روابط الأجزاء :
تـقديــــم / الجـــزء 1 / الجـــزء 2
الجــزء 3 / الجــزء 4 / الجــزء 5
الجــزء 6 / الجــزء 7 / الجــزء 8
الجـزء 9 / الجـزء 10 / الجزء 11
الجـزء 12 /الجزء 13 / الجزء 14
الجـزء 15 / الجزء 16 / الجزء 17
الجزء 18 / الخاتمة / المحتوى كامل
فرز واحد ... أم فرز متعدّد ... ؟
دراسة في أقوال ومواقف الدكتور عصمت سيف الدولة .
-10-
أما المشكل في الواقع الحالي فهو على درجة كبيرة من التعقيد الى الحد الذي يصعب فيه معالجته دون مراجعة من طرف الجميع لكثير من العوامل المتصلة بالجوانب الذاتية بالدرجة الأولى ، ومنها ما يتعلق بالأساس بأسلوب التعامل مع المتغيرات الظرفية في ظل غياب الأداة القومية الواحدة التي يمكن من خلال وجودها فقط ، الحكم على من هم داخلها ومن هم خارجها في نفس الوقت .. أما وقد استوى حال الجميع في الفشل ، فالمطلوب من الجميع القليل من التواضع - على الاقل - بتجنّب إطلاق الأحكام العامة ، ومراعاة التنسيب .. وعلى سبيل الذكر ، لا يمكن أن يكون سبب كل اختلاف في المواقف بين عدد من المنتمين الى الأحزاب من أبناء التيار القومي ، وبين غيرهم من غير المنتمين يعود بالضرورة الى أن أحدا من الطرفين قد خان عقيدته كما يصور البعض .. اذ أن المواقف من الأحداث الجارية كالمحطات الانتخابية وغيرها يمكن أن يحصل فيها اختلاف حتى داخل الحزب الواحد والمرجعية الواحدة ، وأحيانا يتغيير الموقف حتى عند الفرد الواحد .. ولذلك تقام حملات الدعاية الانتخابية في مثل هذه المناسبات .. أما في غيرها من القضايا فلا سبيل لممارسة الديمقراطية الا من خلال تفعيل قوانين الجدل الاجتماعي الذي يهدف من خلاله كل صاحب رأي لاقناع غيره بصحة رأيه وموقفه ، ومن أجل ذلك وجدت وسائل الاعلام المرئية والمسموعة المعدّة لتبادل المعرفة .. وعليه ، فمثلما يمكن أن يحصل اختلاف في المواقف بين القوميين المنتمين لحزبين مختلفين أو أكثر ، يمكن أن يحصل نفس الشيء بين القوميين الغير منتمين للأحزاب دون أن يعني ذلك شيئا بالنسبة لعقيدتهم وثوابتهم القومية .. فلا أحد منهم قد غير هدفه في تحقيق الوحدة ، أو غيّر موقفه من الاستغلال والرأسمالية فانقلب عن الحل الاشتراكي ، أو اعترف بالاحتلال وبحق الصهاينة في فلسطين ، ولا أحد تخلى عن ثوابته حينما اختلف مع غيره في اختيار مرشح للانتخابات .. !
أما بالنسبة للانتماء الحزبي الإقليمي في حد ذاته ، فان قول البعض بأنه لا يؤدي إلا لترسيخ المنطلقات الإقليمية ، يحتاج - بالنسبة للبعض الآخر في الظروف الراهنة - الى بدائل عملية جدية ، مثلما ترتقي فوق أسلوب العمل الإقليمي ، ترتقي أيضا فوق أسلوب التنظير والاكتفاء بالانتظار المجهول دون خطط عملية واضحة تساهم مساهمة فعالة في تغيير الواقع .. ثم ان خيار العمل الحزبي – كما يرى هؤلاء - يعتبر خيار الممكن ، فلا التنظيم القومي موجود ، ولا المتحزبون يعلنون ان خياراتهم في مواجهة الواقع بديلا عنه ، ولا هم غيّروا قناعاتهم بمنطلقات وغايات وأسلوب تحقيق دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية ... !
فهل الانتماء لحزب اقليمي النشاط جريمة لان الإقليمية مجرمة في حق الامة ، أم هو مجرد أسلوب فاشل في تحقيق غاية قومية ؟
وهل الولاء القومي عقيدة أم تموقع تنظيمي ؟ ...
اسئلة متردّدة ، سبقناها بالأجوبة فيما تقدم من حديث ، وقد اتينا على كثير من المواقف الحاسمة والمرنة للدكتور عصمت سيف الدولة في التعامل معها ، وسنأتي على عينات أخرى من أقواله تخص تلك الأسئلة وغيرها فيما تبقى من جوانب الموضوع ، بعد أن نتوقف معه - ونحن نتحدث عن الفرز - عند جملة من المفاهيم والمعايير التي تبنى عليها المواقف .. وهي رؤية "مفهومية" شاملة لدى الدكتور عصمت سيف الدولة تتعلق بدقة المفاهيم والمصطلحات التي يقوم عليها التصنيف قبل تصنيف المواقف ذاتها .. اذ أن كل عبارة - عنده - لها مدلولات سياسية وعقائدية يتجاوز فيها المعنى الإلزامي بتنفيذ مضامين الكلمات في الواقع العملي مجرد الكلام وترديد المصطلحات .. بحيث يصبح من المستحيل فهم المواقف دون الرجوع الى خلفيتها الفكرية والعقائدية من خلال مدلول الكلمات والعبارات التي يردّدها كل صاحب راي أو موقف على غرار : مفهوم القومية ، مفهوم الإقليمية ، مفهوم العروبة ، مفهوم الوحدة والعمل الوحدوي .. الخ .
وفي هذا ، نجد إشارة ولفت انتباه من الدكتور عصمت سيف الدولة الى التمييز بين مختلف هذه المفاهيم المتعلقة بالموقف الإقليمي ، والموقف العربي ، والموقف القومي ، حين توجه لمخاطبه في الرسالة السابعة من باب الرسائل في كتاب اعدام السجان وهو يطرح معضلة القصور في فهم التيارات السياسية والفكرية لدى القضاة المكلفين بالنظر في الدعاوي قائلا : " لكي تكون فكرتك واضحة أرجو أن يتسع وقتك لتراجع في كتابي نظرية الثورة العربية ، التفرقة الدقيقة بين الموقف القومي ، والموقف العربي ، والموقف الإقليمي ، وتصور أننا نريد أن نحمي بالقانون الموقف الوحدوي ونعاقب الموقف الانفصالي ، ان توحيد الوطن العربي لمصلحة أحد أقطاره موقف وحدوي ، ولكنه إقليمي فهل نحميه ؟ وان توحيد الوطن العربي لمصلحة جبهة من قوى إقليمية موقف وحدوي ولكنه ليس قوميا فهل نحميه ؟ " .. وهي معضلة كما يقول عصمت سيف الدولة لأنه : " سيأتي اليوم الذي يضطر فيه القضاة الى مواجهة مثل هذه المشكلات الفكرية التي سيطرحها واقعنا من خلال نمونا الفكري والاجتماعي وهي مشكلات لم تكن مطروحة يوم أن كنا ندرس القانون ، ولن تطرح في أي كلية حقوق حتى في المستقبل . ومع ذلك فانه على قدر وعي القضاة بها ، وادراكهم تعقيداتها الفكرية ، ومنابعها الفلسفية ومشكلاتها التطبيقية ستتوقف حرية بشر كثيرين ..... فلماذا لا يواكب القضاة حركة نمونا ؟ .... لماذا لا نجنب الجيل القادم على الأقل مخاطر تجربة عصمت سيف الدولة ؟ .. ".
ونلاحظ في الفقرة الأولى بروز موقف رابع وهو الموقف الوحدوي إضافة الى المواقف الثلاثة الأولى .. وهو ليس مجرد تبديل أو تغيير في استعمال كلمات مترادفة ، اذ ليس كل موقف وحدوي قوميا بالضرورة حسب عصمت سيف الدولة .. وهذا يتطلب الرجوع الى المراجع الأصلية التي أشار اليها الدكتور في الفقرة الأولى أو غيرها من المراجع ..
وفي البداية ، وبالنسبة للموقف القومي والموقف الإقليمي ، فان الامر لا يحتاج الى توضيح وقد أتينا على كل المفاهيم المتعلقة بالمنطلق الإقليمي وتفرعاته الرجعية والوحدوية ، والمنطلق القومي وعلاقته بالعقيدة القومية .. أما فيما يتعلق بالموقف العربي فهو يستند دائما الى الموقف الرسمي للدول العربية التي تتعامل مع الواقع العربي من خلال السعي للاتفاق على مواقف جامعة - من وجهة نظر إقليمية - تحدد الحد الأدنى للاتفاق بين الدول العربية لمواجهة السياسات الدولية في التعامل مع القضايا المطروحة ، وهي مواقف تطبخ أولا عبر القنوات الدبلوماسية المباشرة ثم من خلال جامعة الدول العربية وتكون - غالبا - خاضعة للضغوطات والاملاءات الدولية .. وقد تبرز فيها من حين الى اخر مواقف "وحدوية" مضللة ..
أما كونها وحدوية فهذا لا يعني أنها تقوم على منطلق واحد ، لذلك فان المواقف الوحدوية تعد من أكثر المواقف التباسا وغموضا . بحيث لا يكون كل موقف وحدوي موقفا قوميا .. وكذلك العمل الوحدوي . حيث لا يكون كل عمل وحدوي عملا ثوريا بالضرورة .. اذ أن العمل الوحدوي الثوري - عند عصمت سيف الدولة - يكون دائما مرتبطا بالإرادة الثورية التي تعمل وفقا لتخطيط ارادي شامل يستهدف تحقيق الوحدة بأسلوب لا يخضع للأهواء أو للصدفة بين اقليمين أو أكثر في وقت واحد .. وخلافا لهذا الموقف الوحدوي الارادي الذي هو موقف قومي ، نحن أمام نوعين من المواقف الوحدوية متميزين عن الموقف الأول ، أحدهما وحدوي عفوي تلقائي والأخر وحدوي إقليمي .
بالنسبة للموقف الوحدوي التلقائي يمكن أن يحدث كردة فعل ناتجة عن وضع ثوري غير منظم كالذي عاشته سوريا ومصر مما أدى الى قيام الوحدة بينهما دون تخطيط واع لتحقيقها . وقد وجدنا هذه الفكرة في كتاب الطريق 2 ضمن الحديث عن الثورة .. يقول الدكتور عصمت سيف الدولة متحدثا عن الوضع الوحدوي الذي أدى الى الوحدة بين مصر وسوريا : "ان الوضع الوحدوي ان تحقق في اقليمين يؤدي الى الوحدة بينهما "اذا" توافرت كل الظروف التي كانت سائدة في سوريا وفي مصر سنة 1958 . وهي ظروف كانت وليدة أحداث تاريخية ودولية وإقليمية مقصورة على الإقليميين . واذا كانت قد وجدت فلم يكن وجودها من أجل الوحدة . ولم يكن التقاؤها في وقت واحد مدبرا من قبل . وحدّدت تلك الظروف – بعيدا عن التخطيط الارادي – تاريخ الوحدة . وبالرغم من كل النضال القومي في الاقليمين ، فان الوحدة بين مصر وسوريا بالذات في فبراير 1958 على وجه التحديد كانت بمثابة انفجار وحدوي . أو كانت التعبير التلقائي للقومية العربية عن ذاتها في اقليمين وصلت فيهما الإقليمية الى أضعف درجاتها ، أو انعدمت مقدرتها على المقاومة . لقد كان العامل الارادي في تحقيق الوضع الثوري على مستوى الاقليمين معا مفقودا وان كانت الإرادة الثورية قد وفرته في كل إقليم على حدة . لهذا كان العامل الارادي في تحقيق الوحدة ضعيفا . كان مجرد قبول الالتحام الحتمي للإقليمين توافرت فيهما أوضاع ثورية وحدوية ، لم يخلقها أحد بقصد تحقيق الوحدة بينهما .
ولما لم يكن ذلك "الوضع الثوري الوحدوي" الذي انبثقت عنه وحدة 1958 من خلق إرادة ثورية وحدوية واعية بضرورة توافره في اقليمين في وقت واحد بقصد تحقيق الوحدة بينهما ، فان الذين استجابوا له فحققوا الوحدة لم يستطيعوا المحافظة عليه فانفصلت سورية سنة 1961 " ..
أما بالنسبة للموقف الوحدوي الإقليمي فهو يتعلق بكل عمل وحدوي قائم على أساس المنطلقات والأساليب الإقليمية سواء بين أحزاب أو جبهات أو منظمات أو دول أو حتى التقاء ثورات إقليمية .. لكنها لا تعني بالضرورة انها مواقف ساعية دائما لتحقيق الوحدة ولو من منطلق إقليمي ، لأن فهمها يتوقف على معرفة مفهوم الوحدة الذي يقصده أصحابها من خلال ما يقومون به من نشاط سياسي وديبلوماسي عربي يسمونه "وحدوي" تحت لافتات وعناوين كثيرة منها : "التعاون بين الاشقاء" و "التضامن العربي" ، أو تحت عنوان : "العروبة" و "وحدة الصف العربي " .. وقد ورد فيها حديث طويل واضح ومفصل في عديد المراجع ، ذكرنا منها عينات كثيرة لا فائدة في تكرارها .. وسنكتفي هنا بإضافة تخص "الموقف العربي" الذي أشار اليه الدكتور عصمت سيف الدولة " ، وهو يتعلق بالمواقف السياسية للدول العربية حينما تضطر للدخول في لعبة "المصالح العربية" بوجه "عروبي" .. وهي مواقف تستحق الانتباه ، لأنها تبدو لدى البعض وفي بعض الحالات - وهي مصحوبة بخطاب ودعاية ذات مضامين قومية - كما لو كانت مواقف قومية .. وفي هذا تفصيل للدكتور عصمة سيف الدولة ورد بكتاب المنطلقات قال فيه : "كمقدمة لهذا نحب أن نفرق بين ما نسميه السياسة العربية والسياسة القومية . وهي تفرقة دقيقة ولكنها لازمة . فقد عرفنا من قبل أن "الأمة العربية وجود موضوعي" وأن وحدة المصير القومي تعني أن ثمة علاقة موضوعية بين كل المشكلات التي يطرحها الواقع القومي ... فإذا بكل دولة اقليمية تجد نفسها ، بعد محاولات الهرب من المشكلات القومية ، وتجاهل الوحدة الموضوعية بين تلك المشكلات ، وانكار السمة القومية حتى لمشكلاتها الخاصة ، تجد نفسها مضطرة إلى أن تشارك في معارك المصير العربي . أي يجرها ويجبرها الفشل في محاولة الافلات بمصيرها الخاص على دخول المعارك الدائرة حول المصير القومي الواحد . من هنا نجد أن لكل دولة اقليمية في الوطن العربي ” سياسة عربية ” . أي مجموعة من الاهداف والمخططات والقوى تشارك بها في الصراع القائم حول القضايا القومية " ..... وبالتالي فان "السياسة العربية" هي : "ذلك النشاط الذي تقوم به كل دولة في الوطن العربي مشاركة في القضايا التي تطرحها الأمة العربية ككل . وهي تدخل فيه بكل اجهزتها الدعائية أو السياسية أو العسكرية تبعاً لنوع الصراع وعلاقته المباشرة بكل دولة اقليمية على حدة . ويتميز بأنه نشاط مفروض على الدول الاقليمية تقوم به مكرهة لأنها غير قادرة على الوقوف من القضايا القومية موقفاً سلبياً بحكم الوحدة الموضوعية للمشكلات القومية . ونعرف هذا من انها لا تعد له من قبل . ولا تشارك فيه مبادرة ، بل تجد نفسها مشاركة فيه بعد أن تكون "قوى أخرى" قد فجرت الصراع ، فهي تقف منه دائماً موقفاً دفاعياً . ومع أن كل الدول الاقليمية ترفع على "سياستها العربية" شعارات قومية وتتخذ منها ذريعة للادعاء بأنها دول قومية إلا أن الطبيعة الاقليمية لتلك السياسة لا تلبث أن تفضح هذا الادعاء . مثال هذا ذاك الشعار المتفق عليه بين الدول الاقليمية تعبيراً عن موقفها "القومي" من قضية تحرير فلسطين والذي يقول : "ان مسؤولية تحرير فلسطين تقع على عاتق شعب فلسطين" . انه يعبر تعبيراً واضحاً عن الاقليمية المكرهة على المشاركة في معركة تحرير فلسطين الباحثة عن طريق للخروج منها في الوقت ذاته . اذ عندما تستقر المسؤولية على عاتق شعب فلسطين تكون الدول الاقليمية قد القت عن عاتقها مسؤولية التحرير . على أي حال فإننا نستطيع ان نتعرف بسهولة على عنصر "الاضطرار" في السياسة العربية لكل دولة اقليمية من خلال معرفة الاهداف والمخططات والقوى التي تشارك بها في الصراع القائم حول القضايا القومية . فسنجد انها دائماً أهداف دفاعية تحاول بها الدولة الاقليمية حماية الوجود الاقليمي من مخاطر النضال القومي . وانها مخططات قائمة على تجنيب الدولة الاقليمية أكبر قدر من اعباء الصراع ومسؤولياته ولو بتوزيعها على باقي الدول الاقليمية . وانها قوى تابعة للدولة الاقليمية حتى لو كانت من غير رعاياها . ومن هنا يكون الخط الأساسي " للسياسة العربية " معالجة القضايا القومية على وجه يسمح للدولة الاقليمية بأن تتراجع الى المواقف التي تتفق مع طبيعتها .
اذن فليس كل نشاط عربي نشاطاً قومياً . وليست كل سياسة عربية سياسة قومية . ولا تتحول الدولة الاقليمية الى مؤسسة قومية لمجرد انها تشارك في القضايا القومية دعائياً أو سياسياً أو حتى عسكرياً . وعندما نتسلح بالنظرية القومية في مواجهة هذه المشاركة وتقييمها ، لا ننخدع فيها فلا نتوقع منها أكثر مما يتفق مع طبيعة الدول الاقليمية . ولا نتكل عليها فنتوقع من الدول الاقليمية ـ في أي وقت ـ أن تنكص وتتراجع . ويصح هذا بالنسبة الى كل الدول الاقليمية بدون استثناء" ..
نفس الموقف تقريبا نجده يتكرّر عند الدكتور عصمت سيف الدولة في حوار فكري مع الشيخ حسين فضل الله حول مفهومي "القومية" و"العروبة" (أكتوبر 1987 ) .. وللتفرقة بينهما ذكر فيهما أمثلة عديدة من الواقع قال في أحدها : "المثال الاكثر تأكيدا لضرورة الانتباه الى التفرقة في المواقف والافكار بين العروبة والقومية يتعلق بقضية فلسطين . فمنذ عام 1948 وجزء من ارض فلسطين قد اغتصبه الصهاينة عنوة . ومنذ 1967 اغتصبوا ما بقي من ارض فلسطين وزادوا عليها فاغتصبوا سيناء والمرتفعات السورية . ان كثيرا من "العروبيين" دافعوا عن فلسطين قبل ان تغتصب ارضا ، ويدافعون عنها الان سياسيا ودعائيا بل ونقول ان كل "ابناء العروبة" ـ ما عدا الخونة ـ يدافعون عن فلسطين . الا يقال انها قضية العرب المركزية ؟ بلى . اين الفارق اذن بين الدفاع عن فلسطين من موقف قومي ، والدفاع عنها من موقف عروبي ؟ .
الفارق ان العروبي يدافع عن فلسطين انحيازا الى "الفلسطينيين" ضد الصهاينة ، او دفاعا ضد مخاطر التوسع الصهيوني الى ارضه ، او تفاديا لسيطرة الصهاينة اقتصاديا و ماليا على اقتصاده او ماله ، او انقاذا لبيت المقدس اولى القبلتين وثاني الحرمين ، او حتى تخلصا من عبئ الانحياز الى الفلسطينيين اللاجئين بتسكينهم جزءا من ارض فلسطين .. وطبيعي ان الاهداف النهائية لهؤلاء العروبيين تختلف تبعا لاختلاف مواقفهم ، فبعض العرب يقبلون الوجود الصهيوني في فلسطين ، وبعضهم يناضل من اجل تقسيم فلسطين مع الصهاينة ، وبعضهم يقبل ما يقبله العرب المطرودون من فلسطين ، وبعضهم يقبل مبادلة ارض فلسطين بالسلام مع الصهاينة .. كل هذه مواقف عروبية" ..
لكن الموقف العربي من الواقع بالنسبة للدكتور عصمت سيف الدولة حينما يعبر عن مضمونه الصحيح قد يأخذ بعده القومي في قراءة الواقع ولو من موقع سلبي لا يحمله على تغييره فيسميه في موضع أخر "الواقع من وجهة نظر عربية" وقد وردت هذه التسمية في دراسة بعنوان "هذه الدعوة الى الاعتراف المستحيل" قال فيها : "ليس لهذه الكلمات المهيبة : المبدأ والاستراتيجية والتكتيك أي معنى إلا إذا كانت منسوبة الى واقع معين ، ومن حسن الحظ أن الواقع المعين في خصوصية فلسطين ليس محل خلاف بين العرب ، فلسطين الأرض اغتصبت وأخليت من الشعب العربي إلا قليل واستوطنها الصهاينة الغاصبون وأقاموا عليها دولة أسموها إسرائيل .. إن واقعها قريب الشبه بالواقع الأسترالي والأمريكي بعد إبادة البشر إلا قليل وإقامة مجتمعات ودول من المهاجرين عليها . ينحصر الفرق في أن الشعب العربي لم يُبد ولكنه يحيط بأرضه المغتصبة إحاطة كثيفة يريد استردادها ... هذا هو الواقع من وجهة نظر عربية" .. وهو موقف من "الواقع" قد يبدو قريبا في قراءته من قراءة "الواقع" من وجهة نظر قومية ، الا أنه غير مبدئي وبالتالي غير مستقر على موقف ثابت من القضية في بعدها الاستراتيجي وفي حل من أي التزامات في الواقع ، وهو بالتالي موقف واقعي لكنه اقليمي شأنه شأن كل المواقف الإقليمية من كل القضايا بما فيها قضية الوحدة التي يخصها بحديث خاص موجه للناصريين يبرز فيه الفرق بين العروبيين والقوميين في كتابه "عن الناصريين واليهم" يقول فيه : "أن الوحدويين ينقسمون إلى فريقين . فريق عروبي وفريق قومي . أما العروبيون فينطلقون إلى الوحدة من مجرد الانتماء الى الأمة العربية ويتخذون من هذا الانتماء حجة ” ميتافزيقية ” يصوغونها بقولهم إن الوحدة العربية حتمية تاريخية . وأرجو أن يتأمل كل الناصريين هذه المقولة . يتأملونها بهدوء وبدون عقد . فحين يقال إن الوحدة العربية حتمية تاريخية يلغي دور الإنسان ، فكأنها في يوم ما ستتحقق تلقائياً لمجرد انها دولة واحدة لأمة واحدة . وهو إعفاء للذات ، يصل إلى حد الهروب من متاعب الصراع الاجتماعي في سبيل تحقيق الوحدة ... لا يحتاج الأمر إلى مزيد من الإيضاح لنعرف ان صيغاً مثل الجامعة العربية والدفاع المشترك والوحدات الجزئية .. والتضامن العربي والأخوة العربية .. الخ كلها صيغ "عروبية" ولكنها ليست صيغاً قومية وحدوية بل إنها مطروحة كبدائل عن الوحدة .. وميزتها بالنسبة إلى أصحابها ان تحتفظ لهم بدولتهم وحكمهم وحكامهم ...
هذا فريق العروبيين ..
يبقى الفريق الثاني من الوحدويين . إنهم القوميون .
والقوميون ينتمون إلى الأمة العربية مثلهم مثل العرب جميعاً . وهم وحدويون مثلهم مثل العروبيين . ولكنهم يختلفون جذرياً ، ويتميزون قطعياً ، عن كل هؤلاء . بأنهم يحولون الانتماء السلبي إلى الأمة العربية إلى حركة إيجابية لبناء المستقبل العربي ويلتزمون ما يفرضه عليهم الانتماء التاريخي من حدود في صنع التاريخ" ..
وفي الأخير فان الدول الإقليمية لا تختلف كثيرا من حيث الفشل في تحقيق الوحدة حتى ولو كانت تحت حكم القوميين ، وقد يكون الاختلاف الوحيد هو المتعلق بالدور الذي يمكن أن تلعبه الدولة الإقليمية في خدمة القضايا القومية .. وهذه الفكرة المتكرّرة في مراجع عديدة وجدناها في مرجع اخر يخصصه الدكتور بالكامل للحديث في هذا الموضوع من زاوية مغايرة ، تتعلق بالدور الذي يمكن أن تلعبه الدولة الإقليمية في محيطها العربي ، وقد ورد ذلك في كتابه " المحدّدات الموضوعية لدور مصر في الوطن العربي " ، وهو حديث طويل ومتشعب نكتفي بتلخيصه في الأدوار التالية : الدور الجغرافي الإقليمي وهو يتميز - في أفضل الحالات "اخلاصا ووطنية" - بانحياز القيادة السياسية في مواقفها من القضايا المطروحة ومنها القضايا القومية الى مصالح الدولة الإقليمية . ثم : الدور التاريخي القومي الذي يسمح للقيادات القومية حين تكون على رأس السلطة في الدولة الإقليمية بأن توظف بعض إمكانيات الدولة لخدمة القضايا القومية ، وهو دور لا يخلو من الازدواجية بين المد والجزر للدور القومي التاريخي والدور الإقليمي الجغرافي بحسب الظروف ويسمي في هذه الحالة عند الدكتور بالدور المزدوج ..
(القدس - م .ع / فيفري 2018).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق