . فكما أن وجود القوميين التقدميين في جهاز الدولة الإقليمية أو حتى في قيادتها لا يغير من طبيعتها شيئاً ، كذلك لا يغير شيئاً من طبيعة المؤسسة الحزبية القومية أن يوجد في أجهزتها أو حتى في قيادتها بعض الإقليميين . نحن نقيّم "مؤسسة"  ولا نحاكم الأفراد فيها . والمؤسسة الحزبية ، إقليمية كانت أو قومية ، ستلفظ أو تهضم في النهاية الذين أخطأوا الاختيار فانتموا الى غير مؤسستهم" . كما لا يمكن أن تكون عملية فردية ، لان التقديرات الفردية  تتأثر بالتأويلات الخاطئة ، وتخضع أحيانا للنزوات ، والتصورات المجانبة للواقع ، فتخطئ وتصيب ، والحديث فيه لا يمكن ان يصح دون ممارسة نضالية حتى يبرهن المناضلون أنهم أوفياء لعقيدتهم التي يدعون الناس اليها وحتى يقتدي بهم رفاقهم ويعرف العامة انهم مخلصون وصادقون في دعوتهم .. ولا تكون دون التزام بتنفيذ المشروع في الواقع بهدف تحقيق تلك الغاية حتى تكون الممارسة محكا لاختبار المناضلين الصادقين ، وكل هذه الضرورات تقتضي بدورها وجود شكل أو صيغة تنظيمية حركية ذات خصائص منسجمة مع طبيعة المهمّة التي تسمّى "الاعداد" أو التحضير لقيام التنظيم ، وفي هذا قول صريح جاء في نفس الرسالة :" ان خبرتي بهؤلاء الشباب عريضة وطويلة وعميقة ، وبالتالي استطيع ان اقول ان من بينهم سيكون بناء التنظيم القومي في مصر . وتتولّي الظروف العينية في مصر اعدادهم . فهم يخوضون معركة قومية وهم يدافعون عن حرية مصر وعروبتها وتقدمها . وهم يخوضونها في الشارع ملتحمين بالجماهير العربية . وهم يخوضونها بعيدا عن السلطة وضدها . وهم خلال كل هذا ينضجون فكرا وحركة .  أهم من هذا كله انهم يكتبون خبراتهم التنظيمية من خلال الممارسة وليس تلقيا من اية قيادة علويه فكرية أو حركية ، وحينما تكتمل خبرتهم سيكونون هم الذين أنشأوا تنظيمهم ولم ينخرطوا في تنظيم انشأه غيرهم " .. وقد تقتضي تلك الصيغة أيضا وضع تكتيكات واستراتيجيات غير التي نعنيها في الحديث عن التنظيم القومي .. اذ أن الاستراتيجية بهذا المفهوم أي الاستراتيجية القومية ، لا يمكن أن تسبق التنظيم المنشود .. ومثل هذا التداخل يقوم فيه الخلط في الواقع بين ما هو من مهام الاعداد وما هو من مهام التنظيم القومي ، فيُنصّب بعض الاعداديين انفسهم وكلاء عليه من خلال تمثلاتهم الشخصية للاستراتيجية القومية كما وعوها من تأصيلها النظري في بعدها القومي ، فيُدخلون من يشاؤون الى صفوفهم ويُخرجون منها من يشاؤون .. وهو ما حذر منه الدكتور عصمت سيف الدولة في حديثه عن مفهوم الاستراتيجية القومية  كتخطيط هادف ، يضبط الافاق المستقبلية للعمل السياسي ، الذي يضعه التنظيم القومي ويلتزمه بعد قيامه ، فيقسّم الخطط الى مهام ومراحل تضبط حركة الافراد .. وهذا ما جاء في كتابي الأسلوب والطريق بكل وضوح ..

فمن ناحية تعريف الاستراتيجية (التي هي من مهام التنظيم) يقول الدكتور عصمت سيف الدولة : " الاستراتيجية هي التخطيط الشامل الذي يتحكم به الحزب في النشاط السياسي ويحقق من خلال التزامه غايته . وكما أن الالتزام بغاية بدون استراتيجية لا يعدو أن يكون ثقافة فكرية مجردة فإن الالتزام باستراتيجية بدون غاية لا يعدو أن يكون التزاماً شكلياً غير ذي مضمون لا يمكن متابعته ولا يتحرج أحد في الخروج عليه . 

على أساس النظرية ، وفي داخل اطار الاستراتيجية ، يتحول العمل السياسي الى ما لا حصر له من العمليات المتنوعة في طبيعتها ، المتفرّقة في مواقع التنفيذ ، المقسمة على القوى العاملة في الحقل السياسي .. أي تتحول الاستراتيجية الى مهمّات تكتيكية .."..

أما من ناحية التّنظّم في بعديه الانتقالي  (الاعدادي) والنهائي (الاستراتيجي) ، فانه من غير الممكن أبدا الحديث عن الاستراتيجية القومية أو التكتيك المنبثق عنها قبل قيام التنظيم القومي ، صاحب المهمتين بامتياز .. ولا يصح للأفراد مهما كان عددهم ، ومهما كانت عبقريتهم ان يضعوا استراتيجيات يسمّونها استراتيجيات قومية قبل قيام التنظيم  .. وليس أمام الاعداديين قبل ذلك سوى العمل على التحام صفوفهم والالتزام بمهامهم المحصورة في استراتيجية الاعداد واساليبها العلمية بما فيها ضرورة التنظم الانتقالي حتى لا تكون استراتيجياتهم وتكتيكاتهم المرحلية استراتيجيات وتكتيكات فردية ، وهو ما جاء تأكيده في هذه الفقرة من بيان طارق ، حيث يرى أن مهمة الاعداد تقتضي : " قيام تنظيم انتقالي لمدة محدودة تكون مهمته مقصورة على أعداد القاعدة الجماهيرية اللازمة لمولد الطليعة العربية ، وليبقى بعد مولد الطليعة العربية قاعدة جماعية منظمة لها ، تتولى الترشيح لعضويتها ، وتزويدها بالمناضلين ، بعد أن تكون قد أعدتهم فكرياً ، وتنظيمياً لهذه العضوية " ... و" لهذا فإن التنظيم الإعدادي المؤقت لازم لإيجاد الطليعة العربية حزباً قومياً واحداً من قلب التمزق القائم ، وبدون إحداث فراغ تنظيمي ، ومهمته التي يتبناها في الفترات السابقة على قيام "الطليعة العربية" ومدته المحدودة تمكنه من أداء هذه المهمة بنجاح ، إذ أن طبيعة عمله كتنظيم ، والتي هي الإعداد الفكري، لا تجعله تنظيماً موازياً ، أو منافساً للتنظيمات القائمة ، ولكنه ينمو في وجودها ، خارجه ، وفي قلب قواعدها ، بدون احتمال للاصطدام بها ، ولما كانت مرحلة الإعداد مقتصرة على التكوين العقائدي ، والإعداد النضالي ، فإن وجود المنظمات المتعددة ذاتها يقدم ميداناً منظماً لغزوها الفكري، ثم الاختبار الحزبي ، بدون مسؤولية على الطليعة العربية أو على فكرتها ، وبهذا تكون الأحزاب ، والمنظمات القائمة ساحات يتم فيها إعداد المناضلين ، حتى خلال المهمات التي تحددها قيادة تلك المنظمات ، وهكذا بينما تبقى المنظمات قائمة في مرحلة إعداد الطليعة العربية تكون قواعدها قد تهيأت فكرياً ، ونضالياً للتحول إلى قواعد للطليعة العربية ، بمجرد مولدها دون أن يحدث فراغ تنظيمي ، أو نضالي " .. وهكذا فان العلاقة الجدلية بين مهمة الاعداد ومهمة الطليعة تتلخص باختصار كما قال في نفس المصدر في الجملة التالية الحاسمة والمهمة : "إن الاستفادة من الممارسة النضالية لتحقيق وحدة فكرية هي الهدف المرحلي للتنظيم الانتقالي ، بينما تكون مهمة الطليعة العربية التي تنبثق عن هذا الإعداد الاستفادة من الوحدة الفكرية لتحقيق الممارسة النضالية" ..

ثم نضيف - في البعد الثاني (ضرورة التنظم الاستراتيجي) - عينات أخرى مما جاء فيها التأكيد للدكتور عصمت سيف الدولة في كتابي الأسلوب والطريق على جميع الضرورات الخاصة بهذا البعد الاستراتيجي .. فبعد التقديم للحديث من خلال البحث عن ضمانات للنجاح تقوم بالأساس على ما سمّاه في عنوان خاص بـ "الاسلوب العلمي" يطرح فيه العلاقة بين النظرية والاستراتيجية والتكتيك ، نجده يقرّر اولا بان لا جدوى للحديث عن اي عمل استراتيجي او تكتيكي بدون تنظيم موحّد  حين قال : "تلك اذن هي عناصر الاسلوب العلمي للعمل السياسي (النظرية – الاستراتيجية – التكتيك) ، غير انه واضح - مما قلنا – ان مجرد توافرها لا يكون اسلوبا علميا الا ان تتوافر العلاقة المتبادلة بينها اي ان يكون كل منها عنصرا مكمّلا وفي خدمة العنصر الاخر ... فكيف يتم ذلك ؟.. بوحدة التنظيم . اذ مع تحول الاستراتيجية الى عدد لا حصر له من المهمات متنوعة الطبيعة .. تقوم بها اعداد كثيفة من الاشخاص ... يكون من الحتمي انتماؤهم جميعا الى تنظيم واحد ذي قيادة واحدة" .. ثم ينبّه - ثانيا – الى ما يجب الانتباه اليه في الجانب الخاص بالاستراتيجية وقد جاء واضحا لا يحتمل التأويل في الصفحات 89 و 90 و 91 من كتاب الأسلوب .. اذ بعد أن يؤكّد على ضرورة اكتمال الأسلوب العلمي الخاص بالاستراتيجية بالنسبة للحزب القومي ، يذكر ما يترتب عن ذلك من نتائج وهما : "نتيجتان ملزمتان لكل الجادين في رغبتهم ان تقوم في الوطن العربي دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية ..

الأولى : ان يُعفوا أنفسهم ويُعفوا الشعب العربي من عناء التصورات الاستراتيجية للنضال من اجل الوحدة الديموقراطية الاشتراكية قبل ان يقوم الحزب القومي الديمقراطي الاشتراكي او خارج دائرة الحوار الديمقراطي داخله . ان كثيرين من الشباب العربي يحمّلون انفسهم مجهودات فردية لوضع استراتيجيات للمستقبل العربي . ولو كان الأمر مقصوراً على مجرد التصور لما كان ضاراً لأنه ـ على الأقل ـ مران ذهني على فهم مشكلات الاستراتيجية . إلا ان الاستراتيجية تتضمن مواقف محددة من الواقع العربي وقواه وحركته والتصور الفردي لاستراتيجية تحقيق دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية ، السابق على قيام الحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي ، لا يلبث أن يتحول الى مواقف محددة من الواقع وقواه وحركته . تصبح لكل واحد استراتيجية خاصة بناها على أساس نظريته الخاصة وحدد بها لنفسه مواقف خاصة من غيره . ولما كان بمفرده عاجزاً حتى عن تنفيذ "استراتيجية" في الواقع الاجتماعي فإنه ينفذها بما هو قادر عليه :  الكلام . ومع تعدد الافراد وتعدد الاستراتيجيات الفردية وتصدي كل واحد لمسؤولية تحقيق دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية بمفرده طبقاً لاستراتيجيته ينقلب "النضال" الى معارك كلامية . ولسنا نشك لحظة في ان السبب الاساسي للخلافات التي تمزق الشباب العربي الذين لاشك في اخلاصهم لهدف دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية ، هو أن كل منهم يحدد موقفه من الآخر طبقاً "لاستراتيجية" خاصة يتصورها . وعندما نعرف ان وضع الخطة الاستراتيجية لتحقيق دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية هو جزء من نظرية كاملة ومتكاملة في الاسلوب تحتم ان يكون الحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي هو واضع الخطة والمسؤول عن وضعها نؤجل كل خلاف بين تصوراتنا لاستراتيجيته الى ان نطرحها داخله ونتحاور فيها ديموقراطياً . نريد ان نقول ان عدم الالتقاء لسبب الخلاف في المنطلقات او في الغايات مفهوم وهو يحول دون الالتقاء في حزب واحد فلا مبرر للخلاف حول الاستراتيجية فسيلتزم كل واحد استراتيجية حزبه . وعندما نكون متفقين في المنطلقات والغايات والاسلوب بما فيه ضرورة التقائنا في حزب له استراتيجية فإن الخلاف حول ماهية الاستراتيجية يجب ان يؤجل الى ان نلتقي في الحزب فنحتكم فيه ديموقراطياً أما إذا كان الواقع العربي يضغط على اعصابنا ، ويثير فينا تصورات للمستقبل واستراتيجية مواجهته ـ وهو امر انساني ـ فعلينا ان نفلت بأنفسنا من هذا الضغط وتلك التصورات بان نبادر الى الالتقاء في تنظيم يحوّل تصوراتنا الى خطة استراتيجية أو نعرف فيه خطة استراتيجية افضل من تصوراتنا ، لأنها اوثق في تحقيق غاياتنا المشتركة" .

والثانية تخص مسألة تحديد الاستراتيجية والالتزام بها قبل وجود الحزب القومي فيحذّر من "ان يحدّد كل قومي تقدمي موقفه من استراتيجية النضال من اجل دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ، تحديداً نهائياً ، قبل الحزب القومي الديمقراطي الاشتراكي أو خارجه على وجه يعزله عنه لأنه يبدو كما لو كان يفرض رأياً مقدماً ولا يقبل الالتزام الديموقراطي فيشكك في صدق وعيه القومي وفي مقدرته على العمل الجماعي المنظم ، وهما شرطان اوليان ليقبل غيره ان يلتقي معه فكرياً او حركياً " ..

ثم يختم : "باختصار على الذين من مواقفهم يتصورون استراتيجية خاصة لتحقيق دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ألّا يأخذوا من اختلافهم سبباً لتمزقهم ، ولا يفرضوا استراتيجياتهم شروطاً للانتماء الى الحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي ، لأن الحزب وحده هو صاحب الحق في وضع استراتيجية ، والمسؤول وحده عن وضعها وإلزام كل فرد فيه تنفيذها وردعه إن حاد عنها " .. 

وأكثر من هذا ، أننا نجده يكرّر نفس الفكرة في مناسبة أخري عن ضرورة أن لا تسبق الاستراتيجية قيام التنظيم وهو يتحدث الى الماركسيين على صفحات مجلة الشورى في مقال بعنوان " اعتاقة من أجل الوحدة " موضحا لهم طبيعة الاستراتيجية في حديث موجه لهم خصيصا حول الوحدة وقواها الفاعلة ، وقد نشر هذا المقال أيضا في مجلة الطليعة (1974) تحت عنوان "الوحدة .. دعاء أم دعوة" قال فيه : " ان إستراتيجية تحقيق دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية هي التي يضعها من يريدون أن يلتزموا بها .. انها خطة تضعها قوة منظمة التقت على الهدف ، وتريد أن تنظم حركتها النضالية على مراحل ، وتقسم العمل على مناضلين معروفي العدد والمواقع والمقدرة .. وضع الخطط الإستراتيجية أيها الشباب العربي ، ليس حذلقة فردية ، بل عمل نضالي على أكبر قدر من الجدية والخطورة تقوم به القوى التي التقت على الهدف بعد أن تكون قد التحمت في آداة نضالية واحدة .. بعد أن تكون قد أصبحت تنظيما .. إستراتيجية النضال الجماهيري لا تسبق أبدا الحزب الجماهيري وإلا أصبحت موعظة فردية لا قيمة لها .. وعندما يلتحم القوميون التقدميون في الوطن العربي في تنظيم جماهيري مناضل من أجل دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية ، لن يكون وضع الخطة  الإستراتيجية على أسس واقعية وعلمية ومناقشتها ديمقراطيا ثم الالتزام بها ، إلا مهمّة عادية من مهامه النضالية ..

كل هذا ، والفرز متواصل في كل المراحل ، ومتغير في أولوياته وأهدافه من مرحلة الى أخرى ، وهو عملية جماعية منظمة خاضعة للتقييم الجماعي المنظم .. اذ أن التقييم في هذه الحالة ، هو تقييم قائم على أساس مرجعية فكرية وبرامج وخطط سياسية واضحة كلها من مهام التنظيم بعد قيامه ، يناقشها جميع المنتمين ثم يلتزمونها بعد أن يتم حسمها وضبطها ، فيعملون على هديها تحت نظر مؤسّساته الديمقراطية ومسؤوليتها .. أما قبل ذلك فان الامر أبسط من ذلك بكثير ، وهو لا يتعدى فرز العناصر العقائدية الصلبة المؤمنة بأهداف النضال العربي منطلقا وغاية واسلوبا ، من أجل غاية واحدة : تأسيس التنظيم المنشود .. وقد حدد الدكتور عصمت سيف الدولة تلك الغاية وآليات تحقيقها في بيان طارق حينما قال : " ويرى البيان أن هذه الدعوة ينبغي أن تتمكن ، ويتمكن الداعون لها من تحقيق نشاط مفيد ومثمر في الواقع ، أي داخل التنظيمات القائمة وخارجها ، من أجل تحضير الكوادر الفكرية والبشرية التي تحقق الانتقال السليم الى التنظيم القومي عندما تصبح قادرة فعلا على تأسيسه ، وليس قبل ذلك ! " .. وأضاف مشبّها تلك المهمّة بمهمّة انشاء الجيوش حين قال في رسالته الى الشباب العربي في تونس : " وان عملية إنشائه يجب أن تكون کانشاء الجيوش الحديثة لأول مرة . لا يبدأ بالقادة " الجنرالات " ولا يبدأ بالجنود ، ولكن يبدأ بالضباط . منهم تنبثق القيادة بمقياس الكفاءة . واليهم يجند الجند ليدربوهم ويقودوهم وبهذا يكتمل الجيش تكوينا ، ثم یبقی قوة ضاربة مهما تغپّر الجند ومهما تغير القادة ، فلا يتوقف التنظيم القومي وجودا وعدما ، حركة وعمودا ، فكرا وممارسة على قيادته . لا بد إذن من " مرحلة " إعداد الضباط "  ..

وكل ما يأتي بعد ذلك من أفكار وبرامج وتخطيط .. متروك للتنظيم بعد مولده .. أما قبل ذلك ، وفي مواقع العزلة التنظيمية ، فما على الذين يرجونه الا ان ينتظروا ويصبروا حتى تلتق الساحات ، ويولد التنظيم ولادة طبيعية  كما قال عصمت سيف الدولة في نفس الرسالة عام 1985 - حتى يبدأوا معا - وليس قبلهم أو وحدهم ، وان كان هذا الحديث قد طال عهده وجرت في النهر مياه كثيرة : " وإني لأتمنى ، وأدعو ، الشباب القومي الذي طال انتظاره حتى كاد ييأس من أن يملك اداة ثورته العربية المرتقبة ، الى أن يدرك ان اخوة لهم في مصر سيولدون من رحم الامة العربية المباركة في اقرب ما يظنون ، فليصبروا حتى يولد اخوهم ولادة طبيعية حتی یبدأوا معا بناء تنظيمهم القومي " ... واذا لم يعجبهم الانتظار ، أو اذا شعروا بطول مراحله فما عليهم الا ان يعدّوا عدتهم ويبادروا ان أرادوا ، وليتحملوا مسؤوليتهم التاريخية في النجاح أو الفشل ..

-10-

أما المشكل في الواقع الحالي فهو على درجة كبيرة من التعقيد الى الحد الذي يصعب فيه معالجته دون مراجعة من طرف الجميع لكثير من العوامل المتصلة بالجوانب الذاتية بالدرجة الأولى ، ومنها ما يتعلق بالأساس بأسلوب التعامل مع المتغيرات الظرفية في ظل غياب الأداة القومية الواحدة التي يمكن من خلال وجودها فقط ، الحكم على من هم داخلها ومن هم خارجها في نفس الوقت .. أما وقد استوى حال الجميع في الفشل ، فالمطلوب من الجميع القليل من التواضع - على الاقل - بتجنّب إطلاق الأحكام العامة ، ومراعاة التنسيب .. وعلى سبيل الذكر ، لا يمكن أن يكون سبب كل اختلاف في المواقف بين عدد من المنتمين الى الأحزاب من أبناء التيار القومي ، وبين غيرهم من غير المنتمين يعود بالضرورة الى أن أحدا من الطرفين قد خان عقيدته كما يصور البعض .. اذ أن المواقف من الأحداث الجارية كالمحطات الانتخابية وغيرها يمكن أن يحصل فيها اختلاف حتى داخل الحزب الواحد والمرجعية الواحدة ، وأحيانا يتغيير الموقف حتى عند الفرد الواحد .. ولذلك تقام حملات الدعاية الانتخابية في مثل هذه المناسبات .. أما في غيرها من القضايا فلا سبيل لممارسة الديمقراطية الا من خلال تفعيل قوانين الجدل الاجتماعي الذي يهدف من خلاله كل صاحب رأي لاقناع غيره بصحة رأيه وموقفه ، ومن أجل ذلك وجدت وسائل الاعلام المرئية والمسموعة المعدّة لتبادل المعرفة .. وعليه ، فمثلما يمكن أن يحصل اختلاف في المواقف بين القوميين المنتمين لحزبين مختلفين أو أكثر ، يمكن أن يحصل نفس الشيء بين القوميين الغير منتمين للأحزاب دون أن يعني ذلك شيئا بالنسبة لعقيدتهم وثوابتهم القومية .. فلا أحد منهم قد غير هدفه في تحقيق الوحدة ، أو غيّر موقفه من الاستغلال والرأسمالية فانقلب عن الحل الاشتراكي ، أو اعترف بالاحتلال وبحق الصهاينة في فلسطين ، ولا أحد تخلى عن ثوابته حينما اختلف مع غيره في اختيار مرشح للانتخابات .. !

أما بالنسبة للانتماء الحزبي الإقليمي في حد ذاته ، فان قول البعض بأنه لا يؤدي إلا لترسيخ المنطلقات الإقليمية ، يحتاج - بالنسبة للبعض الآخر في الظروف الراهنة - الى بدائل عملية جدية ، مثلما ترتقي فوق أسلوب العمل الإقليمي ، ترتقي أيضا فوق أسلوب التنظير والاكتفاء بالانتظار المجهول دون خطط عملية واضحة تساهم مساهمة فعالة في تغيير الواقع .. ثم ان خيار العمل الحزبي – كما يرى هؤلاء - يعتبر خيار الممكن ، فلا التنظيم القومي موجود ، ولا المتحزبون يعلنون ان خياراتهم في مواجهة الواقع بديلا عنه ، ولا هم غيّروا قناعاتهم بمنطلقات وغايات وأسلوب تحقيق دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية  ... !

فهل الانتماء لحزب اقليمي النشاط جريمة لان الإقليمية مجرمة في حق الامة ، أم هو مجرد أسلوب فاشل في تحقيق غاية قومية ؟

وهل الولاء القومي عقيدة أم تموقع تنظيمي ؟ ...

اسئلة متردّدة ، سبقناها بالأجوبة فيما تقدم من حديث ، وقد اتينا على كثير من المواقف الحاسمة والمرنة للدكتور عصمت سيف الدولة في التعامل معها ، وسنأتي على عينات أخرى من أقواله تخص تلك الأسئلة وغيرها فيما تبقى من جوانب الموضوع ، بعد أن نتوقف معه - ونحن نتحدث عن الفرز - عند جملة من المفاهيم والمعايير التي تبنى عليها المواقف .. وهي رؤية "مفهومية" شاملة لدى الدكتور عصمت سيف الدولة تتعلق بدقة المفاهيم والمصطلحات التي يقوم عليها التصنيف قبل تصنيف المواقف ذاتها .. اذ أن كل عبارة - عنده - لها مدلولات سياسية وعقائدية يتجاوز فيها المعنى الإلزامي بتنفيذ مضامين الكلمات في الواقع العملي مجرد الكلام وترديد المصطلحات .. بحيث يصبح من المستحيل فهم المواقف دون الرجوع الى خلفيتها الفكرية والعقائدية من خلال مدلول الكلمات والعبارات التي يردّدها كل صاحب راي أو موقف على غرار : مفهوم القومية ، مفهوم الإقليمية ، مفهوم العروبة ، مفهوم الوحدة والعمل الوحدوي .. الخ .

وفي هذا ، نجد إشارة ولفت انتباه من الدكتور عصمت سيف الدولة الى التمييز بين مختلف هذه المفاهيم  المتعلقة بالموقف الإقليمي ، والموقف العربي ، والموقف القومي ، حين توجه لمخاطبه في الرسالة السابعة من باب الرسائل في كتاب اعدام السجان وهو يطرح معضلة القصور في فهم التيارات السياسية والفكرية لدى القضاة المكلفين بالنظر في الدعاوي قائلا : " لكي تكون فكرتك واضحة أرجو أن يتسع وقتك لتراجع في كتابي نظرية الثورة العربية ، التفرقة الدقيقة بين الموقف القومي ، والموقف العربي ، والموقف الإقليمي ، وتصور أننا نريد أن نحمي بالقانون الموقف الوحدوي ونعاقب الموقف الانفصالي ، ان توحيد الوطن العربي لمصلحة أحد أقطاره موقف وحدوي ، ولكنه إقليمي فهل نحميه ؟ وان توحيد الوطن العربي لمصلحة جبهة من قوى إقليمية موقف وحدوي ولكنه ليس قوميا فهل نحميه ؟ " .. وهي معضلة كما يقول عصمت سيف الدولة لأنه : " سيأتي اليوم الذي يضطر فيه القضاة الى مواجهة مثل هذه المشكلات الفكرية التي سيطرحها واقعنا من خلال نمونا الفكري والاجتماعي وهي مشكلات لم تكن مطروحة يوم أن كنا ندرس القانون ، ولن تطرح في أي كلية حقوق حتى في المستقبل . ومع ذلك فانه على قدر وعي القضاة بها ، وادراكهم تعقيداتها الفكرية ، ومنابعها الفلسفية ومشكلاتها التطبيقية ستتوقف حرية بشر كثيرين ..... فلماذا لا يواكب القضاة حركة نمونا ؟ .... لماذا لا نجنب الجيل القادم على الأقل مخاطر تجربة عصمت سيف الدولة ؟ .. ".

ونلاحظ في الفقرة الأولى بروز موقف رابع وهو الموقف الوحدوي إضافة الى المواقف الثلاثة الأولى .. وهو ليس مجرد تبديل أو تغيير في استعمال كلمات مترادفة ،  اذ ليس كل موقف وحدوي قوميا بالضرورة حسب عصمت سيف الدولة .. وهذا يتطلب الرجوع الى المراجع الأصلية التي أشار اليها الدكتور في الفقرة الأولى أو غيرها من المراجع ..

وفي البداية ، وبالنسبة للموقف القومي والموقف الإقليمي ، فان الامر لا يحتاج الى توضيح وقد أتينا على كل المفاهيم المتعلقة بالمنطلق الإقليمي وتفرعاته الرجعية والوحدوية ، والمنطلق القومي وعلاقته بالعقيدة القومية .. أما فيما يتعلق بالموقف العربي فهو يستند دائما الى الموقف الرسمي للدول العربية التي تتعامل مع الواقع العربي من خلال السعي للاتفاق على مواقف جامعة - من وجهة نظر إقليمية - تحدد الحد الأدنى للاتفاق بين الدول العربية لمواجهة السياسات الدولية في التعامل مع القضايا المطروحة ، وهي مواقف تطبخ أولا عبر القنوات الدبلوماسية المباشرة ثم من خلال جامعة الدول العربية وتكون - غالبا - خاضعة للضغوطات والاملاءات الدولية .. وقد تبرز فيها من حين الى اخر مواقف "وحدوية" مضللة ..

أما كونها وحدوية فهذا لا يعني أنها تقوم على منطلق واحد ، لذلك فان المواقف الوحدوية تعد من أكثر المواقف التباسا وغموضا . بحيث لا يكون كل موقف وحدوي موقفا قوميا .. وكذلك العمل الوحدوي . حيث لا يكون كل عمل وحدوي عملا ثوريا بالضرورة .. اذ أن العمل الوحدوي الثوري - عند عصمت سيف الدولة - يكون دائما مرتبطا بالإرادة الثورية التي تعمل وفقا لتخطيط ارادي شامل يستهدف تحقيق الوحدة بأسلوب لا يخضع للأهواء أو للصدفة بين اقليمين أو أكثر في وقت واحد .. وخلافا لهذا الموقف الوحدوي الارادي الذي هو موقف قومي ، نحن أمام نوعين من المواقف الوحدوية متميزين عن الموقف الأول ، أحدهما وحدوي عفوي تلقائي والأخر وحدوي إقليمي .

بالنسبة للموقف الوحدوي التلقائي يمكن أن يحدث كردة فعل ناتجة عن وضع ثوري غير منظم كالذي عاشته سوريا ومصر مما أدى الى قيام الوحدة بينهما دون تخطيط واع لتحقيقها . وقد وجدنا هذه الفكرة في كتاب الطريق 2 ضمن الحديث عن الثورة .. يقول الدكتور عصمت سيف الدولة متحدثا عن الوضع الوحدوي الذي أدى الى الوحدة بين مصر وسوريا : "ان الوضع الوحدوي ان تحقق في اقليمين يؤدي الى الوحدة بينهما "اذا" توافرت كل الظروف التي كانت سائدة في سوريا وفي مصر سنة 1958 . وهي ظروف كانت وليدة أحداث تاريخية ودولية وإقليمية مقصورة على الإقليميين . واذا كانت قد وجدت فلم يكن وجودها من أجل الوحدة . ولم يكن التقاؤها في وقت واحد مدبرا من قبل . وحدّدت تلك الظروف – بعيدا عن التخطيط الارادي – تاريخ الوحدة . وبالرغم من كل النضال القومي في الاقليمين ، فان الوحدة بين مصر وسوريا بالذات في فبراير 1958 على وجه التحديد كانت بمثابة انفجار وحدوي . أو كانت التعبير التلقائي للقومية العربية عن ذاتها في اقليمين وصلت فيهما الإقليمية الى أضعف درجاتها ، أو انعدمت مقدرتها على المقاومة . لقد كان العامل الارادي في تحقيق الوضع الثوري على مستوى الاقليمين معا مفقودا وان كانت الإرادة الثورية قد وفرته في كل إقليم على حدة . لهذا كان العامل الارادي في تحقيق الوحدة ضعيفا . كان مجرد قبول الالتحام الحتمي للإقليمين توافرت فيهما أوضاع ثورية وحدوية ، لم يخلقها أحد بقصد تحقيق الوحدة بينهما .

ولما لم يكن ذلك "الوضع الثوري الوحدوي" الذي انبثقت عنه وحدة 1958 من خلق إرادة ثورية وحدوية واعية بضرورة توافره في اقليمين في وقت واحد بقصد تحقيق الوحدة بينهما ، فان الذين استجابوا له فحققوا الوحدة لم يستطيعوا المحافظة عليه فانفصلت سورية سنة 1961 " ..

أما بالنسبة للموقف الوحدوي الإقليمي فهو يتعلق بكل عمل وحدوي قائم على أساس المنطلقات والأساليب الإقليمية سواء بين أحزاب أو جبهات أو منظمات أو دول أو حتى التقاء ثورات إقليمية .. لكنها لا تعني بالضرورة انها مواقف ساعية دائما لتحقيق الوحدة ولو من منطلق إقليمي ، لأن فهمها يتوقف على معرفة مفهوم الوحدة الذي يقصده أصحابها من خلال ما يقومون به من نشاط سياسي وديبلوماسي عربي يسمونه "وحدوي" تحت لافتات وعناوين كثيرة منها : "التعاون بين الاشقاء" و "التضامن العربي" ، أو تحت عنوان : "العروبة" و "وحدة الصف العربي " .. وقد ورد فيها حديث طويل واضح ومفصل في عديد المراجع ، ذكرنا منها عينات كثيرة لا فائدة في تكرارها .. وسنكتفي هنا بإضافة تخص "الموقف العربي" الذي أشار اليه الدكتور عصمت سيف الدولة " ، وهو يتعلق بالمواقف السياسية للدول العربية حينما تضطر للدخول في لعبة "المصالح العربية" بوجه "عروبي" .. وهي مواقف تستحق الانتباه ، لأنها تبدو لدى البعض وفي بعض الحالات - وهي مصحوبة بخطاب ودعاية ذات مضامين قومية - كما لو كانت مواقف قومية .. وفي هذا تفصيل للدكتور عصمة سيف الدولة ورد بكتاب المنطلقات قال فيه : "كمقدمة لهذا نحب أن نفرق بين ما نسميه السياسة العربية والسياسة القومية . وهي تفرقة دقيقة ولكنها لازمة . فقد عرفنا من قبل أن "الأمة العربية وجود موضوعي" وأن وحدة المصير القومي تعني أن ثمة علاقة موضوعية بين كل المشكلات التي يطرحها الواقع القومي ... فإذا بكل دولة اقليمية تجد نفسها ، بعد محاولات الهرب من المشكلات القومية ، وتجاهل الوحدة الموضوعية بين تلك المشكلات ، وانكار السمة القومية حتى لمشكلاتها الخاصة ، تجد نفسها مضطرة إلى أن تشارك في معارك المصير العربي . أي يجرها ويجبرها الفشل في محاولة الافلات بمصيرها الخاص على دخول المعارك الدائرة حول المصير القومي الواحد . من هنا نجد أن لكل دولة اقليمية في الوطن العربي ” سياسة عربية ” . أي مجموعة من الاهداف والمخططات والقوى تشارك بها في الصراع القائم حول القضايا القومية  " ..... وبالتالي فان "السياسة العربية" هي  : "ذلك النشاط الذي تقوم به كل دولة في الوطن العربي مشاركة في القضايا التي تطرحها الأمة العربية ككل . وهي تدخل فيه بكل اجهزتها الدعائية أو السياسية أو العسكرية تبعاً لنوع الصراع وعلاقته المباشرة بكل دولة اقليمية على حدة . ويتميز بأنه نشاط مفروض على الدول الاقليمية تقوم به مكرهة لأنها غير قادرة على الوقوف من القضايا القومية موقفاً سلبياً بحكم الوحدة الموضوعية للمشكلات القومية . ونعرف هذا من انها لا تعد له من قبل . ولا تشارك فيه مبادرة ، بل تجد نفسها مشاركة فيه بعد أن تكون "قوى أخرى" قد فجرت الصراع ، فهي تقف منه دائماً موقفاً دفاعياً . ومع أن كل الدول الاقليمية ترفع على "سياستها العربية" شعارات قومية وتتخذ منها ذريعة للادعاء بأنها دول قومية إلا أن الطبيعة الاقليمية لتلك السياسة لا تلبث أن تفضح هذا الادعاء . مثال هذا ذاك الشعار المتفق عليه بين الدول الاقليمية تعبيراً عن موقفها "القومي" من قضية تحرير فلسطين والذي يقول : "ان مسؤولية تحرير فلسطين تقع على عاتق شعب فلسطين" . انه يعبر تعبيراً واضحاً عن الاقليمية المكرهة على المشاركة في معركة تحرير فلسطين الباحثة عن طريق للخروج منها في الوقت ذاته .  اذ عندما تستقر المسؤولية على عاتق شعب فلسطين تكون الدول الاقليمية قد القت عن عاتقها مسؤولية التحرير . على أي حال فإننا نستطيع ان نتعرف بسهولة على عنصر "الاضطرار" في السياسة العربية لكل دولة اقليمية من خلال معرفة الاهداف والمخططات والقوى التي تشارك بها في الصراع القائم حول القضايا القومية . فسنجد انها دائماً أهداف دفاعية تحاول بها الدولة الاقليمية حماية الوجود الاقليمي من مخاطر النضال القومي . وانها مخططات قائمة على تجنيب الدولة الاقليمية أكبر قدر من اعباء الصراع ومسؤولياته ولو بتوزيعها على باقي الدول الاقليمية . وانها قوى تابعة للدولة الاقليمية حتى لو كانت من غير رعاياها . ومن هنا يكون الخط الأساسي " للسياسة العربية " معالجة القضايا القومية على وجه يسمح للدولة الاقليمية بأن تتراجع الى المواقف التي تتفق مع طبيعتها .

اذن فليس كل نشاط عربي نشاطاً قومياً . وليست كل سياسة عربية سياسة قومية . ولا تتحول الدولة الاقليمية الى مؤسسة قومية لمجرد انها تشارك في القضايا القومية دعائياً أو سياسياً أو حتى عسكرياً . وعندما نتسلح بالنظرية القومية في مواجهة هذه المشاركة وتقييمها ، لا ننخدع فيها فلا نتوقع منها أكثر مما يتفق مع طبيعة الدول الاقليمية . ولا نتكل عليها فنتوقع من الدول الاقليمية ـ في أي وقت ـ أن تنكص وتتراجع . ويصح هذا بالنسبة الى كل الدول الاقليمية بدون استثناء" ..

نفس الموقف تقريبا نجده يتكرّر عند الدكتور عصمت سيف الدولة في حوار فكري مع الشيخ حسين فضل الله حول مفهومي "القومية" و"العروبة" (أكتوبر 1987 ) .. وللتفرقة بينهما ذكر فيهما أمثلة عديدة من الواقع قال في أحدها : "المثال الاكثر تأكيدا لضرورة الانتباه الى التفرقة  في المواقف والافكار بين العروبة  والقومية يتعلق بقضية فلسطين . فمنذ عام 1948 وجزء من ارض فلسطين قد اغتصبه الصهاينة عنوة . ومنذ 1967 اغتصبوا ما بقي من ارض فلسطين وزادوا عليها فاغتصبوا سيناء والمرتفعات السورية . ان كثيرا من "العروبيين" دافعوا عن فلسطين قبل ان تغتصب ارضا ، ويدافعون عنها الان سياسيا ودعائيا بل ونقول ان كل "ابناء العروبة" ـ ما عدا الخونة ـ يدافعون عن فلسطين . الا يقال انها قضية العرب المركزية ؟ بلى . اين الفارق اذن بين الدفاع عن فلسطين من موقف قومي ، والدفاع عنها من موقف عروبي ؟ .

الفارق ان العروبي يدافع عن فلسطين انحيازا الى "الفلسطينيين"  ضد الصهاينة ، او دفاعا ضد مخاطر التوسع الصهيوني  الى ارضه ، او تفاديا لسيطرة الصهاينة  اقتصاديا و ماليا على اقتصاده او ماله ، او انقاذا لبيت المقدس اولى القبلتين وثاني الحرمين ، او حتى تخلصا من عبئ  الانحياز الى الفلسطينيين  اللاجئين بتسكينهم جزءا من ارض فلسطين .. وطبيعي ان الاهداف النهائية لهؤلاء العروبيين  تختلف تبعا لاختلاف مواقفهم ،  فبعض العرب يقبلون الوجود الصهيوني في فلسطين ، وبعضهم يناضل من اجل تقسيم فلسطين مع الصهاينة ، وبعضهم يقبل ما يقبله العرب المطرودون من فلسطين ، وبعضهم يقبل مبادلة ارض فلسطين بالسلام مع الصهاينة .. كل هذه مواقف عروبية" ..

لكن الموقف العربي من الواقع بالنسبة للدكتور عصمت سيف الدولة حينما يعبر عن مضمونه الصحيح قد يأخذ بعده القومي في قراءة الواقع ولو من موقع سلبي لا يحمله على تغييره فيسميه في موضع أخر "الواقع من وجهة نظر عربية" وقد وردت هذه التسمية في دراسة بعنوان "هذه الدعوة الى الاعتراف المستحيل" قال فيها : "ليس لهذه الكلمات المهيبة :  المبدأ والاستراتيجية والتكتيك أي معنى إلا إذا كانت منسوبة الى واقع معين ، ومن حسن الحظ أن الواقع المعين في خصوصية فلسطين ليس محل خلاف بين العرب ، فلسطين الأرض اغتصبت وأخليت من الشعب العربي إلا قليل واستوطنها الصهاينة الغاصبون وأقاموا عليها دولة أسموها إسرائيل .. إن واقعها قريب الشبه بالواقع الأسترالي والأمريكي بعد إبادة البشر إلا قليل وإقامة مجتمعات ودول من المهاجرين عليها . ينحصر الفرق في أن الشعب العربي لم يُبد ولكنه يحيط بأرضه المغتصبة إحاطة كثيفة يريد استردادها ... هذا هو الواقع من وجهة نظر عربية" .. وهو موقف من "الواقع" قد يبدو قريبا في قراءته من قراءة "الواقع" من وجهة نظر قومية ، الا أنه غير مبدئي وبالتالي غير مستقر على موقف ثابت من القضية في بعدها الاستراتيجي وفي حل من أي التزامات في الواقع ، وهو بالتالي موقف واقعي لكنه اقليمي شأنه شأن كل المواقف الإقليمية من كل القضايا بما فيها قضية الوحدة التي يخصها بحديث خاص موجه للناصريين يبرز فيه الفرق بين العروبيين والقوميين في كتابه "عن الناصريين واليهم" يقول فيه : "أن الوحدويين ينقسمون إلى فريقين . فريق عروبي وفريق قومي . أما العروبيون فينطلقون إلى الوحدة من مجرد الانتماء الى الأمة العربية ويتخذون من هذا الانتماء حجة ” ميتافزيقية ” يصوغونها بقولهم إن الوحدة العربية حتمية تاريخية . وأرجو أن يتأمل كل الناصريين هذه المقولة . يتأملونها بهدوء وبدون عقد . فحين يقال إن الوحدة العربية حتمية تاريخية يلغي دور الإنسان ، فكأنها في يوم ما ستتحقق تلقائياً لمجرد انها دولة واحدة لأمة واحدة . وهو إعفاء للذات ، يصل إلى حد الهروب من متاعب الصراع الاجتماعي في سبيل تحقيق الوحدة ... لا يحتاج الأمر إلى مزيد من الإيضاح لنعرف ان صيغاً مثل الجامعة العربية والدفاع المشترك والوحدات الجزئية .. والتضامن العربي والأخوة العربية .. الخ كلها صيغ "عروبية" ولكنها ليست صيغاً قومية وحدوية بل إنها مطروحة كبدائل عن الوحدة .. وميزتها بالنسبة إلى أصحابها ان تحتفظ لهم بدولتهم وحكمهم وحكامهم ...

هذا فريق العروبيين ..

يبقى الفريق الثاني من الوحدويين . إنهم القوميون  .

والقوميون ينتمون إلى الأمة العربية مثلهم مثل العرب جميعاً . وهم وحدويون مثلهم مثل العروبيين . ولكنهم يختلفون جذرياً ، ويتميزون قطعياً ، عن كل هؤلاء . بأنهم يحولون الانتماء السلبي إلى الأمة العربية إلى حركة إيجابية لبناء المستقبل العربي ويلتزمون ما يفرضه عليهم الانتماء التاريخي من حدود في صنع التاريخ" .. وهو ما يعني – حسب عصمت سيف الدولة – أن صفة "العروبة" ستكون فارغة من أي مضمون طالما أنها لا تلزم "العروبيين" بأي فعل ايجابي في الواقع ، وهذا لن يتحقق الا اذا تحول "العروبيون" الحقيقيون الى ثوريين عرب يلتزمون بتحقيق أهداف عينية في الواقع العربي بأسلوبهم الثوري .. وهكذا فان الثورة حينما تتصل بالعروبة تضفي عليها بعدا قوميا واضحا ، وتمنح العروبيين الملتزمين بتحقيقها صفة قومية خالصة ، وهي مضامين لا تتحقق مجتمعة الا لهما معا ، تجعل الثورة ، ثورة قومية حقيقية شاملة من أجل الحرية والوحدة والاشتراكية ..

وفي الأخير فان الدول الإقليمية لا تختلف كثيرا من حيث الفشل في تحقيق الوحدة حتى ولو كانت تحت حكم القوميين ، وقد يكون الاختلاف الوحيد هو المتعلق بالدور الذي يمكن أن تلعبه الدولة الإقليمية في خدمة القضايا القومية .. وهذه الفكرة المتكرّرة في مراجع عديدة وجدناها في مرجع اخر يخصصه الدكتور بالكامل للحديث في هذا الموضوع من زاوية مغايرة ، تتعلق بالدور الذي يمكن أن تلعبه الدولة الإقليمية في محيطها العربي ، وقد ورد ذلك في كتابه " المحدّدات الموضوعية لدور مصر في الوطن العربي " ، وهو حديث طويل ومتشعب نكتفي بتلخيصه في الأدوار التالية : الدور الجغرافي الإقليمي وهو يتميز - في أفضل الحالات "اخلاصا ووطنية" - بانحياز القيادة السياسية في مواقفها من القضايا المطروحة ومنها القضايا القومية الى مصالح الدولة الإقليمية . ثم : الدور التاريخي القومي الذي يسمح للقيادات القومية حين تكون على رأس السلطة في الدولة الإقليمية بأن توظف بعض إمكانيات الدولة لخدمة القضايا القومية ، وهو دور لا يخلو من الازدواجية بين المد والجزر للدور القومي التاريخي والدور الإقليمي الجغرافي بحسب الظروف ويسمي في هذه الحالة عند الدكتور بالدور المزدوج ..

-11-

نصل الان في ما يهمنا من هذا التصنيف للمواقف ، الى موقفين أساسيين يخصان القوى القومية وهما : الموقف القومي (موقف القوى القومية ) ، والموقف من وجهة نظر قومية (الموقف القومي كما يجب أن يكون) .. والفكرة كلها من المحاضرة المعروفة بعنوان "المقاومة من وجهة نظر قومية " .. وقد جاء تعريف الموقفين في المرجع المذكور كما يلي : " المقاومة من وجهة نظر قومية تعني المقاومة كما يجب ان تكون . اما الموقف القومي من " المقاومة " فيعني موقف القوى القومية التقدمية (منظمة او غير منظمة) من المنظمات الاخرى المشتبكة في القتال ضد الغزو الصهيوني للأرض العربية . وهذا الموقف يتحدد بالموقف القومي من المعركة وقواها" ...

غير ان المشكل الذي يقوم في أول خطوة تتصل بالواقع هو في تحديد السبل الى الموقف القومي ذاته الذي ستتحدد من خلاله كل المواقف كما جاء في الفقرة السابقة .. اذ أن هذه المواقف القومية لا بد لها من مرجعية فكرية مبلورة وموحدة .. وهي معضلة – كما سنرى – تشهد تداخلا على عدة أبعاد ومستويات ، ولا يلبث هذا التداخل ان يُحدث خلطا كبيرا في المواقف لدى القوميين ، فيحصل الخلاف مع كل جديد ..

وهل هذا يعني أن القوميين أمام موقفين مختلفين أو أكثر لمواجهة الواقع ، وان كان الامر كذلك فما هي الظروف المحددة للتعامل بهذا الموقف أو بالآخر ؟

قبل الإجابة لا بد من الاجتهاد في فهم الأسباب .. وقد يكون من أهمها تعدد المرجعيات القومية وهو سبب كاف لحصول الاختلاف في قراءة الواقع وتعدد الحلول والمواقف التي يظهر فيها الخلاف .. غير أننا – ونحن نحاول فهم الأسس التي يقوم عليها الفرز عند الدكتور عصمت سيف الدولة – سنختصر الحديث في اطار هذه المرجعية ونحن واثقون بأن مثل هذا التخصيص لا ينتقص شيئا من فهمنا للمشكل في اطاره العام طالما أن المرجعية القومية لاداة الثورة العربية غير محسومة ، وما نقوله في هذه الخصوصية ينطبق على جميع المرجعيات ..  أما أهم الأسباب فهي :

- وجود المشروع القومي الجاهز والمبلور فكريا والمتمثل في مشروع الدكتور عصمت سيف الدولة ، والذي يلقى تجاوبا كبيرا لدى شرائح واسعة من القوميين .. مع تميّز هذا المشروع بخصوصيات فكرية لها صفة وسمة البناء النظري الحاسم التي تتطلب مجهودا جماعيا لبلورة المواقف القومية ذات الخصوصية الحركية المرنة والملائمة للواقع الظرفي المتغير .

- استحالة اعتماد هذا المشروع أو غيره كمرجعية نهائية ووحيدة لبلورة المواقف قبل وجود التنظيم صاحب الاختصاص الوحيد في تحديد الأسس الفكرية الجامعة للمشروع القومي المستقبلي .

- بروز ظاهرة "الشللية" وطغيان المواقف النظرية الفردية في غياب الاطار التنظيمي الجامع والحاسم للمواقف ..

- عدم التمييز في كثير من الأحيان بين الأهداف الاستراتيجية القومية كمحصلة نهائية للمقولات الفكرية الحاسمة والمحسومة نظريا في هذا المشروع (منهجا ومنطلقات وغايات واسلوبا) وبين والاستراتيجية القومية كتطبيق وفعل في الواقع لا يتحدد على مستوى الافراد .. ولا تقوم فيه الاستراتيجيات الفردية مقام المصادرة لأي تكتيك الا بالقدر الذي يتعارض مع الأهداف القومية ..

فلا بد اذن من استحضار كل هذه العناصر والاسباب المتداخلة عند كل حديث في المتغيرات لبناء الموقف السليم الذي يتلاءم مع ظروف المرحلة ، وهي مسألة على قدر كبير من الأهمية ، وحلها يلخصه الدكتور عصمت سيف الدولة بكل بساطة في جملة وحيدة نجدها تتكرر في كتاباته بعد كل حديث نظري وعند كل رجوع الى الواقع قائلا : " من الممكن الى ما يجب أن يكون " ..

انه يعني تقريبا وفي أغلب الحالات - ونحن في ظل غياب أداة الثورة العربية – أن التعامل مع الواقع سيكون قائما على أساس الموقف القومي للقوى القومية كما تسمح به ظروفها حتى وان كان لديها تصور للموقف كما يجب ان يكون من وجهة نظر قومية .. اذ أن هذا الموقف هو موقف التنظيم نفسه ، الذي يحمل اسمه دلالاته العميقة وخصائصه العملية كما وصفها الدكتور عصمت سيف الدولة في كتابه "حوار مع الشباب العربية" حين قال متحدثا عن أسباب عجز دولة الوحدة على مواجهة الانفصاليين وعلى رأسها غياب التنظيم حيث استطاعت قلة منظمة الانتصار على القاعدة الجماهيرية التي تضم الملايين ، وذلك : " لأن التنظيم ، تلك العلاقة التي تربط القائد بجنوده ، وتحدد لكل فصيل ساحة ، ولكل ساحة عملا ، ولكل عمل وقتا ، وتتابع النشاط في مواقعه ، وتبقي على قنوات الاتصال بين القواعد والقيادة بحيث تستطيع القيادة في أي يوم وفي أي ساعة أن تحدد بدأ المعارك وقواها ومداها وأهدافها في أي مكان .. ذلك التنظيم كان مفقودا " .. وعندما يتحقق هذا ، بانتهاء التعدد في مستوى القوى التي تمثل الوجود القومي ، ويصبح التنظيم القومي حقيقة ماثلة ، ستنتهي معه تلك الثنائية في المواقف ، أي ثنائية الموقف القومي والموقف من وجهة نظر قومية .. لتصبح كل المواقف التقدمية التي يتبناها مواقف قومية ممثلة لوجهة النظر القومية بالكامل ، دون تردّد ودون نقصان ودون ازدواجية ، بحيث يكون موقف التنظيم هو الموقف القومي ذاته ، أي كما يجب أن يكون وفقا لإستراتيجيته القومية وتخطيطه وتكتيكه الذي يتحكم في حركة الأفراد تبعا لظروفهم في كل موقع وفي كل وقت بناء على مرجعيته الفكرية التي حددها .. وهذا ما وجدناه فعلا في نظرية الثورة العربية حينما قام الدكتور عصمت سيف الدولة في كتاب الغايات بصياغة الموقف من مشكلة فلسطين تحت عنوان "الموقف القومي" لانه يمثل موقف التنظيم ذاته عند قيامه ، فهو الموقف النهائي السليم لكل من يؤمن بالمشروع القومي العربي ومستقبله بشكل خاص .. أما من حيث انسجام المواقف مع طبيعة الحركات القومية بشكل عام ، فان خروجها عن حدود المصلحة القومية - ولو بعد تحقيقها للوحدة - بجنوحها للاستغلال أو بعدوانها على الشعوب الأخرى ، يخرجها موضوعيا من طبيعتها القومية حتى وان كانت تدعي ذلك .. وفي هذا تفصيل وجدناه في كتاب المنطلقات حين تحدث الدكتور عصمت سيف الدولة عن مواقف الحركة القومية الأوروبية بعد تحقيق الوحدة القومية ، حيث خرجت تلك الحركات الرأسمالية بمواقفها الرجعية عن الموقف القومي في مرحلة أولى ، ثم أصبحت لا قومية بتحولها الى حركات استعمارية في مرحلة ثانية ، وصارت مواقف الشعوب وحدها المناهضة للاستعمار في تلك الأمم ممثلة للموقف القومي ، وقد جاء فيه : "إنما الذي نريد أن نطرحه هو السؤال الآتي : في أية مرحلة وإلى أي مدى كانت تلك الحركات التي أقامت الدول القومية الموحدة ثم تجاوزتها الى الاستغلال الرأسمالي ، الى أي مدى وفي أية مرحلة كانت قومية ؟ لا شك في أنها كانت حركات قومية في مرحلة ما قبل الوحدة والى أن تمت الوحدة . فقد كانت تلتزم الرابطة القومية التي تنفي التجزئة ، ولكنها بمجرد أن حققت الوحدة انقسمت قوى متصارعة : الرأسماليون من ناحية يريدون مصالحهم الخاصة ، وهو موقف مناقض لوحدة المصير القومي ، والشعب من ناحية يريد ان يحقق من التقدم ما تتيحه له الرابطة القومية ، وذلك موقف قومي . ثم لما ان تجاوز الرأسماليون استغلال شعوبهم ذاتها واتخذوا من الحروب العدوانية سبيلاً الى قهر الشعوب الأخرى واستغلالها ، كانوا أبعد ما كانوا عن القومية . القومية كما نعرفها ونفهمها .. وحتى كما فهمها الليبراليون (الرأسماليون) لم يكن تجاوز الوحدة القومية الى الاستغلال والاستعمار حركة قومية " .. 

وهكذا ، قياسا على الموقف من المقاومة ، وفي كل المراحل – ونحن نتحدث في اطار هذه المرجعية الفكرية -  يمكن صياغة عدد لا حصر له من المواقف تجاه القضايا المطروحة في الواقع العربي ..الا أنه يكون من اللازم والمفيد  بالنسبة للقوى القومية - في هذه المرحلة تحديدا - أن تكون قادرة على التمييز بين الموقفين : "الموقف القومي" و "الموقف من وجهة نظر قومية" بكل ما يتميز به هذا أو ذاك من خصائص استراتيجية وتكتيكية .. وبما يصلهما من علاقات خاصة بالمشروع القومي بجزأيه : الجزء النظري الحاسم في تحديد أهدافه اللازمة لتحقيق الوحدة الفكرية بين أصحاب المشروع ، والجزء العملي المرن بما يتماشى والظروف الذاتية والموضوعية المتغيرة ، في مسيرة طويلة محفوفة بالمخاطر والصعوبات ، يسهل فيها تحديد النظري في شكله النهائي الحاسم ، ويصعب أحيانا ، ويستحيل أحيانا أخرى تحديد الاشكال العملية لأي خطوات لاحقة في غير وقتها وظروفها ، ومن غير تدخل أصحابها المعنيين أولا وأخيرا لتغيير ما يجب تغييره في المستقبل ، وهم غائبون .. مع ملاحظة مهمة اننا نميز ولا نخلط - حينما نتحدث عن الحسم النظري -  بين المشروع الفكري الجاهز للدكتور عصمت سيف الدولة ، وبين المشروع الفكري للطليعة العربية الذي لا يجهز ولا يحسم نهائيا الا بوجودها ، وهذا من عنده كما بينا سابقا وليس من عندنا .. وهي معضلة اخرى وسبب اضافي لاستمرار الخلاف ..

الى هذا الحد ، وفي اطار هذه الحدود ، فان المشكل الرئيسي - كما نعتقد - يكون قائما بالأساس على الخلط بين هذين المفهومين ، أحدهما مرتكز على الجانب الفكري والأخر على الجانب العملي في الواقع .. أي المشروع النظري والمشروع الثوري للمشروع القومي (الفكر والممارسة) ان صح التعبير .. أو بمعنى أدق بين الأهداف الاستراتيجية والاستراتيجية ..

كيف ؟

من المعروف ان الدّين به المحكم والمتشابه لان الواقع متغير ومتطور ، لكن شرائح واسعة من القوميين المتحمسين لمشروع الدكتور عصمت سيف الدولة ، يريدون ان تكون كل القضايا محكمة  اي من الثوابت ، فيغرق الكثيرون في المتشابهات ويبنون عليها صرحا من الافكار والمواقف والتجاذبات فيتحول اغلبها الى مهاترات وخلافات لا يستفيد منها سوى اعداء المشروع القومي ... والسبب كما يبدو في علاقة مباشرة بالخلط بين هذين المفهومين المتداخلين : الفكر القومي كمشروع نظري ، والممارسة الثورية كمشروع عملي ، وكل خلط تتبعه اخطاء في التأويل ، لعل اخطرها على الاطلاق الخطأ في تأويل الاستراتيجية .. حيث تتحول الاهداف الاستراتيجية الى استراتيجيا عملية بدون قيد من الزمان والظروف وهو غير صحيح ..

فالاستراتيجية النظرية واحدة ، محسومة ، وجاهزة عند الدكتور عصمت سيف الدولة بمنطلقاتها وغاياتها واسلوبها ، اما الاستراتيجية العملية فهي استراتيجيات غائبة مؤجلة حتى قيام التنظيم صاحب الحق الوحيد في تحديدها ..

فمن ناحية النظري والعملي نجد الدكتور عصمت سيف الدولة يشير الى هذه الثنائية بكل وضوح خلال حديثه عن علاقة القومية بالتقدمية في "المقاومة من وجهة نظر قومية" وقد جاء فيها وصف دقيق لخصائص الحركة القومية الثورية يربط فيها منطلقاتها بالفكر وحركتها بالاستراتيجية كما هو واضح في اخر جملة من هذه الفقرة : "عند هذا الحد ، حد اكتشاف المضمون التقدمي للقومية تصبح النظرية القومية ذات المضمون الاشتراكي عقيدة (ايديولوجيا) كافية لتقييم الواقع العربي وتحديد استراتيجية تغييره ، وتعبئة قواه وقيادة المعارك فيه وتحقيق النصر لجماهيره . أي تكون كافية للتحول الى حركة قومية ثورية ذات منطلقات فكرية واستراتيجية حركية " .

ثم بعد هذا التصنيف يزيد في التوضيح ، فيقسّم - أولا - المضامين الفكرية الى مضامين سلبية وأخرى إيجابية قائلا : "أما المنطلقات الفكرية فيمكن تلخيصها في جانبيها السلبي والايجابي في أمرين ".. ويربط الجانب السلبي بمشاكل الواقع العربي المتخلف ، والايجابي بالأهداف القومية .. ثم يقسّم - ثانيا - الاستراتيجية الى استراتيجيات فيقول : "وأما عن الاستراتيجية فهي على اساس تلك المنطلقات الفكرية . تبدأ بالواقع وتنتهي الى غايتها العظيمة " اقامة دولة الوحدة الاشتراكية والديمقراطية " . وبدءا بالواقع العربي يمكن تقسيم استراتيجية الحركة العربية التقدمية الى خمس مراحل" .. وهي المراحل التي يمكن أن يمر بها النضال القومي من واقع التجزئة والاحتلال والتخلف الى غاية تحقيق كل الأهداف القومية ، فهي خمس مراحل متتالية في الزمان ومتباينة في الأهداف ، وقد تشهد تداخلا حينما تتفاوت النتائج المتحققة من مرحلة الى أخرى ومن قطر الى اخر على المستوى القومي ، وهي على التوالي : "مرحلة الاعداد الفكري والبشري ، ومرحلة اقامة الاداة ، ومرحلة الثورة ، ومرحلة اقامة دولة الوحدة النواة ، ثم مرحلة ارساء دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية" ..

ومن هذه النواحي يفترض ان يقع التمييز بين المشروعين على اساس خصائص كل منهما . فاحدهما ثابت نسبيا والاخر متغير ومغير لما هو ثابت في المشروع النظري بما يتحقق عمليا من الأهداف الاستراتيجية للمشروع القومي . اذ لا أحد يطلب الوحدة غاية بعد تحقيقها ، أو تحرير فلسطين بعد تحريرها .. ومن خصائص المشروعين نجد :

-  المشروع النظري الحاسم المتعلق بالمنطلقات والغايات والاسلوب كمحددات فكرية موضوعية لمشكلات قائمة ومطروحة في الواقع : الاحتلال والتجزئة والتخلف ، من اجل تحقيق اهداف النضال العربي : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية  ..

وهو نظري بمعنى انه يقوم على مقاربات متداخلة فلسفية وعلمية وتاريخية وغيرها .. تنتهي بصياغة جملة من التعريفات والمفاهيم تكاد ان تكون الواحدة منها نظرية خاصة في المنهج وفي الامة والقومية والحرية والديمقراطية والاشتراكية والاخلاق وغيرها من الفروع .. وهو حاسم بمعنى ان كل المفاهيم الواردة فيه محددة بمنهجية علمية تقطع مع الافكار المثالية والميتافزيقية لتتحول الى ثوابت فكرية (عقيدة قومية) وضوابط  لازمة لتحديد الاهداف الاستراتيجية الكبرى التي تقود المسيرة النضالية نحو الغايات النهائية المرجوّة ، ولكنه متطوّر وقابل للانماء والاضافة في الوقت ذاته مع الواقع المتغير والمفتوح دائما على التغيير وفقا لمنهجه الذي يتميز بخصوصية الجدل داخل الانسان نفسه بين ضدين متصارعين باستمرار (الماضي متمثلا في الظروف والمستقبل متمثلا في الحاجات المتجددة) لإحداث التغيير والتطور الذي يطمح اليه الانسان .. ويقول الدكتور عصمت سيف الدولة في هذا الجانب مؤكدا فكرة النمو الفكري في حوار عن الناصرية مع جريدة القبس عدد 5522 بتاريخ 27 – 9 – 1987 ردا على سؤال "هل تشكل الناصرية نظرية متكاملة " ؟.. فأجاب قائلا : "أنا أعترض عن السؤال ، اذ لا يوجد في تاريخ البشرية نظرية متكاملة ، بمعنى أنها بلغت منتهاها ، وغير قابلة للنمو والتطوّر ، والدليل : الليبرالية والماركسية ، وظهور الكثير من النظريات كل يوم .

واذا قلنا أن النظرية الناصرية في بداية نشأتها ، باعتبار أن بذرتها الجنينية هي الميثاق ، وتربتها هي التجربة التاريخية لعبد الناصر ، فسوف تنمو من خلال حركة نضالية تضيف كل يوم جديد ، ولن تكتمل في جيل أو جيلين ، لأن النظريات غير قابلة للاكتمال النهائي" .. ثم يضيف معرجا على المنهج وأهميته في تطوير النظريات وضبطها خلال البعد الرابع ، الزمان ، الذي يمثل حجر الزاوية في تتالي حركات الجدل كما هو معروف في الأسس التي يقوم عليها منهجه .. فقال : "وبطبيعة الحال ، لا توجد كل الضوابط في النظرية الناصرية ، لأن ما سوف تسفر عنه الحركة الاجتماعية في المستقبل لا يمكن التنبؤ بها الان .

واذا لم يستنبط الناصريون قواعد عموم التجربة ، فسوف يظلون بدون منهج ، لأن الذي ينقص التجربة الناصرية : هو المنهج ، لأنه السلاح الموحّد لحركة الجماهير المنظمة .

فالمنهج نعمل على أساسه النظرية ، والنظرية نعمل على أساسها استراتيجية ، والاستراتيجية نعمل على أساسها التكتيك . ويوم أن يتوه منا التكتيك نعود للمنهج .

والمشكلة الجوهرية في نظريات المنهج كلها هي في حركة التطوّر ، في التأثير المتبادل بين الأشياء وبين الناس ، ما هو العنصر الذي يلعب الدور الأساسي ويقود العملية كلها . في الليبرالية : الفكر . وفي الماركسية : المادة . وعبد الناصر قال : "الانسان هو الأول والأخير" . وقد اختار هنا العنصر الثالث ، في أن الانسان يقود الأشياء وليست الأشياء هي التي تقود الانسان" ..

 وقد وردت كل التفاصيل لهذا المشروع الفكري في اجتهادات الدكتور عصمت سيف الدولة الذي توصل فيها الى ضبط المشكلات والحلول والأهداف الاستراتيجية بمنهجية واضحة : " المشكلة ، الحل ، العمل " في جميع القضايا المطروحة في الوطن العربي ، وهي افكار قديمة جديدة اغلبها قد انضجتها التجارب القومية الى ان صارت شعارات ومواقف معروفة ومتداولة حتى قبل ان تظهر كتابات المرحوم عصمت سيف الدولة  ...

- والمشروع العملي الشامل والنسبي الذي يلتقي فيه الثوريون العرب على مهمات نضالية تمتد وتقصر زمنيا حسب امكانياتهم الذاتية لإنجاز ما يجب انجازه في النهاية : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية  ..

وهو عملي بمعنى ان حركته النضالية تجري في واقع متحرك يضع المقولات النظرية واصحابها تحت الاختبار لمدة طويلة ، فلا تستمر المواقف والتحالفات على حالها  حتى تحقيق الاهداف النظرية كافة .. ونسبي بمعنى انه يواجه كل يوم متغيرات جديدة تقتضي تفاعلا على نطاق واسع مصحوبا باجتهادات ومواقف جديدة غير حاسمة بسب طبيعتها المرحلية ، وبسبب الاختلاف الموضوعي للمقدرة الجدلية للأفراد خصوصا في حالة التشتت التنظيمي .. وشامل بمعنى انه يشمل كل المراحل النضالية التي تعترض سبيل الحركة القومية خلال حركتها وهي تتفاعل مع واقها كما هو من اجل تغييره ، حيث تبدو كل مشكلة في الوطن العربي تحمل الشيء ونقيضه .. حتى الحركة القومية بتناقضاتها الخاصة : قومية - اقليمية .. قومية المنطلقات والغايات ، إقليمية الأساليب والحركة : احزابها اقليمية ، جمعياتها اقليمية ، تنظيماتها  الطلابية اقليمية ، وافرادها المستقلون اقليميون ، فلا يكاد واحد منهم ان ينجو - على مستوى الحركة - من صفة الاقليمية .. وهكذا ، تثور المشكلة  .. وتتفرع الى مشكلات فرعية ، فيتواصل العمل على حلها حسب الأولويات والامكانيات المتاحة .. وهذا الواقع عبّر عنه الدكتور عصمت سيف الدولة في فقرة من محاضرته بجامعة القاهرة بعنوان "تنظيم قومي من أجل الوحدة الاشتراكية" عام 1981 قال فيها : " كل قومي الانتماء هو في الوقت ذاته إقليمي الهوية . في هذا الواقع ، لا يوجد شعب قومي مفرز ، كما لا توجد أرض قومية خالصة . ولا يوجد شخص قومي متحرر تماماً من هويته الإقليمية ، بما تتضمنه تلك الهوية من قيود ، وحدود لا تتفق مع انتمائه القومي .  في هذا الواقع العربي الذي نعيشه تختلط القومية ، بالإقليمية اختلاطاً يفرض على الإقليميين أن يخوضوا معارك قومية ويسمح للمؤسسات الإقليمية بان تمد نشاطها إلى خارج إقليمها ، ويسمح للفكر الإقليمي بأن يندس في الفكر القومي ، أو أن يرفع شعاراته " .

ففي الوقت الذي يحاول فيه القوميون التأكيد على الخطاب القومي والثبات على المواقف القومية في كل قضية يشهدها واقعهم ، يحاصرهم الواقع الاقليمي ليجعل حركتهم الاقليمية عاجزة فيختلفون .. ثم لا يستطيعون - وهم يديرون معاركهم على المستوى النظري العام - ان يحسموا خلافات يتميز فيها الاجتهاد بخصوصية كل معركة من المعارك المتعددة التي يمكن ان تواجههم على المدى الاستراتيجي في ساحت وظروف ذاتية وموضوعية تختلف من مرحلة الى اخرى .. اي ان ما يميز المراحل النضالية في هذا المشروع هو تبدل وتغير المواقف التكتيكية والتحالفات بتغير محاورها النضالية وقواها المتصارعة وامكانياتها ..  ولا يتغير خلالها المعيار المحدد لتلك المواقف وهو المعيار القومي الاستراتيجي المحكوم دائما بالثوابت والعقيدة القومية  .. فلا يتعارض ولا يتناقض معه ، ولكنه يتغير تكتيكيا مع مواقف ومواقع القوى النشيطة على الساحة قربا او بعدا من الاهداف المرحلية والاستراتيجية للمشروع القومي في كل مرحلة من مراحله دون ان تحل الاستراتيجية محل التكتيك .. وهي مشكلة قائمة بالفعل لا تستوي وضوحا في اذهان القوميين ، فلا يتخذون منها نفس المواقف ويحصل الاختلاف  ..

ففي حين يفترض ان يتم الحكم على المواقف في الداخل قياسا الى الاهداف الاستراتيجية ، يكون من الانسب الحكم على مواقف الاخرين قياسا الى الاهداف المرحلية ، حيث يمكن ان تدخل وتخرج اطراف متعدة من دائرة التحالفات بانتهاء المهمات المرحلية ، بينما تستمر العلاقة بين القوميين حتى النهاية ، بكل مواقفهم المتنوعة من المشاكل الظرفية وبكل تفرعاتها الثانوية ، الى غاية بناء أداة الثورة العربية التي تحسم داخلها كل الخلافات المتعلقة بالمتغيرات  ..

وهكذا يكون المشروع النظري مشروع وحدة فكرية هدفها تحقيق الوحدة التنظيمية بما تهيئه من ارضية سليمة لخدمة القضايا الرئيسية على مستوى فهم المشكلات في بعدها القومي وعلى مستوى ايجاد الحلول المناسبة لها خلال كل مرحلة من مراحل النضال العربي .. فهو مشروع قائم على اساس فكري ايديولوجي دقيق ومفصل لكل النواحي الفكرية في اطارها المبدئي الحاسم في كل ما يتعلق بوحدة الوجود القومي ، وبحرية الوطن والمواطن ، وبعلاقة الكل بالأجزاء ، وباستغلال الثروات .. وبالمكون الحضاري للامة العربية وعلاقاتها التاريخية والمستقبلية بمن حولها ... فهو النقيض - على المستوى الفكري - من المشاريع الفكرية الاقليمية والاخوانية واليمينية بشكل عام .. وهو في النهاية مشروع منجز من ناحية البنية الفكرية ، ومتحقق ولو على مستوى الافراد الذين اقتنعوا بمضامينه قبل أن يصبح قناعة للتنظيم القومي ، لكنه يبقى مجرد ترف فكري لا يغير شيئا من الواقع طالما انه لم يتحول الى حركة منظمة وتخطيط محكم  لمشروع واضح ، فلا يوظف توظيفا سليما حسب متطلبات كل مرحلة وكل معركة من معارك النضال القومي .. وهو اذن على هذا المستوى وحده لا  يتجاوز - على اهميته وضرورته - الجانب السلبي في الموضوع  ..

بينما المشروع الثوري كمشروع للمستقبل هو مشروع عملي نضالي يحوّل تلك الافكار والمقولات والمبادئ والنظريات والدروس المستفادة  الى واقع حي حينما يلتحم من خلاله الثوريون العرب في اداة نضالية واحدة هدفها تفجير الثورة العربية لتحقيق تلك المبادئ في الواقع المعاش خلال مسيرة نضالية طويلة لا تستمر فيها الادوار والمهمات والمواقف والتحالفات على وتيرة واحدة في كل مرحلة من مراحل النضال ، ولن تكتمل اهدافها ببناء دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية قبل ان يكون القوميون العرب قد تحولوا الى قوة ضاربة منظمة .. فهو النقيض على مستوى الممارسة والفعل من المشاريع الرجعية الصهيونية الإمبريالية في الوطن العربي .. وعلى هذا الوجه يمثل المشروع القومي في بعده الحركي الجانب الايجابي في هذا الموضوع من حيث انه لا يتوقف عند المقولات النظرية المبلورة فحسب بل يتجاوزها الى مستوى الفعل الذي يسهم في تغيير الواقع من جهة ، وفي تطوير المقولات النظرية وتحيينها وتخليصها من الجمود وتطويعها عن طريق الممارسة النضالية من جهة ثانية حتى تكون قادرة فعلا على الاسهام في تحقيق هذا المشروع الحضاري المستقبلي بنجاح .. 

من هنا نفهم تكامل المشروع الفكري مع المشروع العملي ولا نخلط بين المضامين والخصائص المميزة لكل منهما عند الاحتكام الى الضوابط الفكرية والمنهجية لتحديد الاهداف الاستراتيجية للمشروع القومي وعند الحكم على المواقف التكتيكية خلال الممارسة من خلال التمييز المهم بين الأهداف الاستراتيجية والتخطيط الاستراتيجي ، فأحدهما نظري والثاني عملي .. وكلاهما غير محسوم نهائيا بالنسبة للتنظيم القومي حتى ونظرية الثورة العربية موجودة ، لأن التنظيم غير موجود .. ولكن التمييز غير الفصل ، لان المشروع القومي المستقبلي واحد ، فكرا وممارسة   ..

في الجانب الفكري العقائدي تحوّل المشروع النظري على يد المفكر القومي عصمت سيف الدولة الى سلاح نظري فعال بيد القوميين يستطيعون من خلاله حسم كل المعارك الفكرية ذات الصلة بمستقبل الحياة في الوطن العربي ، فكان الهدف الاساسي من وراء هذا المشروع اختصار الطريق للمستقبل ، فهو مشروع وحدة فكرية نضالية لبناء دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية .. وفي هذا الاطار قدم الاجابات الحاسمة لكل الاسئلة المطروحة على الساحة الفكرية في اطار بنية مفاهيمية موحدة مبنية على اساس واحد " منهج جدل الانسان " . لذلك يصعب على من لا يعرف المنهج الذي استعمله في كل اجتهاداته ، ان يفهم مشروعه سواء على مستوى الفكر او الممارسة  ..

وفي اطار هذا المشروع النظري الايديولوجي تتنزل كل المقولات الفكرية الواردة في نظرية الثورة العربية وتتبلور كل المواقف الحاسمة من القضايا الاساسية لمشكلات الحياة في الوطن العربي بالنسبة لمن يسلم بها ، بحيث تكون المواقف النهائية واضحة فيما يتعلق بالعديد من الثنائيات : الاحتلال والتحرر ، الاستغلال والاشتراكية ، التجزئة والوحدة ، الاستبداد والديمقراطية ، الرجعية والتقدمية الخ ... اي ان متطلبات صياغة الاسس النظرية تقتضي تقديم مواقف حاسمة من جملة هذه القضايا على المستوى النظري ، بحيث يكون القوميون دائما وحتى النهاية مع وحدة الوجود القومي وضد اي محاولة للرجوع بالمجتمع القومي الى المراحل السابقة على تكوينه ، اي ضد التجزئة الحالية والمواقف الاقليمية وضد اي مشروع يجزئ المجزأ ليعود بالوجود القومي الى المراحل السابقة  كالطائفية والقبلية والشعوبية .. وهم مع الحرية  والتحرير والمقاومة وضد الاستسلام والتسوية وضد القبول باي مشروع احتلالي قائم او بصدد التخطيط للتوسع او الاقدام على احتلال جديد على اي شبر من الارض العربية .. وهم ايضا وعلى الدوام مع التكامل والتقارب والوحدة وضد  التجزئة والاقليمية فكرا وممارسة حتى تتحقق الوحدة الشاملة وتزول الدويلات الاقليمية المصطنعة .. كما انهم مع الديمقراطية الشعبية والاشتراكية وضد الاستبداد والقهر المادي والمعنوي حتى يتحرر المواطن العربي نهائيا من كل القيود في دولة قومية مدنية اشتراكية ديمقراطية ، بقطع النظر عن الانظمة القطرية القائمة ، سواء كانت رجعية او تقدمية ، اقليمية او قومية ، اشتراكية او رأسمالية طالما انها لا تخطو خطوة نحو الغايات القومية الاستراتيجية ، ولا تختلف طريقة التعامل معها الا في أسلوب تحقيق الغاية (تغيير ثوري حيث الاستبداد وسلمي ديمقراطي حيث الديمقراطية) .. فهي مواقف عامة مبدئية ثابتة من خصائص الموقف من وجهة نظر قومية كما يجب ان يكون  ..

اما في الجانب العملي من المشروع ، فان الدكتور عصمت سيف الدولة لم يدخل في اي تفاصيل خاصة بالمهمات الاستراتيجية وما يمكن ان يتفرع عنها من خطط تكتيكية للحركة القومية لأنه ببساطة مشروع تغيير تجري احداثه في الواقع الاقليمي والدولي يتطلب اداة ثورية تكون في تفاعل مباشر مع الاحداث ، وفي مواجهة ميدانية لا يمكن توقعها . وكلها مهمات يعود فيها الاختصاص للتنظيم ، مجالاتها خلافية  مفتوحة على الاجتهاد والحسم عن طريق الجدل والحوار داخل الاطر الديمقراطية لصياغة المواقف من القضايا المطروحة كما تقتضيه طبيعة كل مرحلة .. فلا يخضع فيها نصيب كل واحد من الخطأ او من الصواب سوى لمعيار واحد : المقدرة الجدلية لكل فرد . فلا يستهان فيها برأي او بموقف مهما كانت قيمته بالنسبة للآخرين ، ولا يفترق فيها القوميون الصادقون مهما اختلفت آراؤهم طالما لم يحيدوا عن الثوابت القومية  ..غير ان الواقع غير هذا .. ولا سبيل أمام هؤلاء الصادقين سوى العمل على محورين : تغيير ما يمكن تغييره في الواقع العربي لصالح الجماهير ، والعمل من أي موقع على توفير الظروف الملائمة لبناء أداة الثورة العربية المفقودة .. وتلك من أهم أهداف الفرز المطلوب ، وسبيله الممكن الوحيد أن تكون شروطه في حدود الولاء القومي والالتزام بالعقيدة القومية .. اما قبل ذلك ، فان الممارسة تظل محكومة بالمرونة من خلال التعامل مع الواقع بما هو متاح : الموقف القومي التقدمي الجدلي الاجتهادي الحركي الملائم للظروف الذاتية والموضوعية  ، ومحكومة أيضا بالتنسيب فلا يصح فيها حكم الافراد على مواقف الافراد في الوقت الذي تفتقد فيه الساحة القومية الطرف الوحيد المخول له الحكم واتخاذ القرار ..  وهذا ما وجدناه عند الدكتور عصمت سيف الدولة وهو يتعامل بمرونة تامة مع القضايا المطروحة ، فلا يتحرج من تبني مواقف دون الموقف الحاسم من وجهة نظر قومية  في العديد من المناسبات ..

قد تبدو المسالة محسومة بالنسبة للعديد من القوميين ، لكنها ليست كذلك بالنسبة للبعض الاخر  وهم يشدّدون ويؤكدون على فرز الصفوف بناء على مواقف متذبذبة من احداث جارية ومتغيرة ، والمشكلة دائما في علاقة بين الفكر والممارسة .. اذ ان الفرز الداخلي ، لا يتم على اساس المتغيرات الظرفية والتأويلات المتعلقة بفروع كل مشكلة ، بل بمدى الالتزام بالثوابت المتعلقة بالخيارات الكبرى للمشروع القومي ككل .. اي لا يكون على اساس الاجتهاد في صياغة مواقف متعلقة بالمشكلات الظرفية ، بل على اساس قرب المواقف او بعدها عن الاهداف الاستراتيجية في جانب او اكثر من جوانبها حسب نوع المشكلات ، قومية او قطرية ، أي باختصار على أساس العقيدة القومية .. وهكذا يصبح الهدف من الفرز واضحا في المراحل التي تسبق التنظيم وهي فرز الكوادر النوعية لغاية التأسيس لا اكثر ولا ابعد من ذلك .. وما على الذين يلزمون انفسهم بهذه المهمة الا ان يمارسوا قناعاتهم دون صخب وافتعال حروب كلامية مدمرة ومنفرة للعام والخاص مع إضافة واحدة نأخذها من الدكتور عصمت سيف الدولة حتى نعطي هذا الجانب حقه : النقد البناء عند الخروج عن المنطلق القومي .. فبعد أن حدّد في "المقاومة من وجهة نظر قومية" آليات التعامل مع المنظمات الإقليمية المقاومة والدول التي تواجه إسرائيل (من حيث الدعم والتأييد ، وإعطاء الأولوية للمعركة تجنبا للصراع الذي لا يفيد الا الأعداء ..) نجده يؤكد على أمرين قائلا : " (1) دعم المقاومة ككل في مواجهة القوى المعادية وحمايتها ، من محاولات الاضعاف او التصفية والوقوف معها ضد اي قيود تفرضها عليها الدول العربية  .. (2) نقد المقاومة في خصوصية "الاقليمية" عن طريق التركيز على ما تسلبه تلك الاقليمية  (فكرا ، وصيغة ، وعلاقات) من اضعاف لمقدرتها على النصر"  .. علما ان كل هذه الأطراف المعنية اقليمية ، وبالتالي يفترض أن يكون النقد الداخلي على درجة من الحذر والتفهم والمودة أكبر بكثير من النقد الخارجي ..

اما اذا كان الفرز على مستوى المجتمع ككل فهو يتم بين التقدميين والرجعيين بحسب المحاور النضالية المطروحة في كل ساحة من الساحات وبحسب الملابسات التي تحف بكل مشكلة وانعكاساتها على مستقبل الصراع وتأثيرها على الاهداف الاستراتيجية ، فتأخذ التأويلات والاولويات مكانها في الجدل .. وقد يكون الفرز احيانا شاملا فئات مختلفة من القوى السياسية سواء من الانظمة او من صف المقاومة او من الاحزاب والسياسيين والاعلاميين وغيرهم تبعا لمواقفهم ولمتطلبات كل مرحلة اي قياسا على الاهداف المرحلية ، كأن يكون الفرز احيانا بين التحرريين والمستبدين ، وبين انصار الوحدة والاقليميين ، وبين انصار المقاومة والمستسلمين ، وبين الاشتراكيين والرأسماليين المستغلين ، وبين العملاء والوطنيين .. الى غير ذلك  من المعارك التي يمكن ان تؤدي الى الاشتباك بين اطراف هذه الصراعات في كل مرحلة من مراحلها ، وكلها مراحل مهمة من مراحل الثورة العربية والمشروع القومي ككل وبالخصوص قبل امتلاك الآداة القومية ..  وكل هذا من اجل رص الصفوف المقاومة – اي مقاومة – لهزيمة المشروع الرجعي الصهيوني  الامبريالي في الوطن العربي ، في الاقطار ، وفي المدن والارياف وفي الجامعات وفي النقابات ، وفي الخارج وفي كل مكان ، وفاء بالمسؤولية القومية .. اي بمعنى اخر ان كل ما يثار خارج هذا السياق من معارك جانبية لا يستفيد منها سوى اعداء المشروع القومي ، وتلك من صفات المناضل الرديء الذي قال عنه الدكتور عصمت سيف الدولة في بيان طارق :  " أن بعض الشباب العربي الذين تمرسوا بالنضال ، وتوافرت لهم مقدرة خاصة عليه ، يبدأون التفكير في النضال العربي من أنفسهم مفترضين فرضاً غير صحيح هو أن كل الشباب يجب أن يكونوا مثلهم . و ينقلب الأمر بهم إلى اتجاه عقيم ، إلى اتهام الناس جميعهم ، والاستعلاء على الجماهير العربية ، والمن عليها بما قدموا ، من قبل أن يصبحوا من أردأ أنواع المناضلين . لا لأنهم غير قادرين على النضال الثوري ، بل لأن العمل الجماعي لا ينبني على الأساس الجماهيري إلا حيث يكون العمل الجماعي هو الصيغة العلمية للنضال الثوري . والعمل الجماعي لا ينبني على أساس التفوق الفردي بل هو منوط بمدى ما يتوافر في التنظيم من انضباط ، ومدى تعود المناضلين على إسقاط نوازعهم الشخصية ، واستعدادهم لقبول رأي الأكثرية ، ولو خالف رأيهم ..

... وأهمية هذا هنا ألا نتناول معالجة العقبات التي تقف في سبيل مولد الطليعة العربية بمنطق المناضل الرديء . وهذا يقتضي أن تكون المعالجة ، معالجة موضوعية على ضوء الاستعداد التام ، والصبر على المعالجة ، وعدم الخضوع لاستفزاز الأحداث فلا نتسرع ، وعدم الخضوع للطموح فلا نندفع ، وعدم السقوط في هاوية "الولاء الشخصي" أو الإقليمي ، فننسى أن نعالج عقبات تقف في طريق الأمة العربية "..

-12-

والدليل على هذا كله ، أننا نجد في مواقف الدكتور عصمت سيف الدولة مواقف جازمة حازمة ، ومواقف مرنة .. 

من النوع الأول نذكر موقفه الرافض للانخراط في الأحزاب الإقليمية ، والرافض أيضا للمبادرة بإنشاء التنظيم القومي استنادا منه على الموقف المبدئي من وجهة نظر قومية وهو في موقع المفكر والداعية الذي لا يستطيع أن يناقض دعوته . ومثل هذه المواقف قام بتوضيحها في الرسالة آنفة الذكر ردا على سؤال ورد اليه من الأخ عبد اللطيف الصغيري عند قدومه الى تونس حول عدم المبادرة بإنشاء التنظيم قال فيه : " فلتكن واثقا من انني أدعو للتنظيم القومي وأرجو ان أكون منخرطا فيه معا . من أجل هذا حرّمت على نفسي ان انخرط في صفوف أي حزب اقلیمي .

فما الذي تعاتبني عليه ؟.

انني لم ألعب دور القائد والزعيم والمؤسس ؟..

أخي ، سأقول لك الصدق كله .

ليس انسانا من لا يتطلع الى التفوّق ويسعى اليه . وليس بشرا من لا يطمح الى القيادة أو الزعامة او ما شئت من رموز التفوّق . انكار هذا تواضع مخادع . ولكن المسألة ليست هنا . المسألة ، جوهر المسألة ، هو كيف يصل الانسان الى حيث تتطلع نزعاته البشرية . هنا محك الصدق الذي هو جوهر الخلق القويم . والصدق هنا يتعلق بالجواب على السؤال : لمن الولاء . للأمة العربية أم للذات . ان ولائي الاول والاخير للأمة العربية . هذا الولاء يحدّد لقيام التنظيم القومي شروطا موضوعية وشروطا ذاتية هي التي تعلمتها من الدراسة والدروس والتي أعلنتها على الكافة في كتب منشورة .. وهي التي قصصت عليك قصتها . فكيف تعتب على انني أكفّ نفسي عن أن أسلك الى التنظيم القومي مسلكا تعلمت من الدروس المرة انه مسدود دون غايته العظيمة ؟. وأن استبدل التنظيم القومي اداة الثورة العربية بتنظيم أعلنه فیكون اداة لإشباع الغرور الانساني ؟ . كيف تعتب على أن ولائي ما يزال للأمة العربية بالرغم من النزوع الانساني الى شرف ما تدعوني اليه ؟ کیف تفصلني عن افكاري فتضعني موضع الداعية الى الزام الآخرين بما لا يلزم به نفسه ؟ "..

وكما هو واضح في هذا البيان ، فان كل التفاصيل والمبرّرات المذكورة تستند الى خلفية واحدة : خلفية الموقف من وجهة نظر قومية .. حيث لا يستطيع الدكتور عصمت سيف الدولة – من موقعه – الا ان يكون على هذا الموقف .. وهي - كما نرى - تفاصيل مركّبة من ثنائية التداخل بين عنصرين ، أحدها مجرّم ومحرّم عليه وعلى غيره طبقا للموقف من وجهة نظر قومية : المبادرات الفردية في انشاء التنظيم القومي من القمة الى القاعدة . والاخر حرّمه على نفسه ولم يحرّمه على غيره : الانتماء الى الأحزاب الإقليمية ذات الخلفية القومية .. ونحن نقول هذا من باب الوقوف على الحق ، وليس من باب تبرير الانتماء للأحزاب الإقليمية .. اذ أن الموقف من وجهة نظر قومية الذي قيل فيه كل القول الفصل ، الثابت والمعروف في أسسه ومنطلقاته وغاياته وأسلوبه ، والذي – يفترض – أن يتم الاحتكام اليه وقت الاختلاف ، هو الذي يبقى بالنسبة للقوميين المخلصين الصادقين بمثابة المثل الاعلى المحدّد لكل المواقف القومية التي تقود خطاهم في الواقع المتغير في اي مرحلة من مراحل النضال الطويلة والمتفرعة من خلال سعيهم الدائم لتغليب منطلقهم القومي حتى يكون بوصلتهم التي تقود خطاهم نحو المستقبل باتجاه المصلحة القومية ... 

أما استنادا الى المواقف القومية المرنة من القضايا الظرفية ، فإننا نجد في مواقف الدكتور عصمت سيف الدولة مواقف المحرّض ، والمساند ، والمجتهد بأفكاره لاختصار الطريق وتذليل الصعوبات لتوحيد الصفوف ، والمدافع عن حق الناصريين في مصر  في التنظّم الحزبي ، وقد أتينا على أمثلة كثيرة من أقواله في الموضوع ، كما ذكرنا رفضه - في بيان طارق - الدعوة للانسلاخ من الأحزاب القومية في الساحات الإقليمية التي يتمسّك منتسبوها بولائهم القومي ولا يعتبرون أحزابهم بديلا عن التنظيم القومي ، بل انه أكثر من ذلك قد اعتبرها مجالات واسعة لنشر الفكر الطليعي ، واعتبر منتسبيها بمثابة القواعد الاحتياطية للتنظيم القومي ، الخ .. ونُضيف الى ما سبق عينات أخرى منها ما ورد في هذا الرّد عن سؤال حول سبب عدم اسهامه في تأسيس وقيادة الحزب الناصري جاء فيه : " لقد جربت ذلك وفشلت ، فشلت في ان اقيم التنظيم الذي يؤمن بأفكاري ، ويحاول تحقيقها في الواقع وادركت بعدها انني لا أصلح لقيادة حركة . فأنا قائد فكري ولست قائدا حركيا . وفي اعتقادي ان كبر القيادة بالنسبة الى القاعدة في حزب من الاحزاب يفجر الحزب من اساسه . فالرأس الكبيرة تكون عبئا على الجسم النحيل الذي لا يقدر على حمل تلك الراس . وجميع الاحزاب القومية في الوطن العربي ، من القيادة يؤدي الى الانشقاق في القاعدة . لقد كان الانشقاق في تلك الاحزاب يأخذ الاتجاه الطولي دائما . كان انشقاقا راسيا من القمة الى القاعدة ، ولم يحدث في ان حصل مرة ان اختلاف القواعد أدى الى اختلاف القيادة ... الحزب كما افهمه هو مجموعة من الافكار تلقى في الشارع السياسي ، فيلتف حولها الافراد ، والاكثر ايمانا وحركة في اتجاه تنفيذ تلك الافكار ، تجده تلقائيا وقد وصل الى موقع القيادة في حركته . اي الناس هي التي تنصبه وليس هو الذي ينصب نفسه ، صحيح انه الاكثر بذلا والاكثر حركة ، ولكنه حين يتبوأ القيادة ، يكون ذلك استجابة منه لرغبة الناس وتحقيقا لإرادتها الجماعية .. وانا ارى ان اترك لمن هم مؤمنون بأفكاري ، والذين يتجمعون حولها ، ان يختاروا فيما بينهم القائد الذي يرونه مناسبا للعب هذا الدور" .. (حوار مع الصحفي الناصري المرحوم سليمان الحكيم في مجلة المنابر) .. كما طالب الناصريين - في مقام اخر اقتضى منه هذه االمطالبة - بان "يكون لهم امتداد داخل فلسطين ، والعمل على توحيد صفوفهم في حزب واحد ، بحيث تصبح الاحزاب الناصرية في اليمن ولبنان حزبا واحدا" (ندوة الحزب الناصري حول اثار ومخاطر اتفاق غزة - اريحة ، جريدة السفير 7 أكتوبر 1993) ..

بل اننا نجده أكثر من ذلك ، يعتبر ان قيام الحزب الناصري في مصر زمن الردة ، يحقق الغاية القومية والهدف القومي الملح ، حيث يقول في كتابه عن الناصريين واليهم : " فعدت إلى ما بدأت أكمله .. لأنشره حديثاً "عن الناصريين وإليهم" .. إسهاما بقدر ما استطيع في حوار بدأ همساً ولا بد من أن ينتهي إلى ما يحقق الغاية القومية من التحام الناصريين في تنظيم يحقق الهدف القومي الملح الذي أشرنا إليه " ..

وقد يبدو الموقف الأول مرنا بسبب ما يعترضه من حين لأخر من أسئلة عارضة قد لا يريد الإفصاح فيها عن مواقف يدرك تماما تأثيرها السلبي حين تكون في غير وقتها .. لكن الأرجح فيما يخص التلميح لفشل المحاولة أن المقصود فشل " تجربة الأنصار" التي انطلقت من مصر وانتشرت في العديد من الأقطار العربية آخر الستينات .. بينما الجانب الثاني من الإجابة في نفس الفقرة فيخص موقفه من الأحزاب الإقليمية حيث لا يسمح له وضعه كمفكّر قومي بالانتماء اليها .. اما الموقف الثاني الداعي لتوحيد الناصريين فهو دعوة لتجاوز وضع الى وضع أفضل منه حتى ولو كان لا يرتقي الى مستوى ما يدعو اليه .. في حين ان الموقف الثالث يمثل موقف الضرورة في ظل الواقع الذي تردّى اليه الوضع في مصر الى ما قبل الثورة ..  وهذا كله من طبيعة المواقف القومية المرنة ، التي لا ترتقي - عادة - الى مستوى الموقف الحاسم من وجهة نظر قومية ، لكنها لا تضرّه ولا تكون على حسابه .. فيسميها بالمواقف التكتيكية اذا كانت لا تنقض ولا تناقض الموقف الاستراتيجي .. وفيها توضيح مطابق لهذا حرفيا وجدناه في دراسة للدكتور عصمت سيف الدولة بعنوان "هذه الدعوة للاعتراف المستحيل " يذكره وهو يحلل فرضيات المواقف الداعية للاعتراف بإسرائيل قال فيه : " إذا افترضنا حسن النية راضين أو كارهين فإن الذي يغلب على الظن أن يكون الباعث على الدعوة الى الاعتراف بإسرائيل تقييم الاعتراف بأنه خطوة تكتيكية ومرحلية تقتضيها الظروف العربية أو الدولية الراهنة ، ولا تضر بهدف تحرير فلسطين الاستراتيجي . إذا صح هذا التقييم فإن المثاليين الفاشلين وحدهم هم الذين يحرمون الثورة من المقدرة على اتخاذ المواقف التكتيكية التي تفرضها ظروف المرحلة ما دامت لا تتناقض ولا تضر بالهدف الاستراتيجي للثورة " .. وهو موقف يدفع بالفرضيات الى الاخر حتى يصل الى تبين المنطق الممكن السليم من المنطق المخادع العقيم ، وسنعود الى شرح سياقاته بأكثر تفصيل ..

وكل هذه المواقف التقديرية تخضع عند اتخاذها للظروف الذاتية والموضوعية وهو أمر مطلوب .. وإننا لو تأملنا الكثير من المواقف المعروفة للدكتور عصمت سيف الدولة في تعامله مع الواقع الموضوعي ، لوجدنا أنه كان يتفاعل معها - في أغلب الأحيان -  ويواجهها بالموقف القومي التقديري الذي يراعي المصلحة القومية ولا يرتقي تماما الى مستوى الموقف كما يجب أن يكون لأنه يمثل الخيار الممكن المتاح .. وسنذكر عينات أخرى يلتقي فيها الموقفان المختلفان في نفس الموضوع حتى نتأكد مما ذهبنا اليه في هذا التأويل ، حيث لا مجال لفهم هذا الاختلاف الذي يبدو بمثابة التناقض الا من تلك الزاوية ، الفرق بين الموقف القومي والموقف من وجهة نظر قومية ، والتعامل بأحدهما متى كان الاخر غير ممكن ..

الموقف الأول متكرر في عدة مراجع للدكتور عصمت سيف الدولة ، وهو الموقف من وجهة نظر قومية القاضي بخطأ التعويل على أجهزة  الدولة الإقليمية في أي قطر عربي حتى ولو كانت دولة مصر في عهد عبد الناصر في مسألتين مهمتين : مسألة الطريق الإقليمي للوحدة ، ومسألة بناء التنظيم القومي .. ورغم أن الموقفين لا يحتاجان الى توضيح الا أننا سنذكر أمثلة لكل منهما حتى نستطيع إجراء المقارنة بما يلزم من الوضوح بين الموقف القومي والموقف من وجهة نظر قومية كما وجدناه عند الدكتور عصمت سيف الدولة فكرا وممارسة ..

بالنسبة لمسألة التعويل على الدولة الإقليمية في تحقيق الوحدة يمكن أن نذكر هذا الموقف الحاسم للدكتور عصمت سيف الدولة ، الذي يشمل ناحيتين : الأولى تتعلق بمسألة تحقيق الوحدة بالقوة وهي مرفوضة ومدانة بحكم طبيعتها العدوانية ، والثانية تتعلق بأسلوب تحقيق الوحدة بين الدول العربية عن طرق أجهزة الدولة الاقليمية وهو أسلوب فاشل في تحقيق أي غاية وحدوية انطلاقا من طبيعة الدولة الاقلليمية ذاتها .. وقد وردت الناحية الأولى (تحقيق الوحدة بالقوة)  في كتاب الأسلوب حيث قال فيها : " ليست أحلاماً قومية ـ طبقاً لنظريتنا في القومية ـ ان تقوم إحدى الدول العربية أو عدة دول عربية متحالفة بغزو الدول العربية الأخرى وإقامة دولة واحدة في الوطن العربي . وليست أحلاما قومية ـ طبقاً لنظريتنا في القومية ـ ان تقوم دولة عربية أو عدة دول عربية بفرض هذه الوحدة على الدول العربية الأخرى بالقوة الاقتصادية أو المالية أو الدعائية أو البشرية … لا يمكن أن ندين هذا عندما تحاوله إحدى القوى الأجنبية لتستولي أو لتضم اليها جزءاً من الوطن العربي ، ثم نبيحه لدولة عربية عندما تحاوله لتستولي او لتضم اليها دولة عربية أخرى ولو باسم الوحدة ... فكل اعتداء من دولة إقليمية ضد دولة إقليمية هو اعتداء غير مشروع أول ما يهمنا منه ألا يقترن بالقومية او الوحدة . إنه يشوّه قضيتنا في حين أن منطلقاته لا بد أن تكون منطلقات غير قومية ، وان غاياته لابد ان تكون غايات غير وحدوية ، مهما كانت الشعارات المرفوعة إستغلالاً للقومية والوحدة" .. أما الناحية الثانية (فشل الدولة الاقليمية في تحقيق الوحدة) فهي واردة في العديد من المراجع التي تحدث فيها عن أسباب الفشل من عدّة زوايا ويمكن أن نختار من بينها هذه الفقرة من كتاب الطريق الى الوحدة قال فيها : "ان الدول الاقليمية ليست أسماء على ورق ، بل هي اجهزة كاملة ومعقدة فيها رؤساء دول ، وملوك ، وحكومات ، ورؤساء وزارت ، ووزراء وقادة جيوش ، وقادة شرطة ، ومجموعة من كبار الموظفين والبيروقراطيين ، وفئات ضخمة من الناس يرتزقون من الحكم ، ويكسبون من ورائه ويُسخّرون في بعض الأوقات لحماية مصالحهم وتنميتها ، أو لحمايتهم انفسهم من الشعوب ذاتها - كل هذا الجهاز المركّب ، الذي يسمّى الدولة ، وصل أفراده الى مواقعهم فيه ضمن اطار شرعي قاعدته الدستور الذي يحدّد أسس الدولة وحدود اقليمها ثم القوانين التي تنظم الحقوق والالتزامات فتحدّد لكل شخص المجال المباح لنشاطه والمجال الممنوع ، وتؤكّد هذا بالجزاء الرّادع على مخالفتها ، ثم اللوائح والقرارات والأوامر الإدارية .. الخ ، أو ما يسمّى النظام القانوني فى دولة الاقليم . وهو ليس نظاما اعتباطيا انما ينطوي على مضامين سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية ، غايته أن يحميها بحيث ان "أي" تصرف في أي من تلك المجالات لا يتسق وأحكام النظام القانوني للاقليم يعتبر - على الأقل - غير مشروع ، فلا يلزم الحكومة وقد يفقد صاحبه مركزه فى الدولة . هذا من الناحبة العامة . ومن الناحية الخاصة فإن المواقع التي يشغلها هؤلاء الذين نسمّيهم - ككل - الحكومة لا تعبر عن امتيازات شرفية فحسب بل هي رواتب وسلطات ونوع متميّز وممتاز من الحياة المفعمة بالرخاء لا يحلم به القابعون في مواقعهم من عامة الشعب .

و المطلوب من هؤلاء أن يحققوا الوحدة .

اي مطلوب منهم أولا أن يؤمنوا بأن كل النظام القانوني الذي يمثلونه منذ أن صعد بهم الى مراكزهم نظام غير مشروع يجب ان يلغى . ومطلوب منهم ثانياً أن يتصرفوا – وهم في مواقعهم – طبقا لايمانهم هذا فيخرقون الدستور ويخالفون القانون ويعصون الاوامر . ومطلوب منهم ثالثا ان يتنازلوا عن عروشهم ورئاساتهم وقياداتهم وان يضعوا انفسهم كأشخاص عاديين تحت تصرف دولة الوحدة . ومطلوب منهم رابعا ان يفقدوا رواتبهم وسلطاتهم وامتيازاتهم ومكاسبهم - المشروعة وغير المشروعة - وان يهجروا الرخاء الذي يعيشون فيه مع زوجاتهم - وهل تسمح الزوجات ؟ - ليقبلوا أن يعيشوا مع الشعب حياته الجافة . ومطلوب منهم خامسا أن يتمرّدوا على القوى الاجتماعية المستغلة التي نشأت ونمت على استغلال الشعب في ظل دولة التجزئة وحمايتها وكانت دولة التجزئة لها ستارا وحماية .

مطلوب ان يفعلوا كل هذا ليحققوا الوحدة العربية .

أليست الوحدة اذن شيئا مخيفا . انها تبدو طامة كبرى .

ومع هذا فمطلوب منهم - اخيرا - ان يتفقوا هم أنفسهم على طريق الالتقاء والتقارب والتفاهم .. الخ ، على تحقيق الوحدة . شيء غريب لا يتصوره الا الفاشلون .

قد يوجد رئيس دولة أو رئيس وزراء ، أو غيرهما ، يقبل التخلي عن مكانه ليصبح بطلا وحدويا ، خاصة اذا كان فى مأزق لا يعرف كيف يخرج منه مثلما فعل شكري القوتلي سنة 1958 ، ولكن الدول لا تحركها أمزجة الرؤساء ولا يقودها حسن النية . فبالرغم من كل ما يقال ويعلن ، وبالرغم من حسن النية حتى لو كان موجودا فان الذي يتحقق فعلا من سياسة الدولة هو ذلك القدر الذي لا يتعارض مع كتلة المصالح التى يمثلها الجهاز الحاكم . وبالرغم من السياسات المعلنة ولو في وثائق دستورية فان الجهاز الحكومي الاقليمي  (اداة الدولة الاقليمية) الذي في يده السلطات الحقيقية قادر على ان يعرف الاسرار وان يتكلم ، وان يختلق العقبات ، وان يتامر ، ويناور ، ويضلّل ، ويخرّب اذا لزم الأمر ، وهو يفعل اي شي  الا أن تزول دولته ، الا أن تتحقق الوحدة العربية . وتبقى مشروعات الوحدة الرسمية حبرا على ورق ، وتسحق النوايا الوحدوية الحسنة تحت الثقل الكثيف للمصالح التي تمثلها ، وتجسدها وتحميها دولة الاقليم " ..

أما في مسألة بناء التنظيم القومي الذي قال فيه جملته الشهيرة في كتابه حوار مع الشباب العربي " لو تحاور فيه اثنان فوق قبري لشاركت عظامي في الحوار" ، فيمكن أن نختار هذا المثال - من بين أمثلة كثيرة تردّد فيها مثل هذا الموقف الحاسم – ونأخذه من كتاب الأسلوب : " ان التنظيم القومي لا يكون قوميا أذا أنشأته دولة ولو كان رئيس الدولة قائدا قوميا فذا مثل عبد الناصر. ولو كانت الدولة ذات ثقل کمصر . أن الدولة - اية دولة - هي التجسيد الحقوقي لجريمة التجزئة القومية . انها نقيض الوحدة . ان إلغاءها هو هدف الثورة العربية ، ولما كان التنظيم القومي هو أداة الثورة العربية فلست أعرف كيف يمكن أن تنشئ الدولة ـ أية دوله - أداة الثورة ضد وجودها ذاته . فان قيل ان رئيس الدولة قائد ثائر لا تهمه دولته بقدر ما تهمه وحدة أمته ، فلن نقول کیف اذن يتفقد الحدود حتى لا يتسلل " عربي " الى دولته بدون إذن منها ، ولن نقول کیف إذن " تعترف " دولته بشرعية التجزئة حينما " تعترف " بالدول العربية الأخرى . ولن نقول کیف اذن يقبل تمثيل دولته على قدم المساواة مع " ممثلي " الدول العربية الأخرى في الجامعة العربية ، بل نقول ما يكفي بدون تجريح للقائد القومي الثوري رئیس الدولة : أن القيود الدستورية والعربية والدولية التي تكبل دولته تعوق مقدرته على أن ينشئ او يقود تنظيما قوميا . إنها تحول دون الانتشار خارج حدود دولته تحت قيادته الا إذا أنكر قيادته . إنها تحول دون أن يتخذ من رئيس کل دولة عربية الموقف الذي يتفق مع إرادة التنظيم القومي في كل دولة عربية . انه سینكر علاقته بقواعد التنظيم ان كشفت . انه سيتخلى عن الدفاع عنها ان ضربت .." .. وقد ورد أيضا شرحا مفصلا في رسالته الى تونس لخلافه مع أجهزة الدولة في مصر حينما بادرت بإنشاء التنظيم منتصف الستينات جاء فيها : "ان التنظيم القومي لا يكون قوميا إذا أنشأه قائد ولو كان قائدا قوميا فذا مثل عبد الناصر . ان مواثيقه حينئذ ستكون صيغة لأفكار قائده أو لأفكار صفوة يختارهم قائده ويرضي عنهم . وسيكون مؤسسوه ممن يعجبون قائده أو ممن يعجبون به ، وسيكون اختيار القيادات والكوادر ممن يعرفهم القائد معرفة "شخصية" ويثق فيهم ثقة "شخصية" أو ممن يستطيعون - صادقين أو منافقین ـ أن يدخلوا دائرة معرفته أو یكسبوا ثقته . وستكون إرادة النمو والانتشار أو التوقف والانكماش متوقفة على إرادة القائد المؤسس . باختصار سيكون تنظيم مؤسسه أو حوارييه ولن يكون تنظيم الأمة العربية وأداة الشعب العربي في ثورته الوحدوية ، وقد كان لنا في ذلك درس لا يُنسی "..

وتجدر الاشارة هنا الى ان النقد الموجه للأسلوب في المثالين مختلف ، لان الاول يتجه الى ابراز التعارض مع القيود الدستورية للدولة الاقليمية التي يستحيل تجاوزها حتى لو توفرت ارادة القيادة ، والثاني يتجه الى ابراز التعارض مع الالية الديمقراطية في بناء التنظيم ، وكلاهما - بالنسبة للدكتور عصمت سيف الدولة من وجهة نظر قومية - مرفوض لأنه يؤدي الى الفشل المحتوم ..

-13-

مقابل هذه المواقف نختار أمثلة مختلفة تبين خلاف ذلك الموقف الحاسم حيث تبدو مواقفه العملية من تلك المسائل أقل بكثير من الموقف المبدئي في الناحيتين المشار اليهما معا ، أي كيفية نشأة التنظيم والتعامل مع الدولة الإقليمية .. فهو يتعامل هذه المرة مع الظروف والمتغيرات بالموقف القومي الممكن ، مما يجعل إمكانية القبول بسلامتها واردا طالما أنها لا تُطرح كبديل للحل القومي ..

وقبل ذلك سننطلق من هذا الموقف المتعلق بليبيا في عهد ثورة الفاتح ، وهي كثيرة تناولها الدكتور في كتابه حوار مع الشباب العربي من عدة زوايا .. لكننا اخترنا هذا المقال (مخاطر الإقليمية في ليبيا مثلا )  لأنه متداول على نطاق واسع بين القوميين ، ويحتجون به على بعضهم البعض ضد الإقليمية ، كما لو كان من وجهة نظر قومية ، وهو - كما نعتقد - استعمال غير دقيق  ، لان المقال بأكمله لم يتجاوز  الدعوة للانتباه والتحذير من مخاطر الاقليمية وهو يساير الواقع من الداخل كما هو في ليبيا ، وقد عبر عن هذا مستعملا عبارة "لا بد من التنبيه" - كما سنرى - في آخر المقال .. اذ لو كان الموقف من وجهة نظر قومية لاتجه رأسا الى دعوة القيادة ومن حولها من القوميين الى السماح بإنشاء التنظيم القومي ..  وقد حصل هذا فعلا في مناسبة اخرى وهو يناقش كتّاب الشورى المعجبين بثورة الفاتح قائلا لاحدهم : " قلت انها تقود ولا تحكم ، وبذلك فهي في منأى عن تطويق الثورة بالدولة . هل أنت واثق ؟ ... هل تستطيع أي ثورة في أية دولة عربية أن تصدر قانونا يقول : استثناء من قوانين الدولة التي تحرم الأحزاب والمنظمات يباح للشعب العربي في الدولة والمقيمين فيها من أبناء الشعب العربي خارجها ، أن ينشطوا ، فكريا وحركيا لتأسيس الحركة العربية الواحدة ؟ " ..

بل اننا نجده يجيب إجابة صريحة في المقال بأن الغرض ليس البحث في أسلوب تحقيق الوحدة حين قال متسائلا ثم مجيبا : " لماذا لم تتحقق الوحدة العربية ولو جزئيا . ولسنا هنا في مجال الاجتهاد في الإجابة على هذا السؤال " .. ثم انتقل مباشرة للحديث عن بذور الإقليمية ومخاطرها وقد قام بحصر غرضه في شرح أربعة اسباب ..

انه اذن ، يكتفي - في هذا المثال الذي اخترناه - بالتحذير من نمو بذور الإقليمية حول القيادة مستعملا تشبيه الإقليميين المتربصين بالحشائش الطفيلية النامية ، مؤكدا أنها نامية فعلا في ليبيا ، وهذا منذ عام 1975 تاريخ كتابة المقال ، الذي ننقل منه المقتطفات التالية تأكيدا لهذه الفكرة : " نحن نضرب ليبيا مثلا في هذا الحديث عن مخاطر الإقليمية في ليبيا لأسباب عدة : السبب الأول هو ان ليبيا "الدولة" تحكمها قيادة قومية المنطلقات وحدوية الأهداف تتمثل في مجلس قيادة الثورة وقائدها . وكلهم ، المجلس والقائد ، كانوا ولا يزالون جزءا من تنظيم ثوري قومي المنطلقات وحدوي الأهداف هو تنظيم "الضباط الأحرار الوحدويين" الذي فجر ثورة الفاتح من سبتمبر . ومنذ الفاتح من سبتمبر 1969 يفرز الشعب العربي في ليبيا طلائع متزايدة من الشباب تحيط بالقيادة وتلتقي بها التقاء عقائديا خالصا ، التقاء على المنطلقات القومية  وعلى الأهداف الوحدوية معا ، وتلك هي الرابطة الوثيقة الوحيدة ، التي يلتقى عليها العقائديون . ان عملية الفرز هذه ، أعني فرز طلائع من الشباب القومي الوحدوي ، لا تزال مستمرة ، يساعدها مناخ عارم من الديمقراطية الشعبية "المباشرة" البسيطة غير المعقدة بيروقراطيا .." ... فضلا عن طبيعة المجتمع في ليبيا وظروفه البيئية "البدوية" وتقاليده وتراثه الحضاري الخ .... ثم ينتقل الى السبب الثاني الذي وضعه تحت عنوان فرز القوى الإقليمية ، وقد جاء فيه : " السبب الثاني هو أن ما يجري الان في ليبيا ، كما يفرز طلائع قومية وحدوية متنامية ، يفرز قوى إقليمية متنامية أيضا . وليس في هذا أي تناقض . ذلك لأنه وليد تناقض أصيل بين الدولة والقيادة ..." .... ويواصل في شرح طبيعة الدولة الإقليمية كما هي معروفة إدارة وقانونا ومؤسسات في الداخل والخارج مفروضة على القيادة القومية والشعب ، وكل هذا الواقع الإقليمي - كما قال - " حينما يحدّد ويضبط حركة الأفراد ونشاطهم يحدّد في الواقع مصالحهم العينية المتحقّقة ويتحكمّ الى حد كبير في مصالحهم المستقبلية المأمولة ، ويروّضهم ، من خلال تلك المصالح ، فكريا ونفسيا على قبول الدولة كأمر واقع حتى لو كانوا يرفضونها عقائديا واستراتيجيا .." .. ثم ، وبعد أن يتحدث مطوّلا عن " التناقض كما يبرز في ليبيا " بين القيادة القومية والدولة الإقليمية وهو عنوان هذا الجزء من الحديث ينتقل الى محاور اخرى متنوّعة ننقل منها فكرتين لأهم ما جاء فيها : الفكرة الأولى تتعلق بالحاضر ، حيث يجب التنبيه الى المخاطر التي تهدد هذا الزخم الوحدوي متمثلة في القوى الإقليمية النامية في ليبيا قائلا : " ومن أجل هذا كان لا بد من التنبيه الى مخاطر الإقليمية في ليبيا لأنها نابتة فعلا ، ومتسللة فعلا ، ومتسلقة فعلا ، وان كانت ضعيفة فعلا أيضا . وكان لا بد من ان تكون ليبيا مثلا لأن تجارب مريرة أخرى ، في أقطار عربية أخرى ، لم تنتبه الى مخاطر الإقليمية يوم ان كان الزخم قوميا ، أو انتبهت واستهانت بها ، حتى نمت فامتصت غذاء الأصل وأحالت الحقل القطري الى حقل إقليمي " .. والفكرة الثانية تتعلق بالمستقبل حيث : " ثمة فصائل ممن ينتسبون الى الخط القومي التقدمي أو ينسبون انفسهم اليه ، يناضلون في ظروف بالغة الصعوبة من أجل اسقاط الإقليميين في أقطارهم ، ويرشحون أنفسهم لسلطة بديلة تحت العناوين القومية الوحدوية . وليس من المستبعد ، ولو بسبب فشل الإقليميين الذي لا علاج له ، ان تصل بعض تلك الفصائل الى مواقع السلطة حاملة معها وعود التقدم والوحدة ، حينئذ سيكونون في أشد الحاجة الى الحديث الذي ننبه به الان ، ومن الان ، الى مخاطر الإقليمية ، ونضرب فيه ليبيا مثلا " ..

وهل يعقل ان يترك القوميون التقدميون الوحدويون السلطة في أقطارهم للإقليميين ؟

أبدا .. لأن التنظيم القومي نفسه لا يستطيع تحقيق أهدافه الا من موقع متحرر يحكمه القوميون العقائديون ، المخلصون لمشروع دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية .. لذلك ، ودائما في اطار التأكيد على الاجتهاد من خلال الموقف القومي الخاضع للظروف كما في هذا المثال ، وهو جواب يأتينا من الدكتور عصمت سيف الدولة من كتاب الاسلوب : " ان تأكيد عجز القوميين التقدميين الحاكمين عن تجاوز الوجود الاقليمي للدول التي يتولون السلطة فيها ، أو قصور الدولة الاقليمية عن ان تكون اداة لتحقيق دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية هو دعوة مثالية الى أن يمتنع القوميون التقدميون في كل دولة عربية عن تولي السلطة فيها الى ان تقوم دولة الوحدة ، وهو ما يعني تماماً ترك الشعب العربي في تلك الدولة تحت رحمة القوى الاقليمية الرجعية .

انه اعتراض لا يصدر إلا من مثالي يتصور ان دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية لا تقوم الا بقرار من سلطة حاكمة في إحدى الدول العربية . أو انها تقوم بضربة واحدة ولو من بضعة دول عربية متحالفة . وهذه اوهام . انما تقوم دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية كخاتمة لنضال القوميين التقدميين في ظل التجزئة في ساحات متفرقة ضد قوى متباينة من اجل غايات جزئية ومرحلية لا حصر لها . كلها مهما يكن مضمونها ومهما تكن ضآلة اثرها خطوات على الطريق الى الغاية العظيمة . ومن أعمق هذه الخطوات أثراً انتزاع سلطة الدولة من ايدي الاقليميين والرجعيين واستخدام قواها في انجاز مزيد من الخطوات على الطريق الى دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية . استخدامها فيما هي قادرة عليه وما هي اداة مناسبة لتحقيقه . مثلاً : المساهمة عن طريق المشاركة والدعم والتأييد لقوى التحرر دفاعاً عن الوطن العربي والتحالف مع كل قوى التحرر من الاستعمار في العالم . اضعاف الآثار الاجتماعية للعزلة التي فرضتها التجزئة على الشعب العربي على مستوى الانتقال والعمل والثقافة والتعاون مع الدول العربية الاخرى على كل ما من شأنه إذابة رواسب الغربة على المستوى الفكري ومستوى الممارسة . حتى جامعة الدول العربية يمكن أن تكون أداة يستخدمها القوميون في تحقيق ما هي قادرة على تحقيقه وخاصة على المستوى الاعلامي . أما في الداخل فثمة المجال الأولي والمرحلي لترجمة النظرية القومية الى واقع حي بقدر ما تطيق الدولة ولكن بكل ما تطيق : تحرير الشعب العربي من كافة اشكال القهر السياسي والاقتصادي المفروضة عليه ، وتصفية القوى الرجعية تصفية شاملة وكاملة . تحرير الشعب العربي من سيطرة الفكر المعادي للقومية والوحدة وتصفية القوى الاقليمية تصفية شاملة كاملة . فرض سيطرة الشعب العربي على كل وسائل الانتاج والغاء الملكية الخاصة للأرض ولكل وسائل الانتاج الاساسية وتوظيف كافة الموارد وعناصر الانتاج بأقصى قدر ممكن من الكفاءة طبقاً لخطة اقتصادية شاملة ، بحيث تخضع كل موارد الانتاج وادواته وقواه المادية والبشرية ، وأيا كان الشكل القانوني لها ، للقرار الاقتصادي الذي تتضمنه الخطة وتصفية كافة القوى المعادية للاشتراكية تصفية شاملة كاملة . حماية الشعب من الديكتاتورية والبيروقراطية بإتاحة أكبر امكانيات الممارسة الديموقراطية للشعب ، فلا قيود على المعرفة ولا قيود على الرأي ولا قيود على العمل الجماعي المنظم من اجل مزيد من التقدم الاجتماعي ، والانتباه الى مشكلة التخلف الموروث في الممارسة الديموقراطية بالتشجيع عليها ولو صاحبها الخطأ ، وتقديم امكانيات ممارستها ولو تعثرت ، والصبر على الشعب العربي حتى يتجاوز تخلفه المورث . ثم يبقى اخطرها جميعاً لأنه هو الذي سيحسم السباق الرهيب بين النظرية القومية التي يلتزمها القوميون التقدميون وهم في مواقع السلطة ، وبين الممارسة الاقليمية التي يبنون بها دولهم مادياً وثقافياً : إباحة وتشجيع ودعم وتأييد وحماية الحزب القومي الذي يتحمل وحده مسؤولية مواجهة العوائق الدستورية والدولية في سبيل الوحدة بنضاله المنظم على المستوى العربي كله بدون قيد دستوري او دولي بقصد الغاء الدول العربية واقامة دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية " ..

وهل يمكن افتكاك السلطة من يد الإقليميين في غياب الحزب القومي دون أحزاب قطرية ، ثم ما هو معيار الحكم على صدق القوميين في السلطة من وجهة نظر قومية ؟

الجواب الخاص بالجزء الأول وجدناه متكررا في كثير من المراجع للدكتور عصمت سيف الدولة وعرضنا منه عينات كثيرة تتمثل في تشجيعه وتحريضه المتواصل للحزب الناصري في مصر ، وقد قام بأكثر من ذلك حين تولى مهمة الدفاع عن حقهم في التنظم أمام القضاء ، حتى أنه اعتبر مهمة الناصريين من تلك النواحي مهمة قومية كما سبق ذكره ..

أما ما يخص الجواب عن الجزء الثاني من السؤال فنأخذه من محاضرته المعروفة بعنوان " تنظيم قومي من أجل الوحدة الاشتراكية " حيث اعتبر ممارسة المؤسسات الاقليمية (الأحزاب) الساعية لتغيير الواقع بأساليبها الاقليمية محكا لاختبار مواقفها القومية في ظل غياب التنظيم القومي قائلا : " ثم يأتي المحك النهائي لصدقها فيما تعلن ، من أنها تستهدف الوحدة الاشتراكية . بإعلان موقفها الايجابي من التنظيم القومي التقدمي ، ومحاولات بنائه  .

انها ان تكون صادقة ، فلا بد من أن تكون مدركة وجودها ، ان كان يتفق مع ضرورات ما قبل التنظيم القومي ، فانه ليس بديلا عنه ، ولا طريقا اليه .

وعليها ان صدقت أن تعلن ، ثم تبدأ من الآن في تحضير أعضائها لمرحلة الانتقال من منظمات الضرورة ، الى التنظيم القومي . ولعل أفضل ما تعبر عنه عن هذا الصدق هو أن تسمح لدعوة التنظيم القومي ، بأن تطرح على قواعدها ، وكوادرها ، وأن تبيح لمن يشاء من تلك الكوادر أن يسهم في الدعوة اليه ، أو الاسهام في بنائه ، لأنها حينئذ ، ستكون مدركة الحقيقة ، حقيقتها ،  وحقيقة التنظيم القومي . انها ليست منظمات موازية له ، لا في المنطلقات ، ولا في الغايات ، ولا في القوى ، ولا في التركيب ، فهو لا يناقض وجودها ، ولكن يتجاوزه .

فهي منظمات الماضي ، وهو أداة المستقبل ".. 

اما المثال الذي نضربه في هذه الإضافة الخاصة بمواقف الدكتور عصمت سيف الدولة طبقا للموقف القومي "الحركي" الذي يخضع للظروف الموضوعية ولا يناقض أو يتعارض مع الموقف من وجهة نظر قومية ، يتمثل في قبوله لعرض القيادة في ليبيا في ما يخص تأسيس التنظيم القومي .. وهذا المثال يؤكد فعلا مرونة المواقف في التعامل مع الواقع اذا توفرت الشروط اللازمة للحفاظ على سلامة الأسلوب .. وهو أسلوب محدّد سلفا بالموقف من وجهة نظر قومية من حيث طبيعة النشأة بشرطيها القاعدية والديمقراطية .. وقد كان ممكنا ان يدفعه التشبث بشكل النشأة وخصائصها الى عدم الاستجابة للدعوة ، تاركا مهمة التأسيس للمؤمنين بالمشروع دون تدخل منه ، ودون اقحام القيادة في ليبيا في الموضوع .. وهو ما يعني أن الدكتور قد تجاوز المسألة الشكلية طالما انها تستجيب للهدف ولا تخالف المبدأ .. حيث أن اشراف القيادة لا يؤدي بالضرورة الى التحكم أو التدخل في أسلوب التأسيس .. وهذا الموقف جاء مفصلا في كتابه عن الناصريين واليهم : "…  وكنت قد تلقيت قبيل وفاة عبد الناصر دعوة من قيادة الثورة في ليبيا إلى زيارتها وإلقاء سلسلة من المحاضرات بمناسبة البدء في تنظيم الجماهير على غرار الاتحاد الاشتراكي العربي في مصر ، فلما غاب عبد الناصر اعتذرت عن عدم الوفاء بالزيارة لأسباب خلاصتها أن ما كان يمكن أن يقال في حياة عبد الناصر لم يعد قوله مجدياً بعد وفاته إذ أن الأمة العربية مقدمة على مرحلة مغايرة نوعياً لما كانت عليه . فجاءني رسول يحمل إلىّ تأكيداً للدعوة بحجة أن الزيارة قد أصبحت أكثر لزوماً من ذي قبل ، فزرت ليبيا لأول مرة في 20 اكتوبر 1970 ..

في أول لقاء مع أعضاء مجلس قيادة الثورة طرح عليّ سؤال لم أكن أتوقعه : كيف يمكن إنشاء التنظيم القومي الذي ما فتئت تدعو اليه مع التسليم بانه أصبح لازماً حيوياً بعد وفاة عبد الناصر ، فأجبت . والناصريون يسألون وأجيب ويسألون وأجيب إلى أن انتهى الحوار إلى اقتراح من جانبي بنقطة البداية : إعداد ” مشروع ” وثيقة فكرية تطرح على كل القوميين من الدارسين والمثقفين في الوطن العربي . ليبدوا آراءهم فيها مكتوبة خلال مدة معينة ، يقوم جهاز خاص بتلقي الردود وإعادة صياغة المشروع الأول على ضوء ملحوظات القوميين . ثم توجه اليهم دعوة لعقد مؤتمر تأسيسي تتم خلاله دراسة وبلورة وصياغة الوثيقة الفكرية لتعبّر عن المبادئ التي يلتقي عليها القوميين ويتميزون بها عن غيرهم من القوى ، ثم يضع المؤتمر لوائحه الداخلية التي تكفل أن يكون التنظيم فوق قيادته في كل الظروف ، وينتخب القيادة . ثم تبدأ المسيرة .." ..

قد تبدو هذه الخطوة المهمّة محكومة بالموقف المبدئي من وجهة نظر قومية دون أي لبس في ذلك ، لو لا علاقة المهمّة بقيادة دولة اقليمية حتى وان كانت قومية .. وقد يقول البعض معترضا ان آليات التأسيس التي طرحها الدكتور عصمت سيف الدولة في محاوراته مع القيادة في ليبيا هي نفس الاليات الواردة في بيان طارق ، حيث القاعدة الجماهيرية سنة 70 موجودة وجاهزة قبل وفاة عبد الناصر وتحت قيادته دون هيكل تنظيمي ، والكوادر القومية موجودة في الساحة القومية وقد سبقتها تجربة الانصار ، وكل الشروط المطلوبة في التأسيس من القاعدة الى القمة متوفرة .. وهذا كله صحيح .. لو لا وجود عنصر الدولة الاقليمية الذي ظل يحذر منه في كل كتاباته ولنا على ذلك دليلين :

الدليل الأول على صحة هذا الفهم هو الفشل الذي انتهى اليه الاتفاق حتى قبل ان يبدأ ، حيث انحازت قيادة الدولة الاقليمية في ليبيا بعد وفاة عبد الناصر الى التعامل مع قيادة الدولة الإقليمية الجديدة في مصر ، ففشل المشروع .. بل على العكس من ذلك ، لقد كان مع الانحياز صمت غير مبرّر للقيادة في ليبيا عن عملية التصفية التي قام بها السادات بعد ذلك للقيادات والرّموز الناصرية في مصر .. وهذا ما شهد به عصمت سيف الدولة نفسه حينما قال متعجّبا في رسالته الى تونس : "ولكن المفاجأة الحقيقية كانت تصديق الأخوة في ليبيا مزاعم السادات الوحدوية وانحيازهم إليه في صراع مايو 1971.  ولم يكن من مبرّرات ذاك الانحياز الا انه الرئيس الشرعي لدولة مصر . انه اذن تفضيل للتعامل مع الدولة "..

ولم يكن هذا هو الفشل الاخير الذي تحدث عنه الدكتور ، بل اننا نجده في مناسبة اخرى يذهب أكثر من ذلك في رد أكثر صراحة ووضوحا يحتج فيه بتجربة ثانية فاشلة على أحد الكتاب الذي طرح في مجلة الشورى فكرة التحام القوى الثورية في ليبيا مع الثوار العرب ، فأجابه متسائلا عن الأسلوب الذي يفرز الثوار : " لا شك أن الانسان الثوري ليس قليلا في الأرض العربية ، لكن من الذي يفرزه ؟ يعيّنه ؟ يختاره ؟ يحكم بأنه الانسان الثوري وليس الاخر ؟ هذه هي العقدة في المشكلة . هذه هي الثغرة في مقالك اليوم . ننتظر منك جوابا على هذا السؤال . ارجو الا يكون الجواب دعوة ليبيا الدولة أو الثورة الى الانتقاء والاختيار . لقد انتقت واختارت من قبل وكان مؤتمر القوى الوحدوية الناصرية الذي لم تبق منه الا ذكريات الفشل " .. وقد تم المؤتمر في طرابلس عام 1973 دون نتائج تذكر.

والدليل الثاني هو أن عصمت سيف الدولة بعد فشل كل محاولة يعود ليقول وحمدت الله على أن ذلك لم يحدث ، كما جاء في نفس الرسالة المذكورة ، والتي قام فيها بسرد تفاصيل التجربة المماثلة في مصر حينما أعلن عبد الناصر عزمه عن تغيير الميثاق الوطني وتحويله الى ميثاق قومي .. وقد أدى رفضه لاشراف أجهزة الدولة على بناء التنظيم القومي الى التصادم معها ، كما تسببت محاولته في تكوين القاعدة الشعبية للمشروع بعيدا عن أجهزة الدولة الى دخوله السجن سنة 1972 في بداية عهد السادات وتفاصيلها أيضا مذكورة في الرسالة .. لكنه في سياق الحديث عن علاقة التنظيم بالدولة الاقليمية ، نجده يسرد أحداث الانفصال بين مصر وسورية التي شهدت تعارض ارادتين في مواجهة الحدث : ارادة القيادة القومية التي بادرت عمليا بارسال قوات لمواجهة الانفصاليين ، وارادة أجهزة الدولة الاقليمية التي اعترضت على المواجهة فتم سحب القوات .. وفي هذا يتساءل عن كيفية الخروج من مأزق التناقض فيما لو كان التنظيم القومي موجودا تحت اشراف أجهزة الدولة فيقول معبرا عن سعادته بعدم وجود التنظيم في تلك الظروف : في يوم الانفصال المشؤوم عام 1961  كان رد فعل القائد القومي جمال عبد الناصر ردا قوميا . أصدر أمرا بالاستيلاء على كل مراكب النقل الموجودة في مواني مصر . أمر بشحنها بكل القوات المسلحة المتاحة . أمر الطيران بأن يحمل الى شواطئ الإقليم الشمالي كتائب من القوات الخاصة المحمولة جوا بقيادة الضابط جلال هريدي . أمر جلال هريدي بان يسقط قواته في اللاذقية ويؤمّن المواقع اللازمة لاستقبال الجند المحمولين بحرا . كان ذلك رد الفعل القومي من قائد قومي : فما الذي حدث ؟ بعد أن وصلت قوة المظليين وهبطت وقبل أن تصل القوات المحمولة بحرا صدر أمر بالراديو الی جلال هريدي بإلغاء "العملية" والاستسلام لقوات الانفصاليين . وصدر أمر بعودة  المراكب الى الموانئ وتفريغها من الجنود . وأعلن عبد الناصر الجريح قبوله الانفصال في مرثية تاريخية للوحدة الموؤودة . لماذا ؟ لأنه ما بين الصبح والمساء أحاطت الدولة بعبد الناصر . أعنى دولة مصر . لتضع تحت نظره کل ما اصطنعه رجالها من أسباب دوليه وعربية وسياسية واقتصاديه وماليه للنكوص الإقليمي عن المعركة القومية . فسحب عبد الناصر أوامره . فماذا لو كان التنظيم القومي قائما يقاتل في الإقليم الشمالي دفاعا عن الوحدة ضد الانفصاليين ...  هل ينفذ أوامر القائد القومي أم ينفذ أوامر رئيس الدولة . إننا نحمد الله - هكذا قلت - الذي لا يحمده على مكروه سواه أن التنظيم القومي لم يكن قائما حينئذ حتى لا يكون أداة تنفيذ سياسية " دولة مصر الإقليمية " بدلا من أن يكون أداة تنفيذ الثورة العربية الوحدوية . وحتى لا يتمزق التنظيم کما تمزقت أفئدة القوميين الذين كانوا يقاتلون ضد الانفصال في دمشق وحلب في انتظار الإمداد من عاصمة دولة الوحدة التي ناضلوا من اجل إقامتها . وان ذلك لدرس لا ينسى" .  

لكن من ناحية أخرى فان السؤال الذي يمكن أن يُطرح في علاقة بموضوع الحوار مع القيادة في ليبيا : هل كان احتمال وقوع مثل هذا الفشل غائبا عن ذهن الدكتور ؟

والجواب قطعا بالنفي  .. لأن الدكتور عصمت سيف الدولة  لم يترك طوال حياته جانبا سلبيا فيما يخص علاقة الدولة الاقليمية بالوحدة او بالتنظيم القومي لم يذكره أو يحذر منه .. وهو دليل اخر على أنه كان يتعامل مع الأحداث على خلفية الموقف القومي المرن سعيا منه لتحقيق المصلحة القومية دون خشية من أي فشل محتمل طالما أن تلك الخطوات لا تناقض المبدأ ولا تقدم تنازلا عنه .. والمهم أن يكون أي عمل تكتيكي في خدمة المبدأ والهدف الاستراتيجي وهو ما عبر عنه في الفقرة التالية من كتاب الاسلوب في علاقة بتحقيق الوحدة مع الاقليميين : " التكتيك هو الموقف أو الحركة المرحلية او المحلية التي يتم على مستواها الاشتباك بالقوى المعادية . وهي كما تكون موحدة اقليمياً تكون متنوعة من مكان الى مكان . وكما تكون هجومية تكون دفاعية . وكما تكون عنيفة تكون سلمية . وتختلف تبعاً لموقف وحركة القوى المعادية المشتبكة معها . وتستخدم فيها الوسائل الكافية لشل مقدرة القوى المعادية على الحركة ثم تصفيتها ، وبالتالي لا يمكن حصر لا المواقف ولا الحركات ولا الوسائل التكتيكية ، كل ماهو مطلوب في التكتيك ان يكون في خدمة الاستراتيجية وفي نطاق الالتزام بها . وهذا بالغ الأهمية وإلا انهار الأسلوب كله . فمثلاً ، التحالف او التعاهد أو التعاون مع القوى الاقليمية ( جبهة بين القوى الجماهيرية ، إو إتحاداً بين الدول ) تنفيذاً لاستراتيجية قومية يكون خطوة تكتيكية الى الوحدة . ولكنه إذ يتم بعيداً عن هذا الالتزام يكون خطوة اقليمية معادية للوحدة" ..  كما عبر في مناسبة أخرى ، على أن الوحدة مسألة مبدئية لا يجب على القوميين رفضها حينما يطلبها الاقليميون على أن تكون بشروط القوميين كما جاء في هذا القول الحاسم الوارد في كتابه "حوار مع الشباب العربي" مؤكدا – لمحاوره في مجلة الشورى - على مبدئية الموقف وصحته حين قال : "ان الاقليمين الفاشلين الذين يتذكرون الوحدة كإنقاذ لهم من الفشل كثيرون في الوطن العربي . ولكن الوحدويين الثوريين لا يرفضون الوحدة ولا يدينونها ولا يتراجعون عنها ولو عرضها الحكام الفاشلون . لأن الوحدويين الثوريين لا يتوقعون من الإقليمية الا الفشل . كل ما في الأمر ، يا أخ عبد الله ، أن الوحدويين الثوريين يقبلون الوحدة التي يعرضها الفاشلون بشروطهم هم . شروط الوحدويين الثوريين وليس شروط الإقليميين الفاشلين . انهم يعتبرون تقدم الإقليميين الفاشلين بعروض الوحدة هو تقدم المهزومين بعروض الاستسلام . عندئذ يتذكر الوحدويون الثوريون أن ضحايا الفشل ، ودافعي ثمنه ، هم جزء من الشعب العربي ، فيفرضون شروطهم . وشروطهم هي دائما أن تتم الوحدة لحساب الجماهير العربية بحيث تحل تناقضاتها مع حكامها لا مصالحة وسطية ولكن لمصلحة الجماهير وانتصارا لها . هذا هو الموقف المبدئي يا أخ عبد الله ، ومن أجل الانتصار لهذا الموقف المبدئي الصحيح يختار الوحدويون الثوريون عشرات المواقف التكتيكية المنضبطة به المؤدية اليه ولكنهم لا يفرون ولا يتخلفون عن غايتهم : الوحدة " .. وانه لا شك قول حاسم يجيب عن كل التساؤلات السابقة ويوضح طبيعة الموقف .. فتحويل الوحدة لصالح الجماهير موقف مبدئي ، لكن العمل على تحقيقها مع الإقليميين موقف تكتيكي وليس استراتيجيا ..    

الموقف الثاني يتمثل في تفاعله الإيجابي مع اتفاق بني غازي بين مصر وسوريا وليبيا لإقامة اتحاد ثلاثي عام 1971 ، يتضمن تعهدا تلتزم فيه دول الاتحاد بالسعي لإنشاء الحركة العربية الواحدة ، وقد أدى الاتفاق الى لقاءات واستفتاءات شعبية ووضع مواثيق اتحادية بقيت حبرا على ورق .. فهل كانت مثل هذه النهايات خافية على الدكتور عصمت سيف الدولة حتى يبارك هذه الخطوات ؟ والجواب نأخذه منه مباشرة وهو يشرح كيف جاءت وثيقة بني غازي ودستور الجمهوريات العربية  بين مصر وسوريا وليبيا  متضمنا لـ : " ضرورة تهيئة المناخ لقيام الحركة العربية الواحدة ، بالدعوة لقيامها ، وبالحوار الفكري لإنضاج نظريتها ، وبالإعداد البشري في إطار المنظمات القائمة لتجهيز كوادرها . إن هذا الأسلوب كأي حل صحيح ، لمشكلة واقعية يصل إليه الناس ، إما عن طريق الوعي والدراسة العلمية ، وإما عن طريق التجربة ـ لا يهم ـ المهم ، أنه بعد وفاة الرئيس عبد الناصر ، أصبحت دولة اتحاد الجمهوريات العربية الناشئة ، بكل رؤسائها ، وحكوماتها ، ومؤسساتها السياسية ، وجماهيرها ، من “ الأنصار”، لأنهم جمعياً قد التزموا في مباحثات  بني غازي بأمرين ، الأول : تأجيل إنشاء الحركة العربية ، والثاني : الإعداد لإنشائها في الوقت ذاته .. إن كلاً من الاتحاد الاشتراكي في مصر العربية ، وفي ليبيا ، وحزب البعث والأحزاب المشتركة معه في الجبهة في سورية ، كل هذه المؤسسات قد أصبحت تنشط في خطوط محدّدة  :

أ ) أن ليس أي منها هو الحركة العربية الواحدة ، ولا البديل عنها ، وبالتالي كما نص ، في "إعلان بني غازي" لا ينبغي لأي منها أن تنشط خارج حدود دولتها . لقد اعترفت كل منها بحقيقة ماهيتها الإقليمية .

ب ) أن تكون معاً "جبهة" إلى أن تقوم الحركة العربية الواحدة ، وهو ما يعني أن الجبهة ، صيغة مؤقتة ، وأنها ليست البديل عن الحركة العربية الواحدة  .

جـ ) أن تعمل جميع تلك المؤسسات "من حزبية ومؤسسات دولة في الدول الثلاث" على تهيئة المناخ لإنشاء الحركة العربية الواحدة ، وهو ما يعني أنها هي كمؤسسات ، وأحزاب ، وجبهة ، ليست الجهة التي تقيم الحركة العربية الواحدة . إنهم جميعاً قد اهتدوا إلى "بيان طارق" ، والتزموا به ، بدون أن يعرفوه ـ اهتدوا إليه عن طريق البحث عن الحل الصحيح لمشكلة قومية قائمة ، وتبنوا أسلوبه .." . (د.عصمت سيف الدولة / ملاحظات للدفاع في الجناية 37 لسنة 1972 ـ عرض أ ـ حبيب عيسى) .

وفي هذا أيضا قد يعترض البعض على أن الموقف هنا محكوم بأسلوب الدفاع أمام النيابة لدحض التهم من النواحي القانونية .. وهذا الاعتراض يكون مقبولا لو لم يرد نفس المضمون في كتاب الأسلوب بالفقرة 74 متضمنا أيضا جملة من الاعتراضات المتوقعة على الموقف من وجهة نظر قومية بخصوص أسلوب تحقيق الوحدة كما يراه الدكتور عصمت سيف الدولة ، ومتضمنا رده - في نفس الوقت - عن الاعتراضات الخاصة بالتجارب الوحدوية السابقة ، نذكر منها ما يهم المثال الذي اخترناه : "أما ما تضمنته الوثائق (في اتفاق بني غازي) من ان ذلك الاتحاد سيكون خطوة الى الوحدة الشاملة فلا شك انه يعبر عن نوايا الرؤساء ولكن المستقبل لا يتوقف عن النوايا . ولسنا نشك في ان مجرد الاصرار على تنفيذ هذه النوايا سيكون مدخلاً واقعياً يكتشف من خلاله كل من يعنيه الأمر ان تحول الاتحاد الى وحدة شاملة يتطلب فوق كل شيء قيام الحزب القومي الذي قلنا انه الاداة الوحيدة المناسبة لتحقيق الوحدة الاشتراكية الديموقراطية "الشاملة" .... انها خلاصة تجربة الوحدة والانفصال بين مصر وسورية . ولا شك في أن هذا كله كان حاضراً في اذهان رؤساء الدول الثلاث عندما اقروا في وثائق بني غازي بأن "الحركة العربية الواحدة" (وهو الاسم المتداول للدلالة على الحزب القومي) غير قائمة في اي دولة فيها ، وانه الى ان تقوم يمتنع على اية مؤسسة سياسية في أية دولة ان تنشط في الدول الأخرى (أي تبقى اقليمية) ثم تلتقي معاً في جبهة (مؤقتة) غايتها ان تهيئ المناخ الملائم لقيام الحركة العربية الواحدة . وهكذا لأول مرة في الوطن العربي تكسب الدعوة الى الحزب القومي شرعية دستورية في أكثر من دولة ، ويصبح قيامه مشروعاً وعندما تتحول هذه الشرعية الى واقع مشروع سيدخل التاريخ العربي مرحلة جديدة تماماً ، إذ تكون قد توافرت للشعب العربي لأول مرة اداته الجماهيرية المناسبة لتحقيق دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية" .

ثم بعد هذا فإننا نجد أن العرض ينتهي بإضافة هي مفتاح المواقف كلها ، الموقف القومي الحركي والموقف من وجهة نظر قومية من المشاكل المطروحة وحلولها يتجاذبها نوعان من الاكراهات ، اكراهات الظروف الموضوعية ، واكراهات الأهداف القومية وهو ما يبرّر قبول الموقفين في نفس الوقت أحدهما تكتيكي ممكن والثاني استراتيجي مؤجل التنفيذ مثلما جاء في هذا التعقيب مباشرة بعد الاعتراضات : "اما نحن فنقول ان الدولة تحت حكم فصائل القوميين التقدميين تستطيع ان تحقق مالا حصر له من منجزات هي لبنات في بناء الوحدة الاشتراكية الديموقراطية ، اما ضمان ان تكون تلك المنجزات لبنات في البناء والمحافظة عليها وتنميتها وتحديد موقعها من البناء الشامل في الوطن العربي كله ، واكمال هذا البناء فلا يستطيعه الا حزب قومي يجمع كل القوميين التقدميين في الوطن العربي ويقود الجماهير العربية في كل المواقع ضد كل القوى الى ان يقيم دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية " .. 

وكل هذه المواقف يحضر فيها الموقف القومي لكنها أقل بكثير من الموقف من وجهة نظر قومية ، والدليل ايضا ان هذا الاخير حضر - كشرط - في نهاية الفقرة السابقة ..

ولعل اللافت للانتباه في هذا الموضوع هو اهتمام الدكتور بهذا الحدث حيث نجده يتطرق اليه ايضا في كتاب "الطريق" وفي كتاب "اعدام السجان" ، حتى انه قام بإبراز الكثير من العواطف - في هذا المرجع الاخير - تجاه قادة المبادرة حين قال لمخاطبه في الرسالة التاسعة من باب الرسائل : " وأقرأ في زنزانتي خبر انتصار افكاري ، قيادة موحدة يختارها الرئيسان أنور السادات ومعمر القذافي لتجتمع يوم 3 سبتمبر لتصوغ الوحدة عن طريق لجان تابعة لها خلال عام . لعلك تكون واحدا منهم . عندما يجتمع هؤلاء الاخوة العرب -اسميهم هكذا في صيغتهم تلك - هل يمكن لأي واحد منهم أن يقول أنه عضو في القيادة الموحدة أو لجانها بناء على القانون رقم كذا في دولته .." ... ثم يمضي في المحاججة ، اذ ان الفكرة كلها تقوم على مفارقة عجيبة بالنسبة للدكتور عصمت سيف الدولة ، وهي أن التهمة التي يقبع بسببها في السجن ، يجتمع بسببها أيضا قادة الدولتين في بني غازي من أجل تحقيقها ، وكلاهما (عصمت سيف الدولة والقادة) يسعى اليها بطريقته .. لذلك يمضي في طرح الأسئلة حول مشروعية الاتفاق في علاقة بقوانين الدولتين مستخلصا ان مشروعيته الوحيدة هي وحدة الامة العربية والثورة على تجزئتها ... وانها اذن محاولة التحام خارج نطاق الدولة ... وهو في النهاية ما يدعو اليه .. ويتمنى تحقيقه ، مما جعله يتوجه لمن يخاطبه بالنصيحة التالية : " ان قيض لك ان تكون واحدا من صانعي الوحدة بين مصر وليبيا ، فليكن ربع جهدك من أجل الإجابة عن السؤال : كيف تكون الوحدة . ولتكن ثلاثة أرباع جهدك من أجل الإجابة عن السؤال : كيف لا يقع الانفصال . " ..

كما وجدناه يشير الى اتفاق الوحدة في كتابه "حوار مع الشباب العربي" حين تحدث عن قرار مجلس الثورة الصادر في 3 أبريل 1975 بتعديل النظام الأساسي للاتحاد الاشتراكي - متمنيا - لو أن القرار جاء متضمنا بندا يعفي الاتحاد الاشتراكي في الجمهورية العربية الليبية من مهمة إنشاء التنظيم القومي على غرار ما جاء في اتفاق بني غازي ، مشيدا بتلك المادة قائلا : "ان غاية التنظيم كما حددتها المادة الثالثة تضمنت .. "حماية" الحرية و"إقامة" الاشتراكية و"الدعوة" الى الوحدة . فيما يختص بالوحدة هو الذي يستحق الانتباه ..

بعد الانتباه يأتي التأمل وبعد التأمل يستطيع أبو ذر أن يقول : يعجب كل قومي تقدمي ويسعده قبل كل شيء ما نص عليه النظام من أن غاية التنظيم فيما يتعلق بالوحدة هي الدعوة اليها . لا تحقيقها . انه نص علمي وواقعي معا . فوراءه لا شك وعي ملاءمة كل أداة لغايتها . ولما كان الاتحاد الاشتراكي العربي هو تنظيم للشعب في الجمهورية العربية الليبية فان تحميله مسؤولية غايات تتجاوز مقدرته كأداة لا يعني سوى ترشيحه للفشل .. وبهذا يزول أول تناقض بين التنظيم في إقليم وبين التنظيم القومي الذي هو أداة لا بد منها لتحقيق الوحدة . يستطيع الأول أن يدعو ويحضر فكريا ودعائيا للوحدة ويبقى الإنجاز منوطا بالثاني . انهما غير متوازيين وغير متناقضين فلا يعني تنظيم الشعب العربي في الجمهورية العربية الليبية في الاتحاد الاشتراكي العربي أنه قد استغنى بتنظيمه عن المشاركة في التنظيم القومي عندما يقوم . ولقد كان أبو ذر يتمنى لو أن النظام الذي صدر قد تضمن مادة إضافية تؤكد هذا المعنى كتلك المادة 62 من دستور دولة الاتحاد التي نصت على التزام  التنظيمات السياسية في الأقاليم تهيئة المناخ لإقامة الحركة العربية الواحدة بما يعنيه هذا من اعتبار ذاتها منظمات "مؤقتة" الى أن تقوم الحركة العربية الواحدة ، ليستقر في وجدان الشعب العربي أن كل تنظيم له في ظل التجزئة وحدودها هو تنظيم "ضرورة" مؤقتة لا بد له من أن ينتهي عندما يستطيع الشعب العربي أن يطوّع ظروفه لقيام تنظيمه القومي ." .. وهو موقف نستطيع أن نفهمه أيضا في سياق التأكيد لأفكار سابقة ، فهو - من ناحية أولى - لا ينفي إمكانية وجود تنظيمات شعبية إقليمية مهما كان نوعها (منظمات ، أحزاب ، جمعيات ..) تسبق في وجودها وجود التنظيم القومي ، ويرفع عنها الحرج والإدانة - من ناحية ثانية - حين تلتزم بحدود الدور الذي تؤديه من موقع الضرورة كما جاء في هذه الفقرة ..

وزيادة على هذا ، فان الدكتور يعود الى الاتفاق من زاوية مغايرة في مقال بعنوان "انتحار أنور" في سياق حديثه عن التجاوزات الدستورية التي أقدم عليها السادات ومن ضمنها بنود الدستور الاتحادي قال فيه : " باختصار شديد انتهك أنور السادات كل ما التزم به دستورياً وسياسياً وخالف كل القوانين التي اختارها بنفسه ليحكم ويحاكم بمقتضاها  ... لقد كان أنور السادات قد تعهد بالالتزام :

1- بدستور اتحاد الجمهوريات العربية المتحدة .

2- أنه لا صلح ولا تفاوض ولا تنازل عن أي شبر من الأراضي العربية المحتلة .

3- أنه لا تفريط في القضية الفلسطينية ولا مساومة عليها " ..

ثم أضاف : " صدر دستور 1971 يوم 11 سبتمبر 1971 عن طريق الاستفتاء الشعبي . قبل ذلك بعشرة أيام أي في يوم 1 سبتمبر 1971 . استفتى أنور السادات الشعب العربي في مصر على دستور آخر اشترك فيه مع سوريا وليبيا في إنشاء اتحاد الجمهوريات العربية .. ونص هذا الدستور على أنه أسمى من أي دستور يصدره أي قطر من أقطار الاتحاد . أهم من هذا وأخطر أن الدستور الاتحادي الذي وقع على وثائقه أنور السادات واستفتى فيه الشعب وأصدره قبل أن يصدر دستوره الدائم تضمن ما أسماه الدستور الاتحادي وحدة الأمة العربية بينما عاد السادات في دستوره الدائم من الأمة إلى القبائل إلى القرى ، فأصبح من "أخلاق القرية" قبول " كبير العائلة ، حاكماً وحكماً لا يسأل عما يفعل وأهل القرى يسألون ، ويملك هو كل ما يملكون ونموذجه الأسبق في تاريخ مصر هو فرعون .. فلقب "فرعون" الذي يعرف به حكام مصر القدامى ، يعني على وجه التحديد ، صاحب البيت الكبير .. أي مالك القطر كله"  ..

... وأكثر من هذا كله ، فانه يعود مرة أخرى ، ومن نفس الزاوية القانونية والدستورية ، للحديث في موضوع اتفاق بني غازي في مقال له بعنوان "السادات .. الله يرحمه" نشر بكتاب الأهالي العدد 16 في شهر أكتوبر 1987 وقد كتبه بتاريخ 13 أكتوبر 1982 ، يعدد فيه الأمثلة المتعلقة بالتجاوزات والخروقات الدستورية من طرف السادات في ظل دستور الجمهوريات المتحدة القائم الذات وعلى رأسها معاهدة الصلح مع إسرائيل وقد كانت مصر محكومة بدستورين ، الدستور الأصلي والدستور الجديد ، حيث نجده يتطرق الى هذا الموضوع تحت عنوان فرعي " دستور يحرّم الصلح مع إسرائيل " احتجاجا على المعاهدة جاء فيه : " ولعل أكثر الأمثلة وضوحا موقفه من دستور 1 سبتمبر 1971 . لقد اشترك هو شخصيا في صياغة أحكامه مع شركائه وحلفائه في ذلك الحين : حاكم سوريا وحاكم ليبيا . وأحاطه بهالة من التقديس الى درجة اعتباره ثمرة انتصاره على من أسماهم مراكز القوى . ورفعه درجة على أي دستور يصدر في مصر فضمّنه نصا يلزم مصر - حين وضع دستوره - بالّا تضمّنه ما يتعارض مع هذا الدستور . ثم استفتى فيه الشعب فوافق عليه بما يقارب الإجماع . تعثر هذا الدستور ثم تعطل ثم توقف العمل به نهائيا لأسباب لا يسأل عنها السادات وحده . ولكن لما كانت الدساتير تظل قائمة وملزمة ومقياسا للشرعية الى أن تلغى بالطريقة التي نصّت عليها فان هذا الدستور ما يزال قائما في مصر . أقول في مصر لأننا لا نهتم بموقف ليبيا أو سوريا من المشكلة الدستورية وإنما الذي يهمنا الالتزام بدستور اختاره الشعب العربي في مصر وعدم تجاهله . وفي مصر لو عرض أمر دستور 1 سبتمبر 1971 على اية محكمة دستورية لطبقته وأبطلت كل تصرف أو قانون صدر على خلاف أحكامه . هذا الدستور المكوّن من وثيقتين جرى الاستفتاء عليهما معا يتضمن نصا صريحا قاطعا يحرّم على أي من الدول الثلاث الصلح مع إسرائيل أو التفاوض معها أو التنازل لها عن أي شبر من الأرض العربية . جاء هذا النص تحت عنوان (الأحكام الأساسية) "..

وفي هذا المثال بالذات الذي يخصص فيه الدكتور عصمت سيف الدولة احتجاجه الصريح على مصر وحدها في مسألة تجمع ثلاث دول عربية ، يتبين بوضوح خلفية الموقف الذي يغيب فيه تماما الموقف من وجهة نظر قومية باعتبار أنه يناقش مسألة "داخلية" خاصة بالسادات وأسلوبه في الحكم .. ثم اننا - حينما نعود لمراجع أخرى ذات صلة بالموضوع - نفهم منها أن أسلوب التخصيص لا يعني بالمرة أنه قائم على نظرة اقليمية ضيقة بقدر ما هو تخصيص لازم لتدقيق النظر في موضوع لا يسمح فيه المقام بالتوسع في جوانبه المتشعبة ، وفي نفس الوقت هو قائم على خلفية وجدناها عند الدكتور عصمت سيف الدولة تتصل بفهمه للعلاقة الموضوعية بين الكل والأجزاء ، عبر عنها صراحة في المرافعة القانونية الموجهة لمجلس الشعب والواردة بكتاب هذه المعاهدة وهو يتحدث عن موضوع الصلح الخاص بمصر ، وقد جاء فيه ما يؤيد الناحيتين المذكورتين (التخصيص والعلاقة) حين قال : " ومن أجل هذا (يتحدث عن التضحيات العربية)  نريد أن نقطع طريق الالتفاف حول حقيقة اتفاق 26 مارس 1979 ، ونتجنب كل دعاوي قيلت تأييدا للاتفاق أو نقدا له ، قد تنطوي على قدر من الصدق المجرد الذي يتلاشى بمجرد انتسابه الى واقع اجتماعي معين في زمان معين . نريد أن نحصر انتباهنا ، ونقصر حوارنا ، على ما أفاد أو أضر مصر على وجه التحديد . حتى فلسطين ، حتى الدول العربية ، حتى الأمة العربية ، سنقيس ما يكون قد أصابها من ضرر أو نفع أو نُقيّمه طبقا لآثاره الفعلية على مصر . واذا كنا سنكتشف أن ما يضر الأمة العربية يضر مصر وما ينفع الأمة العربية ينفع مصر وأن العكس صحيح ، فلن يكون ذلك الا تأكيدا لوحدة الانتماء القومي التي صاغها دستور مصر في مادته الأولى " الشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها" .

وفي الأخير ، فان ما يؤكد اهتمام الدكتور بتلك الخطوة الاتحادية لهذا الاتفاق الذي بدأ منذ زيارة عبد الناصر الى ليبيا أواخر عام 1969 ليس فقط تكرار الحديث فيه ، بل أيضا انشغاله بالموضوع مؤيدا تلك الخطوة حتى بعد وفاة عبد الناصر وقبل إمضاء الاتفاق سنة 1971 .. حيث وجدناه يثير الموضوع بكل جدية في محاضرته الشهيرة " تنظيم قومي من أجل الوحدة الاشتراكية " (جامعة القاهرة ـ بتاريخ  8 / 1 / 1971) الى حد اعتباره خطوة على طريق التنظيم القومي متقدما بالنصائح للرؤساء الثلاثة منذ 1970 ، مذكرا بشروطه المبدئية في قبول أي خطوة وحدوية تأتي من جانبهم كرؤساء لدول اقليمية حين قال : "غير أن الظروف العربية التي أشرنا إلى بعضها قد طرحت على دعاة التنظيم القومي التقدمي مسؤولية مواجهة الإلحاح المشروع الذي أصبح طابع السؤال : كيف يقوم التنظيم القومي ؟ وكان لا بد من التوفيق بين ضرورة الإجابة ، ومسؤولية إبقاء الحوار في مستواه الفكري معاً . فقدمّنا شطراً من الإجابة في تعليق حول إعلان العمل من أجل "اتحاد عربي ثلاثي" .. نشر في مجلة الكاتب العدد 117 ديسمبر 1970 .. قلنا فيه  :

إن ما يخص الرؤساء الثلاثة منه ، هو على وجه التحديد  :

أولاً ـ ألا يحاولوا إنشاء التنظيم القومي وهم في مواقع السلطة من دولهم حتى لا يأتي جهازاً من أجهزة الدولة مشدوداً بقيودها الدولية ، والدستورية ، فلا يقدر على ما لا تستطيع هي أن تقدر عليه .

ثانياً ـ أن يكفوّا الدول التي يحكمونها عن تعويق إنشائه ، ثم يتركوا للقوى القومية التقدمية في الوطن العربي أن تواجه مسؤولياتها بعد أن واجهوا هم مسؤولياتهم " .  

وكل هذه المواقف التي تعامل بها الدكتور عصمت سيف الدولة مع الوقائع والأحداث الجارية  يحكمها الموقف القومي ، المتميز بالمرونة التامة مع الأحداث في غياب التنظيم صاحب الاختصاص الوحيد في اتخاذ المواقف الحاسمة التي يواجه بها كل المستجدّات من منطلقه القومي وإستراتيجيته القومية .. وقد عبر عن ذلك بعد الفقرة السابقة مباشرة ، معتبرا أن نصيحته السابقة سلبية ، لكن المصلحة القومية تفرض على كل من يحرص عليها أن يقف في حدود الدور الموكول إليه ، وأن دوره في هذا - كمفكر - لا يمكن أن يتجاوز الاجتهاد الفكري حين قال : " إجابة سلبية . نعم . ولكنها في رأينا إجابة على سؤال شائك كان مطروحاً دائماً في الحوار حول الإجابة الإيجابية . بقي أن تعرف القوي القومية التقدمية كيف توفي بمسؤولياتها . فإذا لم تستطع ، فإنها  برغم كل ادعاء  تكون غير ناضجة بالقدر الكافي لتحمّل تلك المسؤولية . ويكون من خير الأمة العربية ، ألا تستطيع قوى غير ناضجة ، إقامة تنظيم تجهض به مولد التنظيم القومي المنتظر . .

وإلى أن تعرف ، فتستطيع … لا نستطيع من جانبنا إلا أن نتقدم إليها ، ببعض الاجتهادات الفكرية التي نأمل أن تساعدها على معرفة الطريق إلى غايتها العظيمة " .. وهي اجتهادات تهم الخصائص العامة للتنظيم ذكرها وكرّرها أيضا في عديد المناسبات والمراجع .. ولعلنا في هذا السياق ، واستكمالا للحديث ، وإنصافا لصاحبه ، نذكر له قولا حاسما من هذا الاتفاق وجدناه في مواضع الحسم وبالتحديد في التقديم الوارد بكتاب الطريق طبعة دار المسيرة عام 1979 قال فيه : ".. بعد وفاة الزعيم الراحل اقتربت مصر وسورية وليبيا والسودان خطوات من هدف الوحدة . تراجعت عنها حكومة السودان وأعلن بعدها قيام دولة الاتحاد الثلاثي "مصر – سوريا – ليبيا" . وقيل في وثائق الاتحاد أنه خطوة في سبيل الوحدة يتطوّر بعدها الى أن تصبح الدول الثلاث دولة واحدة . وفي نطاق الاتحاد أنجزت حكومة مصر وحكومة ليبيا كل الدراسات والوثائق اللازمة للوحدة بينهما وكادت تلك الوحدة أن تتم الى درجة أنه ليس معروفا على وجه محدّد لماذا لم تتم . المهم أن كل تلك المحاولات "الحكوميّة" قد فشلت . وثبت مرة أخرى ما تردّد في تلك الدراسات التي يعاد نشرها الان من أن الوحدة لا يمكن أن تتم ، بل يستحيل أن تتم ، اتفاقا بين الحكومات وفي غيبة التنظيم القومي التقدمي القادر على فرضها – بالوسائل المناسبة – على الحكومات في الدول الإقليمية" ..  وهو ما يؤكد أن كل استشهاداته اللاحقة بالدستور الاتحادي في عهد السادات وبعده إنما تأتي في إطار المعارك التي خاضها وبالأسلوب الذي اعتمده لمواجهة سياسات التطبيع والاعتراف بالعدو خاصة في مرافعاته القانونية وقد أصبح ذلك الاتفاق دليل فشل ولم يعد يستحق الذكر الا بالقدر الذي يفيد في تلك المعارك المصيرية ومنها – في الحد الأدنى – فضح تلك السياسات وتقديم الموقف الصحيح الذي سيبقى ثابتا على مر الأجيال .. وهو دليل اخر على المرونة في أسلوب التعامل مع الواقع سعيا لتحقيق الممكن المتاح دون الاستهانة بأي مجهود يبذل في خدمة القضايا القومية المصيرية وهي تحتاج الى مراكمة نضالية طويلة وشاقة ..

-14-

وفي كل الأحوال ، ومهما تكن أقلية الدرجة لأي موقف قومي عن الموقف من وجهة نظر قومية ، فانه يبقى مرتبط دائما بالمبدأ وبالواقع الموضوعي من أجل تحقيق غاية مرحلية ممكنة ومفيدة .. وفائدتها أن لا تكون مناقضة أو على حساب الأهداف الإستراتيجية المحكومة بدورها بمدى الالتزام بنظرية تغيير الواقع .. وهو ما قاله الدكتور عصمت سيف الدولة في كتابه حوار مع الشباب العربي : "حجر الأساس في بناء أي تنظيم هو الوحدة الفكرية . وحدة النظرية التي تلتقي عليها الجماهير وتلتزم بها وتحتكم إليها ، فتضبط خطاها في مواقعها ولا تسمح للمعارك التكتيكية بان تكون على حساب الهدف الاستراتيجي " .. ورغم ان العلاقة بين النظرية والإستراتيجية والتكتيك بالنسبة للتنظيم الذي يتبناها ليست قي حاجة الى توضيح أكثر بالنسبة لعامة القوميين الا أننا نجد موقفا آخر استنبطه الدكتور - اجتهادا - من الموقف الديني في كتابه حوار مع الشباب العربي ، نذكره - لطرافته وقد كان على غاية من الإبداع والأهمية - وهو يعرض سلوك إبراهيم عليه السلام مع الكفار حينما قام بهدم آلهتهم ، قال فيه : " ... بدأ استجوابه ، " أنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم " ؟ . بماذا يجيب إبراهيم ؟ هل يصدقهم القول ؟ .. ذلك كان موقفه الأول في المرحلة الأولى . مرحلة الحوار والاحتكام الى العقل . مرحلة "الديمقراطية" أنهوا هم تلك المرحلة وبدأ هو مرحلة الصراع . الآن هو وهم أعداء يواجه بعضهم بعضا . " قالوا أنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم " ؟ .. ليس هذا السؤال في مرحلة الصراع بحثا عن الحقيقة بل بحثا عن مبرّر شكلي لبطش مبيّت . الصدق لا يكون الا بين الأصدقاء . لا حق للأعداء في أن يعرفوا الحقيقة لأنهم لا يبحثون عنها ولا يرتضونها . فلقّننا أبو الأنبياء واحد من أهم قواعد التعامل مع الأعداء . حجب الحقيقة عنهم . "قال بل فعله كبيركم هذا " . ولم يكذب إبراهيم عليه السلام . فقد كان صادقا في موقفه الثالث ، كما كان صادقا في موقفيه الأول والثاني . والعبرة في كل موقف بظروفه الذاتية والموضوعية . بحيث يظل الموقف التكتيكي ، محكوما دائما بالهدف الاستراتيجي كما يحدده المبدأ العقائدي . ذلك هو مناط الصدق في الموقف " .. فمصارحة الأعداء ليس صدقا بل خذلان للمبدأ ..

وهكذا ، أينما بحثنا عن ضالتنا ، سوف نصل الى التسليم بعلوية الموقف الاستراتيجي على المواقف التكتيكية وإخضاعها اليه ، وكذلك الموقف من وجهة نظر قومية بالنسبة للموقف القومي للقوى القومية .. ثم لا تبقى الا الممارسة محكا لفرز الغث من السمين .. غير أن السؤال الذي يطرح نفسه : كيف نستطيع من خلال الممارسة فرز المواقف - ونحن في هذه المرحلة - دون الوقوع في الخلط بين الموقف القومي والموقف من وجهة نظر قومية ، بحيث لا يكون الخلط القائم مجالا أو سببا في قيام الصراع كما هو حاصل في الواقع بين القوميين ؟

قبل الإجابة نحتاج من الناحية المنهجية الى الفصل بين الموقفين . لان الموقف من وجهة نظر قومية - في الظروف الحالية - هو الموقف القائم على الأهداف الإستراتيجية في جميع الجوانب المتعلقة بالمشروع القومي التي تنبثق منها - بالضرورة - الإستراتيجية القومية وهي مهمة لا يستطيع الوفاء بها الا تنظيم قومي قائم الذات .. وهو ما يعني أن إمكانية تجاوز الحديث بالنسبة لتلك المضامين التي تكاد أن تكون معروفة استنادا الى نظرية تغيير الواقع منطلقا وغاية وأسلوبا اذا سلمنا بالمشروع الفكري للدكتور عصمت سيف الدولة من جهة أننا نناقش موضوع "الفرز" المنسوب اليه منذ البداية .. بقطع النظر عن المشروع الفكري للتنظيم القومي الذي لا نعلمه وهو غير موجود .. لذلك لا يبقى أمامنا الا الحديث عن خصائص الموقف القومي للقوى القومية المتسبّب في كل الخلافات والصراعات عند كل اجتهاد يتعلق بالمتغيرات من الأحداث بين القوميين وهم في حالة التشتت التنظيمي ..

على هذا المستوى ، وإجابة عن السؤال من هذه الزاوية سنعود أيضا للدكتور عصمت سيف الدولة في محطات عديدة يحدّد فيها معيارا مهمّا للحكم على المواقف السياسية سواء بالنسبة للسلطة الحاكمة أو بالنسبة للأحزاب والحركات السياسية ، ويعبّر عنه "بالاتجاه العام" .. وقد سمّاه حينا بـ "الاتجاه العملي" ، وحينا اخر بـ "بالمقياس" وأحيانا أخرى "بالمعيار" .. كما ذكر له - مرّة - مفهوما مرتبطا بـ"القوانين الاقتصادية" الفاعلة في المجتمع ، ومرة ثانية بـ"المفهوم العلمي" ، وثالثة بـ"المنهج العلمي" ، ومرات عديدة بـ"حركة التطور الاجتماعي ، وكل هذا التنوع الذي لا يخرج في مجمله عن وحدة "الدلالة" للمفهوم المقصود "كمعيار للحكم" ينفي عن هذا التكرار أي احتمال للاستعمال العشوائي للعبارة في كل المناسبات التي وردت فيها  كما سنرى لاحقا  ..

المحطة الأولى في حوار للدكتور عصمت سيف الدولة في 11 جانفي 1984 (حوار مع جريدة الرأي العدد 303) عن الوضع في مصر في عهد حسني مبارك الذي اعتلى كرسي السلطة  بعد فترة السقوط التي شهدتها مصر في عهد السادات ، وقد بدى - وقتها - كمنقذ لأكبر دولة عربية من الهوة التي تردت فيها .. وقد كان السؤال الذي أقرّ ضمنيا بمضمونه : نريد أن نعرف رأيك فيما قيل ويقال منذ تولي الرئيس حسني مبارك عن التغيير ؟ وهل هناك تغيير حصل فعلا ..؟

وقد كان جوابه بكل إفاضة : " أما عن التغيير في مصر منذ تولي الرئيس حسني مبارك فهو في الجزئيات وأسلوب الآداء وليس في الاتجاه العام لسياسة الحكومة . وفي رأيي أن هذه التفرقة مهمة جدا ذلك لان الأسلوب المتميز الذي كان يؤدي به الرئيس محمد أنور السادات اتجاهه السياسي كان أسلوبا فضا واستفزازيا لا تتوقف جسارته على أي اعتداء بردود الأفعال . باختصار كانت المميزات الشخصية للرئيس السادات مصاحبة لسياسته الموضوعية ، وكثيرا ما كانت تطغى على طابعها ، ولعلي اضرب لك مثلا بزيارة السادات للقدس .. فمن الناحية الموضوعية لم تكن هذه الزيارة لازمة لإنشاء العلاقات التي انتهت باتفاقية كامب ديفيد . وكان كل شئ ممكن لو لم تتم .. ولكن السادات وحده هو الذي كان يريد أن يلفت العالم الى حدث يقوم به هو وحده لأسباب نفسية لا أريد الخوض فيها بعد وفاته .. مثل ثاني أوضح ، السباب والشتائم التي كان يوجهها السادات إلى معارضيه .. وأمثلة كثيرة يؤدي الحديث عنها إلى المساس به وهو ما لا أريده بعد أن أصبح في ذمة الله .. كل هذه الأساليب الغليظة الاستفزازية اختفت وأصبح لدينا رئيس جمهورية يتعامل سياسيا بأسلوب موضوعي .. وأستطيع ان أقرر بأن كل الذين أرهقهم السادات يشعرون بأن التعامل مع حسني مبارك مريح .. وقد تأثر كثير من المعارضين السابقين للسادات بهذا الأسلوب المهذب الى درجة أن خلطوا بين التغيير في الأسلوب والتغيير في الموضوع .. فتحولت مواقفهم من المعارضة الى شبه التأييد أو التأييد الكامل . وهذه نقطة الخلاف الأساسية التي سمحت بقيام جدل حول التغيير وجودا أو عدما في مصر ولست أريد أن أتابع مواقف الآخرين حتى لا يعتبر تشهير بأحد ولكني أكتفي بأن اعبر عن رأيي الخاص وهو كما ترى رأيا غير متفق عليه .. أنا أرى أن التغيير في الأشخاص وفي أساليب الآداء وفي الجزئيات وفي المراحل أمور حتمية تقع بفعل التأثير المتبادل بين الإفراد والأشياء على مدى الزمان في أي مجتمع وتحت أي نظام .. وأن العبرة ليست ما يحدث من تغيرات جزئية أو في الأساليب ، ولكن في الاتجاه العام للسياسة ، بمعنى الى أين تتجه الدولة ؟ أما كيف ، والأدوار التي يقوم بها الأشخاص وأساليبهم في الآداء فهي تغيرات ثانوية ، بمعنى أنها محكومة في النهاية بالاتجاه أو الخط العام .. وأعتقد طبقا لهذا المقياس أنه لم يحدث أي تغيير في مصر منذ عام 1974 حتى الآن .. فابتداء من أول سبتمبر 1974 اتجهت سياسة مصر اتجاها واحدا واضحا وان كان تدريجيا هو أن تصبح دولة رأسمالية .. وفي سنة 1974 صدرت ثلاث قوانين في مصر حددت هذا الاتجاه الأول : قانون استثمار الأموال الأجنبية الذي منح رؤوس الأموال الأجنبية كل ما يخطر على البال من امتيازات مغرية للاستثمار في مصر بما فيها الإعفاء من الضرائب خمس سنوات والإعفاء من الجمارك 5 سنوات ، وحق إعادة تصدير رؤوس الأموال وإنشاء البنوك الأجنبية .. ثم قانون إلغاء احتكار الدولة للتجارة الخارجية وإباحتها للأفراد ..  ثم قانون التصريح بالوكالة عن المؤسسات الأجنبية للأفراد وكانت ممنوعة من قبل .. وهكذا فُـتحت مصر للنشاط الرأسمالي وأصبحت جزءا من السوق الرأسمالي العالمي ، وأصبح اقتصادها يخضع لقوانين المنافسة في السوق المحلي المحكوم بدوره بالمنافسة في السوق العالمية الرأسمالية .. وهذا جوهر ما يسمى سياسة الانفتاح الاقتصادي .. ولما كانت مصر اضعف إنتاجا من دول هذا السوق فقد تدفقت عليها أزماته ، فبدأ التضخم وارتفعت الأسعار وتعطل الإنتاج المحلي أمام المنتجات الأجنبية وكثرت البطالة التي أدت الى الهجرة الكثيفة واختل الميزان الاقتصادي مما حمل الدولة على أن تطلب المعونات والقروض التي بلغت الآن نحو عدة مليارات فأصبحت الحياة في مصر للشعب العادي متوقفة على استمرار إمكانية الحصول على تلك المعونات ..

طبقا لهذا عندما أريد أن ابحث عن التغيير في مصر فإنني انتبه الى أصل الداء والمميز للنظام ذاته لأعرف الإجابة عن السؤال التالي : هل حدث تغيير في نظام الانفتاح الاقتصادي أم لا ؟ هل مصر غيرت اتجاهها نحو الرأسمالية آم لا ؟ وإجابتي أن مصر ما تزال مندفعة نحو إكمال البناء الرأسمالي للدولة ، وأنها تؤدي هذه العملية بنشاط ملحوظ وبأسلوب أكثر عقلانية مما كان أيام السادات .. وهكذا نرى أن النظام الذي بدأ أيام السادات ، تجري الآن عملية تثبيته وعقلنته وترشيده في ظل حسني مبارك ليكون أكثر قبولا شعبيا وليس لتغييره " ..

وفي محطة ثانية ، وبعد هذا التصريح بعام واحد يعيد صياغة الموقف بأكثر وضوح مسميا ذلك الأسلوب الذي اعتمده في تحديد المواقف (الاتجاه العام) "بالمعيار" ، شارحا كل تفاصيله وهو يردّ على سؤال جريدة الوطن الكوتية في حوار معها  بتاريخ 5 / 3 / 1985 عن سؤال "ماذا يجري في مصر ؟" جاء فيه : "ان المعيار الوحيد لمعرفة ما يجري في أية ساحة والى أين ، هو تجاهل المفردات والتركيز على الاتجاه العام . طبقا لهذا المعيار أستطيع أن أقول أن مصر الآن في مفترق الطرق الى درجة يصدق معها ما يقوله البعض أن أحدا لا يعرف الى أين يتجه ذلك  لأن مصر قد بدأت بعد وفاة السادات على اتجاهه .

واتجاه السادات كان محدّدا بعلامات واضحة أدّت كل علامة منها الى ما يليها فتكوّنت منها سلسلة أوضحت معالم الاتجاه العام .

بدأت أول العلامات بعد حرب أكتوبر 1973 بما يسمى الانفتاح الاقتصادي ، أدّى الانفتاح الى اندماج الاقتصاد المصري في البنية الاقتصادية الرأسمالية . تدفقت الى مصر رؤوس الأموال والنشاطات الرأسمالية بكل أزمتها الناشبة منذ عام 1970 فعرفت مصر التضخم وغلاء الأسعار والمضاربة والنشاطات الطفيلية ، ولأن مصر اضعف إنتاجا من أن تتغلب على هذه الأزمة فقد لجأت الى الاستدانة لتعويض نقص الإنتاج . فأدّى ذلك الى تحول مصر بشكل أساسي الى سوق استهلاكي للسلع الرأسمالية المستوردة . أصبح إشباع الاحتياجات الأساسية للشعب من أول الخبز الى الفول الى ما فوق ذلك متوقفا على ما يأتي من الخارج.

قبضت الدول المتقدمة الرأسمالية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية على شعب مصر من أمعائه . ثم قدمت له الطلبات ، والنصائح ، والمشورات التي تدور كلها حول مقولة باردة الكلمات قاطعة الأثر : لكي يمكن الاستمرار في المعونات الاقتصادية وتدفق رؤوس الأموال .. لا بد من أن يطمئن الرأسماليون .. ولكي يطمئنوا لا بد من إنهاء حالة الحرب . وإنهاء حالة الحرب أدّت الى القطيعة العربية ، فتفاقمت الأزمة ومات السادات" ..

ثم في المحطة الثالثة يذكر مثل هذا الرأي في سياق آخر في مقال بعنوان "الخروج من المستنقع أولا" نشر بجريدة السفير بتاريخ 7 فيفري  1981 .. تحدث فيه عن الوضع في مصر ، منتقدا مواقف بعض القوى السياسية خاصة اليسارية منها في فترتين مختلفتين ، فترة ثورة يوليو 52 وما بعدها .. وهو مقال يحمل أفكار ومعايير في تطابق تام مع المعيار الذي استعمله في الحكم على فترة مبارك ، لكنه في سياق جديد يحمل إضافة طريفة يصلح فيها تطبيق هذا المعيار على الحكم والمعارضة معا .. فبعد ان يُذكّر في مقاله بقصة اليسار واليمين في فرنسا بعد الثورة ، وما شهدته الساحة السياسية الفرنسية  من تقلبات وتبادل للأدوار في تلك الفترة ، ينتقل للتمهيد في الحديث لما يتصل بالأوضاع في مصر فيقول  : "بحكم ان المجتمع في حركته يتغير دائما بفعل التأثير المتبادل بين عناصر تكوينه الداخلي ، وبينه وبين المجتمعات الأخرى لا تبقى المواقف الثابتة على مضمون واحد ، ففي كل لحظة  في اي مكان تُطرح على المواقف مضامين جديدة ... وهكذا ننتهي الى انه لا يوجد في الحقيقة الاجتماعية موقف يميني ثابت او موقف يساري ثابت ، ولكن يوجد اتجاه (موقف في حالة حركة) يميني او اتجاه يساري هو الذي تتحدّد به المواقف الجزئية والمرحلية ، وعندما يتحدّد الاتجاه لا يستطيع الموقف الجزئي أو المرحلي ان يتناقض معه ، فإذا تناقض يكون قد خرج عليه . وهكذا يكون من الخطأ الفادح تحديد انتماء الناس الى اليسار او الى اليمين على ضوء مواقف جزئية أو مرحلية ، فعلى هذين المستويين قد يلتقي اليمين واليسار في موقف جزئي واحد ، وقد يلتقيان في مرحلة واحدة ، وقد يختلطان في بعض المواقف الجزئية والآنية ، فلا يبقى مميزا لأي منهما الا الاتجاه الذي يحدّد حركته الى المستقبل ، اي الى حيث لم يلتقيا بعد " .. وعلى هذا الأساس انتقد الدكتور عصمت سيف الدولة مواقف القوى اليسارية في مصر من ثورة 23 يوليو باعتبارها مواقف خاطئة حين اتخذت منها موقفا مضادا بناء على مواقفها الجزئية المتذبذبة ، متجاهلة كليا اتجاهها التحرّري بداية ، ثم الاشتراكي لاحقا حتى أصبحت العلاقة صدامية .. وقد ورد تأكيد مماثل لهذا الموقف قبل ذلك بكثير في موضوع اليسار واليمين في كتاب الأسلوب حين قال : "أن اليسار واليمين لا بد ان يُنسبا الى اتجاه ثابت " ، حتى يتوقف نهائيا عبث اليمين واليسار ، اذ أن .. " اليسار الفرنسي مثلاً ظل يساراً حتى وهو يشن علينا في مصر والجزائر حرباً استعمارية . واليسار الشيوعي ظل يساراً حتى وهو يناهض الوحدة . وفي عدد خاص من مجلة ” الازمنة الحديثة ” جمع سارتر كلاماً كثيراً ممن قيل أنهم يمثلون اليسار العربي واليسار الاسرائيلي ، فأصبح بعض الاسرائيليين يساراً على الأرض التي اغتصبوها أو شرّدوا أهلها " ..

أما في المحطة الرابعة ، فنجد رأيا مطابقا تماما للاراء السابقة ورد في كتاب الأحزاب ومشكلة الديمقراطية ، وقام فيه الدكتور عصمت سيف الدولة بعرض الأساليب التي تم بواستطها التلاعب بالديمقراطية في تلك الفترة مستعملا نفس المعيار في الحكم على الممارسة الديمقراطية من خلال رصد الاتجاه العام للسياسة المعتمدة في الجانبين التشريعي والواقعي ، خصص له فصلا كاملا ب 35 صفحة من الكتاب ، واستهله بعنوان "الاتجاه العام" . وقد تكرّر استعمال هذه العبارات عديد المرات خلال التحليل والتقصّي للأساليب العبثية المتبعة في الانقلاب على الدستور للخروج من الاتجاه الاشتراكي الى الاتجاه الليبرالي .. نذكر منها بعض الفقرات لأهميتها في الموضوع ، وقد بدأ حديثه بالتأكيد على جدوى هذا المعيار في حسم المواقف : "والآن ما هو الاتجاه العام للمرحلة التي بدأت عام 1971 ؟ هل كان اتجاها ديمقراطيا او كان اتجاها غير ديمقراطي ؟ على أساس الإجابة على هذا السؤال يتحدد الموقف من أزمة الديمقراطية في المرحلة الحاضرة ، ونحن نعيد ونكرر ونؤكد ان العبرة بالاتجاه العام ، أولا ، لان التفاصيل والمفردات تخضع للاتجاه العام وتخدم غايته " ..

وكيف نفهم ذلك او نقيس ذلك الاتجاه بطريقة علمية صحيحة ؟

فيجيب : ...."ان المفهوم العلمي والواقعي للديمقراطية الان هو الاتجاه اليها ، وتطور المجتمع ، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا الى ان تتحقق كاملة حين تتحقق شروطها الموضوعية والذاتية كاملة ..".

ثم يواصل معرّجا على ربط تطور الديمقراطية بحركة تطوّر المجتمع ..." إنما تقاس ديمقراطية اي نظام بقدر الخطوات التي يحققها في اتجاه الديمقراطية او - كما يقال عادة - بقدر المكاسب الديمقراطية التي تحققت  . وهذا يعني انه قبل عدد الخطوات المتقدمة او المتعثرة لا بد من تحديد اتجاه تلك الخطوات ، هل هي في اتجاه الديمقراطية او أنها في الاتجاه المضاد المنحرف  .." .

وهكذا .. " إننا حين نحدد الاتجاه العام للمرحلة الحاضرة يكون من التعسف ان نحسب عليها الحدود والقيود والعقبات التي ورثتها من مراحل سابقة .. " ... ويسرد العديد من القوانين سارية المفعول منذ 1910 ، و1914 ، 1923 ، 1925 ،1939 ،و1972 .. ثم يضيف : " كل هذه قيود وحدود للديمقراطية لا بد ان تزول ، لكنها لا تدخل في عناصر تكوين الاتجاه العام للمرحلة الحاضرة .." .... ثم يتساءل : " بعبارة أوضح الى اين تتجه مصر في شان مشكلة الديمقراطية ابتداء من عام 1971 وانطلاقا منه ؟ " ...  ويجيب : " ليس للسؤال السابق جواب واحد بسيط . ذلك لان في قلب دولة مصر القائمة ، شرخا يتعمق باستمرار ويكاد يفصل بين اتجاهها الشرعي واتجاهها العملي .." .

" اما على المستوى الشرعي فان دستور 1971 القائم ذو اتجاه ديمقراطي واضح . ولقد أوضحنا من قبل بعض خصائصه الديمقراطية .. " ... وهو ما يعني ان اتجاها ديمقراطيا لا شك فيه ما يزال قائما في مصر على المستوى الشرعي ... ولكن ، في مواجهة ، وضد ، هذا الاتجاه الدستوري الشرعي  ، بدأ ينمو في مصر بشكل ظاهر ، وبعد حرب أكتوبر 1973 بالذات اتجاه مضاد للديمقراطية ، وقد قلنا من قبل ، ونعيد الان ، انه انقلاب ضد الدستور والشرعية بكل المعاني الدستورية للانقلاب " ..

... وهكذا نواصل مع الدكتور حتى نهاية الفصل في تشريح الجانب العملي من هذا الاتجاه الانقلابي من خلال رصد التوجهات الجديدة نحو المزيد من الانفتاح الاقتصادي الذي يسير نحو تثبيت الاتجاه المعادي للديمقراطية كما يفهمها عصمت سيف الدولة ، وصولا الى فترة صدور الكتاب ، وهو يعاين المزيد من الخروقات للدستور فيقول : "عبرنا عن راينا في الاتجاه الذي بدأ - فعلیا -‏ عام 1974 وقلنا انه انقلاب . ولكن هذا وصف له من حيث الشرعية . عنينا به انه ضد الدستور . دستور 1971 . هذا الوصف لا يعني‌ وحده انه اتجاه ديمقراطي او انه اتجاه ضد الديمقراطیة . انما تتبین صفته هذه بقیاسه على اتجاه الدستور ذاته وهو قياس نسبي بمعنی اننا لا نفترض ان دستور 1971 هو منتهى التطور الديمقراطي ولكنه ، كما نراه بيقين ، اكثر ديمقراطية بما لا يقاس من أي دستور ليبرالي . ولقد اوضحنا من قبل ان الاتجاه الذي يجري تحت انوفنا اتجاه ليبرالي راسمالي .‏ وهو ما يعني - في راينا - انه اتجاه مضاد للديمقراطية . ديمقراطية الشعب ، أغلبية الشعب ، من العمال والفلاحين وصغار الموظفين الامناء وصغار التجار واصحاب الورش والحرفيين وكل الكادحين وابنائهم .‏ وهو اتجاه غير ديمقراطي لانه يسلبهم الان ، وسيسلبهم المزيد غدا ،‏ ذلك القدر الذي تحقق لهم من الديمقراطية الاجتماعية حتى لو كان قليلا" ...

وبما أن الممارسة قد أصبحت أكثر وضوحا في تأكيد "الاتجاه الانقلابي" فان كل الممارسات الحاصلة أصبحت بدورها ذات اتجاه محدّد يسميه "الاتجاه العملي" ويقول بأنه "اتجاه فعلي غير ديمقراطي "  ، ثم يضع ما حصل من تغيير جرّاء تلك الممارسة في اطاره العام مؤكدا القول : "بدون تردد نقول انه التغيير الذي حصل في الاتجاه العام من اتجاه ديموقراطي آشتراكي الى اتجاه لا ديموقراطي لا اشتراكي".. (ص 189 – 190).

ولهذا فان هذا "الاتجاه العملي" نحو المزيد من ترسيخ "الاتجاه الليبرالي" يجعل الدكتور عصمت سيف الدولة يذهب الى المزيد من القول الحاسم موضحا أهمية التركيز على "الاتجاه العام" في تحديد المواقف الصحيحة ومعرفة المواقف الخاطئة في نفس الوقت حينما تختلط المفاهيم ، أو حينما يتم التركيز أكثر من اللازم في بناء المواقف على الجزئيات المرحلية ، مبيّنا الحد الفاصل بين الديمقراطية في ظل "الاتجاه الليبرالي" و "الاتجاه الاشتراكي" مؤكدا على الارتباط الموضوعي بين "الاتجاه العام" و"القوانين الاقتصادية" الفاعلة في المجتمع حين قال : "فحيث يكون النظام راسماليا لا يمكن آن تقوم الا ديمقراطية ليبرالية . وحيث نجد الديمقراطية الليبرالية لا بد ان يكون النظام الاقتصادي راسماليا .. ولا يستطيع احد أن يفصل بينهما . ولما كانت حركة التطور الاجتماعي غير ثابتة وبالتالي تتداخل معالم نظم مختلفة في مراحل التحول من نظام الى نظام فان الانتباه الى الاتجاه العام يكون اجدى من التوقف عند المفردات المختلطة . فعندما يكون الاتجاه العام اقتصاديا الى الراسمالية لا بد أن يصاحب المبادرات الراسمالية مبادرات ليبرالية ليكتمل النظام الليبرالي اقتصادا وسياسة في مرحلة لاحقة . في حين انه عندما يكون الاتجاه العام اقتصاديا الى الاشتراكية لا بد أن يصاحب مبادرات التحول الاشتراكي مبادرات تحول عن الديمقراطية الليبرالية . ومن هنا ندرك الخطأ الجسيم الذي يضع فيه اولئك الذين تجذب انتباههم الجزئيات المرحلية فيسلخونها من اتجاه المجتمع كله . يحسبون مثلا أن تأميم بعض المؤسسات في نطاق نمو النظام الراسمالي اجراء اشتراكيا ، او يحسبون اباحة الاحزاب في نطاق اتجاه رأسمالي ديمقراطية شعبية.

العبرة في دراسة وتقييم أي نظام هو باكتشاف قانونه الاساسي الذي يضبط حركته ويحدد اتجاهه " ..

ثم بعد أن يُجري مقارنة طويلة بين ما يجري في المجتمعات المتقدمة والمجتمعات المتخلفة ، نجده يكرّر نفس الفكرة ونفس المضمون الوارد في الجملة الأخيرة مؤكدا أن العبرة - دائما - بالاتجاه العام وليس بالتفاصيل حين قال : "... ‏هناك اذا تعرّض الشعب لمزيد من القهر الاقتصادي لا يستطيع العامل او الفلاح ان يشتري صحيفته المفضلة او كتابآً ظهر حديثا او يقضي اجازة نهاية الاسبوع (الويك اند) .

 هنا لو تعرّض الشعب لمزيد من القهر الإقتصادي لأصبح في موقف الخيار بين الموت او الثورة .‏ فهناك لا يبيع احد حريته السياسية ولو وُجد المشترون لانه يستطيع الحياة وهنا يبيع حريته السياسبة ليعيش ... ونكرّر ،‏ أن العبرة بالاتجاه العام لاي نظام وليس بدعاويه التفصيلية . فهناك مع الأزمة الامل وامكانيات تحقيقه ٠‏ وهنا مع الأزمة اليأس من امكانيات الحياة . والاتجاه العام للنظام الليبرالي في العالم المتخلف ديموقراطيا واقتصاديا هو الى الثورة . الموارد المحدودة لا تسمح بمزيد من الثراء الا مع مزيد من الفقر .. وكلما ازدادت الهوة نشطت سوق الطغيان حيث تباع الحرية وتشترى . الاثرياء بشترونها والفقراء يبيعونها . ولن يفض هذا السوق غير الانساني ، غير الديموقراطي ، الا الثورة "..

كما وجدناه يكرر استعمال هذا المعيار أيضا أكثر من مرة في علاقة بالديمقراطية ، وقد ورد هذا التكرار في دراسته المقدمة لندوة 23 يوليو 1986 تحت عنوان "ثورة يوليو والمسألة الديمقراطية" ، وكان الاستعمال الأول في سياق الحديث العام عن تطوّر مفهوم الديمقراطية حينما أصبحت الشعوب تناضل من أجل المكاسب الاجتماعية وتدافع عنها حتى تفرضها على الحكومات ، قال فيه : "فلما تطورت الحريات الى حقوق تلتزم الدولة بالوفاء بها ، ذات مضامين اجتماعية يجب ان تتحقق لم يعد المتساوون في المواطنة متساوين في الحقوق ، وأثر هذا في النظام الديمقراطي من ناحيتين . الأولى : دخلت الظروف الاجتماعية للمواطنين عنصرا أساسياً في ترتيب أولويات الحريات والحقوق التي يجب على النظام الديمقراطي الوفاء بها ليبقى ديمقراطياً على ضوء المعيار الأول والأساسي للديمقراطية ومنطلقها التاريخي : المساواة . فأصبحت وظيفة النظام ، أي نظام يستحق ان يقال عنه أنه ديمقراطي ، الاتجاه الى إلغاء الفوارق في الظروف الاجتماعية بين المواطنين لتحقيق المساواة الاجتماعية إضافة الى المساواة السياسية وإكمالا لمفهوم المساواة بين البشر . هذا الاتجاه يطبع "الديمقراطية الاجتماعية" في كثير من الحالات ، خاصة في حالات الخلل الجسيم في المساواة بين المواطنين ، بطابع ظاهر الانحياز الى من هم أكثر حاجة الى تدخل الدولة ، هذا الانحياز الظاهر في حقيقته ، على ضوء غايته ، اتجاه عادل الى المساواة بينهم وبين غيرهم تحقيقا لشرط جوهري من شروط الديمقراطية" ..

أما الاستعمال الثاني في هذه الدراسة فكان في إطار الحديث الخاص بتطوّر المضامين الاجتماعية التي سعت الثورة لتحقيقها منذ بدايتها وقد جاء فيها : "ان ثورة 23 يوليو لم تفصح في سنواتها الأولى عما تعنيه بالعدالة الاجتماعية وأسلوب تحقيقها . ولقد بادرت الثورة بعد شهر ونصف فقط من قيامها الى إصدار قانون الإصلاح الزراعي رقم 178‏ لسنة 1952‏ (9 سبتمبر 1952) . ولكن هذا القانون لا يعبر عن اتجاه الى مفهوم معين للعدالة الاجتماعية بقدر ما يعبر بوضوح عن إرادة تحرير الفلاحين من سيطرة كبار الملاك . فهو ترجمة لهدف القضاء على الإقطاع وليس لهدف العدالة الاجتماعية " .. والدكتور عصمت سيف الدولة يذكر بكل تفصيل كل النقائص التي تضمنها قانون الإصلاح الزراعي ، كما يذكر الايجابيات .. ثم يمضي في التقييم متتبّعا التطوّر الحاصل في المضامين السياسية والاجتماعية للديمقراطية فيقول في محطة ثالثة مستعملا نفس المعيار : " احتفظت ثورة 23 يوليو المتطورة من الديمقراطية السياسية الى الديمقراطية الاجتماعية خلال الفترة من 1957 حتى 1967 بكل ما كان مميزا للديمقراطية السياسية وأهمه التمثيل النيابي عن طريق الانتخاب الدوري والاقتراع العام السري المباشر ، ولكن إضافة المضمون الاجتماعي الى الديمقراطية السياسية ، كما غيّر في وظيفة الدولة غيّر في مفهوم الشعب ، اذ دخلت الظروف الاجتماعية المتفاوتة ، والمتعارضة والمتناقضة في بعض الحالات ، في تحديد من هو الشعب صاحب الحق السياسي في الإسهام في اتخاذ القرارات العامة . وظهر هذا الاتجاه مصاحبا صدور دستور 1956 . فقد نصت المادة 197 منه على أن يكون المواطنون اتحادا قوميا للعمل على تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الثورة ولحث الجهود لبناء الأمة بناء سليما من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، ويتولى الاتحاد القومي الترشيح لعضوية مجلس الأمة" .. ثم يستمر في توضيح الخلفية الديمقراطية لمثل هذه التشريعات خاصة في جانب الربط بين تولي الوظيفة والالتزام بتحقيق أهداف الثورة .. أما بحلول مطلع الستينات ودخول مصر مرحلة الاشتراكية فتصبح العبارة عنده مقترنة بالتوجه الجديد لسياسة الدولة ومعبرة عن ملامحها الجديدة حين قال : " قد أصبح الأمر أكثر وضوحا وحسما - على مستوى النظام - ابتداء من أواخر عام 1961 قبل ان يصدر الميثاق ، وقبل أن يلغى دستور 1956 ، وقبل أن يصدر دستور 1964‏ .

في صيف 1961‏ صدرت سلسلة من القوانين ، عرفت باسم القوانين الاشتراكية ، ألغت الملكية الخاصة لكافة البنوك ومؤسسات الائتمان والادخار والتأمين والصناعات الكبرى وفرضت احتكار الدولة للتجارة الخارجية وأممت عديداً من المؤسسات التجارية والصناعية والمقاولات ، وبشكل عام غيّرت إلى حد كبير الطبيعة الاقتصادية وعلاقاتها في الدولة وحولتها من مجتمع رأسمالي ووضعتها في أول الطريق إلى الاشتراكية . وفي 28‏ سبتمبر 1961 وقع انقلاب عسكري في سوريا انتهى بفصل سوريا عن مصر . اعتبر تعاصر الحدثين مؤشرا قوي الدلالة على المخاطر الكامنة في إباحة وظائف الدولة ، التنفيذية او التشريعية ، للذين أضيروا بالقوانين الاشتراكية والذين لا يتفق الاتجاه الاشتراكي مع مصالحهم ؛ فكان طبيعياً ان تعيد الدولة النظر في تكوينها الدستوري وأن تصوغ وظائفها على وجه لا يسمح بانقضاض القوى الرجعية على السلطة مرة أخرى كما حدث في سوريا ، وان يتجه التكوين الجديد الى حماية مجموعة المصالح الجديدة التي يطلق عليها معا اسم "الاشتراكية" .." .. الخ ..

وبما أن الدكتور عصمت سيف الدولة قد خص ثورة يوليو بالعديد من الكتب والدراسات والمحاضرات فان أغلبها قد أتى متصلا بمشكلة الديمقراطية وهي من أهم الجوانب المتصلة بخلاف الثورة وصراعها مع مناهضيها ، وقد يكون - من الأصح القول - بأنها من أهم ما يحتجّون به عليها في هذا الصراع .. لذلك فانه لم يكتف بتناول مضامينها الفكرية والعملية فقط ، بل انه قد تعرض أيضا للاسباب الموضوعية والتاريخية للقصور والتعثر الذي شهدته التجربة الديمقراطية في الواقع وقد سمّاها في بعض المراجع بالاخطاء .. ومن أهم الأسباب التي تتصل بموضوعنا نجد سببين على الاقل وردت في كتابه "هل كان عبد الناصر ديكتاتورا" أولها افتقادها للمنهج واعتمادها على التجربة وحدها ممّا جعلها تفقد الاتجاه للموقف الديمقراطي الثابت وقد عبّر عنه مستعملا نفس العبارة  حين قال : "لا شك في ان متغيرات موضوعية كثيرة قد أسهمت في تعدّد مواقف الثورة ، وتناقضها في بعض الاوقات ، من مشكلة الديمقراطية . ولكن هذا لا يحجب العامل "التجريى" ودوره الاساسي في ان الثورة قد افتقدت لفترة طويلة المنهج العلمي الذي كان قادرا ، لو توفر لها ، على ان يمكنها من السيطرة على تلك المتغيرات ودفع حركة التطور في اتجاه الموقف الذي تحدّده لها نظريتها في الديمقراطية " .. والثاني ، سبب لا يخلو من الطرافة في علاقته بهذا المعيار الذي نبحث عنه في أقوال عصمت سيف الدولة ، وقد ذكره في سياق الحديث عن الأخطاء تحت عنوان فرعي سمّاه "الخطأ الأساسي" ، ولكنه جاء هذه المرة  على لسان عبد الناصر عام 1962 في فقرة من خطابه وهو يواجه تلك الأخطاء بالمراجعات التي انبثقت منها كل التحولات الثورية ، التي وصفها عصمت سيف الدولة في الحوار المشار اليه مع جريدة القبس "بثورة عبد الناصر على ثورة يوليو" .. وقد قال نقلا لما جاء في تلك الفقرة : " قال عبد الناصر يوم 2 پوليو 1962‏ وهو يتحدث عن الفترة السابقة : ((ان الفكر الثوري في تلك الفترة ، وهو يتطلع الى الوحدة الوطنية ويدرك ضرورتها الحيوية داحل الوطن وفي مواجهة الظروف المحيطة به قد وقع في الخطاً حين توهم ان الطبقة المحتكرة التي كان لا بد ان تسلبها الثورة امتيازاتها الاستغلالية يمكن ان تقبل الوحدة الوطنية مع قوى الشعب صاحبة المصلحة في الثورة . ولقد كان من أثر ذلك ان محاولات التنظيم الشعبي التي جرت في ضباب هذا الوهم وما حدث داخلها من عوامل الصدام بین القوی الثورية بالطبيعة والقوى المضادة للثورة بالطبيعة ما أصابها بالشلل وأقعدها عن الحركة بل وکاد ان پنحرف بها في بعض الاحیان عن الاتجاه الثوري الاصيل ..)) " ..

ولعله من الطرافة أيضا أن نكتشف بأن ذلك الخطاب ليس هو الوحيد الذي وردت فيه تلك العبارة .. بل نجدها أيضا في فقرة من خطاب لعبد الناصر عام 1957 نقلها عصمت سيف الدولة وهو يتحدث في نفس المرجع وفي نفس السياق عن أخطاء التجربة ومحاولات عبد الناصر التصحيحية .. التي لم تتوقف منذ بداية الثورة وحتى وفاته .. وقد جاء في هذا الخطاب اشارة لمواقف "الاتجاه اليميني" و "الاتجاه اليساري" من الاصلاحات التي سعت الثورة لتحقيقها في مراحلها الأولى مع تحديد المضامين التي بُنيت عليها تلك المواقف حتى صارت مميزة على هذا الأساس الى اتجاهين متضادين قال عنها : " معركة الانتخابات ظهرت فيها بعض الاتجاهات . كلنا لا بد أن نعرف ما هي هذه الاتجاهات وما هي مصلحتها . ظهر اتجاه يميني يشكك في عملية التمصير وكان يقول اننا نحن المصريين لن نستطيع أن نقوم باقتصادنا بأنفسنا ولا نقدر أبداً أن نمشي في طريقنا إلا معتمدین عل الأجانب وأثبتث الأيام أن هذا الاتجاه خاطئ لاننا كمصريين عندنا القدرة أن نعمل أي شيء . استطعنا أن ندير قناة السويس ونسيّر فيها الملاحة ... واستطعنا أن ندير الاقتصاد والبنوك والشركات الممصّرة ، ولكن الفرق بين اليوم وبين ما مضى أن الأوامر في الماضي كانت تأتي من الخارج والیوم تسیر مع الثورة  .... طبعا الذين كانوا ينادون بهذه الاتجاهات اليمينية لعلهم كانوا يدافعون عن مصالحهم الشخصية لأنهم ‏ كانوا يستفيدون دائما من هذه المؤسسات . كانت هذه المۇسسات تعطيهم مكافات لأجل أن تكسب تأييدهم" .. كما انتقد الاتجاه اليساري المطالب بالمزيد من تحديد الملكية مبررا النهج الذي اعتمدته الثورة بهدف تحرير الفلاحين من سيطرة الاقطاع وليس القضاء على الملكية .. الخ ..

وبالرغم من ذلك ، وفي ظل ظروف تاريخية خارجة عن ارادة الثورة فانها – في نظر عصمت سيف الدولة - قد سعت منذ بدايتها لحل تلك المشكلة ، حين قال في نفس المرجع مستعملا نفس العبارة : "سخرت الثورة ، وعبد الناصر شخصياً ، كل الامكانات المتاحة بشرياً ومالياً وإعلامياً وثقافياً للإنجاح هيئة التحرير . ولقد كان الإصرار على إنجاحها قاطع الدلالة على ثبات عبد الناصر في الاتجاه الدمقراطي وان تحديد فترة الانتقال بثلاث سنوات كان يرجع إلى الاعتقاد بأنها مدة كافية لنجاح مشروع هيئة التحرير . ولقد حققت بقيامها أول نجاح جزئي هام . هام لأنه يتصل بالمبداً الدمقراطي ذاته إذ حسمت الشك في إتجاه الثورة ديمقراطياً بعد أن كان الاستبداد بالسلطة يثير الشلك وان كان لا يطفىء الأمل" ..

وقد تكرر أيضا استعمال هذا المعيار في نفس الموضوع المتعلق بالديمقراطية في كتابه "النظام النيابي ومشكلة الديمقراطية الصادر عام 1975 مرات عديدة وهو يشرح  التوجهات الفكرية والسياسية ذات العلاقة بالديمقراطية .. فالتوجه في الممارسة نحو الليبرالية هو "اتجاه ليبرالي" ، والتوجه نحو الاشتراكية هو "اتجاه اشتراكي" وكل تطوّر ملموس نحو تحقيق الديمقراطية سواء على المستوى الفكر أو على مستوى الممارسة في جوانبها الدستورية والتطبيقية هو "اتجاه ديقراطي" .. وقد جاء الاستعمال الأول لابراز كيفية تطوّر مسألة الديمقراطية في المجتمعات الليبرالية فكرا وممارسة قال فيها : " بالرغم من أن جان جاك روسو قال عام 1763 ، في كتابه " العقد الاجتماعي " (لو كان هناك شعب من الآلهة لحكم نفسه بطريقة ديمقراطية فهذا النوع من الحكم الذي بلغ حد الكمال لا يصلح للبشر) ، فإن الشعوب لم تكف عن محاولة الوصول إلى هذا الهدف المقدس . وهي تحقق في كل مكان ، وفي كل زمان خطوة ، مهما تكن صغيرة ، تقربها من هدفها .. قد تتعثر المسيرة أو تتوقف أو حتى ترتد في مكان محدّد أو في زمان معين ، ولكن الاتجاه العام لمسيرة الشعوب الديمقراطية في تقدّم مستمر " .. أما الاستعمال الثاني فكان خاصا بمصر حين كان يرصد بدايات التخلي عن التوجهات الليبرالية وظهور المضامين الاجتماعية والشعبية في التشريعات التي أصدرتها الثورة بداية من دستور 1956 وصولا الى دستور 1964 مستعملا هذا المعيار بعبارتيه حين قال : "إنه اتجاه عام لا يتفق مع النظام النيابى يسود دستور 1964 فى مقابل روح شعبية أخرى تسوده ، ليس تقرير ضمان نصف المقاعد فى مجلس الأمة للعمال والفلاحين إلا ترجمة دستورية لها" ..

وقبل هذا كله ، نجد في هذا الرد للدكتور عصمت سيف الدولة على أحد كتاب الشورى في جزئيّة دقيقة ومهمّة تتعلق بمحاولة تحديد اتجاه ثورة يوليو من ناحية الاعتماد على تقييم الأهداف التي قامت عليها قولا يؤكد نفس هذا الرأي .. ففي حين يعتبر الكاتب ان اتجاه الثورة تحدّد تدريجيا في ظل الممارسة فقط باعتبار ان أهدافها الستة لم تكن ممثلة لكل الأعضاء مجتمعين ، يرى الدكتور عكس ذلك باعتبار أن اجتماع الأهداف في حد ذاته أوجد اتجاها جديدا مختلفا عن اتجاهات الأعضاء قبل اجتماعهم في تنظيم الضباط الأحرار مهما كانت مواقعهم وانتماءاتهم السابقة ، وقد عبر عن هذا الرأي قائلا : "يقول الدكتور عبد الكريم أحمد في ختام مقاله "الثورة الناصرية : أثرها في الفكر السياسي المصري" : ان الاتجاه الحقيقي للثورة لم يكن محدّدا مسبقا بل انه تكوّن بعد ذلك من خلال الممارسة ، ونضيف : الا الاتجاه الذي يمثله ويعبّر عنه اجتماع المبادئ الستة التي كانت من قبل شعارات يرفع كل حزب ما يختار منها" ..

ثم قبل هذا أيضا (1966) ، نجد استعمالا لهذا المعيار في حديث للدكتور عصمت سيف الدولة عن المنطلق الإقليمي للوحدة في كتاب الطريق 1 ، حيث يتحجج بعض الإقليميين بضرورة توفر القوة الذاتية للدولة الإقليمية حتى تكون قادرة على تحقيق الاندماج والوحدة دون توجهات واضحة في ساساتها المعلنة لتحقيق تلك الغاية مما يجعل أثرها غائبا في الواقع قال فيه مستندا الى نفس المعيار : "مضمون القوة الذاتية لا يحتاج الى حديث طويل : تنمية اقتصادية سريعة لتعويض فترات التخلف تقوم على قاعدة صناعية واسعة لتحرير الاقتصاد من التبعية ثم توزيع عادل للإنتاج لتحرير الجماهير من الاستغلال . وبعد ذلك تتوافر الكفاية المادية والبشرية ، أي تتحقق القوة الذاتية . وهو هدف عظيم لا يماري فيه أحد ويستحق أن تُحشد الجهود من أجله . ولكن النمو الاقتصادي والاجتماعي ، النمو في القوة الذاتية لا حدود له ، وسيظل هدفا للنشاط الإنساني الى ما لا نهاية ، لهذا يكون من المهم معرفة اتجاهه عندما يبدأ في إقليم ومدى التقاء هذا الاتجاه بالوحدة العربية . ان أحدا لا ينكر أن القوة الذاتية شرط أولي لتحقيق غاياتنا العظيمة ، فهل تحقيق الوحدة أحد هذه الغايات العظيمة ؟ كيف تحقق القوة الذاتية في الإقليم الوحدة العربية ؟ ان الإقليميين لا يجيبون عن هذه الأسئلة "..

وفي النهاية ، تجدر الإشارة الى الأهمية التي يتميز بها هذا المعيار من حيث الموضوعية والمنهجية ، اذ لو لم يكن الأمر على هذه الدرجة من الأهمية لما كان الدكتور عصمت سيف الدولة يصر على تكرار استعماله في الحكم على المواقف السياسية في اكثر من مناسبة . ومنها أننا نجده يكرر هذا الاستعمال أيضا بعد سنوات أخرى ، في مقال بعنوان "شرخ في جدار النظام" منشور بجريدة الشعب يوم 5 افريل 1988 ، يذكّر فيه بما ورد في كتاب الأحزاب ومشكلة الديمقراطية (1977) ، مؤكدا على ازدياد الفجوة (من خلال رصد الاتجاه) الى حد التصدع في العلاقة بين الاتجاه العملي للسياسات الاقتصادية في مصر والدستور  مجدّدا استعمال عبارة "الشرخ" الذي أصبح أكثر اتساعا من خلال الإصرار على السير في نفس الاتجاه "الانفتاحي" دون اعتبار للقيود الدستورية ، وقد وصلت جرأة "الانفتاحيين" كما سماهم الدكتور ، الى الخروج العلني عن فصول الدستور مؤكدا من جديد على النهج الانقلابي الذي تحدث عنه قبل عشر سنوات منذ عهد السادات .. وقد جاء في المقال هذه الإشارة الى نفس الفكرة في سياق الحديث عن التراكمات الانقلابية : " لسنا نريد أن ندخل طرفا في الحوار أو في الصراع حول القطاع العام الدائر داخل الحكومة وحزبها . ولكنا نريد أن نشير لكل من يهمه مصير هذا البلد مصر الى أن ثمة شرخا في جدار النظام ذاته بدأ منذ 1974 ولا يزال يتسع ويمتد حتى أدرك الحكومة ذاتها ، وأصبح يهدد بانهيار النظام كله . هذا الشرخ فاصل فالق بين شرعية النظام وممارساته . بدأ بما أسمي الانفتاح كممارسة واقعية وبين الدستور كمصدر وإطار للشرعية .. هذا الشرخ الخطير هو بؤرة الخلل الذي لا يزال يهز استقرار النظام الشرعي في مصر وينعكس اضطرابا في سياساتها الدولية والعربية والداخلية على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ثم امتد أخيرا الى الحكومة وحزبها فتقطعت علاقات التفاهم بين العاملين فيها . ولن تتوقف الا بتصفية الانقلاب .

في أوائل عام 1977 قلنا في كتاب منشور تحت عنوان "الأحزاب ومشكلة الديمقراطية في مصر" - وكان الشرخ في بدايته - " أنه يمثل انقلابا ضد الاشتراكية والديمقراطية الشرعية يحدث في الواقع العملي خطوة خطوة ، وأن دورهم - الانقلابيون - هو التغطية على هذا الانقلاب وشد انتباه الشعب الى قضايا جانبية أو فرعية أو تاريخية حتى لا يشعر بصدمة الانقلاب ...

الانقلاب وصل الان الى ذروته ، ولم تكن معركة "سان استيفانو" الأخيرة الا معركة اختبار انهزم فيها الانقلابيون .. ولكنهم لن يكفوا نهائيا الا اذا انهزموا نهائيا . وغدا أو بعد غد سيعرف جميع الأطراف أن النظام الشرعي في مصر كان مهددا منذ 1974 بالتصدع والانهيار .." (و"سان استيفانو" هو نزل ضخم أراد بعض الرأسماليين تصفيته وبيعه للقطاع الخاص) ... 

ومثل هذا التذكير والتأكيد على قيمة هذا المعيار وأهميته - كمنهجية ثابتة - لدى الدكتور عصمت سيف الدولة في فهم الظواهر الاجتماعية نجده في توضيح وارد على لسانه في مناسبة أخرى (27 سبتمبر 1987) في حوار مع جريدة القبس حول موضوع ثورة يوليو يربط فيه "مفهوم الاتجاه العام" بـ "حركة التطور الاجتماعي" حين قال : "في البداية أقول أن تاريخ الشعوب والأمم متصل ، ومستمر ، وبالتالي التقسيم الذي أضعه لهذه المرحلة التاريخية المهمة في تاريخ الشعب المصري ، هو محاولة تمييز المراحل طبقا لمعايير عامة ، وليست النظرة العادية للحياة ، وأنا معني جدا بالاتجاه ، اتجاه حركة التطوّر الاجتماعي ففي مجتمع معين قد تتميز مراحله ، وان كانت حتى التفاصيل التطبيقية متشابهة في مراحل كثيرة .

فلو أخذنا من عام 1952 ، نجد أن الثورة ، ثورة 23 يوليو :

( - من حيث القوى ، تشكيل الضباط الأحرار ..

- ومن حيث الاستيلاء على السلطة وإسقاط الدستور ، الاستعانة بالقوات المسلحة ..

- من حيث الاتجاه في العلاقات الخارجية ، فالاتجاه بقوة نحو التحرر من الاستعمار ..

- ومن حيث النظرة لمسؤولية الدولة بالنسبة للحالة الاقتصادية ، المحاولة المكثفة للتنمية والخروج من التخلف ..

- من حيث الإدارة والأسلوب ، إبعاد التشكيلات الليبرالية من أحزاب وغيرها من إمكانية لعب دور في المشاركة في اتخاذ القرار ، توحيد الشعب في منظمة واحدة أخذت اسم هيئة التحرير ثم الاتحاد القومي) ..

كان اتجاها يتميز أساسا بأنه تحرري عن طريق ثوري ، ذي اهتمام بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية ، مضاد تماما للاتجاه الليبرالي الملكي الذي كان سائدا قبل 1952 " ..

ثم بعد الحديث مطوّلا عمّا يسميه "مرحلة الثورة" بكل المشاكل التي واجهتها في اتجاه التنمية على الطريق الرأسمالي الذي شهد نكوص القطاع الخاص عن الوفاء بدوره الوطني المطلوب ، يتحول في الحديث عن المرحلة الحاسمة التي يسمّيها ب"مرحلة عبد الناصر" وهي المرحلة التي شهدت كل التحولات الجذرية في الاتجاه العام لسياسة الدولة فيقول : "هذه المرحلة كلها هي مرحلة عبد الناصر ، صاغ مبادئها وأفكارها كلها كما جاءت في الميثاق في 1962 ، والذي بدأ به يحكم كل أجهزة الدولة ، ثم بدأ تنفيذ الخطة من تمويل الأموال المؤممة ، وبدأ الحديث عن التحول الاشتراكي .

لقد تغير الاتجاه العام في المجتمع من محاولة السير نحو التنمية على الطريق الليبرالي سياسيا ، الرأسمالي اقتصاديا ، الى الاتجاه الى التنمية على طريق الاشتراكية اقتصاديا ، والاشتراكية ديمقراطيا"..

بناء على ما تقدّم ، واذا أخذنا بهذا المعيار الذي ينطلق في الحكم على المواقف من الاتجاه العام (مواقف في حالة حركة) ، وهو - كما رأينا - معيار ثابت عند الدكتور عصمت سيف الدولة استعمله في كل مجال .. حتى المقاومة في محاضرته الشهيرة قسمها اتجاهات : "اتجاه إقليمي عربي" يمثل الدول ، "اتجاه إقليمي فلسطيني" ، و"اتجاه قومي غير متبلور نهائيا وغير مفرز" ، وتشترك جميعها من خلال هذا الاداء المقاوم لمحو آثار العدوان في "الاتجاه التحرري" في تلك المرحلة حتى وهي مختلفة في المضامين الأخرى الاجتماعية وغيرها .. وانقلاب السادات على مبادئ الثورة هو "ارتداد عن الاتجاه القومي التقدمي لثورة يوليو الناصرية" ... وتوجّهات عبد الناصر القومية ذات "اتجاه تقدمي ثابت انقطع فجأة بوفاته المفاجئة "(عن النصريين واليهم) .. "والمنجزات التحرّرية والوحدوية شكلت الاتجاه العام لفترة قيادة عبد الناصر" (الناصرية كيف ) .. وحتى "الناصريين" الذين اختلفوا وتشرذموا حول مفهوم "الناصرية" في مصر لأكثر من عقدين بعد وفاة عبد الناصر كما قال في نفس المرجع : "ما كان كل أولئك في حاجة إلى "ناصرية" لو أن الحياة في الوطن العربي قد أطردت تقدماً في الاتجاه الذي سار فيه عبد الناصر . ما كان أولئك في حاجة إلى "ناصرية" لو أنهم التفوا بعد وفاة عبد الناصر بمزيد من الحرية . بمزيد من الاشتراكية . بمزيد من التقدم نحو الوحدة " .. بينما "الناصرية" كهوية نضالية "فلتكن إذن "ناصرية" ولو تعبيراً عن حقيقة ان أسسها الأولى قد جاءت في الميثاق الذي صاغه عبد الناصر وان اتجاهها هو ذات اتجاه مرحلة عبد الناصر" (عن الناصريين واليهم)  .. أما تعدد الطرق الى الوحدة فهي " أمثلة لكشف اتجاه يدعو الى الوحدة ولا يعرف الطريق إليها " (كتاب الطريق) .. وهكذا فان للحكام أو للأنظمة اتجاهات عامة قد تجعل المواقف منها وأسلوب التعامل معها يختلف باختلاف الاتجاه المسيطر على سياساتها في مرحلة من المراحل (دعم المقاومة مثلا والتصدي للتطبيع مع العدو ، أو مقاومة الفساد في الداخل والدفاع عن استقلالية القرار الوطني وعدم الخضوع للاملاءات الخارجية ..) ، وللأحزاب اتجاهات عامة فكرية وحركية تجعل التعامل معها يخضع للتنسيب بحسب المصلحة الوطنية والقومية في كل مرحلة وهذا بشكل عام ، أما في موضوعنا ، فانه لا يصح الحكم بالتجريم أو الاتهام بالتحريف أو بالانتهازية او بالخيانة من خلال مواقف جزئية متغيّرة .. بل - كما جاء في توضيح عصمت سيف الدولة - من خلال الاتجاه العام الذي تتنزل فيه المواقف الجزئية (التكتيكية) ومدى تأثيرها على ثوابت الموقف المبدئي (الاستراتيجي) .. وهكذا يكون الحكم ... بمعنى هل الموقف من الأحداث المتغيرة يحافظ على الاتجاه نحو الهدف الاستراتيجي ، أم يبتعد عنه في الاتجاه فيناقضه أو ينقضه بالتراكم ومرور الوقت ؟ ... وهذه الفكرة نجدها واضحة في مقال للدكتور عصمت سيف الدولة بعنوان "حرية الإرادة الوطنية بين الشكل والمضمون" المنشور في جريدة السفير بتاريخ 4 / 8 / 1975 ، يتخذ فيها "الإستراتيجية" كمعيار ومحك لاختبار سلامة التكتيك المرحلي وهو يتحدث عما أسماه أسلوب "التحكم غير المباشر" الذي يتبعه الأعداء من خلال التخطيط بعيد المدى والمناورة المدروسة لجعل أي قيادة وطنية - وهي تتصرف بكامل إرادتها الحرة - تتخذ مواقف تتفق مع ما يخطط له أعداء المصلحة الوطنية حينما تبالغ القيادة في التركيز على الجزئيات المتعلقة بموضوع الصراع متجاهلة أهدافه الإستراتيجية ، وقد جاء في المقال تأكيد على أهمية هذا المعيار في إفشال تلك المخططات حين يقع استغلال : " نقطة الضعف في أسلوب التحكم غير المباشر .. ونقطة ضعفه أنه يدفع بنا الى مواقف إستراتيجية غير معلنة من خلال ثغرات تكتيكية ، جزئية او مرحلية . يضع أمامنا في كل جزئية أو في كل مرحلة أهدافا مغرية لنختارها ثم ينتقل بنا الى أهداف أخرى .. وهكذا في سلسلة من الجزئيات نجد أنفسنا بعدها وقد أصبحنا أمام أمر واقع ولا بد لنا من أن نقبله بعد أن قطعنا كل تلك المراحل إليه ونحن في كامل قوانا العقلية وبملء إرادتنا . ان الاستغراق في التكتيك وفرحة تحقيق الانتصارات الشكلية أو الجزئية يرشحان أحسن الناس نية ليكون ضحية سهلة للتحكم المباشر في حركته ، وبالتالي فان وسيلة الإفلات من هذا الشرك هو الأهداف الإستراتيجية في كل مرحلة . واتخاذها مقياسا حاضرا في كل حين لقياس مدى سلامة أية خطوة . التركيز – مثلا – على هدف استرداد أرض فلسطين المحتلة منذ 1948 . سيضرب كل خطط التحكم غير المباشر التي تحاول الولايات المتحدة الامريكية أن تصل بنا من خلالها الى الاعتراف بإسرائيل " ..

وفي هذا أيضا نجد توضيحا وافيا من الواقع للدكتور عصمت سيف الدولة نأخذه من مرجعين ..

الأول من كتاب حوار مع الشباب العربي في رد على أحد كتاب الشورى في مسألة التداخل بين المهمات النضالية القومية والقطرية جاء فيه : "قلت أن العمل الثوري العربي هو التطبيق القومي على المستوى القطري في كل ما تطرحه الثورة العربية من قضايا على مستوى قطري والنضال في نفس الوقت من أجل انجاز مهام الثورة العربية في كل ما تطرحه على مستوى قومي .. إننا نستطيع أن نقبل منك هذا القول على أساس تكتيكي ، بمعنى أنه في نطاق إستراتيجية الثورة العربية التي تستهدف إقامة دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية يتعين على قوى الثورة العربية أن تضع طاقتها القومية في خدمة القضايا القطرية والمرحلية للجماهير العربية . نقبله لأن أحدا لا يتوهم أن الحياة ستتوقف الى أن تتم الوحدة . ونقبله لأن كل مشكلة يعانيها الشعب العربي في أي مكان هي مشكلة قومية عند القوميين بالرغم من الحصار القطري . ونقبله لأن قوى الثورة العربية القومية تعتبر نفسها مسؤولة عن قضايا الشعب العربي في أي قطر . ولا نقبل ولا يمكن أن نقبل الحدود الإقليمية حائلا بينها وبين جماهير أمتها العربية" ..

والثاني من دراسة للدكتور عصمت سيف الدولة بعنوان "هذه الدعوة للاعتراف المستحيل" يشرح فيها التداخل بين المواقف الإستراتيجية والمواقف التكتيكية فيما يتعلق بموضوع الاعتراف بإسرائيل باعتبار طول المراحل النضالية وظروف المقاومة من جهة ، وعلاقة كل هذا بالنواحي المبدئية من جهة ثانية ، وهو ما يحدده فعلا منذ بداية النقاش في الفرضيات المطروحة ، فيقول : " ليس لهذه الكلمات المهيبة :  المبدأ والاستراتيجية والتكتيك أي معنى إلا إذا كانت منسوبة الى واقع معين" .. وبعد التقدم خطوات في تحديد منهجية الحكم على المواقف يحسم الموقف نهائيا بميزان واضح للتحكيم وهو المبدأ ، فيقول : "نريد أن نقول بأكبر قدر من الوضوح أن معرفة ما اذا كان الاعتراف بإسرائيل خطوة تكتيكية لا تضر بالهدف الاستراتيجي لمنظمة التحرير الفلسطينية لا يمكن أن تتم الا في نطاق مبدأ ، أو نظرية ، أن أرض فلسطين من حق الشعب العربي" .. وهكذا يمكن أن تختلف المواقف باختلاف الظروف بشرط عدم الإخلال بميزان الحكم (المبدأ) ، بحيث تكون المواقف مقبولة تبعا للهدف المحدد لكل صاحب موقف من موقفه .. فيسأل ثم يجيب : " لماذا نقول هذا ونركز عليه ؟ لأن مع تراكم المتغيرات التي تحولت الى واقع خلال الصراع العربي الصهيوني تحولت كثيرا من الأهداف التكتيكية بالنسبة الى هدف تحرير فلسطين الى أهداف إستراتيجية بالنسبة الى أصحابها . تحرير جنوب لبنان مثلا هدف استراتيجي بالنسبة الى الكتائبيين وهو هدف تكتيكي بالنسبة الى تحرير فلسطين ، تحرير المرتفعات السورية وسيناء هدفان استراتيجيان بالنسبة الى الإقليميين السوريين والمصريين وهدفان تكتيكيان بالنسبة الى هدف تحرير فلسطين . كذلك استرداد غزة والضفة الغربية هدف استراتيجي بالنسبة الى الإقليميين الأردنيين ولكنه هدف تكتيكي بالنسبة الى هدف استرداد فلسطين للشعب العربي الذي قامت الثورة الفلسطينية من أجله ... ولعله مما يوضح هذا الموقف "حركة تحرير فلسطين" (فتح) التي تعتبر القوة القائدة الرئيسية في منظمة التحرير الفلسطينية عسكريا وسياسيا ، هذه المنظمة أنشئت ثم بدأت نشاطها الثوري في أول يناير 1965 . في ذلك الوقت لم يكن قد تم احتلال جنوب لبنان أو المرتفعات السورية أو الضفة الغربية أو غزة أو سيناء . نشأت وبدأت الثورة من أجل هدف استراتيجي محدد : استرداد أرض فلسطين التي اغتصبت عام 1948 . على مدى الصراع وساحته تراجعت قواتها الرئيسية ومركز قيادتها من الضفة وغزة الى الأردن بعد 1967 ثم من الأردن الى لبنان بعد 1970 ، من لبنان الى حيث هي الآن  عام 1982 ، كل هذه التراجعات بالنسبة الى هدفها الاستراتيجي تراجعات تكتيكية لأنه لم يحدث أبدا أن استردت فلسطين المحتلة عام 1948 ثم عادت فسلمتها الى الصهاينة ليعيدوا بناء دولة إسرائيل عليها .. كما لم يحدث أن كفت عن النضال منتصرة أو منهزمة متقدمة أو متراجعة من 1965 . وينطبق هذا بشكل عام على منظمة التحرير الفلسطينية ، كان ، وما يزال هدفها الاستراتيجي استرداد كامل أرض فلسطين" ..

وهذه المنهجية نجدها حاضرة أيضا عند الدكتور عصمت سيف الدولة في فهم وتحليل الواقع كأسلوب علمي يتبعه في تحديد المواقف بناء على جدلية العلاقة بين الثابت (المبدأ والإستراتيجية) والمتحرك (التكتيك).. ففي مقال له حول الدولة الفلسطينية المرتقبة بجريدة القبس بتاريخ 30 – 10 – 1988 نجده يكرّر نفس الفكرة في هذا الجانب موضحا العلاقة بين المبدأ والإستراتيجية والتكتيك المرحلي حين قال : "سنحاول بقدر ما نستطيع أن نجعل حديثنا موضوعيا وذلك بأن نرد الفروع الى أصولها ، ونحتكم في أمر المواقف المرحلية والتكتيكية الى الهدف الاستراتيجي ، ونتخذ من المبدأ الذي يحكم الصراع العربي – الصهيوني معيارا لتحديد هذا الموقف . ثم أن نحدّد دلالات الألفاظ "المتشابهة" لنتجنّب مخاطر التأويل المنحرف " .. ثم يمضي بإسهاب في تفكيك ملابسات الموقف الخاص بتلك المسألة على قاعدة تلك المحدّدات الأولية ..

هل هذا هو كل شيء ؟

أبدا . وانه من التعقيد والتسلسل بمكان ، ما لا يمكن معه اقتطاع ما ورد في المقال الأول من الفرضيات .. فلنصبر على الإطالة ، ولنتابع التحليل الى الآخر لإعطاء الفكرة ما تستحق من متابعة لفهم تلك العلاقة بين العناصر الثلاث من خلال الوقائع الخاصة بالدعوة الى الاعتراف بالعدو ، فيقول : "... والمفروض ، ولو من قبيل الأمانة مع النفس أن الذين يوجهون الى منظمة التحرير الفلسطينية الدعوة الى الاعتراف بإسرائيل "معتقدين" أن الاعتراف خطوة تكتيكية لا تضر بالهدف الاستراتيجي أن يكون اعتقادهم هذا (صح أو لم يصح) قائما على نسبة الاعتراف الى الهدف الاستراتيجي لمنظمة التحرير الفلسطينية ، أي استرداده كامل أرض فلسطين من قبضة الصهيونية الغاصبة . أما إذا كانوا يدعونها الى الاعتراف كخطوة تكتيكية الى ما دون هذا من أهداف تعتبر بالنسبة إليهم إستراتيجية مثل الجلاء عن جنوب لبنان ، أو تحرير المرتفعات السورية ، أو تحرير الضفة الغربية وغزة أو ما هو دون ذلك من أهداف يعتبرونها هم أهدافا تكتيكية حتى بالنسبة  الى أهدافهم الإستراتيجية ، مثل كسب الرأي العام العالمي ، أو وضع العالم أمام مسؤولياته ، أو الحوار مع أمريكا ، أو السلام في الشرق الأوسط .. الخ ، فليس مطلوبا منهم إلا "الاعتراف" بأنهم يريدون لمنظمة التحرير الفلسطينية أن تعقد صفقة تبيع فيها هدفها الاستراتيجي في مقابل هدف تكتيكي بالنسبة إليها حتى ولو كان هدفا استراتيجيا بالنسبة الى أصحاب الدعوة . أو ما هو أدهى من هذا ، أن تبيع هدفها الاستراتيجي مقابل هدف تكتيكي بالنسبة إليهم .

إذا لم يعترفوا بهذا فإنها "جريمة احتيال" بالغة الغباء ، إذ الأغبياء وحدهم هم الذين يتصورون أن شعبا له مثل وعي وخبرة وقيادة الشعب العربي الفلسطيني سيبيع جزءا من وطنه مقابل جزء منه ، أو مقابل ـ وهذا هو الاحتيال ـ أن يحققوا أهدافهم الخاصة . 

بعد استبعاد "المحتالين" من دائرة الحوار لا نستبعد أن يكون من أصحاب دعوة منظمة التحرير الفلسطينية من ضللته الكلمات فاعتقد صادقا مع نفسه أن اعتراف المنظمة بإسرائيل لا يضر بهدفها الاستراتيجي . هؤلاء وحدهم هم الذين قد يكونوا من حقهم دعوة منظمة التحرير الفلسطينية الى الاعتراف بإسرائيل ، ويستحقون الحوار معهم حول ما يعتقدونه من أن هذا الاعتراف لا يضر بالهدف الاستراتيجي . مصدر استحقاقهم أنهم ينطلقون من مبدأ أن أرض فلسطين لشعبها العربي وأن الهدف الاستراتيجي هو استردادها كاملة للشعب العربي .

إلى هؤلاء نقول : عندما يتحدد استرداد كامل التراب العربي في فلسطين هدفا استراتيجيا يجب أن تسقط المثالية الفاشلة التي توهم ذاتها بأن ما تريد أن تحققه في الواقع سيتحقق لمجرد إنها تريد أن تحققه . فهنا ، بعد تحديد الهدف الاستراتيجي ، يأتي دور المواقف والخطوات والمراحل التكتيكية ، وليس للمواقف أو الخطوات أو المراحل التكتيكية صيغة معينة سلفا ، أو مضمون محدد من قبل ، تلتزم به الحركة النضالية مقدما وهي في طريقها الى هدفها الاستراتيجي ، التقدم قد يساوي التوقف قد يساوي التراجع قد يساوي الالتفاف في مدى ضرورته لتحقيق الهدف الاستراتيجي الكلمة قد تساوي البندقية ، والمعارك السياسية قد تكون أكثر لزوما من المعارك العسكرية في سباق النضال من أجل تحقيق الهدف الاستراتيجي ، نعني أنه لا يمكن حصر المواقف والخطوات والمراحل التكتيكية التي تترجم الخطوط الإستراتيجية" .. ومن المهم بعد هذا أن ننتبه - أولا - الى إشارة للدكتور عصمت سيف الدولة الى ما يميز المبدأ والأهداف الإستراتيجية من خاصيات فكرية وحركية مؤثرة في اختيار الأسلحة الملائمة لمواجهة الأعداء حينما تتنزل تلك الأهداف في الواقع وتتحول الى مهمات تكتيكية ، فيواصل مسترسلا : ".. تلك الخطوط التي تربط بين "المبدأ" وبين "الهدف الاستراتيجي" .. ذلك لأنه على المستوى التكتيكي تدور المعارك الفعلية ، الفكرية والحركية ، السلمية والعنيفة ، السياسية والثورية ، المحلية والدولية ، ويلتحم المتصارعون ويتعدد الأطراف بحيث لا يستطيع أي طرف أن ينفرد باتخاذ موقف أو خطوة تكتيكية غير متأثر بالموقف أو المواقف التكتيكية المضادة أو حتى الحليفة ، ولا أن يستعمل سلاحا فكريا أو دعائيا أو سياسيا أو قتاليا بعيد عن قياس مضائه الى مضاء الأسلحة التي يواجهها " .. وأن ننتبه - ثانيا - الى علاقة التكتيك بالمبدأ رغم مرونته في الواقع وهذا أمر مفهوم على أساس أن التكتيك هو مجرد خطة إستراتيجية مرنة قصيرة المدى ، حيث العبرة في النهاية بالنجاح الاستراتيجي الذي يتطلب نجاحات تكتيكية متراكمة ، وفي هذا شرح وتفصيل مدعوم بأمثلة من واقعنا ومن واقع الشعوب الأخرى جاء فيه : "باختصار يمثل المستوى التكتيكي المبدأ المرن للمناورة وفيه تتجلى كفاءة المناضلين والقادة ، لا في القتال فقط ، ولكن أيضا في المهارة في مواجهة المواقف الطارئة ، والأفخاخ المنصوبة ، والخدع المموهة ثم الملائمة بين تحركاتهم وتحركات  القوى المضادة ، وتتوقف تلك المهارة الى حد كبير على الإدراك الثابت بأن الهزيمة أو النصر لا يتم قط ، ولم يتم قط على مدى تاريخ الشعوب ، في معركة تكتيكية أو مرحلية . إنما تتم هزيمة طرف حين يتنازل عن هدفه الاستراتيجي أي يستسلم .

وفى تاريخ فلسطين بالذات دليل على ما نقول . فمن قبل هزمت ثورة 1920 و1921 و 1935 و1939 ، وفى 1948 و1967 تخلى الكثيرون من الشعب العربي في فلسطين عن الأرض وغادروها منهزمين ولكنهم لم يلبثوا أن تحولوا خارج الأرض الى منظمات مقاتلة بدأت آخر ثوراتها من اجل تحقيق الهدف الاستراتيجي فثبت أن كل الهزائم السابقة كانت هزائم تكتيكية لم تحل دون العودة الى النضال من جديد .

وفي تاريخ الصراع العربي الصهيوني أدلة كثيرة . لقد هزمت الدول العربية عام 1948 وعام 1956 وعام 1967 . وهزم الصهاينة عسكريا عام 1973 . وكانت كلها معارك تكتيكية . كانت كل معركة تؤكد السمة التكتيكية للهزيمة في المعركة التي قبلها الى أن أعلنت حكومة مصر العربية أن معركة 1973 هي آخر الحروب ، وكان لا بد لها وقد تنازلت عن خيار الحرب أن تقبل ما تقدم لها بشروطه . فكانت اتفاقية 26 مارس 1979 هزيمة للسادات وحكومته لم يقبلها الشعب العربي في مصر قط .

وفى تاريخ الصراع العالمي . تخلى الروس عن الأرض وحرقوها ودمروها متراجعين أمام نابليون وأمام هتلر ، وتراجعت قوى الحلفاء حتى انحصرت في الجزيرة البريطانية ، وكانت كلها هزائم وتراجعات ومعارك تكتيكية لم تؤثر في انتصار الهدف الاستراتيجي ، لروسيا ضد نابليون وللحلفاء ضد النازية .

إذن .. فلا حصر لما تستطيع أن تتخذه منظمة التحرير الفلسطينية من مواقف أو خطوات في سبيل الحفاظ أو الاقتراب أو تحقيق هدفها الاستراتيجي ، بل إنها تستطيع أن تتوقف عن النضال أو تحل نفسها معلنة انتهاء تمثيلها للشعب العربي الفلسطيني وعجزها عن الاستمرار في الكفاح من أجل تحقيق الهدف الاستراتيجي تاركة له حرية اختيار من يمثلوه أو يقودوه في مسيرته المناضلة الى أرضه وسيكون من السهل اعتبار كل هذا خطوات تكتيكية …

إلا الاعتراف بإسرائيل ، اعترافا صريحا أو ضمنيا ، يستحيل أن يكون خطوة تكتيكية .

لماذا ؟

لأن الاعتراف بإسرائيل هو إقرار ملزم بأن دولة إسرائيل بكل عناصرها (الشعب والأرض والسيادة) دولة مشروعة . وعلى وجه خاص إقرار ملزم للمعترف بأن أرض فلسطين من حق الشعب اليهودي . الاعتراف هنا ليس إقرارا بالهزيمة على مستوى تكتيكي ، ولا هو إقرار بالهزيمة على مستوى استراتيجي ، لا .. ولا هو اعتراف بالأمر الواقع ، بل هو حسم للصراع مع الصهيونية على مستوى المبدأ ذاته .

وأن إدراك هذا لعلى أكبر قدر من الأهمية ، ذلك لأن الاعتراف بأن إسرائيل الصهيونية المدعمة بالولايات المتحدة الأمريكية غير قابلة للهزيمة الى الحد الذي يمكن فيه تصفيتها كدولة واسترداد أرض فلسطين للشعب العربي في هذه المرحلة التاريخية ، أي الاعتراف بالأمر الواقع ، والكف عن محاولة تحرير فلسطين ، يعتبر تخليا عن الهدف الاستراتيجي . ولكنه لا يحول دون العودة الى محاولة تحقيقه في مرحلة تاريخية أخرى تكون الظروف فيها مواتيه أو مشجعة ، مثال هذا اتفاقيات الهدنة التي أبرمت في رودس عام 1948 . 

أما الاعتراف بدولة إسرائيل فهو إقرار ملزم " بالمبدأ " الصهيوني الذي وضعت على أساسه الإستراتيجية الصهيونية منذ قرن والذي ينفذه الصهاينة على مراحل تكتيكية . هذا المبدأ الذي تقوم على أساسه دولة الصهاينة كدستور وتستغني به عن أي دستور هو : أن فلسطين هي أرض إسرائيل . فلا شبيه في أن الاعتراف بدولة إسرائيل هو اعتراف بأن فلسطين هي أرض إسرائيل لا حيلة لأحد في هذا ، ولا يجدي أحدا أن يحاول المقارنة أو القياس في أي حالة اعتراف يعرفها لأنه لا توجد في العالم المعاصر حالة اغتصاب مشابهة لاغتصاب الأرض العربية . لا يوجد صراع ضد استعمار استيطاني إلا في فلسطين ، فلا يجوز القياس في شأن الاعتراف بإسرائيل على الاعتراف بأية دولة أخرى .

في جملة واحدة أن الاعتراف بدولة إسرائيل هو اعتراف بشرعية " الصهيونية " فهو موقف صهيوني فإذا تذكرنا أن الصهيونية ليست هي اليهودية بل هي الحركة السياسية التي تلتزم بالمبدأ الذي يقول بأن للشعب اليهودي حقا تاريخيا مشروعا في أرض فلسطين ، وأن بعض اليهود لا يدينون بهذا المبدأ فهم ليسوا صهاينة ولو كانوا يهودا ، وأن من غير اليهود كثيرين يقرون هذا المبدأ فهم صهاينة ولم يكونوا يهودا ، ندرك بوضوح ، ونتمنى أن يدرك أصحاب الدعوة الى الاعتراف بإسرائيل بأن اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل اعترافا صريحا أو اعترافا ضمنيا يحوّلها فورا من منظمة تحرير فلسطينية الى منظمة يهودية ، إذ بمجرد أن يصدر هذا الاعتراف ، صريحا أو ضمنيا تصبح منظمة التحرير الفلسطينية مسلمة بأن أرض فلسطين المقامة عليها دولة إسرائيل هي ملك للشعب اليهودي . هي أرض إسرائيل " .. وفي نهاية هذا العرض نتوقف على ملاحظة مهمة تتعلق ببيان علاقة التأثير والتأثر بين الإستراتيجية والتكتيك عند الدكتور عصمت سيف الدولة في حالة الهزيمة .. بحيث تكون الهزيمة إستراتيجية إذا كانت مسببة لضرر ينهي إمكانية تحقيق الهدف الاستراتيجي ويمنع أي خطوة للقيام من جديد بتكتيك أو بمناورة جديدة ، محققا نصرا تكتيكيا للعدو على طريق استكمال تحقيق هدفه الاستراتيجي "أرض إسرائيل من الفرات الى النيل" .. وهذا ما جاء التنبيه اليه في هذه الفقرة الأخيرة : "فهل يمكن أن يعتبر هذا الاعتراف " خطوة تكتيكية " لا تضر بهدف التحرير الاستراتيجي ؟ لا نعتقد هذا إذ ليس بعد الاعتراف تكتيك آخر . ولكنه يمكن أن يعتبر خطوة تكتيكية بالنسبة الى الهدف الاستراتيجي الصهيوني . ذلك لأن أرض اسرائيل ، ولينتبه جيدا الذين يلعبون بنار الاعتراف الآن ، التي يعتبر استردادها للشعب اليهودي هدفا استراتيجيا للحركة الصهيونية أوسع بكثير من فلسطين . من الفرات الى النيل كما يقولون هم وكما نعلم نحن . وبمجرد أن تكسب الصهيونية المعركة المبدئية ضد العرب ، بمجرد أن يقر لها بمبدأ الحق التاريخي في أرض فلسطين ستنتقل الصهيونية ، مدعمة بهذا الاعتراف ، الى ميدان المعارك من أجل إكمال استرداد أرض اسرائيل حتى لا يبقى الحق المعترف به منقوصا …

هذا مثال من الأمثلة العديدة ، المتشعبة والمعقدة في الواقع العربي .. ذكرناه من مصدره كما ورد بكل تفاصيل لكي يفهم من له مصلحة فعلية في تحقيق الفرز الحقيقي المطلوب ، بان مسألة الحكم على المواقف ليست فهلوة أو فذلكة فكرية ولا هي مسألة إبداع في مجال الخيال الاستراتيجي ، بل هي أولا وقبل كل شيء ، مسألة مبدأ متصل ببناء مشروع خطير يتوقف عليه مستقبل الأمة العربية وجودا أو عدما ، لا بد أن يكون خاضعا لمنهجية واضحة وأسلوب علمي دقيق بعيد عن التسرع والمناكفات والاتهامات والتشهير والتخوين .. فضلا عن كون هذه الأساليب مرفوضة من حيث المبدأ ، ومن حيث الأخلاق التي يتميز بها الطليعيون العرب في تعاملهم مع عامة الناس ، ومن باب أولى مع الذين يشاركونهم في المبدأ ، وخاصة حين تكون تلك الأحكام غير موضوعية ودون حجة يقينية أو تتعلق بالنوايا ، أو حينما تتعلق بالحكم على مواقف ظرفية متغيرة غير مؤثرة على الأهداف الإستراتيجية .. وسنعود الى مواقف كثيرة منها للدكتور في حديث خاص عن "السفود" ..

-15-

أكثر من هذا حسما وتدقيقا في تحديد أسلوب الفرز والتصنيف الخاص بالمواقف هو ان الدكتور عصمت سيف الدولة استعمل مفهوما أكثر شمولية في فرز المواقف من المفهوم السابق الذي يعتبر خاصا بمواقف متحركة قصيرة المدى مقارنة بهذا المفهوم الذي يتميز بثبات الموقف في الزمان ، وفي ظروف يسيطر فيها - موضوعيا - موقف على مواقف عديدة أخرى مثل الوضع في ظل الاحتلال ، مستعملا عبارة "التيار" عندما كان يناقش كتّاب مجلة الشورى في موضوع انتماء ثورة يوليو وعلاقتها بواقع ما قبل الثورة ، وصولا لفهم هويتها السياسية من خلال المبادئ الستة التي جمعت أعضاءها ، مقسما القوى السياسية النشيطة - حسب طبيعة المرحلة - الى تيارين : تيار ثوري ، وتيار إصلاحي .. وقد جاء هذا التوضيح في كتابه حوار مع الشباب العربي حين قال : "وفي مواجهة الاحتلال الأجنبي يختلف الناس أسلوبا فمنهم الثوري ومنهم الإصلاحي .. الثوري يتعامل مع القوى الاستعمارية بأسلوب التعامل مع الأعداء ، فهو لا يعترف ولا يصطلح ولا يفاوضها ولا يساومها بل يقاتلها بكل أداة من اول الكلمات الى الرصاصات . ويدرك الثوريون أن التناقض الأساسي في ظل الاحتلال الأجنبي يقوم بين إرادة التحرير من ناحية وواقع القهر من ناحية أخرى ، فيضعون متطلبات معركة التحرر فوق كل المتطلبات الأخرى . ويحددون مواقفهم من الأحداث والناس والقوى طبقا لمواقفها من معركة التحرر . اما الإصلاحيون فيتعاملون مع قوى الاحتلال من منطلق مهزوم أصلا . يعترفون بشرعية الأمر الواقع ويصالحون أعداءهم ويفاوضونهم ويساومونهم على ذات مصير وطنهم . وفي كل مجتمع محتل لا يوجد - اذا استبعدنا الخونة - الا تياران سياسيان : تيار ثوري وتيار إصلاحي" .. ثم نجد ردا وافيا يخص فكرة التصنيف المبنية على آلية الفصل والتركيب بين أهداف ومبادئ الثورة الستة من جهة وأعضائها من جهة أخرى ،  بحيث تنتهي العملية وفقا لهذه المنهجية الى تحويل تنظيم الضباط الأحرار ومن بعده مجلس الثورة الى مجرد مجموعة توافقية متعددة الانتماءات والاتجاهات ملتقية على أهداف عامة ، يعبر كل هدف منها أو بعضها على خلفية فكرية لكل عضو من الأعضاء المنتمين للتنظيم كما لو كانت امتدادا للاتجاهات الموجودة في الساحة السياسية .. وهو ما اعتبره الدكتور نهجا خاطئا في فهم هوية الثورة معتمدا منهجية مغايرة في التصنيف جاء فيها هذا الرد تحت عنوان "خطأ المنهج" قال فيه : "أحسب أن الدكتور عبد الكريم أحمد لم يقصد ظلم ثورة 23 يوليو حين ظلمها ، إنما أراد أن ينصفها فانتهج في بيانه خطأ منهجيا ذهب بما قاله دفاعا عنها الى حافة الظلم لها .. وهو لم يفعل هذا غير ما يفعل غيره من الذين لا يهتمون كثيرا بمناهج البحث العلمي فتفوتهم العناصر اللازمة لتفسير الاحداث التاريخية تفسيرا صحيحا"  ..

فمثلا :

- لما أن عرف من معاصرته لتاريخ ما قبل ثورة 23 يوليو 1952 أن تيارات سياسية عدّدها ، كانت ترفع كل منها - منفردة - شعارا أو أكثر من المبادئ الستة التي قامت عليها الثورة ، تصوّر أن تلك المبادئ وقد اجتمعت في الثورة بقيت كما هي فاعتبر مبادئ الثورة امتداد لمبادئ الأحزاب قبلها . وفاته أن المبادئ المتفرقة بين قوى متعددة تحمل كل قوة ما تشاء منها ، اذا اجتمعت لقوّة واحدة فقد تغيرت . تغيرت نوعيا وفي مضامينها ولم تعد هي ، لسبب بسيط وهي أنها عندما تجتمع تتكامل . يؤثر كل منها في الآخر فيغير مضمونه ، ويصبح كل منها حدا للآخر فتصبح أجزاء لا تفهم الا منسوبة الى الكل الذي يجمعها . وتطبيقا لهذا نستطيع ان نقول أن مضمون كل مبدأ من المبادئ الستة التي حملتها ثورة 23 يوليو ليس امتدادا أو استمرارا على أي وجه لذات مضمونه يوم أن كان يحمله - منفردا - أي من التيارات السياسية السابقة على ثورة 23 يوليو .

- لما أن عرف من معاصرته لتاريخ ما قبل ثورة 1952 أن كل واحد من أعضاء مجلس قيادة الثورة كانت له انتماءات فكرية أو تنظيمية ، ثابتة أو متغيرة ، بواحد أو أكثر من الأحزاب والقوى السياسية السابقة ، تصوّر أنهم عندما اجتمعوا معا في مجلس قيادة واحد لتنظيم ثوري واحد كأنّ كل واحد منهم ما يزال محتفظا بانتمائه السابق . فكما جمع المبادئ الستة ميكانيكيا ، جمع مجلس القيادة ميكانيكيا فأصبح هو فلان وفلان وفلان . وفاته أن مجلس قيادة الثورة "شخص" آخر غير الأشخاص الذي يتكوّن منهم . لهذا الشخص فكر اخر غير أفكار كل منهم وله إرادة غير إرادة كل منهم ، وله أهداف غير أهداف كل منهم ، لأن أفكاره وارادته وأهدافه هي الحصيلة الجدلية لالتقائهم على أفكار وإرادات وأهداف أكثر منها نضجا وتقدما لأنها ثمرة الحوار والصراع الجدلي بين الأفكار والإرادات والأهداف فيما بينهم . ولا يمكن أن تنسب الى الثورة أفكار أو إرادة أو أهداف الا ما ينسب لهذا الشخص الأخر الذي هو مجلس القيادة كما يعبر عنه صاحب الحق تنظيميا في التعبير عنه وهو قائده ".. 

وفي سياق هذا التحليل المنهجي يواصل الدكتور عصمت سيف الدولة الرد على مدى صحة أسلوب الاستدلال بمواقف بعض الأعضاء الذين تراجعوا أو انقلبوا على أعقابهم وكتبوا ما أرادوا أن يكتبوه في مذكراتهم قائلا : "ان الدراسة المنهجية الصحيحة لا تعتد بما يقولون إلا من حيث مدى أثره السلبي او الايجابي في فكر الثورة وإرادتها وأهدافها ، ولكنها لا تعتد به كفكر او إرادة او هدف من أفكار و إرادة وأهداف الثورة .

إنهم يبحثون ، يا دكتور عبد الكريم ، عن صكوك براءة مما يحسبونه تهما وهو موقف مجرد من العلمية ومن الأخلاق أيضا فلا تتبرع لهم بما يريدون وأنت لست معهم ولست مثلهم خلقا .

ان الخطأ المنهجي الأكبر الذي وقع فيه الدكتور عبد الكريم احمد ، وكل الذين كتبوا ويكتبون عن علاقة ثورة 23 يوليو بما سبقها من مبادئ وقوى قد سلبه ، كما سلبهم ، المقدرة على الإجابة على السؤال الحاسم :

إذا صح ان أعضاء مجلس قيادة الثورة قد ظلوا بعد قيامها على أفكارهم وانتماءاتهم السابقة ، فلماذا أسسوا "منظمة الضباط الأحرار" أصلا ..؟ لماذا لم يحاول كل منهم ان يحقق ما يريد من موقع انتمائه الفكري والحركي الى القوة السياسية التي كان ينتمي اليها ؟ ..

لا بد ان يكون كل واحد منهم قد قارن بين جدوى بقاء انتمائه القديم فكريا او تنظيمياً وجدوى انتمائه الى منظمة جديدة فاختار الجديد .

وهنا يكمن السؤال : ما هو الفارق - الجديد - الذي حمل كل واحد منهم على حدة على ان يختار الانتماء الى الضباط الأحرار بدلا من الانتماء إلى حزبه؟

الجديد أما ان يكون في الفكر او يكون في الأسلوب ".. وهو يقصد أسلوب التغيير في ظل الاحتلال ، الذي يجعل الناس ينقسمون الى ثوريين وإصلاحيين ..

ثم يواصل في تفكيك ألغاز ثورة يوليو من خلال الكشف عن خفايا تاريخ طويل مجهول من تاريخ الحركة الوطنية في مصر للإحاطة الكاملة بموضوع الحديث المتعلق بجذور الثورة ، متحدثا من موقع المعايشة والمشاركة أيضا في أحداث تلك المرحلة كما يُفهم من الحديث ، وكما يشهد بذلك الكثيرون .. وفي هذا الصدد يمكن أن نذكر أربع شهادات مختلفة تؤكد انتماء  عصمت سيف الدولة الى الحزب الوطني ومشاركته في المقاومة الشعبية وإشرافه على تنظيمها والتواصل مع تنظيم الضباط الأحرار قبل ثورة 23 يوليو 1952 ، وهي شهادات منقولة عن رجال المقاومة الذين كتبوا عن تلك الفترة أو من رفاق عصمت سيف الدولة نذكر منها تأكيدا لما ذكر في هذا الجانب :

الشهادة الأولى نأخذها من كتاب "قصة حياة عادية" (ص 99 و100) ، للدكتور يحيى الجمل (طبعة دار الهلال) جاء فيه : " ... كانت الحركة الوطنية تتصاعد يوما بعد يوم حتى وصلت الى أولئك التجار والمتعهدين الذين كانوا يتعاملون مع القوات البريطانية في القناة  ، فامتنعت كثرتهم عن تلك المعاملات واعتُبر من استمرّ في تعامله معهم خائنا خارجا على الإجماع الوطني معرضا نفسه لمخاطر شتى .

وتنادى شباب الحزب الوطني لإعداد كتيبة خاصة بهم ، وان صاحبنا (مؤلف الكتاب) مازال يذكر أسماء "عصمت سيف الدولة" و"أحمد مجاهد" و"حسين عنان" و"حسين محمود" وغيرهم من شباب الحزب الوطني الذين حملوا عبء تكوين تلك الكتيبة وتدريبها ومدها بقطع السلاح الصغيرة .

واتفق شباب الحزب الوطني على أن يطلقوا على كتيبتهم اسم "كتيبة محمد فريد" .... وكان المرحوم "عصمت" هو المنظم وهو الموجّه لتلك المجموعة من الشباب الوطني المتحمس . ولم يكن "عصمت" شابا عاديا بأي معيار ، كان قادرا على اثارة مشاعر متناقضة لدى نفر من الشباب الذي التف حوله يسمع له ويتعلم منه ، ويعجب لكثير من أمره في بعض الأحيان .

وعند "عصمت" في ذلك المسكن القريب من ميدان السيدة زينب ، الذي كان يتخذه بيتا ومكتبا بعد أن تخرج في كلية الحقوق ، وأنهى فترة التدريب ، واتخذ له مكتبا مستقلا للمحاماة في ذلك الموقع بالقرب من دار الهلال ومن المدرسة السنية ومن مسجد السيدة زينب . عند عصمت التقى صاحبنا ذات ليلة بضابط مهيب الطلعة له شوارب كثة في غير افتعال ، أبيض الوجه فارع الجسم ، عيناه نفاذتان وعلى وجهه وقار وإيمان ، وعرف من عصمت أن هذا الضابط الكبير الذي كان برتبة "عميد" أو ما يقابلها أيام النظام الملكي - قبل 1952 - هو المسؤول عن تدريب كتيبة محمد فريد وعن تدريب غيرها من الكتائب ، التي تتوجه الى مشارف القناة ويتسلل بعض أفرادها الى معسكرات الجيش البريطاني ، ويتربص بعض أفرادها بجندي يسير منفردا فيطلقون عليه الرصاص ، ويستطيعون بذلك أو بغيره أن يحدثوا نوعا من القلق الذي قد يصل الى الذعر في بعض الأحيان وسط الجنود البريطانيين . وكانت الصحافة الوطنية تكتب أنباء المصادمات بين كتائب الفدائيين وقوات الاحتلال بغير قليل من الفخر والاعتزاز ، وغير قليل من المبالغة أيضا .

وأعجب صاحبنا بذلك الضابط الجميل الطلعة الوقور المتواضع ، ولم يخبره "عصمت" باسمه آنذاك ولكنه عرف بعد ذلك وبعد أن تغيرت أحوال كثيرة من أحوال مصر ، أن ذلك الضابط هو "رشاد مهنا" الذي أصبح بعد ذلك وصيا على عرش مصر الذي كان يجلس عليه الطفل أحمد فؤاد الثاني ملك مصر لبضعة أشهر ، الى أن ألغت الثورة النظام الملكي وأقامت مكانه النظام الجمهوري "..

والشهادة الثانية ، نأخذها من مقال للأستاذ مصطفى نبيل بعنوان "عصمت سيف الدولة شيخ جبل البداري" ، نشر بمجلة الهلال بتاريخ 1 ماي 1996 وقد اعتمده أيضا كتقديم للكتاب قال فيه : "... وأعرف بعض تجاربه الأولى فقد كان ضمن التنظيم السري للحزب الوطني ، حزب مصطفى كامل ومحمد فريد ، بما يمثله هذا الحزب في السياسة المصرية من الطهر والبراءة والمثالية ، والتمسك الشديد بالمبادئ والتعامل مع النظرة التاريخية لا النظرة الآنية ، وهم أصحاب شعار "لا مفاوضة الا بعد الجلاء" والذي يعبر عن رفضهم للمفاوضات مع بريطانيا ، وعمل الكاتب بعد تخرجه في كلية الحقوق  في مكتب أحد أقطاب الحزب الوطني وهو مكتب زكي علي باشا والذي تشرب منه "إغاثة الملهوف والوقوف مع المظلوم" .. وانتهى بكاتبنا الحال الى أن أصبح محاميا في معظم القضايا السياسية والوطنية ... وما أحوجنا الى تسجيله لتجربته عندما كان ضمن كتائب الفدائيين الذين قاتلوا الإنجليز في القناة عام 1951 ، بعد إلغاء معاهدة 1936 .. كنا ننتظر روايته وأن يقدمها للأجيال الجديدة وهو من القلائل الذين يقفون مع الشباب بلا تحفظ ويؤمن بقدرته على صنع المستقبل " ..

أما الشهادة الثالثة ، فهي من كتاب "الثائر الصامت" (ص 214) للكاتب عبد العزيز علي (طبعة دار المعارف) قال فيه : " وأما شباب الحزب الوطني الذين كانت لهم خبرة سابقة بالنشاط السري فقد اتخذوا من تلك الحركة الشعبية الدافقة سبيلا لتشكيل كتائب مقاومة يُنتقى أفرادها ويدرسون أفضل تدريب ويسلحون بما فيه الكفاية . وكل ذلك طبق نظام دقيق وسري ، ومبعث السرية هنا هو عدم اطمئنانهم لما كانت تتظاهر به الحكومة من الرضا على العمل الفدائي .

ويشاء القدر أن يكون الأستاذ عصمت سيف الدولة المحامي أحد أفراد هؤلاء الشبان محاميا لأسرة الضابط عبد المجيد فريد الذي توثقت بينهما الصلة خلال عمله وعن طريقه تم التعارف بين عصمت والضابط رشاد مهنا ، وأخذ الثلاثة يجتمعون بمكتب الأستاذ عصمت بشارع خيرت بالسيدة زينب يدبرون خطة إعداد المتطوعين ، واتفقوا على أن يتم اختيار الصالحين منهم بعد اختبارات دقيقة ثم يُدعون الى دروس يلقيها عليهم بالمكتب بعض الضباط والمدربين حتى اذا ما بلغ عددهم عشرين يُنقلون الى سلاح المدفعية للتدريب العملي بين الجنود ، ثم يُنقلون الى سلاح المهندسين للتدريب على المتفجرات وكيفية استعمالها .

وتكوّنت على هذا الوجه في بادئ الأمر كتيبتان تضم كل منها حوالي عشرين متطوّعا وجُعلت لها قيادة مدنية وأخرى عسكرية . أما القيادة المدنية فكانت من شباب الحزب الوطني كتيبة مصطفى كامل بقيادة عصمت سيف الدولة ، وكتيبة محمد فريد بقيادة حسن بسيوني . وأما القيادة العسكرية فقد تولاها الضباط الأحرار وأوكلوا أمرها الى الضابط الطيار وجيه أباظة الذي كان أول من بدأت به تشكيل الضباط الأحرار مع زملائه عبد اللطيف البغدادي وحسن عزت وأحمد سعود وحسن إبراهيم .. وسافرت الكتيبتان مصطفى كامل ومحمد فريد الى منطقة أبو حمّاد والتل الكبير وبقيتا تزاولان نشاطهما في المنطقة الى اخر يناير 52 ، أي بعد حرق القاهرة دون أن يعلم أحد من أمرهما شيئا بفضل الجدية والسرية التامة والبعد عن المن وحب الظهور والعمل الخالص لوجه الله " ..

علما أن صاحب الشهادة الثالثة ذكره الدكتور عصمت سيف الدولة أكثر من مرة في عرضه الطويل لتاريخ الثورة في نفس المرجع وقد وردت فيه تفاصيل كثيرة نذكر بعضها لأهميتها وتسلسلها حيث قال : "الذي لم يكتبه أحد بعد هو انه منذ 1914 تاريخ فرض الحماية الانجليزية على مصر، وضرب الحزب الوطني "العلني" لجأ التيار الثوري مباشرة الى مواجهة الموقف الجديد بأسلوب جديد هو : النشاط الثوري السري . وكان أيضا تحت قيادة شباب الحزب الوطني (حينئذ) الذي لم يعرف الشعب عنهم شيئا منذ ذلك الحين بينما كانوا يقودون ثورته الصامتة في الخفاء ولم يظهروا إلا مع ثورة 23 يوليو 1952 كأنهم خرجوا من جوف الأرض . ولكن النشاط الثوري السري اتسع لكل الثوريين حتى ممن كانوا غير منتمين للحزب الوطني وامتد فجند عناصره وأدار معركته حتى بين صفوف الأحزاب الإصلاحية . ولقد استطاع ان يضع احد رجاله في اقرب موضع مع سعد زغلول نفسه وهو عبد الرحمن فهمي ، الذي انشأ "الجهاز السري" للوفد كما يقول المؤرخون بينما الجهاز كله كان ينفذ مخططات ثورية لم يقررها الوفد بل قررها التيار الثوري المتمركز خارج الوفد والأحزاب الإصلاحية الأخرى .. وكان النشاط كله بقيادة شخص ما يزال حيا وان كان اغلب الناس لا تعرفه ، لأنه منذ 1914 حتى 1952 لم يكن إلا موظفا بسيطا في أجهزة دولة مصر هو : عبد العزيز علي قائد التيار الثوري في مصر ورائده ومعلمه منذ سنة 1914 .. ومؤسس كل الجماعات الثورية التي كانوا يطلقون عليها  "إرهابية" بدأ بجماعة "اليد السوداء" ، ولأن العمل الثوري في ظل الاحتلال لا بد له من ان يكون عنيفا فان كل العشرات والمئات من أول الجنود الى الخونة الى آخر القائد الانجليزي للجيش المصري كانوا قد اعدموا بناء على أحكام أصدرها التيار الثوري المنظم الذي لم يكن يعرف عنه احد شيئا .. هذا - طبعا - بالإضافة الى التبشير .. الفكري السري الذي كان يأخذ شكل منشورات والتحريك الجماهيري الذي كان يأخذ شكل المظاهرات . منشورات ومظاهرات تحمل عناوين شتى ويقودها - او تحسب انها تقودها - شخصيات متنوعة الاتجاهات ، ولكن الذي ينظمها ويحركها ويقودها فعلا جنود مجهولون ينتمون الى التيار الثوري ومنظماته .

... في عام 1940 قررت قيادة المقاومة الثورية للاحتلال تجنيد أفراد من الجيش المصري للعمل الثوري . وتشكلت أول خلية من القوات المسلحة من ضباط سلاح الطيران (سعودي وبغدادي ووجيه اباظة وحسين ذو الفقار) وكانت تلك أول جماعة منظمة فيما عرف بعد باسم الضباط الأحرار . واقسم كل من هؤلاء يمين الولاء للثورة أمام عبد العزيز علي الموظف البسيط في ذلك الوقت في الإدارة المالية لمحافظة القاهرة . وبدأ انتشار الخلايا الى حين ان وصل الى جمال عبد الناصر فتغير كل شيء تغييرا نوعيا . فقد كان جمال عبد الناصر أكثر مقدرة على التنظيم السري من القيادة المدنية . وكانت القيادة المدنية اكثر ولاء للتيار الثوري وأهدافه من المزاحمة على القيادة ، فاستقل الضباط الأحرار بتنظيمهم تحت قيادة جمال عبد الناصر واستمرت الحركة المدنية بقيادة جيل جديد من شباب الحزب الوطني ، وظل الطرفان يرجعان للمشورة الى الرجل الذي تنحى وبإرادته ليفسح المجال لمن أصبح اقدر منه بحكم الموقع والسن . ولقد كان عبد العزيز علي أستاذا معترفا به من الضباط الأحرار ومستشارا يرجعون إليه حتى قيام ثورة 1952 عندما نقلوه من وظيفته البسيطة الى منصب الوزارة في أول وزارة للثورة " ..

كما نجده يخصه بالذكر في موضع اخر خصصه الدكتور عصمت سيف الدولة هذه المرة للحديث عن "بذور" العمل الثوري في مصر الوارد بكتابه عن "الناصريين واليهم" حيث كانت هذه العبارة هي عنوان الفقرة المخصصة لهذا الموضوع ومدخل الحديث إليه حين قال : "نروي ملخصاً لهذه القصة ، قصة بذور ثورة تحرير مصر الممتدة منذ الاحتلال وننتهزها فرصة لإشباع هوايتنا في التذكير بما نذكره من أسماء قادة وشهداء الحركة الوطنية الذين لا يذكرهم أحد عادة"  .. ثم من خلال عرضه المستفيض لتفاصيل قصة الكفاح في مصر منذ الاحتلال البريطاني عام 1882 حتى ثورة يوليو 1952  نجده يعود لذكر هذا المناضل الفذ في أكثر من مناسبة ، ملمحا في أحداها ما يمكن فهمه - ضمنيا - من معنى  لوجود علاقة بينمهما كما جاء في الفقرة التالية : "كان عبد العزيز علي رئيساً للمنظمة الثورية حين قامت ثورة 1952 ، وقد كان معجباً إعجاباً فائقاً بالعامل إبراهيم موسى ولا يترك مناسبة إلا وذكره وضربه مثلاً للناشئين من أمثالنا" .. ويسترسل بعد ذلك في الحديث عن باقي التفاصيل المتعلقة بصفاته النضالية : "كان وطنياً متصوفاً لا يتحدث في السياسة ولكن يطارد الإنجليز ويقتلهم حيث يثقفهم . وكان قناصاً لا يخطئ الرماية".. ثم يواصل الحديث عنه مردّدا أقواله دون ذكر مراجع وكأنه يسمع منه مباشرة : "قال عبد العزيز علي إنه وغيره كانوا يضعون خطط إعدام الإنجليز ويتركون دور إطلاق الرصاص لإبراهيم الذي يحضر يوم التنفيذ ويستلم مسدساً ويطلق طلقة واحدة تنهي حياة من أعدم ويسلم المسدس وينصرف هادئاً إلى منزله .. "في الشرابية" ، وكان عاملاً في ورش السكك الحديد وأباً لسبعة أطفال" .. ولعل ما يؤكد هذه العلاقة المباشرة بين الرجلين هو سعي عصمت سيف الدولة للتعرف على عائلة المناضل ابراهيم موسى الذي حدثهم عنه عبد العزيز علي وهو ما قاله في هذا الجزء من الحديث : "وقد حاولت أن انبش حي الشرابية بحثاً عن أحد من أسرته لأعرف الجانب الاجتماعي من ثوريته فلم اهتد إلى أحد" .. ثم يواصل بمزيد من التفاصيل الى نهاية الفقرة التي اخترناها في موضوعنا مؤكدا على دور عبد العزيز علي ورفاقه في مقاومة الاحتلال ورموزه قائلا : "استمر نشاط المنظمة ثلاث سنوات مليئة بجثث كبار رجال الإدارة من الإنجليز . براون مراقب عام وزارة المعارف . كييف وكيل حكمدار القاهرة الذي كان يجبر من يعتقل على أكل روث الخيل . بيجوت مدير مالية الجيش الانجليزي . براون آخر مدير قسم البساتين . بون الأستاذ في مدرسة الحقوق الذي كان يدرس للطلبة عدم استحقاق مصر للاستقلال وأخيرا وليس آخر السيرلي ستاك "سردار" قائد الجيش المصري . أعدمه عبد الحميد عنايت وإبراهيم موسى وراغب حسين ومحمود راشد وعبد العزيز علي يوم 19/11/1924 . خانهم نجيب الهلباوي فقبض عليهم وعلى بقية أعضاء المنظمة الثورية وفي 7/6/1925استشهد شنقاً عبد الحميد عنايت وإبراهيم موسى ومحمود راشد وعلي إبراهيم وراغب حسين وشفيق منصور ومحمود إسماعيل"  ..

بالنسبة للشهادة الرابعة فهي من كتاب "في ضوء القمر - مذكرات قادة العمل الوطني السري والاغتيالات السياسية " للدكتور محمد الجوادي (طبعة دار الشروق الدولية) . يتضمن حوصلة لمذكرات ثلاث رجال من المنتمين للعمل الفدائي في مصر ، وقد ورد بالصفحة 23 ضمن النقاط الواردة في الكتاب كملخص للمذكرات الفقرة التالية : "تنفرد مذكرات عبد العزيز علي بتقديم تفصيلات مهمة عن تهريب حسين توفيق إلى السعودية ومن الانفرادات التي يقدمها ذكره أن هذا التهريب قد تم بمساعدة الأمير فيصل (الملك فيصل بن عبد العزيز) ، وهو يذكر بالتحديد الأدوار التي لعبها كل من سعد كامل وعصمت سيف الدولة ومحمد إبراهيم كامل وإحسان عبد القدوس وقد أصبحوا جميعا نجوما في الحياة السياسية . بل إن محمد إبراهيم كامل عين وزيرا للخارجية بعد نشر هذه المذكرات " .. وبخصوص هذه الفكرة ينقل الدكتور الجوادي في الصفحة 130 من كتابه الفقرة التالية من مذكرات عبد العزيز علي بخصوص تفاصيل الحادثة : " وحدث أن طلب حسين توفيق في إحدى المرات من الضابط المرافق له أن يسمح له أن يزور والدته في مصر الجديدة فأذن له وذهبا معا ، وفى أثناء الزيارة دخل حسين توفيق دورة مياه الفيلا فوجد نفسه أمام الباب الخلفي للفيلا فخرج إلى الحديقة ومنها إلى الشارع وفكر في الهرب ولم يكن أصلاً يدبر له واستأجر سيارة واتجه بها إلى منزل الأستاذ سعد كامل بالدقي وفاجاً الأسرة بدخوله ثم أخذه الأستاذ سعد وتوجه به إلى مكتب الأستاذ عصمت سيف الدولة بشارع خيرت بالسيدة زينب وهناك استدعوا الأستاذ محمد إبراهيم كامل الذى كان متهمًا مع حسين توفيق وقضى مدة عقوبته. ومن هناك انتقلوا إلى منزل الأستاذ إحسان عبد القدوس وكان يعتبر نفسه من شباب الحزب الوطني وبعدها نقل حسين مرة أخرى إلى مصر الجديدة بمساعدة الضابط حسن عزت " .. ثم يعلق قائلا : "وهكذا جمعت هذه الحادثة بين أفراد من أعمار مختلفة من أبناء الحزب الوطني واستطاعوا أن يهرّبوا حسين توفيق عن طريق قنا والقصير إلى السعودية بالاتفاق مع الأمير فيصل الذى تولى الملك بعد ذلك " ..

ويعرض الكاتب ضمن الحوصلة في الجزء الأول من الكتاب نقاط أخرى تتصل بموضوع التهريب ثم بنشاط المجموعات المسلحة السرية نذكر منها ما يهمنا في هذا الحديث : " شباب المجموعة الفدائية لجأوا إلى حيلة أخرى وهي استكتاب حسين توفيق تفصيلات غير دقيقة لاختفائه ونشر هذه التفاصيل بخط يده في "أخبار اليوم" مقابل مكافأة كبيرة ، ما مكنهم من الحصول على المال اللازم لتهريبه عبر القصير.

* عبد العزيز علي يحرص بهذه الرواية على نفي ما شاع ولا يزال يذاع من أن الملك فاروقًا كان على علاقة بتهريب حسين توفيق ..

* نأتي إلى المرحلة التي خرج فيها نشاط الجماعات المرتبطة بالحزب الوطني السرية إلى نطاق العلانية بعد أن هبت مصر كلها من أجل الدفاع عن حقوقها بعد إلغاء معاهدة 1936م‏ ، ونرى عبد العزيز علي يتحدث عن جهود شباب الحزب الوطني في بعث المقاومة الوطنية في القنال بعد إلغاء المعاهدة ، مشيرًا إلى الأدوار التي قام بها كل من يوسف حلمي وماهر محمد علي وغيرهما ..

* حرصه على الإشارة إلى طبيعة نمو العلاقة بين عصمت سيف الدولة وبين رشاد مهنا وعبد المجيد فريد والجهود التي بذلها هو نفسه مع ثلاثتهم في سبيل تنظيم المقاومة وتدريبها على الأسلحة ..

* يذكر بكل وضوح أنه شكل كتيبتين تضم كل واحدة عشرين متطوعا ، وأنه كان هناك قائدان مدنيان للكتيبتين ونحن نلاحظ أن مجموعة العسكريين التي شاركت في هذا العمل تنتمي إلى ما يسمى في أدبيات تاريخ الثورة (تنظيم ضباط الطيارين) .." ..

وهكذا ، نرى أن كل هذه الشهادات تؤكد أن الدكتور حينما كشف عن خفايا تاريخ مجهول من تاريخ الحركة الوطنية في مصر لم يكن يتحدث من فراغ ، وقد مكنه اطلاعه ومعايشته لتلك الأحداث ، من تجاوز أسلوب الحكم على الثورة بالقياس على انتماء أعضائها وكوادرها ، الى الحد الذي استطاع فيه أن يكون حاسما في فرز القوى المتداخلة وتحديد التيار الذي تنتمي اليه الثورة كقوة فاعلة بذاتها ومستقلة عن مختلف التنظيمات السياسية الموجودة .. وقد اعتمد الدكتور عصمت سيف الدولة في تفكيك ملابسات تلك الفترة الغامضة على منهجية واضحة في شرح وتحليل الواقع السابق لقيام الثورة  معتمدا على رصيده المعرفي الغني بتفاصيل الأحداث التي عاشها وشارك في صنعها ، وقد كشف عن خفايا كثيرة تتعلق بالأسلوب الذي اعتمده تنظيم الضباط الاحرار في مواجهة الواقع حين اختار الالتحام بالتنظيمات السرية للحركة الوطنية قبل الثورة ، من خلال التنسيق والتواصل مع قياداتها ، وتدريب عناصرها على الأسلحة الخفيفة والمتفجرات ومدهم بالسلاح .. ثم في استمرار هذا الالتحام بعد الثورة مستدلا بظهور العديد من رموز الحركة الوطنية في مراكز القيادة .. وهو ما يعني - بالنسبة للدكتور - أن الفرز في صفوف أعضاء مجلس قيادة الثورة قد سبق تاريخ قيامها بكثير حينما اختار أبرز رجالها وقياداتها الانتماء الى التيار الثوري الذي ميز الثورة بخصوصية ثورية جعلتها في اشتباك متواصل مع الاحتلال وكل من والاه حتى قيام الثورة وبعدها بقطع النظر عن الانتماءات السابقة والمواقف الخاصة للأعضاء حتى بعد الثورة .. وأغلب هذه المعلومات لم تكن معروفة حتى للباحثين كشف عنها الدكتور عصمت سيف الدولة وهو أحد رجال الوحدات المقاومة للاحتلال من الحركة الوطنية قبل ثورة يوليو 1952 ..

الحوصلة النهائية لهذا التحليل الذي اتبعه الدكتور في هذا المثال تجعلنا نقف عند المعطى الرئيسي والحلقة الأهم في فهم الأحداث وفرز المواقف الثابتة والمتغيرة .. وقد رأينا كل هذا الجهد الذي بذله عصمت سيف الدولة في هذا النقاش الخاص بتحديد موقع ثورة يوليو في ساحة الأحداث ، قد يبدو بسيطا وواضحا بالنظر الى تركيبة أعضائها ، تبين أنه ليس بهذه البساطة وقد انتهى فيه الدكتور بمثل هذا التحليل الى خطوة مهمة تكشف عن أهم خاصية من خصائص البحث والحكم على المواقف والتوجهات : وهي المنهجية .. حيث لا يقتصر الأمر في مثل موضوع ثورة يوليو على مجرد قراءة سطحية للواقع تقوم على تفكيك الأحداث وإعادة ترتيبها ميكانيكيا ما يجعل المواقف المصاحبة لوقوعها غير متأثرة بما تشهده الأحداث من تفاعل مؤثر بشكل أساسي ومباشر في تطورها بالفاعلين في واقع لا يتفاعلون معه كأفراد وهم في ارتباط تنظيمي مقتصر عليهم ، وفي تواصل وجدل خلاق يخلق كل يوم مواقف وحلولا جديدة لا تلبث أن تتحول الى واقع جديد عند التنفيذ ، فضلا عن الحقائق المخفية فيما يتعلق بالروابط المتينة بين الضباط الأحرار والمقاومة الشعبية في مصر قبل الثورة .. إضافة الى الدور المحوري لقائد الثورة ونقصد بالتحديد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر كما عبر عنه الدكتور عصمت سيف الدولة في بحثه المقدم لندوة "ثورة 23 يوليو..  قضايا الحاضر وتحديات المستقبل" التي عقدت في القاهرة في الفترة بين 3 – 6 أيار / مايو 1986  حين قال عن هذا الدور : "ان جمال عبد الناصر ، بدون خلاف هو مدبر ومفكر ومفجر وقائد ثورة يوليو" ..) .. أما عن دوره في علاقة بالضباط الأحرار فقد قال عنه بأنه : "من أغرب ظواهر هذه العلاقة أنه منذ فترة الإعداد لثورة 23 يوليو 1952 لم يكن أحد يعرف أسماء جميع "الضباط الأحرار" إلا عبد الناصر وحده ، وقد بقي الأمر على هذا إلى أن توفي عبد الناصر" . .

صدق العلامة ابن خلدون إذن حين قال : "إن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق" ..

وبهذا الأسلوب المنهجي في فهم الأحداث عند الدكتور عصمت سيف الدولة ، نصل الى الحوصلة النهائية لنؤكد من جديد كل ما قلناه في هذا الموضوع الشائك ، من أن مشكلة الفرز الخاصة بالتنظيم القومي تحتاج فعلا الى أسلوب علمي ومنهجية علمية حاضرة في كل خطوة وفي كل مكان وفي كل وقت تشهد فيه الأحداث تغيرا نحو المستقبل .. بدءا بالإطار الذي يتولى تحديد إستراتيجيته الواضحة بكل مضامينها (آلياتها وأهدافها وأولوياتها ..) ، وبكل شروطها التي أتينا على ذكرها ، وأولها أن لا تكون استراتيجيات فردية ..

ونحن - كنهاية حاسمة لكل الجدل حول هذا الموضوع - حينما نعود بالنظر والتمعن فيما أقدم عليه عصمت سيف الدولة بخصوص موضوع التنظيم القومي قبل ظهور مشروعه ، وفيما انتهى اليه بعد اكتماله بكل ما بذله من جهد فكري وعملي لبنائه حتى أصبح على ما هو عليه .. لا يسعنا الا أن نقول انه لمن دواعي الاستغراب حقا مما نراه في الواقع من صراع مفزع أحيانا بين أصحاب الفكر الواحد والمرجعية الواحدة والمشروع الواحد حول أدق التفاصيل المتعلقة بالمتغيرات ..

فما الذي أقدم عليه الدكتور ، وما الذي انتهى اليه باختصار ؟..

-16-

إننا بطرح هذا السؤال نكون قد تجاوزنا الإجابة عن كل المسائل الأولية أو أغلبها ، وقد كانت مدخلا منهجيا لهذا الحديث الطويل .. وإننا بهذا نكون قد وصلنا الى الاختيار .. اختيار الدكتور عصمت سيف الدولة وليس اختيارنا .. فما الذي اختاره في البداية ثم في النهاية ..؟

في الإجابة عن الجزء الأول من السؤال يكفي القول بأن الدكتور عصمت سيف الدولة خاض تجربتين عمليتين  في موضوع التنظيم القومي ، الأولى كانت من خلال الدعوة لـ "أنصار الطليعة" عام 1966 حينما قرر جمال عبد الناصر مناقشة الميثاق الوطني وتحويله الى ميثاق قومي ، وكان ذلك على أساس وثيقة لا تتجاوز 20 صفحة عرفت فيما بعد تحت عنوان بيان طارق ، وقبل ظهور نظرية الثورة العربية بسنوات ..

والثانية حينما سافر الى ليبيا من أجل الحوار مع القيادة الليبية عام 1970 في نفس الغرض ، ثم قبل بنتائج الحوار والتزم بتنفيذها .. وقد تم ذلك أيضا قبل ظهور نظرية الثورة العربية وما تلاها من اجتهادات فكرية .. بل ان تلك الخطوة التي أقدم عليها هي التي كانت سببا في ظهور  النظرية بعد أن قبل مهمة وضع مشروع الوثيقة التي ستلتقي حولها كل القوى القومية وهم غير مفرزين (بعثيين وناصريين وقوميين عرب وعروبيين ..) ، ولا يعرفون ، وربما لم يخطر على بال أحدهم أي مقاييس للفرز سوى ما يحمله المخلصون منهم من هموم قومية وولاء قومي وإصرار على تحقيق الحلم ، الذي بقي حلما الى الآن ..

أما بالنسبة للإجابة عن الجزء الثاني من السؤال فيكفي أن نذكر ما انتهى إليه الدكتور عصمت سيف الدولة من قول حاسم في موضوع التنظيم القومي عندما حصر مسألة البناء في وثيقة لا تتجاوز 30 صفحة وضع لها عنوانا مميزا سماه "معطيات مبدئية" .. والغريب أن من يقرأها من المطلعين والعارفين بمشروع الدكتور عصمت سيف الدولة يجد فيها خلاصة الخلاصة لكل المجهود النظري الذي كرس له حياته ، ولكل تجاربه الشخصية المختلطة بتجارب الواقع العربي الذي عاشه لحظة بلحظة ، مكتفيا بها ومقتصرا عليها ، بحيث تكون أكثر من كافية كمشروع للحوار حول مسألة التأسيس والبناء للحركة العربية الواحدة ، دون الزام بكل ما قاله قبلها ..

ولذلك فان هاتين الخطوتين بكل ما فيهما من مضامين مختصرة تضعان كل الخلافات القائمة بين القوميين خارج السياق ، سواء ما يتعلق منها بالجوانب النظرية أو بالجوانب العملية على الوجه الذي يدور حوله الخلاف .. والا كيف يمكن فهم ما أقدم عليه الدكتور في هاتين الخطوتين بكل ما فيهما من تحمل للمسؤولية التاريخية في انجاز أخطر مهمة تتعلق بمستقبل أمة بأسرها ، وهي مهمة تأطير جماهير غير مفرزة ـ ودون امتلاكها لسلاح نظري موحد يقود خطاها نحو المستقبل ؟..

وفي هذا الخصوص قد يحتج البعض بفشل المهمتين وهو غير صحيح ، لأن الفشل لا يتعلق باي سبب مباشر يتصل بتلك الجوانب (العوامل الذاتية) بقدر ما هو متعلق بالأطراف المرتبطة بالمشروع (العوامل الموضوعية) (أجهزة الدولة في مصر ، هزيمة 67 ، الغياب المفاجئ للزعيم الراحل جمال عبد الناصر ، تراجع القيادة في ليبيا ..) ..

في الخطوة الأولى ظهرت وثيقة بيان طارق على نطاق ضيق الى أبعد الحدود وبعد سنة واحدة من ظهور كتاب أسس الاشتراكية العربية الصادر عام 1965 ، مع دراسات قامت بنشرها حركة الوحدويين الاشتراكيين في سوريا باسمها عام 1966 قبل أن تظهر مطبوعة للعموم عن طريق دور النشر تحت عنوان "الطريق الى الوحدة" ثم "الطريق الى الاشتراكية " .. وقد وردت هذه المعلومة حول تاريخ النشر لأول مرة في مقدمة كتاب الطريق 1 –  طبعة 1979 .. كما ورد توضيح مهم في هذا الشأن للدكتور عصمت سيف الدولة في رسالته الى تونس يؤكد تاريخ ظهور الدراسات مستعملا عبارة "أيضا" حينما تعرض لظروف ظهوره بيان طارق قال فيها : " كان عبد الناصر قائد الجماهير العربية في مصر وكان الشباب العربي من مصر منظما تحت قيادته ، وكان تصوري لحل مشكلة التنظيم القومي هو الدعوة له وإعداد الشباب العربي من أجل وحدة التنظيم تحت قيادة عبد الناصر . ومن هنا كانت دعوتي موجهة الى الشباب العربي من المحيط الى الخليج الذين كانوا ينتظرون آن يدعوهم عبد الناصر الى الالتحاق بالحركة العربية الواحد . وكنت ابحث عن حل لمشكلة الالتحام تلك بعيدا عن " الطليعة العربية " القائمة على أساس من الانفصال وليس الالتحام (التنظيم الذي اقامته أجهزة الدولة) . ولم يعقني عن البحث عن الحل موقف دولة عبد الناصر مني . من هنا توثقت علاقتي بكثير من القادة القوميين الذين كانوا ضيوفا على القاهرة في ذلك الوقت . وكان من بينهم الأخ الصديق محمد الخير (أبو مضر) أمين عام حركة الوحدويين الاشتراكيين المناضلة ضد الانفصاليين في سورية ، كان من أقرب ضيوف القاهرة الي عبد الناصر ..

سألني أبو مضر يوما : لقد أنشأت ثلاثة كتب كانت خاتمه کل کتاب منها هي : "أما كيف يقوم التنظيم القومي فهذا حديث آخر" . واعتقد - هكذا قال محمد الخير عليه رحمه الله - أن من حق الشباب العربي عليك أن تحدثهم هذا الحديث الآخر ان كان لديك حديث آخر . ثم أضاف کما أخذنا منك ما نشرناه باسم حركة الوحدويين الاشتراكيين اكتب للحركة رأيا تنشره عن مشكلات إقامة الحركة الواحدة .

قلت ـ وهذا ما سيتكرر قوله بعد ذلك - ولكني لا أريد للشباب العربي أن يتلقى رأيا في التنظيم القومي يكون مرتبطا بشخص . فان الموقف من الرأي سيكون متأثرا بالموقف من صاحبه آن سلبا وان إيجابا . قال : سننشره باسم الحركة لا باسمك . قلت اذن لبيك .

كان ذلك عام 1966 أيضا .

وانكببت على صياغة رأيي أو خلاصته في وثيقة عرفت باسم "بيان طارق" نشرت أولا في سورية ثم انتشرت ثم جذبت إليها غير قليل من الشباب من قليل من الأقطار العربية ، يبدو من رسالتك انك قرأتها فلا مبرر لإعادتها . اذكر فقط إنها كانت خطة لإعداد الشباب العربي للالتحام تحت قيادة عبد الناصر عام 1970 ، فقد كان عبد الناصر وعد بالدعوة الى مؤتمر "وطني" عام 1970 لإعادة النظر في "ميثاق العمل الوطني" الذي أصدره عام 1962. فكان تصوري لحل مشكلة التنظيم القومي - في ذلك الوقت - هو إعداد "اكبر عدد من الشباب العربي ليحضروا "المؤتمر الوطني" ويشاركوا في مناقشة " ميثاق العمل الوطني " من أجل تحويل المؤتمر الوطني الى مؤتمر قومي ، وتحويل الميثاق الوطني الى ميثاق قومي ، وتأسيس الحركة العربية الواحدة في القاهرة تحت قيادة عبد الناصر" ..

وهكذا نرى أن هذه المدة غير كافية لتداول كل ما صدر من اجتهادات فكرية في تلك الفترة الضيقة على نطاق واسع والاطلاع عليه والاقتناع بمضامينه ، فضلا عن الحصار الذي ضُرب عليه حتى بعد ظهوره بسنوات .. وقد كان بيان طارق عند ظهوره في ظروف خاصة أشبه ما يكون بعملية اجتهاد في إيجاد حل لمشكلة قائمة ومستعجلة ، قد نستنتج منها أنها موجهة لنخبة معينة للوصول الى غاية محددة التقت فيها الطموحات مع الظروف التي فرضها الواقع .. وقد وردت حوصلة من الدكتور عصمت سيف الدولة لمضمونه وكيفية إنشائه في نفس الرسالة قال فيها : "تطرقت الدراسة الى التجارب السابقة ، تجربة حزب البعث و تجربه القوميين العرب وتجربة "الطليعة العربية" لمعرفة لماذا فشلت تجارب قام بها قوميون لا شك في قوميتهم ، مناضلون لم يدخروا جهدا في سبيل وحدة أمتهم ، وانضمت الدروس الى خلاصات الدراسة ، فانتهت الى ما انتهت إليه في بيان طارق . لكي يكون التنظيم قوميا لا بد له من أن يختار ويراقب ويستبدل قيادته أو أن يكون قادرا على هذا اذا أراد . وان عملية إنشائه يجب أن تكون کانشاء الجيوش الحديثة لأول مرة . لا يبدأ بالقادة "الجنرالات" ولا يبدأ بالتجنيد ، ولكن يبدأ بالضباط . منهم تنبثق القيادة بمقياس الكفاءة . واليهم يجند الجند ليدربوهم ويقودوهم وبهذا يكتمل الجيش تكوينا ، ثم يبقى قوة ضاربة مهما تغير الجند ومهما تغير القادة ، فلا يتوقف التنظيم القومي وجودا وعدما ، حركة وعمودا ، فكرا وممارسة على قيادته . لا بد إذن من "مرحلة" إعداد الضباط .. وأسميت تلك "مرحلة الإعداد" التي تسبق تأسيس التنظيم القومي . والباقي تعرف تفاصيله من بیان طارق .

نشرت الدراسة وانتشرت وتكونت حولها حلقات من الشباب العربي في أقطار متفرقة وعرفوا باسم "الأنصار" . يعنون بذلك أنهم ليسوا التنظيم القومي عينه بل أنهم فقط أنصار التنظيم القومي الذي يعملون على أعداد أنفسهم للانخراط فيه حينما تكتمل شروط تأسيسه . وكان لا بد من أن يحدث جدل فكري بين "الأنصار" وبين المنتظمين في "الطليعة العربية" (التابعة للدولة) يدور حول المفاضلة بين أسلوبي الإنشاء .

.. وهكذا جاء بيان طارق والرسالة الموضحة له - بعد الشروع في التنفيذ - بتلك الصياغة المختصرة والمضمون التنظيمي المرتبط الى أبعد الحدود بالظروف السائدة كحل لمشكلة قائمة ، فكان عبارة عن استجابة لمطلب بعض القيادات القومية (في سوريا) من ناحية ، وتفاعلا مع وضع وظروف متسارعة (في مصر) من ناحية ثانية ، بحيث لم يتجاوز عرضا وتحليلا ما يفي بتلبية تلك الاحتياجات التي تجلت في ارتباط الحلول المقترحة لبناء التنظيم القومي بالاجتهادات الفكرية السائدة والتجارب الحزبية السابقة مضيفا ما يلزم من شروط تسبق وتصاحب التأسيس وتتلخص أساسا في الالتقاء على "خط فكري عام" واعتماد أسلوب البناء الديمقراطي من القاعدة الى القمة مع ضمان البعد القومي لهياكل التنظيم ، أخذا في الاعتبار العلاقة مع القيادة القومية في مصر في ذلك الوقت ، ثم - وهذا على قدر من الانتباه والأهمية - دون تجاهل أو اختلاق تعارض أو تناقض بين هذا المشروع ومشروع الدولة الجاري إعداده في مصر (الطليعة العربية) كما يظهر في الجملة الأخيرة من الفقرة السابقة ، ودون اعتبار الطابع الإقليمي عائقا لالتقاء المشروعين ، فضلا عما يمكن أن تدسه أجهزة الدولة في صفوفه من خلال تنظيمها من الانتهازيين والمنافقين .. وهو ما يعني بكل وضوح أن إمكانية قيام تنظيم قومي بدون نظرية مبلورة وجاهزة ممكن متى توفرت شروط التأسيس كتلك الظروف التي كانت تشهد فورة قومية منقطعة النظير في ظل القيادة التاريخية للزعيم الراحل جمال عبد الناصر ، وقد كانت الجماهير العربية بتأييدها والتفافها حول القيادة في شبه تنظيم غير معلن ، بل ان اشتراط الالتزام بنظرية قبل قيام التنظيم مناقض تماما لمبدأ نشأته كما بينا سابقا ..

أما بالنسبة للوثيقة الثانية فان الدكتور عصمت سيف الدولة ترك كل ما بذله من جهد في صياغة الأسس النظرية بكل تفاصيلها (منهجا ومنطلقات وغايات وأسلوب ..) .. واتجه فقط لوضع عصارة مجهوداته الفكرية في خلاصة هي الحوصلة النهائية وخلاصة الخلاصة في دراسة لا تتجاوز 30 صفحة اختار لها عنوان "معطيات مبدئية".. حدّد فيها بشكل حاسم ودقيق النقاط الأساسية التي يمكن أن ينطلق منها أي حوار متقدم حينما تأتي تلك اللحظة الحاسمة .. وهو ما يعني حسب النقاط الواردة فيها أن هذا الحوار يمكن أن يشمل كل من يؤمن بمضمون الوثيقة وحدها كمشروع للانطلاق في البناء والتأسيس للحركة العربية الواحدة دون أي اشتراطات أخرى ، وقد أصبح  هؤلاء مشغولين فقط بالإجابة عن السؤال : ما العمل ؟.. لذلك فأن مثل هذا الحوار لا بد أن ينطلق من مسلمات لا تسمح عند الشروع فيه بأن يعود الحديث الى نقاط تثير الخلاف من جديد .. وهكذا يتقدم الحوار على ضوئها في وضع الأهداف الاستراتيجية الخاصة بالتنظيم (الخطوط العريضة للنظرية) ، ثم يحولها الى مقولات نظرية واستراتيجية وخطط عملية مدروسة وتكتيك ، لتحقيق ما يجب أن يتحقق في الواقع ، وهذا ما افتتح به الحديث قائلا : " تقوم هذه الدراسة  على مسلمات غير مطروحة للمناقشة ، بمعنى أن كل ما يتصل بها من قضايا فكريّة و خبرات متراكمة من المرحلة التاريخيّة السابقة غير معاد طرحه هنا اكتفاء بخلاصته كمسلّمات . و يترتّب على هذا - من ناحية - أنّه إذا كانت تلك التي نسمّيها مسلّمات ما تزال موضع شكّ أو في حاجة إلى مزيد من البحث فلابدّ أن نبدأ الدراسة من نقاط سابقة . و يترتّب عليه - من ناحية أخرى - انها اذن ليست دراسة للكافة بل مشروع للحوار بين الذين تجاوزوا مرحلة الايمان بمسلماتها فهم مشغولون بالبحث عن الإجابة الصحيحة عن سؤال : ما العمل ؟ .. لقد كان لا بد من تحديد نقاط التقاء على مسلمات كمعطيات مبدئية ليكون الحوار مجديا وقابلا لمزيد من نقاط الالتقاء اذ أن أي حوار لا يبدأ من نقاط التقاء لن يلبث أن يتحوّل الى محاورات فكرية تلف وتدور حول مواضيع عدّة ولا تنتهي أبدا الى نتيجة معينة " ..

وهو ما يعني بالنسبة لموضوعنا أن الوصول الى هذه الخطوة ، أي حينما يكون القوميون في مرحلة الالتقاء حول المسلمات ، فهم على عتبات التنظيم .. وهو ما يفيد - من ناحية - بانهم في هذه اللحظة قد تجاوزوا كل مراحل الفرز وأصبحوا جميعا صفا واحدا مفرزا تجمعهم تلك المسلمات اللازمة لإدارة الحوار نحو الخطوة اللاحقة المتمثلة في التأسيس .... ومن ناحية ثانية فهو يعني أن موضوع الفرز لا يتجاوز مضامين تلك الوثيقة الجامعة المحصورة في المسلمات ، وهي نقطة هامة وحاسمة بالنسبة لأي اختلاف في وجهات النظر يتجاوز في مضمونه مضامين تلك الوثيقة من حيث تفاصيل العمل ومراحله وأليات تحقيقه .. بشرط أن يكون الحسم فيه قائما على الأسلوب الديمقراطي المستند الى تلك المبادئ ..

لكن ما هي هذه المسلمات التي يجب أن يجتمع حولها المتحاورون لينطلق منها الحوار ؟

اننا حينما نتأمل مضمون الوثيقة نكتشف أنها تنقسم الى عنصرين أساسيين .. العنصر الأول يتمثل في تحديد المسلمات البالغ عددها 12 عنصرا ، وهي باختصار نفس المسلمات العقائدية التي تتحدد من خلالها مرتكزات المشروع القومي للدكتور عصمت سيف الدولة في جانبيه الفكري والحركي بكل أسسه المعروفة (منطلقات وغايات واسلوبا) ، كأساس لعقيدة قومية صلبة يشمل منطلقها القومي وأهدافها الاستراتيجية مبادئها الفكرية ، وطريقها القومي مبادئها الحركية .. وهي مبادئ قام الدكتور بجمعها وتلخيصها كمبادئ عامة حتى تكون مشروعا لوحدة فكرية هي أساس كل حوار مثمر وبناء ..

أما العنصر الثاني من الوثيقة فهو يتمثل في التوضيح والتأكيد على البعد القومي للتنظيم وبيان خصائصه بكل جوانبها الذاتية (من حيث العلاقات الداخلية) ، والموضوعية (العلاقات الخارجية) ، مدعومة بأمثلة من التجارب القومية السابقة .. اجتهد الدكتور في تحديدها كأساس لضمان كل النجاح المطلوب عند تأسيس أداة الثورة العربية المفقودة ..

ولعل أهم ما جاء في هذه الوثيقة بالنسبة لموضوعنا - وقد أتينا على كل عناصرها - ما يتعلق :

أولا ، بصياغتها المنهجية في تحديد المسلمات ، وقد قسمها في بعدها النظري الى جوانب فكرية وحركية  ..

ثانيا : قد جاء الجانب الفكري متضمنا العقيدة القومية بكل ما تشمله من منطلق قومي وأهداف استراتيجية في شكل مبادئ فكرية عامة ..

ثالثا : قد تضمّن الجانب الحركي كما حدده نظريا كل ما يتعلق ببناء التنظيم القومي بكل خصائصه المعروفة لدى الدكتور عصمت سيف الدولة ..

رابعا : اختتم الجزء الأول في جانبه العملي الوارد في العنصر الثاني عشر بالإشارة الى المهمات الضرورية المطروحة الواجب إنجازها قبل التأسيس سواء في ما يتعلق بمهمة مواجهة الواقع بما هو ممكن كأسلوب ضرورة ، أو بمهمة  التحضير والاعداد للتنظيم .. وهو ما جاء في العنصر المذكور حين قال : " انّ عدم وحدة التنظيم الجماهيري الثوري وما قد يقتضيه إنشاؤه من جهد ووقت حتى يأتي ملائما علميا لتحقيق غاياته بعد توفير كافّة الضمانات الموضوعيّة لتلك الملاءمة لا يعني أبدا التخلّي عن - أو الانسـحاب مـن ، أو الاستسلام في - معارك الدفاع عن أمّتنا العربيّة أو تأجيلها إلى أن يتمّ إنشاء التنظيم الجماهيري الثوري . ومن هنا فلا بدّ لكلّ الذين يحتفظـون بولائهم لأمّتهم دون غيرها في أيّ مكان وموقع أن يواجهوا الواقع العربيّ بأسلوبين متـوازيين :

الأوّل : الدفاع "بما هو كائن" من أدوات وإمكانات مع التسليم بأنّ  هذا "أسلوب ضرورة" لكي يتحقّق للشعب العربي هدفه الاستراتيجي أبدا ، وقصارى ما يؤدّي إليه منع مزيد من الخسائر في معارك التحرّر العربي أو الوحدة أو الاشتراكيّة .

الثاني : تكثيف وتنظيم كلّ الجهود المتاحة لإنشاء التنظيم الجماهيري الثوريّ بحيث تستطيع الجماهير العربيّة المنظّمة أن تدخل معارك التحرّر والوحدة والاشتراكيّة "بما يجب أن يكون" في تاريخ يحدّد منذ البداية فتكون لأوّل مرّة في تاريخها الحديث قد انتقلت من مرحلة النضال "ردّ الفعـل" الذي يلهث وراء الأحداث التي يفجّرها أعداؤها إلى مرحلة النضال "الفعـل" الذي يتمّ في المكان والزمان ومرحلة الهجوم" ..

ثم أنهى الجزء الثاني في جانبه العملي أيضا بما يشبه المضمون الأول تاركا ما يهم التنظيم للتنظيم ذاته : " هكذا نجد أنفسنا أمام عـدد من المهمّات المحدّدة التي يلزم توفيرها حتى يمكن أن يقوم التنظيم القومي في الواقع العربي الراهن أداةً صالحةً لتحقيق دولة الوحدة الاشتراكيّة الديمقراطية . و هـذا يطـرح سؤالين جوهريّين:  

1 - من الذي يوفّرها ؟

2 - كيف تتوفّر ؟

إنّ الإجابة عن هذين السؤالين هي موضوع الجزء الثاني مـن هـذه الدراسة . فقـد كانت غاية هذا الجزء الأوّل أن يصفّي كـلّ المشكلات ليحصرها في مهمّات محدّدة ، و مـن خلال هذه التصفية أن يصل الى معطيات مبدئية جديدة تضاف الى المعطيات الأولى والتي وصلت بها هذه الدراسة الى مستوى المسلّمات ، بمعنى أنّ الانتقال إلى الجزء الثاني سيكون غير مجدٍ إذا كانت هذه المعطيات الجديدة محلّ شكّ أو ما تزال في حاجة إلى دراسة . هذه المعطيات هي:  

أوّلا : إنّ عمليّة تأسيس التنظـيم القومي تحتاج إلى مرحلتين متتاليتين مستويتين مـن حيث موضوع الالتزام والأشخاص والتنظـيم والقيادة والمهمّات المرحليّة : الأولى هي مرحلة التحضير والإعداد لتأسيس التنظيم القـومي بتوفير شروط تأسيسه الداخليّة والخارجيّة وفي المكان والزمـان . والمرحلة الثانية هي مرحلة تأسيسه الفعلي . أمّا ما بعد ذلك فسيكون شأن التنظيم ذاته .

ثانيا : إنّ المطروح والممكن في الواقع العربي الراهن هـو التحضير والإعداد لتأسيس التنظيم القومي بتوفير شروط تأسيسه وليس مطروحا ولا ممكنا على أيّ وجه القفز إلى تأسيس تنظيم قومي قبل الوفاء وفاءً كاملا بمتطلّبات المرحلة الأولى .

ثالثا : أنّه لابدّ مـن "تأجيل" تأسيس التنظيم القومي إلى أن يتمّ الوفاء الكامل بمتطلّبات المرحلة الأولى . ولكن لابدّ من البدء "فـورا" في التحضير والإعداد له في نطاق خطّة تحضير وإعداد مرحليّة تستغرق زمنا محدّدا .

رابعا : إنّ مبرّرات التحضير والإعداد لتأسيس أداة الثورة العربيّة كما يجب أن تكون لا يجوز أن تكون على حساب أو بدلا من أدوات النضال القومي الكائنة والمتاحة وذلك إلى أن يتمّ تأسيس التنظيم القومي"..

وهكذا ينهى الدكتور عصمت سيف الدولة كل جزء من الجزأين المذكورين في جانبه العملي بخاصيتين حركيتين : ما هو ممكن وما يجب أن يكون .. فيربط الممكن بالظروف الذاتية والموضوعية ، وبالضرورات الحياتية الملحة الواجب تحقيقها في الواقع العربي .. ثم يترك - في كل مرة - ما يجب أن يكون لأصحابه بعد التأسيس ..

-17-

وليس هذا نهاية المطاف .. بل ان الدكتور عصمت سيف الدولة قد أضاف خطوة ثالثة مشابهة ومهمّة وردت في آخر ما كتبه في مجال الاجتهاد الفكري الذي اختصره هذه المرة  في ثمان صفحات محدودة  ، وموجّهه بشكل خاص للناصريين في كتابه "عن الناصريين واليهم" حتى يتقدّموا خطوة الى الأمام ولا يبقوا يراوحون مكانهم .. فماذا جاء في هذه الاضافة ؟

انه يعود مرة أخرى الى الثوابت .. وهو آخر فصل في الكتاب ورد تحت هذا العنوان .. بل أنه يزيد على ذلك المزيد من الاحكام ، فيربط في شكل عنوان فرعي الثوابت بالمتغيرات ..

ألم نكن نتحدّث طوال هذا الحديث عن الفرز بمعيار الثوابت والمتغيرات ..؟

بلى .. وها نحن نلتقي - أخيرا - بهذا الطرح للدكتور عصمت سيف الدولة حيث نجد أن الثوابت عنده مسألة ضرورية تفقد الناصرية بدونها كل صفاتها النضالية والثورية كمشروع للمستقبل .. كما يُفقد التركيز على المتغيرات دون ربط منهجي بتلك الثوابت أي إمكانية للالتقاء والاتفاق حول مضامين التأسيس فضلا عن امكانية الاستمرار في المستقبل لهذا المشروع .. وبما أن الثوابت تمثل الأسس التي ستُبنى عليها النظرية فان مهمة الناصريين الأولى هي حسم مسألة المنهج الذي يمثل عنده "حجر الأساس" في أي بناء نظري ، وهو ما جعله يخصص له عنوانا فرعيا يحمل تلك العبارات المذكورة .. لذلك وجدناه يدعو الناصريين الى الحسم - أولا - في مسألة المنهج الذي سيمكّن الناصرين من صياغة النظرية الناصرية .. وهو ما جعله يعود لمقولة عبد الناصر الشهيرة : "إن النصر عمل ، والعمل حركة ، والحركة فكر ، والفكر فهم وإيمان . وهكذا فكل شيء يبدأ بالإنسان" .. وبعدها مباشرة يقول مجتهدا في فهمها : "فلما اجتهدنا في دراسة مناهج التطور : الماركسي ، والليبرالي ، والتاريخي .. في كتابنا الأول "أسس الاشتراكية العربية" أهتدينا إلى ما أسميناه منهج جدل الإنسان . وهو وحده – في اعتقادنا – الذي يستطيع أن يقول لماذا كان ما قاله عبد الناصر صحيحاً . لأنه ابتداء من هذه المقولة التي عبر بها عبد الناصر عن خلاصة حضارته العربية الإسلامية في شأن المنهج ، نجد أنها تجري طبقاً "لجدل الإنسان" على الوجه الآتي  :

النصر يحقق إرادة إشباع حاجة الإنسان في الواقع حيث تجربة الماضي هي المحدد لإرادة إشباع الحاجة الحاجة التي لا تتم تلقائياً بل بالعمل . والعمل حركة تسعى إلى تحقيق فكرة مصوغة للمستقبل على أساس الإيمان بقابليتها للتحقق . مصدر هذا الإيمان إدراك لقوانين وسنن تغيير الواقع . فالبداية أن يدرك الإنسان مشكلته إدراكاً صحيحاً ، ويعرف حلها الصحيح ، ثم يعمل على تحقيقه في الواقع فينصر .. وهذا هو جدل الإنسان"  ..

ثم يضيف موضحا العلاقة بين الاجتهاد الفكري والمنهج لتحديد الثوابت : " أياً كان المنهج العلمي الذي سينتهجه الناصريون في صياغة "الناصرية" نظرية لبناء المستقبل فإنه سيبدأ "بالإنسان" ليكونوا ناصريين . هذا يميزهم على مستوى المنهج عن الماديين وعن المثاليين جميعاً . والمناهج قوانين حركة ، أو منطق ، فلا يجدي فيها التوفيق أو التلفيق . وهي قد تكون صحيحة أو خاطئة ولا تكون أبداً محتملة الصحة والخطأ في الوقت ذاته . ولكن حتى المناهج الصحيحة لا تؤدي بذاتها إلى معرفة صحيحة بالمشكلات كما لا تؤدي بذاتها إلى معرفة الحل الصحيح لتلك المشكلات ولا إلى نوع أو قوة العمل اللازم لتحويل الحلول الصحيحة إلى واقع حي . المنهج يساعد ولكنه لا يؤدي تلقائياً إلى العمل الصحيح اجتماعياً . ذلك لأن المنهج طريقة فهم للواقع وكيفية تطويره . ولكي يؤدي دوره لابد من أن يكون الواقع المراد تطويره معروفاً معرفة عملية صحيحة .. ولما كان الواقع متغيراً أبداً فستقع على عاتق الناصريين وهم يصوغون نظرية للمستقبل من تجربة الماضي أن يجتنبوا ما كان جزءاً من الماضي ثم انقضى .. واكتشاف ما يسمى "الثوابت" وهي ليست ثابتة أبداً ولكنها اكثر ثباتاً في الزمان من غيرها " ..

ولما كان لكل اجتهاد فكري بداية ، فانه يقترح على الناصريين منذ بداية الكتاب الانطلاق من الميثاق مبيّنا كل المبررات التي رأيناها في السابق وعلى رأسها بناء التنظيم ، حتى يصلوا في النهاية الى تحديد ثوابت المشروع الناصري كما يمكن أن يحدّدوها مجتمعين ، منبّها الى ضرورة تمييز ثوابت النظرية عن المتغيرات .. وكلاهما يلخصها في أمثلة مستوحاة من التجربة الناصرية ذاتها :

- فإذا كانت الظروف قد وضعت عبد الناصر موضع البطل فان ذلك قد انقضى ، وليس البطولة من الثوابت .

- وإذا كان أسلوب التغيير عن طريق ضباط القوات المسلحة أملته ظروف سياسية واجتماعية سابقة على الثورة ... فان ذلك الأسلوب ليس من الثوابت ..

- وإذا كان عبد الناصر قد جرّب عدّة أساليب للديمقراطية الشعبية بدأت بهيئة التحرير وإلغاء الأحزاب ثم بالاتحاد القومي .. فالاتحاد الاشتراكي وطليعة الاشتراكيين وفكر في الرجوع الى الأحزاب .. فان كل ذلك من المتغيرات ..

- وإذا كان الخيار الاشتراكي خيار الضرورة بعد عدة تجارب وتقلبات في ظل التنمية الرأسمالية في بلد متخلف اقتصاديا واجتماعيا .. فان على الناصريين أن يحسموا خياراتهم لتكون أكثر ثبات ..

- ثم اذا كان تعامل عبد الناصر مع الدول العربية مقيدا بموقع الرئاسة وبدستور دولته الإقليمية ومواثيق جامعة الدولة العربية ، فان ذلك أسلوبه في التعامل مع المتغيرات وعلى الناصريين أن يحدّدوا أسلوبهم الخاص في التعامل المستقبلي مع الدول العربية وحكامها ..

كل هذه المتغيرات وغيرها – في نظر عصمت سيف الدولة - ليست من ثوابت النظرية الناصرية .. لذلك لا بد أن تتحدد الثوابت التي ستميز الهوية النضالية للناصريين المتمثلة أساسا في هويتها القومية .. واذا به ينطلق من نفس الأسئلة التي طرحها سابقا على أساس من المنهج ليصل الى كل الثوابت المعروفة : فعبد الناصر كما يقول ، يؤمن بالإنسان ، وبالتالي على الناصريين أن يحددوا من هو هذا الإنسان ؟ هل هو الإنسان المصري ، أم الإفريقي أم الاسوي ... أم العربي ..؟ لكن هذه الأسئلة ليست معلقة لأن إجابة عبد الناصر قد سبقت في الممارسة أي تنظير .. وهكذا .. من تحديد الإنسان ، يتحدّد مجتمعه .. فتتحدّد مشكلاته .. وحلولها .. وهي حلول قد سبق لعبد الناصر أن صاغها في شعارات معروفة : "الحرية والاشتراكية والوحدة" .. وهذ الشعارات قد أصبحت مضامين ثابتة للهوية القومية ، على الناصريين أن يعملوا على تأملها وصياغتها في نظريتهم الناصرية ..

ثم ان عبد الناصر ، ومن خلال تجاربه الوحدوية وسعيه لتحقيق الوحدة – قد توصل الى معرفة الأسلوب العلمي لتحقيقها : "الحركة العربية الواحدة" فدعا القوى الوحدوية العربية الى تحمل مسؤولياتها في  بنائها منذ بداية الستينات .. فضلا عن الديمقراطية الاجتماعية وغيرها من القضايا المتصلة بتلك الثوابت وقد تعرّض لها في فصل سابق .. الخ ..

وهذا باختصار ما يمثل ثوابت المشروع الناصري في نظر عصمت سيف الدولة حتى يكون الناصريون متميزين عن غيرهم بنظريتهم القومية حتى لو كان غيرهم من الوحدويين أو العروبيين ..

وهل قلنا  منذ بداية الحديث غير الذي وجدناه في هذه الوثائق الثلاث التي وضعها الدكتور عصمت سيف الدولة ، وتعمّد في صياغتها ذلك الأسلوب المختصر ؟

أبدا .. فقد قلنا ان المشروع القومي للدكتور عصمت سيف الدولة يقوم على قاعدتين أساسيتين :

1 - قاعدة فكرية (نظرية) عامة وحاسمة تتطلب قولا محكما وهي بمثابة المبادئ والعقيدة القومية المعروفة بالثوابت (المنطلق القومي ، والأهداف القومية ، والطريق القومي الى دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية) ..

- فها هو الدكتور عصمت سيف الدولة يسبقها بوضع وثيقة للاعداد تقوم على تلك الخطوط العامة سمّاها في " البيان" بـ"الخط الفكري العام" .. وها هو يضع وثيقة ثانية تحوصل كل المجهود الفكري في "معطيات مبدئية" لا يمكن الالتقاء حولها لتؤدي وظيفتها الا بعد فترة من الإعداد الفكري وفرز الصفوف على أساس تلك المبادئ التي تسمّى بـ"المسلمات" ..

- وها هو يضع في وثيقة ثالثة محدّدات موضوعية لضبط المشروع الذي ظل يؤيده لأكثر من عقدين في مصر يسمّيها بـ"الثوابت" ويميّزها عما يمكن أن يختلط بها من "المتغيرات" الظرفية حتى تكون جامعة ومحققة لغايتها الإستراتيجية الأولى : قيام التنظيم الناصري .. الذي سيتولى بنفسه تحقيق غاياته ..

2 - وقاعدة حركية (عملية) يواجه من خلالها القوميون واقعهم بالممكن على أساس الموقف القومي ، وصولا الى ما يجب ان يكون حينما تتوفر الأداة القادرة على تحقيقه .. فها هو يضمّن كل المسلمات والثوابت جوانب عملية تتفرّع الى نوعين من المهام المطروحة : المهام المرحلية بأسلوبها الممكن ، والمهام الإستراتيجية التي لم يذكر تفاصيلها ، مؤكدا أنها من مهام التنظيم وحده .. وهذا تقريبا ما خلصنا اليه بشكل عام من خلال تتبع مواقفه واجتهاداته وأسلوبه الحركي في التعامل مع الواقع طوال حياته ..

بل لعل الدكتور قد عاين الكثير من التجاوزات والانحرافات في تجربة الأنصار - كما يُفهم من الرسالة لـ"أبي محمود" - ممّا دفعه الى القول الحاسم للجدل نهائيا في جمل واضحة ومختصرة قد تصل الى درجة الخروج عن كل القواعد السابقة ، قائلا لهؤلاء المغالين بأن : "كل من يقف مع دعوة التنظيم القومي كهدف مستقبلي . ويسعى لتحقيقه طبقاً للأسلوب المحدد الذي جاء في بيان طارق .. هو من أنصار الطليعة العربية والتنظيم القومي ، سواء أسمى نفسه كذلك ، أو حمل اسما آخر، أو لم يحمل اسما بالمرة . وسواء اتخذ هذا الموقف نتيجة اطلاعه على بيان طارق أو نتيجة وعيه الذاتي بضرورة أن يقوم تنظيم قومي بشكل ديمقراطي من القاعدة إلى القمة . وأن تسبقه مرحلة تحضير حقيقي تشارك فيه أوسع القواعد والأفراد المنظمين وغير المنظمين من الشباب القومي التقدمي " .. ولعل الأكثر من ذلك أن المسألة لا تتوقف على الانتماء للتنظيم الإعدادي ، بل تتعدّاه أيضا الى التنظيم القومي حيث يكون بابه مفتوحا لكل التقدميين كما قال في الفصل الخاص بالطليعة العربية من نظرية الثورة العربية : " أما التقدميون فإن الطليعة العربية مفتوحة الأبواب لكل طليعي منهم".. وقد عرفنا مفهومه للتقدمية تحديدا .. 

الفرز إذن عند الدكتور عصمت سيف الدولة ليس مهمّة أفراد يتخذونه حجّة على غيرهم بناء على مواقف انفعالية متسرّعة ، أو بناء على أحداث جارية  ومتغيرة ، وليس هو غاية في حد ذاته ، بل هو آلية من آليات البناء الجماعي القائمة على أسس موضوعية وعلمية  لتحقيق غاية مدروسة .. وهو فرز واحد متأني يُبنى على قاعدتين متصلتين ، قاعدته الأساسية الأولى أن يؤدي فكريا على المدى الاستراتيجي للحركة القومية الى ترسيخ المنطلق القومي عقيدة والطريق القومي أسلوبا وصولا لبناء آداة الثورة العربية (المرحلة الأولى للأهداف الإستراتيجية القومية) .. وتحقيقا  لأقصى غاياته : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية (المرحلة الأخيرة للأهداف الإستراتيجية القومية) ، وفيها قول فصل .. وقاعدته الأساسية الثانية أن يؤدي على المستوى العملي الى بناء ممارسة نضالية سليمة خلال كل مرحلة من مراحل النضال حتى الوصول الى تلك الغاية بأكبر قدر من النجاح ، وفيها مجالات واسعة لسعة الاجتهاد كما تقتضيه شروط  أي نجاح مطلوب .. وغايته الأولى خلال هذه المرحلة : تهيئة كل الظروف الملائمة لبناء التنظيم ..

فهل هناك من يطلب المزيد من الحديث عن الفرز ؟ .

سنرى لاحقا كيف انه يشمل به الماركسيين أيضا ..!!

-18-

اما بالنسبة لمصطلح " السفود " الذي استعمله الدكتور عصمت سيف الدولة على صفحات مجلة الشورى بداية السبعينات ، فلا يجب ان ننسى - أولا - أنه استعمله مقتديا بشخصية الصحابي الجليل "أبو ذر الغفاري" وكلنا يعلم من هو وما هي صفاته .. وأنه استعاره - ثانيا - من صاحب كتاب على السفود المرحوم مصطفى الرافعي وهو انسان ذو مكانة كما عرّفه الدكتور عصمت سيف الدولة بأنه " عبقري اللغة العربية وصاحب عبقريتها " .. ثم لا يجب ان ننسى - ثالثا - ان الغرض من استعمال "السفود" كان واضحا منذ البداية حينما قال : " اريد من كتّاب الشورى ان يفهموا اننا نشوي لننضج لا لنحرق هل في هذا عيب ؟ ".. وقد كان رحمه الله يعتمد فيه مع القوميين او مع غيرهم اسلوبا راقيا : موجها ، موضحا ، ناقدا ، مصححا ، ناصحا ، مقترحا ، مثمنا ، جادا ، غاضبا او مازحا ..... وهذا من جهة ، وطارحا اضافات فكرية منهجية لإغناء الفكر القومي من خلال ما يدسّه في الحوار من مواقف وافكار جديدة من جهة اخرى ، ولكنه لم يقصد ابدا الانتقاص او الاتهام او التشهير او التخوين لمن يخطئ في الاجتهاد .. وقد كان هذا الاسلوب واضحا في رسالة لرئيس تحرير مجلة الشورى جاء فيها : " ... وانني لحزين ، اخشى الا اطيق صبرا على الشورى فأطفئ النار واحمل السفود واعود الى الصمت ، لقد دعوتني فاستجبت وكتبت ، كنت سعيدا اذ التقيت بالكاتبين من الشباب العربي على صفحاتها ، ادير معهم حوارا جادا مرحا ، اخفف من جهامة النقد الجاد بما ادسّه فيه من معارف تثير غبطة الاكتشاف . ابذل في هذا جهد ،" الخاطبة " . تلك التي تحبب الناس في الناس ليصبحوا ازواجا . كنت اريد ان يقترن القراء بالشورى قران حياة من مدخل الحب ، هذه هي المرة الثالثة التي احاول الكتابة فيها ، واني لحزين ، لا استطيع ان اصطنع المرح فلا استطيع ان اكتب ما يثير الغبطة . لست قادرا على كل ما تقدر عليه الخطابات . ان في الشورى ـ عروس القراء ـ عيوبا تهدّد الخطبة بالفسخ "..

وقال أيضا معبرا بأبلغ العبارات عن صدق المشاعر التي تربطه بكتّاب الشورى : " ثم هب أن أبا ذر قد أخذته العزة بالحق ، فحمل رئيس التحرير على سفوده وشواه ، فأصدر الشواء قرارا بالاستغناء عن الشاوي فماذا تكون النتيجة ؟ .. يختفي أبو ذر ويعود الى عزلته .. الحق أن أبا ذر لم يعد يستطيع الا مكرها - وعسى ألا تكروه - ان يختفي عن صفحات الشورى ويعود الى عزلته . ألم يقل من قبل ان نقد الشورى قد اصبح مصدرا عظيما لتنمية ثقافته . ثم ما بالكم بمعتزل عرف متعة المناكفة والمداعبة والمشاغبة مع أصدقاء لا يعاديهم ولا يتمنى أن يعادوه . أعني كتّاب الشورى . ان رائحة الشواء قد ربطت أبا ذر والشورى بمواثيق عاطفية مليئة بالشوق والأمل كتلك الروابط التي تحمل الجوعى على ان يمروا أمام مطاعم الكباب . شوق وأمل في ان يتحقق في الشورى شعارها ولا يبقى مطبوعا على غلافها المزوق " ..

كما عبر بكل وضوح عن فكرتين أساسيتين في موضعين آخرين بأن السفود للأفكار وليس للأفراد وبأنه نقاش وحوار للأفكار قبل كل شيء . قال في الأولى : " على السفود ينضج الشواء من اللحم . لا شواء ولا سفود ولا نضج اذا انعدمت المادة . هنا نأخذ ما يكتبه الناس في الشورى ، لنقدمه الى الشباب العربي من القراء بعد ان نحاول إنضاجه . لا محل لقلم أبي ذر اذا كانت الفكرة غائبة من صفحات الشورى ..... فالحق الحق أقول لكم أن العدد الثاني من السنة الثانية من الشورى كان جيدا ، ولقد أجاد كتابه جميعا الا نفر قليل .. وسيكون حرقا للأفكار اذا ما احترف أبو ذر وضع كل شيء على سفوده حتى الأفكار الناضجة .. وما كان أبو ذر يوما الا من المصلحين .. أقصد الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري" .. وقال في الثانية بعد نقاش عميق لمقال الدكتور طيب تيزيني بعنوان "البحث العلمي وأهميته المبدئية في تطور التنظيم السياسي" مؤكدا عن حوار الأفكار : " ان أبا ذر لا يكاد يستطيع كف قلمه عن إعادة كل فقرات هذا المقال الممتاز . الأكثر من ممتاز . ولا يكاد يخفي فرحته بحوار الأفكار الشابة " .. والأمثلة كثيرة ..

أما غير القوميين الذين يختلف معهم فقد رأيناه ينصف الى حد بعيد كل من يحاوره في أفكاره حينما يستشهد بها او حينما يشرحها أو يؤوّلها ليُرتّب عليها ما تنتهي إليه مدلولاتها طبقا لمنطقها الداخلي كما حدث مع الكثير من المفكرين الماركسيين والمفكرين العرب والغربيين في كثير من محاوراته الفكرية .. وحتى الذين شدّد عليهم بالقول او بالنقد في بعض الأحيان ، فقوله لم يصل أبدا الى حد الرجم بالغيب ، ولا الى التخوين او التجريح الشخصي .. وإننا لو عدنا لأسلوب الدكتور عصمت سيف الدولة من هذه النواحي بشكل عام وفي كل المناسبات والمراجع لوجدناه  يتعفف ويترفع مرارا وتكرارا وهو يتحدث عن الأحزاب والحكام العرب مستعملا عبارات مثل "لا نريد أن نحكم على النوايا" أو"لا نريد أن نتهم أحدا بالخيانة" مستندا فقط الى الموضوعية العلمية لهدم أطروحاتهم ونقض مواقفهم .. وقد وجدناه يذهب الى الأقصى في الترفع والإنصاف حينما تحدث عن الرأسماليين العرب في كتابه "رأسماليون وطنيون ورأسمالية خائنة" فحكم على الرأسمالية بالخيانة ولم يخوّن الرأسماليين .. بل انه استعمل معهم عبارة "الإخوة"  أكثر من مرة حين قال : "نريد بهذه التسمية أن نقول لكل الرأسماليين في الوطن العربي ، أن نواياكم التي قد تكون حسنة ، وبواعثكم التي قد تكون شريفة ، وأخلاقكم التي قد تكون نبيلة ، وولائكم الذي قد لا يكون محل شك وكل ما هو ذاتي فيكم ـ أيها الأخوة العرب ـ لا يهم هذه الأمة ولا يؤثر في مصيرها وإنما الذي يهمها ويؤثر في مصيرها هو ذلك النظام ذو القوانين الموضوعية الذي يهدّد الأمة بسلب مصيرها التقدّمي ونعني به النظام الرأسمالي ، أن أحدا لا يهمه أن يتهمكم بالخيانة ، ولا يتمني أحد أن تكونوا متهمين بخيانة وطنكم ، وقد يكون من بينكم وطنيون حتى النخاع ، وبرغم هذا ، فإن الرأسمالية خائنة ، ولعلكم أنتم أيها الأخوة العرب ـ أن تكونوا أول ضحاياها" .. وقال : "ان كان ثمة أخ عربي رأسمالي يشك في هذا ، أو يزعم أنه ينشط رأسماليا ويتعاون رأسماليا ، ويقيم المؤسسات الرأسمالية في وطنه ، لأن ذلك - مثلا - لتوفير القوة الذاتية لتحرير الأرض المحتلة ، فانا نتحداه أن يعرف مع من يتعامل رأسماليا على وجه التحديد " .. وقال أيضا : "ان مصدر الأوهام "الوطنية" التي تروّج لها الرأسمالية العربية ، أن الإخوة العرب الرأسماليين يتجاهلون أنهم قد تعلموا اللعبة متأخرين ، بضعة قرون" .. كما استعمل عبارة "الإخوة" حتى مع المطبعين من منظمة فتح حين قال في حوار مع جريدة الوطن بتاريخ 5 / 3 / 1985 : "الآن لا أعتقد أن أحدا أكثر حزنا مني على الإخوة الذين يقبلون الاعتراف بإسرائيل تحت مبدأ الأرض مقابل السلام" .. وقد كف لسانه عن توجيه أي كلام جارح لهم حينما قال مبينا الفرق بين المناورة والاستسلام للعدو : ".. ولكن أن تكون المناورة من أجل الوصول للعدو لا للقضاء عليه بل لمنحه السلام في الأرض المتعلق بتحريرها مصير الثورة وشرف الثوار ، فهذا شيء اخر لا أريد أن أسميه تأدّبا " ..

ثم إننا نجده يلتزم حدود التعامل مع البشر كوحدة من بني الانسان الذي قال فيه "ذلك الكائن الذي أحبه" ومنهم حتى الذين ثبتت خياناتهم مثل السادات الذي تعامل معه في حديث عنه وهو "في ذمة الله" بأسلوب التعامل مع عامة المسلمين فكان يذكره بالرحمة في أكثر من مناسبة .. إحداها كانت عنوانا لمقال (ذكرناه من قبل) وقد جاء بنفس العبارة الواردة في المقال : "السادات .. الله يرحمه" ، والثانية وجدناها في مقال سابق : "انتحار أنور" جاء فيه لفظ الترحم عليه قائلا : "وبالتالي لم يكن اًحد يتوقع أو طلب من أنور السادات إصدار دستور دائم أو غير دائم ، لم يكن ملزماً بذلك لا دستورياً ولا قانونيا ولا سياسيا ولا أخلاقياً ، ولكنه - الله يرحمه - شاء أن يصدره".

بل اننا نجده يترحم عليه في مقال واحد أربع مرات (الصدق وخفايا كامب دايفيد / مجلة الموقف العربي – مدوّنة القدس) .. كما ترحّم على غيره من الخصوم السياسيين أمثال سيد قطب وحسن البنا وهذا الأخير قد وصفه بالشهيد مثمّنا إضافته لبنود تنص على ضرورة العمل من أجل الوحدة العربية في القوانين الداخلية للجماعة كمرحلة لازمة وضرورية على طريق الوحدة الإسلامية التي يؤمنون بها ومشاركة شبابهم في حرب 48 (الحاكمية لله – حوار مع حسن حنفي) .. وقد بين الحد الفاصل بين الذاتي والموضوعي في "الخصومة"  كلها - أي خصومة سياسية - في حديثه عن السادات لحظة وصول خبر موته الى الزنزانة التي كان فيها مع السجناء حين قال : "في ذلك اليوم 7 أكتوبر 1981 ، لم يكونوا قد عرفوا أن أنور السادات قد لقي مصرعه قتلا في اليوم السابق ، فطاف مأمور السجن بالزنازين ، تحت رقابة لصيقة من ضابط مباحث أمن الدولة الذي يرافقه ، ليقول لنزلاء كل زنزانة بصيغة جادة جامدة : (البقية في حياتكم .. الريس مات ) .. تباينت ردود الأفعال الفورية قبل أن تتوحّد في هتاف جماعي مستمر : تحيا مصر .

حين جاء دور زنزانتي لتلقي الخبر ، وجدتني أقول بهدوء وتلقائية .. الله يرحمه . منذ تلك اللحظة لم أنس أبدا أن أنور السادات قد مات . وأن قد مات معه كل ما يتصل بذاته . وأنه يجب أن تدفن معه مشاعر الغضب والالم والمهانة التي تجرعنا مزيجها فضيع المرارة بفعل أسلوبه الخاص غير العادي في التفكير والتقدير والتدبير والتعبير . ذلك لأنه لم يحدث قط أن كان لأنور السادات (الذات) نصيب من اهتمامنا الا بقدر ، وفي حدود ، اتصال ذاته بمن كنا نهتم به اهتماما بالغا . نعني رئيس الجمهورية" .. وانها لا شك مواقف انسانية على درجة عالية من النبل والأخلاق والمسؤولية من مفكر وداعية وصاحب مشروع عظيم أكبر من الذوات والأفراد والجماعات لا يمكن الا أن يكون على درجة عالية من السمو فوق كل الحسابات الضيقة والصغائر ..

كما كان ينقد أفكار الكثيرين ممّن يحاورهم أو ممّن يردّ على مواقفهم ، فيشدّد عليهم في القول حينما يقتضي منه التوصيف السياسي للمواقف ذلك التشديد ، لكنه حين يخاطبهم أو يذكر أشخاصهم يحفظ لهم مقاماتهم الشخصية مستعملا عبارات السيد فلان .. سيادته .. يا أستاذ .. خاصة مع الكتّاب والمفكرين ، والرؤساء .. مثلما قال متحدثا عن السادات في نفس المقال : " كان سيادته هو الذي أشرف على الانتخابات " .. أو مثلما خاطب الدكتور نديم البيطار على صفحات مجلة الشورى حيث وجدناه يشدّد عليه القول على طريقة السفود ثم يعود مستدركا : "ان أبا ذر ، الشيخ الضعيف ، يستطيع وتأكد من هذا ، أن يثبت لك خطأ كل كلمة قلتها في مقالك . أقول كل كلمة لأن الخيط الفكري الذي جمعها خاطئ علميا . ولكنه لا يفعل الى أن يلتقي بك ويحاورك محاورة المودة لا جدل الخصومة . لماذا ؟ لأنه يعلم علم اليقين أنك قد وضعت كل جهدك الفكري ، كل عواطفك الجياشة ، كل كفاءتك العلمية في خدمة القضية المشتركة : الوحدة العربية . وهكذا ترى يا أستاذنا ، أو يرجو أبو ذر أن ترى ، أنه كما لن يستفيد من الكشف العلني لخطأ مقولاتك الا أعداء الوحدة فان إصرارك المستمر على التشهير بالفكر الوحدوي جملة ، لن يخدم الا أعداء الوحدة " .. ثم يضيف ناصحا : " ولكن المسألة - يا أستاذنا - ان الوحدويين يخوضون على كل المستويات ، بما فيها المستوى الفكري ، معارك ضارية ضد أعداء الوحدة . وهم يرون أن الكلمات مثل كل الأسلحة ، لا يمكن أن تكون محايدة ، وعلى كل صاحب فكرة أن يأخذ مكانه الى جانب رفاق معركته ، ومن هنا فانهم لا يقبلون - الان على الأقل - أن يدخلوا معارك جانبية ضد رفاقهم . انهم يتحاورون فيما بينهم ، ويعارض بعضهم بعضا ، ويختلفون ، ويتخاصمون ، ولكن كل هذا من أجل شحذ أفكارهم - أسلحتهم - الموحدة وليس من أجل تغذية وتقوية مواقف أعداء وحدة أمتهم"..

وفي الأخير ، ولعل من أكثر وأهم ما قاله في هذا الجانب هو ردّه على نخبة من الماركسيين المتحاورين على صفحات مجلة الطليعة ، بداية السبعينات ، متحدثين في موضوع الوحدة .. وقد عرف ذلك الرد تحت عنوان " إعتاقه من اجل الوحدة " الذي نشر في مجلة الشورى .. حيث وجدناه بعد ذلك الكم من الجلد ، يخاطبهم : " يا أخ فلان ... " ويا دكتور فلان .. " ... مثمّنا مبادرة الحوار .. حتى انتهى الى القول الصريح معهم بانهم في خندق واحد مع القوميين نحو تحقيق تلك الغاية العظيمة : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية ، قائلا بكل وضوح : "  ومهما يكن اختلاف المنابع الفكرية بين العرب الاشتراكيين والاشتراكيين الماركسيين فلا بد أن يستمر بينهم الحوار .. ولا بد للقوميين الاشتراكيين أن يلتحموا حوارا أو حركة مع الماركسيين والمنتسبين الى الماركسية في الوطن العربي حتى لو أراد هؤلاء جميعا أو نفر منهم أن يقطعوا الحوار بالهروب منه أو الاستعلاء على الفكر القومي أو عدم الجدية في طرحه ونقده .. ولقد كان هذا الالتحام لازما طوال السنين السابقة ، وكانت القطيعة سلبية بالنسبة للاشتراكية بذات القدر الذي كانت به سلبية بالنسبة للوحدة .. والجماهير العربية هي الخاسرة دائما .. والحوار الآن أكثر لزوما على ضوء " تحديات المستقبل " ذلك العنوان الموفق الذي اختارته الطليعة لموضوع الوحدة .. فها نحن نرى أمام أعيننا " وحدة " القوى المضادة للحرية والوحدة والاشتراكية معا ، بمعنى أن أعداء التحرر العربي يضربون من أجل أهدافهم الاستعمارية أمل الجماهير العربية في الوحدة والاشتراكية معا .. ونرى الإقليميين يدفعون ثمن قبولهم الحصار الإقليمي الذي فرضه أعداء الوحدة ، ويتعرضون لمخاطر التصفية في واحاتهم المنفصلة .. ان هذا لا يعني إلا شيئا واحدا يجب على كل  الاشتراكيين في الوطن العربي أن يحفروه في رؤوسهم قبل أن يواجهوا تحديات المستقبل : بحكم الواقع الموضوعي للحركة القومية التقدمية في الوطن العربي ، فان مصير الاشتراكية معلق على مصير الوحدة ، كما ان مصير الوحدة معلق على مصير الاشتراكية ولن يفلت أحد من هذا المصير ...

لا بد اذن من الالتحام .. والحوار مقدمة للالتحام .. وبكل ما نملك من ولاء للأمة العربية وإخلاص لهدف جماهيرها العظيم : دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية ، نرحب ونشيد بالخطوة الايجابية التي بدأتها "مجلة الطليعة" وكتابها الماركسيين عندما تصدوا للكتابة عن الوحدة العربية وتحديات المستقبل ..

إننا غير متفقين في كثير من النقاط ، ولسنا نتوقع أن نتفق في كل النقاط .. ولكنا نرى فيما كتبه نخبة من المثقفين الماركسيين في مصر من نقاط الاتفاق أكثر مما نراه من نقاط الاختلاف .. ".

وقال أيضا بعد جهد جهيد من العرض والتبسيط للأفكار المتداخلة بين ما طرحه المتحاورون سواء في علاقة بمنابعها الفكرية او بالأحداث التاريخية التي أفرزتها فضلا عن علاقتها بالواقع القومي وبواقع الحركة القومية وأطروحاتها الحالية : " فمن مدخل الاشتراكية والنضال ضد أعدائها اكتشف كثير من الماركسيين أن أعداء الاشتراكية هم أعداء التحرر هم أعداء الوحدة .. كما اكتشفوا : " استحالة التقدم في الوطن العربي على أساس التجزئة " ، وكان الصراع العربي ضد الصهيونية والامبريالية مفجرا لهذه الاكتشافات التي عرف منها كثير من الماركسيين أن المجتمع العربي يناضل على أساس انه أمة .. ويعامله الأعداء على أساس أنه أمة .. ويتحالف معه الأصدقاء على أساس انه امة .. ولا تجد مشكلاته في التحرر والاشتراكية كامل إمكانيات حلها وقهر أعدائها إلا في إطارها القومي .. فسلموا بأننا أمة عربية مكتملة التكوين .. فنقول أنهم عاجلا أو آجلا سيصبحون جزءا من قوى الثورة العربية من أجل إقامة دولة الوحدة الاشتراكية .. وهم الذين نصر على الالتحام بهم حوارا وحركة حتى لو قطعوا الحوار أو هربوا من الالتحام .. ولا يهمّنا كثيرا الآن أن يكونوا قد وصلوا الى موقفهم الايجابي من الوجود القومي ومن دولة الوحدة الاشتراكية عن طريق ما يسمونه الماركسية المتطورة ، أو الماركسية المعربة .. يكفينا وحدة الموقف ووحدة الهدف ووحدة النضال لنسير معا الى آخر الشوط .. وهؤلاء هم الذين نحاورهم فنقول أن أول ما يجب أن نؤكده ونحن نحاول اكتشاف الإستراتيجية المناسبة لتحقيق هدفنا المشترك هو أننا ننتمي الى مجتمع واحد تكوّن تاريخيا هو " الأمة العربية " وان تلك هي نقطة انطلاقنا .. " .

وقد انتهى الدكتور عصمت سيف الدولة ـ بعد ان رسم خطوات الهدف الاستراتيجي في هذا الحوار ـ الى القول الحاسم الذي يعود فيه الى موضوع الفرز ليشمل به هذه المرة الماركسيين المتجاوبين مع الوحدة الاشتراكية ، وبعد جهد آخر من الحديث عن المعوقات الذاتية والموضوعية أمام الوحدة والاشتراكية في الوطن العربي يقول : " إذا تم فرز المصالح على أساس تناقض بين المصالح الإقليمية والمصالح القومية وتم بالتالي فرز القوى على أساس العداء بين الإقليميين والقوميين تكون الإستراتيجية المناسبة لتحقيق الوحدة العربية قد كشفت عن بعض الخصائص اللازمة لها : إنها ـ على وجه التحديد ـ إستراتيجية تصفية وإلغاء وهزيمة الإقليمية مصالح ومضامين ومؤسسات وقوى وحلفاء وصولا الى أن تقيم القوى التقدمية المنتصرة دولتها الواحدة الاشتراكية  والديمقراطية . ولن تتم هذه الهزيمة مرة واحدة . أبدا .. ولا بدون هزائم مرحلية . أبدا .. انه صراع طويل .. طويل .. ولكن الوحدة كما قال الأستاذ فليب جلاب "هدف جدير بأن نبذل من أجل تحقيقه كل جهد ممكن ، وأن نتخطى في سبيله كل العوائق " .. وأول جهد يجب أن نبذله ، وهو ممكن ، هو أن نعرف ونحدد ونواجه أعداء الوحدة . وأهم من هذا ألا نترك مصير هدفنا بين أيديهم فندعوهم ونتوسل إليهم وننصحهم ونعظهم بأن يتقاربوا ، بأن يتعاونوا ، بان يتوحدوا ..الخ ، إن كل الاقتراحات التي اقترحها كتاب "الطليعة" من أول ترك النظم تتفاعل ، الى التكامل الاقتصادي مرورا بالتعاون والتنسيق والرقص الجماعي على إيقاع " الهارموني " ممكن ، ومطلوب كخطوات على طريق الوحدة إذا كان الذين يخطون هذه الخطوة ملتزمين بالاستمرار في خطوات متتالية حتى يتحقق هدفهم الاستراتيجي .. والعبرة هنا ليس بما يعلنه كل من خطا خطوة ، فكلهم يقولون أنهم يريدون الوحدة . ولكن العبرة بموقعهم من التناقض بين المصالح الإقليمية الخاصة بكل دولة والمصالح  القومية الخاصة بالشعب العربي في كل الدول " ..   

ثم يمضي بكل إسهاب في الحوار مع الماركسيين وشرح أبعاد الإستراتيجية وعلاقتها بالواقع وقواه الفاعلة (التنظيم الواحد) ، لينتهي بالقول والتأكيد على الاستمرار في الحوار معتبرا الماركسيين من صفوف الأنصار : " فليستمر الحوار إذن ، بين كل أنصار دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية الى أن يلتقوا في حركتهم العربية الواحدة .. وكل ما تطالبهم به ـ الآن ـ "خبرات الماضي وتحديات المستقبل" أن يكونوا أكثر جدية في الحديث وأكثر ديمقراطية في الحوار .. وبكل قوة أؤيد ما عبر عنه الأستاذ عادل حسين تأكيدا لدور مصر العربية ، وهذا يعني أن الذين يتحاورون في مصر من موقع الانتصار لدولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية مطالبون بقدر من الجدية والجهد المكثف يتفق مع ثقل الجماهير العربية في مصر التي تمثل ثلث الأمة العربية " ... 

وليس هذا فحسب ، بل نجده ـ قبل ذلك أواخر الستينات ـ يتوجه الى الماركسيين أيضا في حديث خاص عن المقاومة يحاورهم فيه متحدثا عن دور القوى الاشتراكية في بناء دولة الوحدة ، مستعملا أسلوبا خاصا ومدخلا مغايرا لكشف العلاقة بين القومية والتقدمية ، وهو يعلم ارتباط مفهوم التقدمية بالاشتراكية عند الماركسيين ، منطلقا من البديهيات التي يسلم بها الماركسيون حتى يصل بهم بعد جهد وعناء في الاجتهاد الى ما تفضي إليه تلك المسلمات الى ان المجتمع الذي يواجهونه من اجل تحقيق الاشتراكية ليس الا المجتمع القومي بكل خصائصه ، مستعملا في استدلاله معهم منطقهم الخاص ومنطلقاتهم الفكرية ومصطلحاتهم التي يستعملونها من أول عبارات الجدلية والصراع الطبقي ، الى آخر مفاهيم الأمة والبناء الاشتراكي .. وقد ورد هذا التوضيح لأسلوب الحوار في محاضرته الشهيرة " المقاومة من وجهة نظر قومية " ، أولا في المدخل التمهيدي معتبرا وحدة الاشتراكيين ضرورة قومية حين قال : " وأصبح مسلما بأن ثمة وجودا اجتماعيا ذا خصائص متميزة يسمى "الأمة" . ولكنا اليوم نريد أن نحاول اكتشاف تلك الحقيقة من منطلق جديد : المنطلق الاشتراكي . نريد أن نبدأ كاشتراكيين لنرى معا ما اذا كان ذلك سيصل بنا الى أن نكون قوميين .

لماذا ؟

ان أزمة المستقبل العربي كما نراها من الآن هي أن القوى الاشتراكية منقسمة الى قوميين ولا قوميين . لأن وحدة القوى الاشتراكية في الوطن العربي - كما نطلبها - ضرورة قومية".. ثم في ردّه على احد الأسئلة الحوارية المتعلقة بهذا الأسلوب الذي قال فيه صراحة : " في حديثنا لا نستهدف التدليل على الوجود القومي . انما نستهدف الوصول الى إقناع بعض الاشتراكيين في حوار موجه إليهم بان القومية رابطة تقدمية او لا تقوم عقبة في سبيل الاشتراكية .. وفي هذه المرحلة حيث أصبحت وحدة القوى التقدمية ملحة بحكم المعركة ، نرى ان ندير الحوار معهم انطلاقا من مواقفهم ذاتها ليتبينوا أنهم كاشتراكيين مطالبون بالالتزام القومي . وعلى هذا فالاشتراكية ليست مدخلا لمعرفة الوجود القومي ، ولكنه المدخل الذي قد يكون مناسبا لإخراج بعض الاشتراكيين من عزلتهم وتحطيم جمودهم العقائدي وانفتاحهم على جماهير أمتهم " .

ثم اكثر من هذا ، ودائما من باب الحرص على إقناع الماركسيين بان الدعوة للاشتراكية في الوطن العربي لا معنى لها بدون الوحدة ، نجده يجتهد مرة أخرى في دراسة بعنوان "ما وراء الاشتراكية" نشرت عام 1966 بمجلة الفكر المعاصر عدد 15 ، يجتهد فيها هذه المرة لبيان العلاقة بين الاشتراكية والقومية بحيث لا يمكن ان تكون الاشتراكية في الوطن العربي الا اشتراكية عربية مبينا جميع الأسس والمبررات الحذرة من الوقوع في التعصب الخ .. وقد جاء بيان الغرض من الحديث منذ البداية في موضعين قال في الأول : " فإذا كان مقبولا أن نستمر في الحوار عن "الاشتراكية العربية" فتلك فرصة مواتية لنغوص معا الى مستويات من البحث أعمق قليلا ، علناً عندئذ أن نجد - معا - أن وراء الاشتراكية نظرة تحتم أن تقترن دائما بسمتها القومية ، فلا تكون سمتها تلك مجرد اختبار غير لازم لتعبير أوضح دلالة يستمد كل قيمته من انضباطه اللغوي ، بل تكون استجابة لنظرة ذات قيمة خاصة قد تستحق أن نقبلها " .. وبعد أن يوضح ما يمكن أن يكمن في الإصرار على ربط  الاشتراكية بالقومية من تعصب غير مقصود ، يعود للتمهيد دخولا في الموضوع بحيث يكون  الحديث للاشتراكيين عامة وليس للقوميين خاصة ، فيقول : "اذن ، فكلنا - الذين مع الاشتراكية العربية والذين ضدها - في حاجة الى مزيد من الحوار العلمي على مستوى أعمق من المنطلق القومي . وهذا يعني ألا تكون القومية هي المسلمة الأولى التي نبني عليها سرح أفكارنا الاشتراكية ، بل نفتش عما وراءها من أسس تؤكد أو تنفي أن تكون القومية ذاتها منطلقا الى الاشتراكية .

كل هذا والحوار محصور بين الاشتراكيين ، فلندخل في الموضوع "..

واننا لو عدنا لقراءة كل هذه الاجتهادات والمحاورات الفكرية للدكتور عصمت سيف الدولة مع النخب الماركسية لتغيرت أشياء كثيرة في فهم أسلوب التعامل مع الآخر الذي يهتم بموضوع الوحدة ، ومع بعضنا البعض بدرجة اولى .. ولوقفنا  بالخصوص على ذلك الجهد الجبار الذي بذله في سبيل تذليل الصعوبات التي تقف امام الماركسيين لكي يكونوا قوى فاعلة في تحقيق الهدف العربي الاستراتيجي : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية .. 

هكذا وبكل بساطة بالنسبة للدكتور عصمت سيف الدولة : تحقيق دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية كهدف استراتيجي ، سبب كاف وموجب للحوار والتنسيق والتفاعل مع كل القوى في الوطن العربي التي تسلم بهذا الهدف كاملا أو بأحد فروعه .. 

فلماذا يفعل كل هذا مع الماركسيين ؟ هل كان عصمت سيف الدولة عبثيا او مثاليا لا يدرك مفهوم الفرز ؟ وهل كان يريد ان يتحول الماركسيون من الفكر الماركسي الى الفكر القومي ؟ 

ابدا .. انه كان - بلا شك - على قدر من المسؤولية انطلاقا من قناعته التامة بان الطريق الى الوحدة طويلة ووعرة ، ويمكن ان تقود خلال مسيرتها الشاقة الى المرور بمحطات كثيرة تلتقي فيها قوى متعددة قبل الوصول الى النهاية ..

وقد كان كافيا في نظره ان يلتقي الفريقان في الوطن العربي ولو على غاية واحدة ثابتة وجامعة بينهما كمعيار لفرز طويل الأمد : النضال من اجل الاشتراكية ... 

وقد فعل هذا بالرغم من مواقفه الواضحة الحاسمة ، مع الاشتراكيين العرب في قول ما يجب ان يقال لهم في مواضع الحسم  .. حيث وجدناه في كتاب الغايات ، وفي سياق الحديث عن القيم العربية في ظل الاشتراكية يتوجه اليهم بقول يربطه بالفرز جاء فيه : " نقول بحسم قاطع لكل " الاشتراكيين " الذين يجهلون أو يتجاهلون أنهم يتعاملون مع امة ذات تراث حضاري ، فينكرون أو يتنكرون لقيمها الحضارية ، إنكم في دعوتكم الى الاشتراكية تخاطبون أنفسكم ولا تخاطبون جماهير هذه الأمة فهي لا تسمعكم . وأن النظام الاشتراكي على أيديكم فشل محض . نقوله للاشتراكيين من كل دين لأن الإسلام هنا ليس ديناً بل مصدراً للتراث الحضاري للأمة العربية . ونقوله للاشتراكيين أصحاب القومية " البدوية " الذين يتوهمون أن القيم العربية امتداد غير نام لتقاليد الصحراء فينكرون ويتنكرون لما أسهمت به الشعوب السابقة على التكوين القومي في البناء الحضاري للأمة العربية . ونقوله للاشتراكيين الإقليميين الذين يريدون ـ عبثا ـ أن يلغوا تاريخ امة ليبعثوا حضارتهم البدائية الدفينة في قبور التاريخ . كلهم ـ طال الزمان أو قصر فاشلون ـ لا لأن الاشتراكية نظام اجتماعي فاشل بل لأنهم لا يتعاملون مع المجتمع " كما هو " . ولقد عرفنا من " جدل الإنسان " إن التطور الاجتماعي يبدأ من الواقع الاجتماعي كما هو . بالمجتمع كما هو . بالبشر في واقعهم المعين المشترك كما هم . ونحن أمة فلا ينجح في تطوير واقعها إلا القوميون الاشتراكيون " . ثم يضيف معرّجا عن الفرز : " فمن أجل أن نلتقي مفرزين فلا نختلط بالفاشلين ، وان نلتزم واعين فلا ننحرف مع المنحرفين ، وان نحتكم راضين فلا نتمزق كما يتمزق الآخرون ، نلتقي ونلتزم ونحتكم الى " الاشتراكية العربية "   نظرية لإقامة النظام الاشتراكي في دولة الوحدة الديمقراطية  .." ... وكل هذا التنوع في المواقف ممكن ، لان المواقف الأولى تكتيكية مرنة ، والثانية استراتيجية حاسمة .. فلا تناقض ولا تعارض بينها ..

أفلا يكون كافيا ووافيا ان يقوم الفرز بين القوميين على قاعدة العشرات من الثوابت الفكرية والحركية لتحقيق الممكن خلال هذه المرحلة وصولا الى ما يجب ان يكون .. ؟؟؟ 

لن يكون ذلك ممكنا الا بادراك ما نبه إليه الدكتور عصمت سيف الدولة في كتابه حوار مع الشباب العربي في آخر موعد له مع مجلة الشورى جاء فيه هذا التأكيد المهم (ص239) : " ثم أحسب أن هذا اخر لقاء بين قراء الشورى وبيني فأردت أن أقدم للجيل العربي الجديد قي واحدة من أعتى المشكلات التي سيواجهونها عندما يضعون أقدامهم على الطريق الصحيح الى دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية . وخلاصة رأيي أننا لكي ننجح يجب ان نحتفظ بأهدافنا ونناضل من أجلها الى أن تتحقق كاملة ، وعلى مدى زمان نضالنا لا ينبغي أن نحاول الا تحقيق الخطوة الممكنة في زمانها ومكانها طبقا لظروفها الموضوعية وظروفنا الذاتية " .. وسعيا لتحقيق ذلك لا بد من ثلاث شروط حتى لا يكون الحديث عن الفرز بلا معنى : تحديد المرحلة (ظروف موضوعية) ، وتحديد ظروف المناضلين القوميين (ظروف ذاتية) ، ثم تحديد الاولويات على ضوء الشرطين السابقين ..

وهو ممكن ولازم أيضا حتى لا ننتهي الى المزيد من التشتت والتشرذم والفشل .. ولكننا في الأخير ، وبعد كل هذا ،  لا نريد ـ من ناحية ـ ان نعطي انطباعا بأننا نبالغ في اتخاذ المحاذير من فرز الصفوف حتى نصل الى تلك الدرجة من الخوف التي أشار الدكتور عصمت سيف الدولة الى تبعاتها في كتاب الطريق . ولا نريد ـ من ناحية أخرى ـ أن نخلط الأمور بإقحام الماركسيين في جدل نعرف منذ البداية انه خاص بالوحدويين ، وقد أشار إليه أيضا الدكتور عصمت سيف الدولة في نفس المرجع ..

في الناحية الأولى ، وبعد تأكيده مرة أخرى على فرز القوى مكررا ما جاء في كتاب الأسلوب بقوله الحاسم : "فلتفرز القوى" ، وبعد التذكير بان انتصار القوى العربية التقدمية متوقف على التحامها في تنظيم قومي واحد ، نجده يتساءل : " لماذا لا يفعلون " ؟ ثم يجيب مباشرة وفي الإجابة تأكيد واضح على ضرورة تجاوز عقبات الالتقاء المرحلي على المستوى التكتيكي لبلوغ وحدة تنظيمية على المستوى الاستراتيجي فكانت الإجابة : "لأنهم لم يفرزوا أنفسهم من القوى التي تختلط بهم فاختلطت الأمور عليهم . وأكثر ما أثاره اختلاط الأمور هو الخوف من أن يؤدي الفرز الى مزيد من الفرقة والتمزق بين القوى الجماهيرية في الوطن العربي في الوقت الذي تواجه فيه الأمة العربية ككل مخاطر استعمارية وصهيونية عدوانية شرسة . وهو أمر لم تكف القوى الإقليمية الرجعية عن استغلاله لإرهاب القوى العربية التقدمية وشل مقدرتها على تحقيق وحدتها . فبقي اللقاء بين القوى الجماهيرية في الوطن العربي على المستوى التكتيكي عاجزا عن تجاوزه الى وحدة الإستراتيجية . وكلما حاول العرب التقدميون فتح حوار بناء لتجاوز هذا الالتقاء المرحلي المحدود الى وحدة تنظيمية دائمة وشاملة ثار الإقليميون واتهموا المحاولة بأنها تجريدية ، وغير واقعية ، وأنها تؤدي الى تمزق صفوف الجماهير ، أو اتهموها بأنها محاولة غبية ومحاولة عميلة ..الخ . وهي اتهامات تثير الرعب فعلا . ولكن ماذا كانت النتيجة ؟ شل الخوف القوى العربية التقدمية فلم تحقق وحدتها ، وبذلك افتقد النضال العربي المقدرة على النصر عندما فقد وحدة الإستراتيجية على المستوى الوحيد الذي يمكن أن تتحقق فيه ، وهو المستوى الجماهيري " .

وفي الناحية الثانية ، واذا كان اختلاط معايير فرز القوى التقدمية مفهوميا ، أي من حيث الخصائص والمفهوم قبل فرزها على أي أساس آخر فكري أو سياسي يثير كثيرا من الخلط والخوف معا ، فان ما بذله الدكتور عصمت سيف الدولة في توصيفه للقوى العربية التقدمية بناء على الناحيتين المتصلتين بالتسمية أي " الهوية العربية " و" الهوية التقدمية " لما يسمى قوى " عربية " و " تقدمية " ، كفيل بأن يزيل الخوف ليجعل الفرز مبنيا على أسس موضوعية سليمة هدفه تحقيق وحدة القوى العربية التقدمية التي تبقى كما ـ قال مرارا ـ طريق النصر الوحيد ، وهو لا شك على علاقة وثيقة بكل القوى التقدمية التي تجمعها نضالات مرحلية مشتركة وضرورية قال فيها : " اذا كانت وحدة القوى العربية التقدمية هي الطريق الى النصر ، وكانت تلك الوحدة لا تتحقق الا بفرز القوى في الوطن العربي ، فان هذا الفرز لا يعني الفرقة أو التمزق أو العداء مع القوى الجماهيرية الأخرى وهي جميعا تواجه خطرا مشتركا فان وحدة القوى العربية التقدمية لا تحول دون اللقاء والتعاون والتنسيق والتحالف مع كل القوى التي تقف معها في مواجهة العدو المشترك ، بل ان وحدتها هي التي تمكنها من قيادة النضال المشترك حتى يحقق غايته بدون تخاذل أو تراجع أو تظاهر أو مزايدة . والنضال المشترك في غيبة قيادة قومية لا يؤدي الى النصر العربي " ..

وهكذا يمكن أن نعود مع الدكتور عصمت سيف الدولة الى القول الفصل ونحن لا نخشى من الخوف أو من تداخل الأمور ، وقد تعلمنا منه كيف ومتى نتقدم خطوة خطوة ، من الممكن الى ما يجب أن يكون .. حيث على امتداد ميادين المعارك في الوطن العربي مجالات كثيرة لفرز القوى .. في ميدان المعارك ضد الاستبداد ، وضد الاستعمار والصهيونية  ، وضد الاستغلال ، أملنا ـ كما قال ـ الوصول الى إتباع الأسلوب العلمي الذي لن يحقق  النصر العربي  بدون قوى مفرزة ..

غير أن من شروط الأسلوب العلمي كما تعلمنا منه أيضا ، أن نكون أبعد ما يكون عن المثالية ، أي أن نتحلى بالواقعية .. ولعلنا تأكيدا لهذا المعنى نستعير فكرة الدكتور عصمت سيف الدولة نفسه حينما كان يردّ في كتابه الاستبداد الديمقراطي على اتهام بعض منتقدي فكرة الديمقراطية الاجتماعية عند روسو واتهامهم له بالمثالية .. فبعد عرضه لمقولة رسو الشهيرة حول الديمقراطية التي قال فيها : " لو كان هناك شعب من الآلهة لحكم نفسه بطريقة ديمقراطية فهذا النوع من الحكم الذي يبلغ حد الكمال لا يصلح للبشر " .. وهي المقولة التي نفى بها عصمت سيف الدولة تهمة المثالية عن روسو ، حين اجتهد في فهم مقاصده  ، فقال عنه : " ان هذا القول ينفي ما نسب الى روسو من انه كان مثاليا ، ويؤكد انه كان واقعيا وهو يعرض المثل الأعلى " للنظام الديمقراطي . اذ المثالية هي فرض " الفكرة " ـ ولو كانت مثلا أعلى ـ على الواقع الذي لم تتوافر فيه الظروف الموضوعية لتجسيدها . ونهاية المثالية الى الفشل . ثم يبقى المثل الأعلى قادرا على الهام البشر معا الطريق الى الخلاص " .. كما ورد نفس المعنى في عملية الربط بين المثالية والمثل في موضع اخر من كتابه "هل كان عبد الناصر ديكتاتورا" حين قال : "المثل الاعلى قوة جاذبة الى التقدم ، أما‏ المثالية فوهم غير علمي لكيفية التقدم . المثل الاعلى يحدّد الغاية . والمثالية تتعلق بالاسلوب .. والمثالية کأسلوب ، تتمیز بالتجرید الفكري وانكار الواقع الاجتماعي أو تجاهله" .. وبالمثل يمكن فهم كل مقولات  عصمت سيف الدولة ومواقفه الحاسمة ، التي تبدو من خلالها كل أهداف النضال العربي على المستوى الاستراتيجي بعيد المدى  بمثابة  "المثل العليا" التي يمكن أن تنير دروبا كثيرة للسائرين عليها .. حين يتم تحويلها الى خطط مرحلية مدروسة ، ثم يتم تطبيقها في مهام نضالية واقعية دون ان تضيع البوصلة .. وهذا كما نعلم جوهر منهجه "جدل الإنسان" الذي يحتم على البشر ان يتخلوا عن المثالية ويلتزموا بالواقع حتى لا يكونوا بشرا فاشلين .. وأول تلك الخطوات أن يسيروا على خطى منهج واضح ..

خاتمة

إن الحركة القومية - وهي موحّدة على الحد الأدنى "هدف الثورة في الأقطار العربية" دون وحدة تنظيمية ـ قد ساهمت منذ عقود في مواجهة استبداد الأنظمة العربية في مختلف الأقطار ، وقد تمكنت فعلا ـ مع قوى وطنية أخرى ـ من تحريك الشارع حتى الوصول به إلى تحقيق خطوة هامة ومصيرية بالنسبة لمستقبل الأمة ، وهي الإطاحة بالديكتاتورية وتخليص الجماهير العربية من عقدة الخوف ، من خلال مشاركتها الواسعة في انجاز مهمتين متقدمتين من مهام الثورة العربية الشاملة هما ثورتي تونس ومصر  ، إلا أن إخفاقها في الوصول بالثورة الى أهدافها في كلا القطرين وسيطرة القوى الرجعية عليهما ، كان علامة واضحة على ضعفها وفشلها بعد أن صارت حركتها تتجاذبها المتغيرات وتفاصيل الأحداث متناسية أهدافها الجامعة حتى صارت شللا وأحزابا في الصفوف الخلفية أو خارج المشهد تماما ..

للأسف هذا هو واقع الحركة القومية التي لم يبق لها - أمام جسامة المرحلة الحالية بكل ما فيها من أخطار داهمة ، ومن تهديد لمستقبل الأمة  في ظل وحشية الحركة الصهيونية وتكالب القوى الاستعمارية ، وتأجيج الفتن التي أصبحت تعصف بوحدة الوجود القومي - إلا فرز واحد ممكن في المستقبل القريب مضمونه الوحيد : استرداد مصر ... وتلك هي المهمّة الثورية الرئيسية القادمة الممكنة موضوعيا للحركة الثورية الوحدوية على طريق الحركة العربية الواحدة على وجه التحديد ، وقد يكون في افتكاك غيرها من المواقع فائضا مضافا لمكاسبها ..

نعم مصر التي اكتشف فيها عبد الناصر بسهولة البعد القومي في أمنها واستقرارها ، وبقي يتصرف طوال حياته على أساس مشروع الوحدة كما عاشه في الواقع وهو مسؤول على اكبر دولة عربية : وحدة الجغـرافيا ووحدة التاريخ ، كإطار للوعاء الذي أصبح بالممارسة الحية والجهد الخلاق يفيض بتلك الأفكار الرائدة للمشروع القومي الذي مثل فيه وعي عبد الناصر الراسخ والعميق بالتاريخ والانتماء الحضاري حجر الأساس .. وهو ما أسهم فعلا في تحويل سياساته إلى مهمات كبرى لا تخص مصر وحدها بل تهم أمة بأكملها جمعها عبد الناصر حينما أحس وأدرك أن وحدتها تقوم على وحدة مشكلاتها ومصيـرها ، مدركا في نفس الوقت الدور الريادي لمصر الذي حولها إلى قاعدة متقدمة للنضال العربي على مدى عقدين كاملين ..

استرداد مصر لامتها .. كقاعدة للنضال القومي وحاضنة للمشروع الوحدوي بحكم موقعها وطبيعتها ودورها التاريخي المعهود ، يعتبر مهمة عاجلة ، وضرورية لإنجاح المشروع القومي في مثل هذه الظروف التي تمر بها الأمة العربية بعد حالة الانكسار واليأس التي عاشتها على مدى عقود متتالية دون تقدم ملحوظ نحو مشروع الوحدة المنشود .. فقد كان غياب السلطة المركزية على المستوى العربي منذ عهد الدولة العثمانية ، ثم تقسيم الوطن العربي واحتلال أقطاره ، وتسليمها بعد ذلك إلى الأنظمة الإقليمية الرجعية ، من أكبر أسباب الفشل في تحقيق الوحدة القومية ، وفي تحقيق التقدم والرخاء رغم العديد من المحاولات والتضحيات التي عرفتها الأمة .. وقد زاد هذا الفشل في ظل تغوّل القوى الإقليمية والرجعية بمختلف ألوانها ، وهي تعمل على توظيف ما تملكه من إمكانيات ووسائل مادية وإعلامية وقانونية ودينية لمحاصرة المشروع القومي وتشويهه ..

لكن الحركة القومية لن تتقدم ولن تتطور ولن تبلغ أهدافها أبدا ، وهي مجزأة ، ومشتتة مهما تصور الصادقون فيها  أنهم على حق ..

والحركة القومية لن تتوّحد أبدا إلا بحركة إرادية واعية من القوميين الصادقين الملتقين على الحد الأدنى من الأهداف القومية المرحلية .. بحيث تكون الغاية من الفرز في هذه المرحلة الوصول إلى تحقيق أهداف واضحة تساعد على بناء الحركة العربية الواحدة ولا تستعجل هدف التأسيس قبل افتكاك قاعدة محرّرة تحتضنها وتدعمها وتوفر لها كل أسباب النجاح والأمن والحماية حتى يشتد عودها وتشق طريقها بالأسلوب الذي تراه مناسبا ..

ان الحركة القومية في هذه المرحلة أمامها مشكلات التجزئة في الوطن العربي ، وأمامها مشاكل الاستعمار والاحتلال والغطرسة الصهيونية ، وأمامها مشكلات التخلف والقوى الرجعية والرأسمالية المتوحشة .. فمن الغباوة بمكان أن لا تفكر في الوحدة ولو في حدها الأدنى : وحدة الصف على أساس الثوابت مع الجدل والحوار حول المتغيرات ، كمرحلة مهمة وضرورية هي عبارة عن مرحلة انتقالية يتم فيها التحول من التعدد السلبي إلى التعدد الايجابي ،  أو مرحلة " التعدد الذي يسبق الوحدة " ، بكل ما في ذلك من معاني  ، وأهداف سامية ، وبكل ما يقتضيه من تغيير في العقلية ، والسلوك ، والأسلوب نحو التكامل والوحدة .. وحدة الصف ولو على هدف واحد ممكن الانجاز متمثلا في افتكاك قاعدة محرّرة من الرجعية تؤازر حركتها وتحميها وتفتح لها أفاق التفاعل على المستوى القومي لفرز صفوفها وكوادرها التي ستؤسس حركتها القومية : الحركة العربية الواحدة .. حيث يبقى تحوّل الحركة القومية إلى حركة جماهيرية شعبية قادرة على تحقيق أهدافها الإستراتيجية رهين الشروط المتصلة بطبيعتها القومية ذاتها ..

أي عندما تتحوّل أولا إلى حركة قومية واحدة ، تجعل المواطن العربي في أي قطر ، يشعر بأنها تمثله فعلا وهي حركة موحدة هدفها الوحدة ..

وعندما تتحوّل ثانيا الى حركة قومية ملتحمة  بقضايا أمتها الحيوية التي تهدّد أمنها ووجودها ذاته .. أي حينما تكون منسجمة مع طبيعتها القومية في الدفاع عن وجود الأمة التي تسعى إلى  توحيدها .. فيكون لها وجود في أماكن المقاومة والقتال ضد أعدائها ، مثلما يكون لها تواجد في مواقع السياسة والانتخابات .. أو بمعنى آخر حينما تكون لها يد تبني ، ويد تحمل السلاح ، ليشعر بدورها الفاعل  كل من له مصلحة في وجودها ووقوفها إلى جانبه  ..

وعندما تتحوّل ثالثا إلى حركة ديمقراطية فعلا ، يعرف كل إنسان داخلها أو خارجها أن الجدل الذي يتحدثون عنه كقانون نوعي خاص بالإنسان ، ليس له أي لزوم أصلا ، إلا لإدارة الاختلاف .. ومعناه أن لا تطور ، ولا وحدة ، ولا قوة تنظيمية إلا بالديمقراطية الحقيقية ، التي تبدأ بمساهمة الجميع في طرح المشكلات ، ومساهمة الجميع في تقديم الحلول ، وتنتهي بالتزام الجميع بتنفيذ الحل الأغلبي ..  فلا تشكيك ، ولا شتائم ، ولا استقالات ، ولا انقسامات ، ولا إقصاء الا للمندسين والانتهازيين والمخربين .. 

ثم وهذا على قدر كبير من الأهمية ، وربما قبل ذلك كله ، حينما يصبح لها قاعدة ثابتة تتحرك منها لتحقيق كل أهدافها ، وقد تكون تلك مهمّتها القادمة ..  

استرداد مصر في المستقبل القريب  يمكن أن يكون خطة إستراتيجية مرحلية مهمّة بالنسبة للحركة القومية .. ولا شك أن استرداد مصر لدورها القومي سيكون الشرارة الأولى لميلاد الحركة العربية الواحدة على تلك الأسس والمبادئ التي عرضناها طوال هذا الحديث ..

عندها ، وعندها فقط  ، ستكون الحركة القومية هي الحركة الجماهيرية الأولى ، والقوة الضاربة في الوطن العربي كله ..

(القدس - م .ع / فيفري 2018). 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق