القدس عنوانها وفلسطين بوصلتها

القدس عنوانها وفلسطين بوصلتها
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجزء الثامن عشر

روابط الأجزاء :

تـقديــــم / الجـــزء 1 / الجـــزء 2 

الجــزء 3 / الجــزء 4 / الجــزء 5  

الجــزء 6 / الجــزء 7 / الجــزء 8 

الجـزء 9 / الجـزء 10 / الجزء 11 

الجـزء 12 /الجزء 13 الجزء 14

الجـزء 15 / الجزء 16 الجزء 17

الجزء 18 / الخاتمة / المحتوى كامل  

فرز واحد ... أم فرز متعدّد ... ؟

دراسة في أقوال ومواقف الدكتور عصمت سيف الدولة .

-18-

اما بالنسبة لمصطلح " السفود " الذي استعمله الدكتور عصمت سيف الدولة على صفحات مجلة الشورى بداية السبعينات ، فلا يجب ان ننسى - أولا - أنه استعمله مقتديا بشخصية الصحابي الجليل "أبو ذر الغفاري" وكلنا يعلم من هو وما هي صفاته .. وأنه استعاره - ثانيا - من صاحب كتاب على السفود المرحوم مصطفى الرافعي وهو انسان ذو مكانة كما عرّفه الدكتور عصمت سيف الدولة بأنه " عبقري اللغة العربية وصاحب عبقريتها " .. ثم لا يجب ان ننسى - ثالثا - ان الغرض من استعمال "السفود" كان واضحا منذ البداية حينما قال : " اريد من كتّاب الشورى ان يفهموا اننا نشوي لننضج لا لنحرق هل في هذا عيب ؟ ".. وقد كان رحمه الله يعتمد فيه مع القوميين او مع غيرهم اسلوبا راقيا : موجها ، موضحا ، ناقدا ، مصححا ، ناصحا ، مقترحا ، مثمنا ، جادا ، غاضبا او مازحا ..... وهذا من جهة ، وطارحا اضافات فكرية منهجية لإغناء الفكر القومي من خلال ما يدسّه في الحوار من مواقف وافكار جديدة من جهة اخرى ، ولكنه لم يقصد ابدا الانتقاص او الاتهام او التشهير او التخوين لمن يخطئ في الاجتهاد .. وقد كان هذا الاسلوب واضحا في رسالة لرئيس تحرير مجلة الشورى جاء فيها : " ... وانني لحزين ، اخشى الا اطيق صبرا على الشورى فأطفئ النار واحمل السفود واعود الى الصمت ، لقد دعوتني فاستجبت وكتبت ، كنت سعيدا اذ التقيت بالكاتبين من الشباب العربي على صفحاتها ، ادير معهم حوارا جادا مرحا ، اخفف من جهامة النقد الجاد بما ادسّه فيه من معارف تثير غبطة الاكتشاف . ابذل في هذا جهد ،" الخاطبة " . تلك التي تحبب الناس في الناس ليصبحوا ازواجا . كنت اريد ان يقترن القراء بالشورى قران حياة من مدخل الحب ، هذه هي المرة الثالثة التي احاول الكتابة فيها ، واني لحزين ، لا استطيع ان اصطنع المرح فلا استطيع ان اكتب ما يثير الغبطة . لست قادرا على كل ما تقدر عليه الخطابات . ان في الشورى ـ عروس القراء ـ عيوبا تهدّد الخطبة بالفسخ "..

وقال أيضا معبرا بأبلغ العبارات عن صدق المشاعر التي تربطه بكتّاب الشورى : " ثم هب أن أبا ذر قد أخذته العزة بالحق ، فحمل رئيس التحرير على سفوده وشواه ، فأصدر الشواء قرارا بالاستغناء عن الشاوي فماذا تكون النتيجة ؟ .. يختفي أبو ذر ويعود الى عزلته .. الحق أن أبا ذر لم يعد يستطيع الا مكرها - وعسى ألا تكروه - ان يختفي عن صفحات الشورى ويعود الى عزلته . ألم يقل من قبل ان نقد الشورى قد اصبح مصدرا عظيما لتنمية ثقافته . ثم ما بالكم بمعتزل عرف متعة المناكفة والمداعبة والمشاغبة مع أصدقاء لا يعاديهم ولا يتمنى أن يعادوه . أعني كتّاب الشورى . ان رائحة الشواء قد ربطت أبا ذر والشورى بمواثيق عاطفية مليئة بالشوق والأمل كتلك الروابط التي تحمل الجوعى على ان يمروا أمام مطاعم الكباب . شوق وأمل في ان يتحقق في الشورى شعارها ولا يبقى مطبوعا على غلافها المزوق " ..

كما عبر بكل وضوح عن فكرتين أساسيتين في موضعين آخرين بأن السفود للأفكار وليس للأفراد وبأنه نقاش وحوار للأفكار قبل كل شيء . قال في الأولى : " على السفود ينضج الشواء من اللحم . لا شواء ولا سفود ولا نضج اذا انعدمت المادة . هنا نأخذ ما يكتبه الناس في الشورى ، لنقدمه الى الشباب العربي من القراء بعد ان نحاول إنضاجه . لا محل لقلم أبي ذر اذا كانت الفكرة غائبة من صفحات الشورى ..... فالحق الحق أقول لكم أن العدد الثاني من السنة الثانية من الشورى كان جيدا ، ولقد أجاد كتابه جميعا الا نفر قليل .. وسيكون حرقا للأفكار اذا ما احترف أبو ذر وضع كل شيء على سفوده حتى الأفكار الناضجة .. وما كان أبو ذر يوما الا من المصلحين .. أقصد الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري" .. وقال في الثانية بعد نقاش عميق لمقال الدكتور طيب تيزيني بعنوان "البحث العلمي وأهميته المبدئية في تطور التنظيم السياسي" مؤكدا عن حوار الأفكار : " ان أبا ذر لا يكاد يستطيع كف قلمه عن إعادة كل فقرات هذا المقال الممتاز . الأكثر من ممتاز . ولا يكاد يخفي فرحته بحوار الأفكار الشابة " .. والأمثلة كثيرة ..

أما غير القوميين الذين يختلف معهم فقد رأيناه ينصف الى حد بعيد كل من يحاوره في أفكاره حينما يستشهد بها او حينما يشرحها أو يؤوّلها ليُرتّب عليها ما تنتهي إليه مدلولاتها طبقا لمنطقها الداخلي كما حدث مع الكثير من المفكرين الماركسيين والمفكرين العرب والغربيين في كثير من محاوراته الفكرية .. وحتى الذين شدّد عليهم بالقول او بالنقد في بعض الأحيان ، فقوله لم يصل أبدا الى حد الرجم بالغيب ، ولا الى التخوين او التجريح الشخصي .. وإننا لو عدنا لأسلوب الدكتور عصمت سيف الدولة من هذه النواحي بشكل عام وفي كل المناسبات والمراجع لوجدناه  يتعفف ويترفع مرارا وتكرارا وهو يتحدث عن الأحزاب والحكام العرب مستعملا عبارات مثل "لا نريد أن نحكم على النوايا" أو"لا نريد أن نتهم أحدا بالخيانة" مستندا فقط الى الموضوعية العلمية لهدم أطروحاتهم ونقض مواقفهم .. وقد وجدناه يذهب الى الأقصى في الترفع والإنصاف حينما تحدث عن الرأسماليين العرب في كتابه "رأسماليون وطنيون ورأسمالية خائنة" فحكم على الرأسمالية بالخيانة ولم يخوّن الرأسماليين .. بل انه استعمل معهم عبارة "الإخوة"  أكثر من مرة حين قال : "نريد بهذه التسمية أن نقول لكل الرأسماليين في الوطن العربي ، أن نواياكم التي قد تكون حسنة ، وبواعثكم التي قد تكون شريفة ، وأخلاقكم التي قد تكون نبيلة ، وولائكم الذي قد لا يكون محل شك وكل ما هو ذاتي فيكم ـ أيها الأخوة العرب ـ لا يهم هذه الأمة ولا يؤثر في مصيرها وإنما الذي يهمها ويؤثر في مصيرها هو ذلك النظام ذو القوانين الموضوعية الذي يهدّد الأمة بسلب مصيرها التقدّمي ونعني به النظام الرأسمالي ، أن أحدا لا يهمه أن يتهمكم بالخيانة ، ولا يتمني أحد أن تكونوا متهمين بخيانة وطنكم ، وقد يكون من بينكم وطنيون حتى النخاع ، وبرغم هذا ، فإن الرأسمالية خائنة ، ولعلكم أنتم أيها الأخوة العرب ـ أن تكونوا أول ضحاياها" .. وقال : "ان كان ثمة أخ عربي رأسمالي يشك في هذا ، أو يزعم أنه ينشط رأسماليا ويتعاون رأسماليا ، ويقيم المؤسسات الرأسمالية في وطنه ، لأن ذلك - مثلا - لتوفير القوة الذاتية لتحرير الأرض المحتلة ، فانا نتحداه أن يعرف مع من يتعامل رأسماليا على وجه التحديد " .. وقال أيضا : "ان مصدر الأوهام "الوطنية" التي تروّج لها الرأسمالية العربية ، أن الإخوة العرب الرأسماليين يتجاهلون أنهم قد تعلموا اللعبة متأخرين ، بضعة قرون" .. كما استعمل عبارة "الإخوة" حتى مع المطبعين من منظمة فتح حين قال في حوار مع جريدة الوطن بتاريخ 5 / 3 / 1985 : "الآن لا أعتقد أن أحدا أكثر حزنا مني على الإخوة الذين يقبلون الاعتراف بإسرائيل تحت مبدأ الأرض مقابل السلام" .. وقد كف لسانه عن توجيه أي كلام جارح لهم حينما قال مبينا الفرق بين المناورة والاستسلام للعدو : ".. ولكن أن تكون المناورة من أجل الوصول للعدو لا للقضاء عليه بل لمنحه السلام في الأرض المتعلق بتحريرها مصير الثورة وشرف الثوار ، فهذا شيء اخر لا أريد أن أسميه تأدّبا " ..

ثم إننا نجده يلتزم حدود التعامل مع البشر كوحدة من بني الانسان الذي قال فيه "ذلك الكائن الذي أحبه" ومنهم حتى الذين ثبتت خياناتهم مثل السادات الذي تعامل معه في حديث عنه وهو "في ذمة الله" بأسلوب التعامل مع عامة المسلمين فكان يذكره بالرحمة في أكثر من مناسبة .. إحداها كانت عنوانا لمقال (ذكرناه من قبل) وقد جاء بنفس العبارة الواردة في المقال : "السادات .. الله يرحمه" ، والثانية وجدناها في مقال سابق : "انتحار أنور" جاء فيه لفظ الترحم عليه قائلا : "وبالتالي لم يكن اًحد يتوقع أو طلب من أنور السادات إصدار دستور دائم أو غير دائم ، لم يكن ملزماً بذلك لا دستورياً ولا قانونيا ولا سياسيا ولا أخلاقياً ، ولكنه - الله يرحمه - شاء أن يصدره".

بل اننا نجده يترحم عليه في مقال واحد أربع مرات (الصدق وخفايا كامب دايفيد / مجلة الموقف العربي – مدوّنة القدس) .. كما ترحّم على غيره من الخصوم السياسيين أمثال سيد قطب وحسن البنا ، وهذا الأخير قد وصفه بالشهيد مثمّنا إضافته لبنود تنص على ضرورة العمل من أجل الوحدة العربية في القوانين الداخلية للجماعة كمرحلة لازمة وضرورية على طريق الوحدة الإسلامية التي يؤمنون بها ومشاركة شبابهم في حرب 48 (الحاكمية لله – حوار مع حسن حنفي) .. وقد بين الحد الفاصل بين الذاتي والموضوعي في "الخصومة"  كلها - أي خصومة سياسية - في حديثه عن السادات متحدّثا عن لحظة وصول خبر موته الى الزنزانة التي كان فيها مع السجناء حين قال : "في ذلك اليوم 7 أكتوبر 1981 ، لم يكونوا قد عرفوا أن أنور السادات قد لقي مصرعه قتلا في اليوم السابق ، فطاف مأمور السجن بالزنازين ، تحت رقابة لصيقة من ضابط مباحث أمن الدولة الذي يرافقه ، ليقول لنزلاء كل زنزانة بصيغة جادة جامدة : (البقية في حياتكم .. الريس مات ) .. تباينت ردود الأفعال الفورية قبل أن تتوحّد في هتاف جماعي مستمر : تحيا مصر .

حين جاء دور زنزانتي لتلقي الخبر ، وجدتني أقول بهدوء وتلقائية .. الله يرحمه . منذ تلك اللحظة لم أنس أبدا أن أنور السادات قد مات . وأن قد مات معه كل ما يتصل بذاته . وأنه يجب أن تدفن معه مشاعر الغضب والالم والمهانة التي تجرعنا مزيجها فضيع المرارة بفعل أسلوبه الخاص غير العادي في التفكير والتقدير والتدبير والتعبير . ذلك لأنه لم يحدث قط أن كان لأنور السادات (الذات) نصيب من اهتمامنا الا بقدر ، وفي حدود ، اتصال ذاته بمن كنا نهتم به اهتماما بالغا . نعني رئيس الجمهورية" .. وانها لا شك مواقف انسانية على درجة عالية من النبل والأخلاق والمسؤولية من مفكر وداعية وصاحب مشروع عظيم أكبر من الذوات والأفراد والجماعات لا يمكن الا أن يكون على درجة عالية من السمو فوق كل الحسابات الضيقة والصغائر ..

كما كان ينقد أفكار الكثيرين ممّن يحاورهم أو ممّن يردّ على مواقفهم ، فيشدّد عليهم في القول حينما يقتضي منه التوصيف السياسي للمواقف ذلك التشديد ، لكنه حين يخاطبهم أو يذكر أشخاصهم يحفظ لهم مقاماتهم الشخصية مستعملا عبارات السيد فلان .. سيادته .. يا أستاذ .. خاصة مع الكتّاب والمفكرين ، والرؤساء .. مثلما قال متحدثا عن السادات في نفس المقال : " كان سيادته هو الذي أشرف على الانتخابات " .. أو مثلما خاطب الدكتور نديم البيطار على صفحات مجلة الشورى حيث وجدناه يشدّد عليه القول على طريقة السفود ثم يعود مستدركا : "ان أبا ذر ، الشيخ الضعيف ، يستطيع وتأكد من هذا ، أن يثبت لك خطأ كل كلمة قلتها في مقالك . أقول كل كلمة لأن الخيط الفكري الذي جمعها خاطئ علميا . ولكنه لا يفعل الى أن يلتقي بك ويحاورك محاورة المودة لا جدل الخصومة . لماذا ؟ لأنه يعلم علم اليقين أنك قد وضعت كل جهدك الفكري ، كل عواطفك الجياشة ، كل كفاءتك العلمية في خدمة القضية المشتركة : الوحدة العربية . وهكذا ترى يا أستاذنا ، أو يرجو أبو ذر أن ترى ، أنه كما لن يستفيد من الكشف العلني لخطأ مقولاتك الا أعداء الوحدة فان إصرارك المستمر على التشهير بالفكر الوحدوي جملة ، لن يخدم الا أعداء الوحدة " .. ثم يضيف ناصحا : " ولكن المسألة - يا أستاذنا - ان الوحدويين يخوضون على كل المستويات ، بما فيها المستوى الفكري ، معارك ضارية ضد أعداء الوحدة . وهم يرون أن الكلمات مثل كل الأسلحة ، لا يمكن أن تكون محايدة ، وعلى كل صاحب فكرة أن يأخذ مكانه الى جانب رفاق معركته ، ومن هنا فانهم لا يقبلون - الان على الأقل - أن يدخلوا معارك جانبية ضد رفاقهم . انهم يتحاورون فيما بينهم ، ويعارض بعضهم بعضا ، ويختلفون ، ويتخاصمون ، ولكن كل هذا من أجل شحذ أفكارهم - أسلحتهم - الموحدة وليس من أجل تغذية وتقوية مواقف أعداء وحدة أمتهم"..

وفي الأخير ، ولعل من أكثر وأهم ما قاله في هذا الجانب هو ردّه على نخبة من الماركسيين المتحاورين على صفحات مجلة الطليعة ، بداية السبعينات ، متحدثين في موضوع الوحدة .. وقد عرف ذلك الرد تحت عنوان " إعتاقه من اجل الوحدة " الذي نشر في مجلة الشورى .. حيث وجدناه بعد ذلك الكم من الجلد ، يخاطبهم : " يا أخ فلان ... " ويا دكتور فلان .. " ... مثمّنا مبادرة الحوار .. حتى انتهى الى القول الصريح معهم بانهم في خندق واحد مع القوميين نحو تحقيق تلك الغاية العظيمة : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية ، قائلا بكل وضوح : "  ومهما يكن اختلاف المنابع الفكرية بين العرب الاشتراكيين والاشتراكيين الماركسيين فلا بد أن يستمر بينهم الحوار .. ولا بد للقوميين الاشتراكيين أن يلتحموا حوارا أو حركة مع الماركسيين والمنتسبين الى الماركسية في الوطن العربي حتى لو أراد هؤلاء جميعا أو نفر منهم أن يقطعوا الحوار بالهروب منه أو الاستعلاء على الفكر القومي أو عدم الجدية في طرحه ونقده .. ولقد كان هذا الالتحام لازما طوال السنين السابقة ، وكانت القطيعة سلبية بالنسبة للاشتراكية بذات القدر الذي كانت به سلبية بالنسبة للوحدة .. والجماهير العربية هي الخاسرة دائما .. والحوار الآن أكثر لزوما على ضوء " تحديات المستقبل " ذلك العنوان الموفق الذي اختارته الطليعة لموضوع الوحدة .. فها نحن نرى أمام أعيننا " وحدة " القوى المضادة للحرية والوحدة والاشتراكية معا ، بمعنى أن أعداء التحرر العربي يضربون من أجل أهدافهم الاستعمارية أمل الجماهير العربية في الوحدة والاشتراكية معا .. ونرى الإقليميين يدفعون ثمن قبولهم الحصار الإقليمي الذي فرضه أعداء الوحدة ، ويتعرضون لمخاطر التصفية في واحاتهم المنفصلة .. ان هذا لا يعني إلا شيئا واحدا يجب على كل  الاشتراكيين في الوطن العربي أن يحفروه في رؤوسهم قبل أن يواجهوا تحديات المستقبل : بحكم الواقع الموضوعي للحركة القومية التقدمية في الوطن العربي ، فان مصير الاشتراكية معلق على مصير الوحدة ، كما ان مصير الوحدة معلق على مصير الاشتراكية ولن يفلت أحد من هذا المصير ...

لا بد اذن من الالتحام .. والحوار مقدمة للالتحام .. وبكل ما نملك من ولاء للأمة العربية وإخلاص لهدف جماهيرها العظيم : دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية ، نرحب ونشيد بالخطوة الايجابية التي بدأتها "مجلة الطليعة" وكتابها الماركسيين عندما تصدوا للكتابة عن الوحدة العربية وتحديات المستقبل ..

إننا غير متفقين في كثير من النقاط ، ولسنا نتوقع أن نتفق في كل النقاط .. ولكنا نرى فيما كتبه نخبة من المثقفين الماركسيين في مصر من نقاط الاتفاق أكثر مما نراه من نقاط الاختلاف .. ".

وقال أيضا بعد جهد جهيد من العرض والتبسيط للأفكار المتداخلة بين ما طرحه المتحاورون سواء في علاقة بمنابعها الفكرية او بالأحداث التاريخية التي أفرزتها فضلا عن علاقتها بالواقع القومي وبواقع الحركة القومية وأطروحاتها الحالية : " فمن مدخل الاشتراكية والنضال ضد أعدائها اكتشف كثير من الماركسيين أن أعداء الاشتراكية هم أعداء التحرر هم أعداء الوحدة .. كما اكتشفوا : " استحالة التقدم في الوطن العربي على أساس التجزئة " ، وكان الصراع العربي ضد الصهيونية والامبريالية مفجرا لهذه الاكتشافات التي عرف منها كثير من الماركسيين أن المجتمع العربي يناضل على أساس انه أمة .. ويعامله الأعداء على أساس أنه أمة .. ويتحالف معه الأصدقاء على أساس انه امة .. ولا تجد مشكلاته في التحرر والاشتراكية كامل إمكانيات حلها وقهر أعدائها إلا في إطارها القومي .. فسلموا بأننا أمة عربية مكتملة التكوين .. فنقول أنهم عاجلا أو آجلا سيصبحون جزءا من قوى الثورة العربية من أجل إقامة دولة الوحدة الاشتراكية .. وهم الذين نصر على الالتحام بهم حوارا وحركة حتى لو قطعوا الحوار أو هربوا من الالتحام .. ولا يهمّنا كثيرا الآن أن يكونوا قد وصلوا الى موقفهم الايجابي من الوجود القومي ومن دولة الوحدة الاشتراكية عن طريق ما يسمونه الماركسية المتطورة ، أو الماركسية المعربة .. يكفينا وحدة الموقف ووحدة الهدف ووحدة النضال لنسير معا الى آخر الشوط .. وهؤلاء هم الذين نحاورهم فنقول أن أول ما يجب أن نؤكده ونحن نحاول اكتشاف الإستراتيجية المناسبة لتحقيق هدفنا المشترك هو أننا ننتمي الى مجتمع واحد تكوّن تاريخيا هو " الأمة العربية " وان تلك هي نقطة انطلاقنا .. " .

وقد انتهى الدكتور عصمت سيف الدولة ـ بعد ان رسم خطوات الهدف الاستراتيجي في هذا الحوار ـ الى القول الحاسم الذي يعود فيه الى موضوع الفرز ليشمل به هذه المرة الماركسيين المتجاوبين مع الوحدة الاشتراكية ، وبعد جهد آخر من الحديث عن المعوقات الذاتية والموضوعية أمام الوحدة والاشتراكية في الوطن العربي يقول : " إذا تم فرز المصالح على أساس تناقض بين المصالح الإقليمية والمصالح القومية وتم بالتالي فرز القوى على أساس العداء بين الإقليميين والقوميين تكون الإستراتيجية المناسبة لتحقيق الوحدة العربية قد كشفت عن بعض الخصائص اللازمة لها : إنها ـ على وجه التحديد ـ إستراتيجية تصفية وإلغاء وهزيمة الإقليمية مصالح ومضامين ومؤسسات وقوى وحلفاء وصولا الى أن تقيم القوى التقدمية المنتصرة دولتها الواحدة الاشتراكية  والديمقراطية . ولن تتم هذه الهزيمة مرة واحدة . أبدا .. ولا بدون هزائم مرحلية . أبدا .. انه صراع طويل .. طويل .. ولكن الوحدة كما قال الأستاذ فليب جلاب "هدف جدير بأن نبذل من أجل تحقيقه كل جهد ممكن ، وأن نتخطى في سبيله كل العوائق " .. وأول جهد يجب أن نبذله ، وهو ممكن ، هو أن نعرف ونحدد ونواجه أعداء الوحدة . وأهم من هذا ألا نترك مصير هدفنا بين أيديهم فندعوهم ونتوسل إليهم وننصحهم ونعظهم بأن يتقاربوا ، بأن يتعاونوا ، بان يتوحدوا ..الخ ، إن كل الاقتراحات التي اقترحها كتاب "الطليعة" من أول ترك النظم تتفاعل ، الى التكامل الاقتصادي مرورا بالتعاون والتنسيق والرقص الجماعي على إيقاع " الهارموني " ممكن ، ومطلوب كخطوات على طريق الوحدة إذا كان الذين يخطون هذه الخطوة ملتزمين بالاستمرار في خطوات متتالية حتى يتحقق هدفهم الاستراتيجي .. والعبرة هنا ليس بما يعلنه كل من خطا خطوة ، فكلهم يقولون أنهم يريدون الوحدة . ولكن العبرة بموقعهم من التناقض بين المصالح الإقليمية الخاصة بكل دولة والمصالح  القومية الخاصة بالشعب العربي في كل الدول " ..   

ثم يمضي بكل إسهاب في الحوار مع الماركسيين وشرح أبعاد الإستراتيجية وعلاقتها بالواقع وقواه الفاعلة (التنظيم الواحد) ، لينتهي بالقول والتأكيد على الاستمرار في الحوار معتبرا الماركسيين من صفوف الأنصار : " فليستمر الحوار إذن ، بين كل أنصار دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية الى أن يلتقوا في حركتهم العربية الواحدة .. وكل ما تطالبهم به ـ الآن ـ "خبرات الماضي وتحديات المستقبل" أن يكونوا أكثر جدية في الحديث وأكثر ديمقراطية في الحوار .. وبكل قوة أؤيد ما عبر عنه الأستاذ عادل حسين تأكيدا لدور مصر العربية ، وهذا يعني أن الذين يتحاورون في مصر من موقع الانتصار لدولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية مطالبون بقدر من الجدية والجهد المكثف يتفق مع ثقل الجماهير العربية في مصر التي تمثل ثلث الأمة العربية " ... 

وليس هذا فحسب ، بل نجده ـ قبل ذلك أواخر الستينات ـ يتوجه الى الماركسيين أيضا في حديث خاص عن المقاومة يحاورهم فيه متحدثا عن دور القوى الاشتراكية في بناء دولة الوحدة ، مستعملا أسلوبا خاصا ومدخلا مغايرا لكشف العلاقة بين القومية والتقدمية ، وهو يعلم ارتباط مفهوم التقدمية بالاشتراكية عند الماركسيين ، منطلقا من البديهيات التي يسلم بها الماركسيون حتى يصل بهم بعد جهد وعناء في الاجتهاد الى ما تفضي إليه تلك المسلمات الى ان المجتمع الذي يواجهونه من اجل تحقيق الاشتراكية ليس الا المجتمع القومي بكل خصائصه ، مستعملا في استدلاله معهم منطقهم الخاص ومنطلقاتهم الفكرية ومصطلحاتهم التي يستعملونها من أول عبارات الجدلية والصراع الطبقي ، الى آخر مفاهيم الأمة والبناء الاشتراكي .. وقد ورد هذا التوضيح لأسلوب الحوار في محاضرته الشهيرة " المقاومة من وجهة نظر قومية " ، أولا في المدخل التمهيدي معتبرا وحدة الاشتراكيين ضرورة قومية حين قال : " وأصبح مسلما بأن ثمة وجودا اجتماعيا ذا خصائص متميزة يسمى "الأمة" . ولكنا اليوم نريد أن نحاول اكتشاف تلك الحقيقة من منطلق جديد : المنطلق الاشتراكي . نريد أن نبدأ كاشتراكيين لنرى معا ما اذا كان ذلك سيصل بنا الى أن نكون قوميين .

لماذا ؟

ان أزمة المستقبل العربي كما نراها من الآن هي أن القوى الاشتراكية منقسمة الى قوميين ولا قوميين . لأن وحدة القوى الاشتراكية في الوطن العربي - كما نطلبها - ضرورة قومية".. ثم في ردّه على احد الأسئلة الحوارية المتعلقة بهذا الأسلوب الذي قال فيه صراحة : " في حديثنا لا نستهدف التدليل على الوجود القومي . انما نستهدف الوصول الى إقناع بعض الاشتراكيين في حوار موجه إليهم بان القومية رابطة تقدمية او لا تقوم عقبة في سبيل الاشتراكية .. وفي هذه المرحلة حيث أصبحت وحدة القوى التقدمية ملحة بحكم المعركة ، نرى ان ندير الحوار معهم انطلاقا من مواقفهم ذاتها ليتبينوا أنهم كاشتراكيين مطالبون بالالتزام القومي . وعلى هذا فالاشتراكية ليست مدخلا لمعرفة الوجود القومي ، ولكنه المدخل الذي قد يكون مناسبا لإخراج بعض الاشتراكيين من عزلتهم وتحطيم جمودهم العقائدي وانفتاحهم على جماهير أمتهم " .

ثم اكثر من هذا ، ودائما من باب الحرص على إقناع الماركسيين بان الدعوة للاشتراكية في الوطن العربي لا معنى لها بدون الوحدة ، نجده يجتهد مرة أخرى في دراسة بعنوان "ما وراء الاشتراكية" نشرت عام 1966 بمجلة الفكر المعاصر عدد 15 ، يجتهد فيها هذه المرة لبيان العلاقة بين الاشتراكية والقومية بحيث لا يمكن ان تكون الاشتراكية في الوطن العربي الا اشتراكية عربية مبينا جميع الأسس والمبررات الحذرة من الوقوع في التعصب الخ .. وقد جاء بيان الغرض من الحديث منذ البداية في موضعين قال في الأول : " فإذا كان مقبولا أن نستمر في الحوار عن "الاشتراكية العربية" فتلك فرصة مواتية لنغوص معا الى مستويات من البحث أعمق قليلا ، علناً عندئذ أن نجد - معا - أن وراء الاشتراكية نظرة تحتم أن تقترن دائما بسمتها القومية ، فلا تكون سمتها تلك مجرد اختبار غير لازم لتعبير أوضح دلالة يستمد كل قيمته من انضباطه اللغوي ، بل تكون استجابة لنظرة ذات قيمة خاصة قد تستحق أن نقبلها " .. وبعد أن يوضح ما يمكن أن يكمن في الإصرار على ربط  الاشتراكية بالقومية من تعصب غير مقصود ، يعود للتمهيد دخولا في الموضوع بحيث يكون  الحديث للاشتراكيين عامة وليس للقوميين خاصة ، فيقول : "اذن ، فكلنا - الذين مع الاشتراكية العربية والذين ضدها - في حاجة الى مزيد من الحوار العلمي على مستوى أعمق من المنطلق القومي . وهذا يعني ألا تكون القومية هي المسلمة الأولى التي نبني عليها سرح أفكارنا الاشتراكية ، بل نفتش عما وراءها من أسس تؤكد أو تنفي أن تكون القومية ذاتها منطلقا الى الاشتراكية .

كل هذا والحوار محصور بين الاشتراكيين ، فلندخل في الموضوع "..

واننا لو عدنا لقراءة كل هذه الاجتهادات والمحاورات الفكرية للدكتور عصمت سيف الدولة مع النخب الماركسية لتغيرت أشياء كثيرة في فهم أسلوب التعامل مع الآخر الذي يهتم بموضوع الوحدة ، ومع بعضنا البعض بدرجة اولى .. ولوقفنا  بالخصوص على ذلك الجهد الجبار الذي بذله في سبيل تذليل الصعوبات التي تقف امام الماركسيين لكي يكونوا قوى فاعلة في تحقيق الهدف العربي الاستراتيجي : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية .. 

هكذا وبكل بساطة بالنسبة للدكتور عصمت سيف الدولة : تحقيق دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية كهدف استراتيجي ، سبب كاف وموجب للحوار والتنسيق والتفاعل مع كل القوى في الوطن العربي التي تسلم بهذا الهدف كاملا أو بأحد فروعه .. 

فلماذا يفعل كل هذا مع الماركسيين ؟ هل كان عصمت سيف الدولة عبثيا او مثاليا لا يدرك مفهوم الفرز ؟ وهل كان يريد ان يتحول الماركسيون من الفكر الماركسي الى الفكر القومي ؟ 

ابدا .. انه كان - بلا شك - على قدر من المسؤولية انطلاقا من قناعته التامة بان الطريق الى الوحدة طويلة ووعرة ، ويمكن ان تقود خلال مسيرتها الشاقة الى المرور بمحطات كثيرة تلتقي فيها قوى متعددة قبل الوصول الى النهاية ..

وقد كان كافيا في نظره ان يلتقي الفريقان في الوطن العربي ولو على غاية واحدة ثابتة وجامعة بينهما كمعيار لفرز طويل الأمد : النضال من اجل الاشتراكية ... 

وقد فعل هذا بالرغم من مواقفه الواضحة الحاسمة ، مع الاشتراكيين العرب في قول ما يجب ان يقال لهم في مواضع الحسم  .. حيث وجدناه في كتاب الغايات ، وفي سياق الحديث عن القيم العربية في ظل الاشتراكية يتوجه اليهم بقول يربطه بالفرز جاء فيه : " نقول بحسم قاطع لكل " الاشتراكيين " الذين يجهلون أو يتجاهلون أنهم يتعاملون مع امة ذات تراث حضاري ، فينكرون أو يتنكرون لقيمها الحضارية ، إنكم في دعوتكم الى الاشتراكية تخاطبون أنفسكم ولا تخاطبون جماهير هذه الأمة فهي لا تسمعكم . وأن النظام الاشتراكي على أيديكم فشل محض . نقوله للاشتراكيين من كل دين لأن الإسلام هنا ليس ديناً بل مصدراً للتراث الحضاري للأمة العربية . ونقوله للاشتراكيين أصحاب القومية " البدوية " الذين يتوهمون أن القيم العربية امتداد غير نام لتقاليد الصحراء فينكرون ويتنكرون لما أسهمت به الشعوب السابقة على التكوين القومي في البناء الحضاري للأمة العربية . ونقوله للاشتراكيين الإقليميين الذين يريدون ـ عبثا ـ أن يلغوا تاريخ امة ليبعثوا حضارتهم البدائية الدفينة في قبور التاريخ . كلهم ـ طال الزمان أو قصر فاشلون ـ لا لأن الاشتراكية نظام اجتماعي فاشل بل لأنهم لا يتعاملون مع المجتمع " كما هو " . ولقد عرفنا من " جدل الإنسان " إن التطور الاجتماعي يبدأ من الواقع الاجتماعي كما هو . بالمجتمع كما هو . بالبشر في واقعهم المعين المشترك كما هم . ونحن أمة فلا ينجح في تطوير واقعها إلا القوميون الاشتراكيون " . ثم يضيف معرّجا عن الفرز : " فمن أجل أن نلتقي مفرزين فلا نختلط بالفاشلين ، وان نلتزم واعين فلا ننحرف مع المنحرفين ، وان نحتكم راضين فلا نتمزق كما يتمزق الآخرون ، نلتقي ونلتزم ونحتكم الى " الاشتراكية العربية "   نظرية لإقامة النظام الاشتراكي في دولة الوحدة الديمقراطية  .." ... وكل هذا التنوع في المواقف ممكن ، لان المواقف الأولى تكتيكية مرنة ، والثانية استراتيجية حاسمة .. فلا تناقض ولا تعارض بينها ..

أفلا يكون كافيا ووافيا ان يقوم الفرز بين القوميين على قاعدة العشرات من الثوابت الفكرية والحركية لتحقيق الممكن خلال هذه المرحلة وصولا الى ما يجب ان يكون .. ؟؟؟ 

لن يكون ذلك ممكنا الا بادراك ما نبه إليه الدكتور عصمت سيف الدولة في كتابه حوار مع الشباب العربي في آخر موعد له مع مجلة الشورى جاء فيه هذا التأكيد المهم (ص239) : " ثم أحسب أن هذا اخر لقاء بين قراء الشورى وبيني فأردت أن أقدم للجيل العربي الجديد قي واحدة من أعتى المشكلات التي سيواجهونها عندما يضعون أقدامهم على الطريق الصحيح الى دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية . وخلاصة رأيي أننا لكي ننجح يجب ان نحتفظ بأهدافنا ونناضل من أجلها الى أن تتحقق كاملة ، وعلى مدى زمان نضالنا لا ينبغي أن نحاول الا تحقيق الخطوة الممكنة في زمانها ومكانها طبقا لظروفها الموضوعية وظروفنا الذاتية " .. وسعيا لتحقيق ذلك لا بد من ثلاث شروط حتى لا يكون الحديث عن الفرز بلا معنى : تحديد المرحلة (ظروف موضوعية) ، وتحديد ظروف المناضلين القوميين (ظروف ذاتية) ، ثم تحديد الاولويات على ضوء الشرطين السابقين ..

وهو ممكن ولازم أيضا حتى لا ننتهي الى المزيد من التشتت والتشرذم والفشل .. ولكننا في الأخير ، وبعد كل هذا ،  لا نريد ـ من ناحية ـ ان نعطي انطباعا بأننا نبالغ في اتخاذ المحاذير من فرز الصفوف حتى نصل الى تلك الدرجة من الخوف التي أشار الدكتور عصمت سيف الدولة الى تبعاتها في كتاب الطريق . ولا نريد ـ من ناحية أخرى ـ أن نخلط الأمور بإقحام الماركسيين في جدل نعرف منذ البداية انه خاص بالوحدويين ، وقد أشار إليه أيضا الدكتور عصمت سيف الدولة في نفس المرجع ..

في الناحية الأولى ، وبعد تأكيده مرة أخرى على فرز القوى مكررا ما جاء في كتاب الأسلوب بقوله الحاسم : "فلتفرز القوى" ، وبعد التذكير بان انتصار القوى العربية التقدمية متوقف على التحامها في تنظيم قومي واحد ، نجده يتساءل : " لماذا لا يفعلون " ؟ ثم يجيب مباشرة وفي الإجابة تأكيد واضح على ضرورة تجاوز عقبات الالتقاء المرحلي على المستوى التكتيكي لبلوغ وحدة تنظيمية على المستوى الاستراتيجي فكانت الإجابة : "لأنهم لم يفرزوا أنفسهم من القوى التي تختلط بهم فاختلطت الأمور عليهم . وأكثر ما أثاره اختلاط الأمور هو الخوف من أن يؤدي الفرز الى مزيد من الفرقة والتمزق بين القوى الجماهيرية في الوطن العربي في الوقت الذي تواجه فيه الأمة العربية ككل مخاطر استعمارية وصهيونية عدوانية شرسة . وهو أمر لم تكف القوى الإقليمية الرجعية عن استغلاله لإرهاب القوى العربية التقدمية وشل مقدرتها على تحقيق وحدتها . فبقي اللقاء بين القوى الجماهيرية في الوطن العربي على المستوى التكتيكي عاجزا عن تجاوزه الى وحدة الإستراتيجية . وكلما حاول العرب التقدميون فتح حوار بناء لتجاوز هذا الالتقاء المرحلي المحدود الى وحدة تنظيمية دائمة وشاملة ثار الإقليميون واتهموا المحاولة بأنها تجريدية ، وغير واقعية ، وأنها تؤدي الى تمزق صفوف الجماهير ، أو اتهموها بأنها محاولة غبية ومحاولة عميلة ..الخ . وهي اتهامات تثير الرعب فعلا . ولكن ماذا كانت النتيجة ؟ شل الخوف القوى العربية التقدمية فلم تحقق وحدتها ، وبذلك افتقد النضال العربي المقدرة على النصر عندما فقد وحدة الإستراتيجية على المستوى الوحيد الذي يمكن أن تتحقق فيه ، وهو المستوى الجماهيري " .

وفي الناحية الثانية ، واذا كان اختلاط معايير فرز القوى التقدمية مفهوميا ، أي من حيث الخصائص والمفهوم قبل فرزها على أي أساس آخر فكري أو سياسي يثير كثيرا من الخلط والخوف معا ، فان ما بذله الدكتور عصمت سيف الدولة في توصيفه للقوى العربية التقدمية بناء على الناحيتين المتصلتين بالتسمية أي " الهوية العربية " و" الهوية التقدمية " لما يسمى قوى " عربية " و " تقدمية " ، كفيل بأن يزيل الخوف ليجعل الفرز مبنيا على أسس موضوعية سليمة هدفه تحقيق وحدة القوى العربية التقدمية التي تبقى كما ـ قال مرارا ـ طريق النصر الوحيد ، وهو لا شك على علاقة وثيقة بكل القوى التقدمية التي تجمعها نضالات مرحلية مشتركة وضرورية قال فيها : " اذا كانت وحدة القوى العربية التقدمية هي الطريق الى النصر ، وكانت تلك الوحدة لا تتحقق الا بفرز القوى في الوطن العربي ، فان هذا الفرز لا يعني الفرقة أو التمزق أو العداء مع القوى الجماهيرية الأخرى وهي جميعا تواجه خطرا مشتركا فان وحدة القوى العربية التقدمية لا تحول دون اللقاء والتعاون والتنسيق والتحالف مع كل القوى التي تقف معها في مواجهة العدو المشترك ، بل ان وحدتها هي التي تمكنها من قيادة النضال المشترك حتى يحقق غايته بدون تخاذل أو تراجع أو تظاهر أو مزايدة . والنضال المشترك في غيبة قيادة قومية لا يؤدي الى النصر العربي " ..

وهكذا يمكن أن نعود مع الدكتور عصمت سيف الدولة الى القول الفصل ونحن لا نخشى من الخوف أو من تداخل الأمور ، وقد تعلمنا منه كيف ومتى نتقدم خطوة خطوة ، من الممكن الى ما يجب أن يكون .. حيث على امتداد ميادين المعارك في الوطن العربي مجالات كثيرة لفرز القوى .. في ميدان المعارك ضد الاستبداد ، وضد الاستعمار والصهيونية  ، وضد الاستغلال ، أملنا ـ كما قال ـ الوصول الى إتباع الأسلوب العلمي الذي لن يحقق  النصر العربي  بدون قوى مفرزة ..

غير أن من شروط الأسلوب العلمي كما تعلمنا منه أيضا ، أن نكون أبعد ما يكون عن المثالية ، أي أن نتحلى بالواقعية .. ولعلنا تأكيدا لهذا المعنى نستعير فكرة الدكتور عصمت سيف الدولة نفسه حينما كان يردّ في كتابه الاستبداد الديمقراطي على اتهام بعض منتقدي فكرة الديمقراطية الاجتماعية عند روسو واتهامهم له بالمثالية .. فبعد عرضه لمقولة رسو الشهيرة حول الديمقراطية التي قال فيها : " لو كان هناك شعب من الآلهة لحكم نفسه بطريقة ديمقراطية فهذا النوع من الحكم الذي يبلغ حد الكمال لا يصلح للبشر " .. وهي المقولة التي نفى بها عصمت سيف الدولة تهمة المثالية عن روسو ، حين اجتهد في فهم مقاصده  ، فقال عنه : " ان هذا القول ينفي ما نسب الى روسو من انه كان مثاليا ، ويؤكد انه كان واقعيا وهو يعرض المثل الأعلى " للنظام الديمقراطي . اذ المثالية هي فرض " الفكرة " ـ ولو كانت مثلا أعلى ـ على الواقع الذي لم تتوافر فيه الظروف الموضوعية لتجسيدها . ونهاية المثالية الى الفشل . ثم يبقى المثل الأعلى قادرا على الهام البشر معا الطريق الى الخلاص " .. كما ورد نفس المعنى في عملية الربط بين المثالية والمثل في موضع اخر من كتابه "هل كان عبد الناصر ديكتاتورا" حين قال : "المثل الاعلى قوة جاذبة الى التقدم ، أما‏ المثالية فوهم غير علمي لكيفية التقدم . المثل الاعلى يحدّد الغاية . والمثالية تتعلق بالاسلوب .. والمثالية کأسلوب ، تتمیز بالتجرید الفكري وانكار الواقع الاجتماعي أو تجاهله" .. وبالمثل يمكن فهم كل مقولات  عصمت سيف الدولة ومواقفه الحاسمة ، التي تبدو من خلالها كل أهداف النضال العربي على المستوى الاستراتيجي بعيد المدى  بمثابة  "المثل العليا" التي يمكن أن تنير دروبا كثيرة للسائرين عليها .. حين يتم تحويلها الى خطط مرحلية مدروسة ، ثم يتم تطبيقها في مهام نضالية واقعية دون ان تضيع البوصلة .. وهذا كما نعلم جوهر منهجه "جدل الإنسان" الذي يحتم على البشر ان يتخلوا عن المثالية ويلتزموا بالواقع حتى لا يكونوا بشرا فاشلين .. وأول تلك الخطوات أن يسيروا على خطى منهج واضح ..

(القدس - م .ع / فيفري 2018). 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق