القدس عنوانها وفلسطين بوصلتها

القدس عنوانها وفلسطين بوصلتها
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجزء السابع عشر

 روابط الأجزاء :

تـقديــــم / الجـــزء 1 / الجـــزء 2 

الجــزء 3 / الجــزء 4 / الجــزء 5  

الجــزء 6 / الجــزء 7 / الجــزء 8 

الجـزء 9 / الجـزء 10 / الجزء 11 

الجـزء 12 /الجزء 13 الجزء 14

الجـزء 15 / الجزء 16 الجزء 17

الجزء 18 / الخاتمة / المحتوى كامل  

فرز واحد ... أم فرز متعدّد ... ؟

دراسة في أقوال ومواقف الدكتور عصمت سيف الدولة .

-17-

وليس هذا نهاية المطاف .. بل ان الدكتور عصمت سيف الدولة قد أضاف خطوة ثالثة مشابهة ومهمّة وردت في آخر ما كتبه في مجال الاجتهاد الفكري الذي اختصره هذه المرة  في ثمان صفحات محدودة  ، وموجّهه بشكل خاص للناصريين في كتابه "عن الناصريين واليهم" حتى يتقدّموا خطوة الى الأمام ولا يبقوا يراوحون مكانهم .. فماذا جاء في هذه الاضافة ؟

انه يعود مرة أخرى الى الثوابت .. وهو آخر فصل في الكتاب ورد تحت هذا العنوان .. بل أنه يزيد على ذلك المزيد من الاحكام ، فيربط في شكل عنوان فرعي الثوابت بالمتغيرات ..

ألم نكن نتحدّث طوال هذا الحديث عن الفرز بمعيار الثوابت والمتغيرات ..؟

بلى .. وها نحن نلتقي - أخيرا - بهذا الطرح للدكتور عصمت سيف الدولة حيث نجد أن الثوابت عنده مسألة ضرورية تفقد الناصرية بدونها كل صفاتها النضالية والثورية كمشروع للمستقبل .. كما يُفقد التركيز على المتغيرات دون ربط منهجي بتلك الثوابت أي إمكانية للالتقاء والاتفاق حول مضامين التأسيس فضلا عن امكانية الاستمرار في المستقبل لهذا المشروع .. وبما أن الثوابت تمثل الأسس التي ستُبنى عليها النظرية فان مهمة الناصريين الأولى هي حسم مسألة المنهج الذي يمثل عنده "حجر الأساس" في أي بناء نظري ، وهو ما جعله يخصص له عنوانا فرعيا يحمل تلك العبارات المذكورة .. لذلك وجدناه يدعو الناصريين الى الحسم - أولا - في مسألة المنهج الذي سيمكّن الناصرين من صياغة النظرية الناصرية .. وهو ما جعله يعود لمقولة عبد الناصر الشهيرة : "إن النصر عمل ، والعمل حركة ، والحركة فكر ، والفكر فهم وإيمان . وهكذا فكل شيء يبدأ بالإنسان" .. وبعدها مباشرة يقول مجتهدا في فهمها : "فلما اجتهدنا في دراسة مناهج التطور : الماركسي ، والليبرالي ، والتاريخي .. في كتابنا الأول "أسس الاشتراكية العربية" أهتدينا إلى ما أسميناه منهج جدل الإنسان . وهو وحده – في اعتقادنا – الذي يستطيع أن يقول لماذا كان ما قاله عبد الناصر صحيحاً . لأنه ابتداء من هذه المقولة التي عبر بها عبد الناصر عن خلاصة حضارته العربية الإسلامية في شأن المنهج ، نجد أنها تجري طبقاً "لجدل الإنسان" على الوجه الآتي  :

النصر يحقق إرادة إشباع حاجة الإنسان في الواقع حيث تجربة الماضي هي المحدد لإرادة إشباع الحاجة الحاجة التي لا تتم تلقائياً بل بالعمل . والعمل حركة تسعى إلى تحقيق فكرة مصوغة للمستقبل على أساس الإيمان بقابليتها للتحقق . مصدر هذا الإيمان إدراك لقوانين وسنن تغيير الواقع . فالبداية أن يدرك الإنسان مشكلته إدراكاً صحيحاً ، ويعرف حلها الصحيح ، ثم يعمل على تحقيقه في الواقع فينصر .. وهذا هو جدل الإنسان"  ..

ثم يضيف موضحا العلاقة بين الاجتهاد الفكري والمنهج لتحديد الثوابت : " أياً كان المنهج العلمي الذي سينتهجه الناصريون في صياغة "الناصرية" نظرية لبناء المستقبل فإنه سيبدأ "بالإنسان" ليكونوا ناصريين . هذا يميزهم على مستوى المنهج عن الماديين وعن المثاليين جميعاً . والمناهج قوانين حركة ، أو منطق ، فلا يجدي فيها التوفيق أو التلفيق . وهي قد تكون صحيحة أو خاطئة ولا تكون أبداً محتملة الصحة والخطأ في الوقت ذاته . ولكن حتى المناهج الصحيحة لا تؤدي بذاتها إلى معرفة صحيحة بالمشكلات كما لا تؤدي بذاتها إلى معرفة الحل الصحيح لتلك المشكلات ولا إلى نوع أو قوة العمل اللازم لتحويل الحلول الصحيحة إلى واقع حي . المنهج يساعد ولكنه لا يؤدي تلقائياً إلى العمل الصحيح اجتماعياً . ذلك لأن المنهج طريقة فهم للواقع وكيفية تطويره . ولكي يؤدي دوره لابد من أن يكون الواقع المراد تطويره معروفاً معرفة عملية صحيحة .. ولما كان الواقع متغيراً أبداً فستقع على عاتق الناصريين وهم يصوغون نظرية للمستقبل من تجربة الماضي أن يجتنبوا ما كان جزءاً من الماضي ثم انقضى .. واكتشاف ما يسمى "الثوابت" وهي ليست ثابتة أبداً ولكنها اكثر ثباتاً في الزمان من غيرها " ..

ولما كان لكل اجتهاد فكري بداية ، فانه يقترح على الناصريين منذ بداية الكتاب الانطلاق من الميثاق مبيّنا كل المبررات التي رأيناها في السابق وعلى رأسها بناء التنظيم ، حتى يصلوا في النهاية الى تحديد ثوابت المشروع الناصري كما يمكن أن يحدّدوها مجتمعين ، منبّها الى ضرورة تمييز ثوابت النظرية عن المتغيرات .. وكلاهما يلخصها في أمثلة مستوحاة من التجربة الناصرية ذاتها :

- فإذا كانت الظروف قد وضعت عبد الناصر موضع البطل فان ذلك قد انقضى ، وليس البطولة من الثوابت .

- وإذا كان أسلوب التغيير عن طريق ضباط القوات المسلحة أملته ظروف سياسية واجتماعية سابقة على الثورة ... فان ذلك الأسلوب ليس من الثوابت ..

- وإذا كان عبد الناصر قد جرّب عدّة أساليب للديمقراطية الشعبية بدأت بهيئة التحرير وإلغاء الأحزاب ثم بالاتحاد القومي .. فالاتحاد الاشتراكي وطليعة الاشتراكيين وفكر في الرجوع الى الأحزاب .. فان كل ذلك من المتغيرات ..

- وإذا كان الخيار الاشتراكي خيار الضرورة بعد عدة تجارب وتقلبات في ظل التنمية الرأسمالية في بلد متخلف اقتصاديا واجتماعيا .. فان على الناصريين أن يحسموا خياراتهم لتكون أكثر ثبات ..

- ثم اذا كان تعامل عبد الناصر مع الدول العربية مقيدا بموقع الرئاسة وبدستور دولته الإقليمية ومواثيق جامعة الدولة العربية ، فان ذلك أسلوبه في التعامل مع المتغيرات وعلى الناصريين أن يحدّدوا أسلوبهم الخاص في التعامل المستقبلي مع الدول العربية وحكامها ..

كل هذه المتغيرات وغيرها – في نظر عصمت سيف الدولة - ليست من ثوابت النظرية الناصرية .. لذلك لا بد أن تتحدد الثوابت التي ستميز الهوية النضالية للناصريين المتمثلة أساسا في هويتها القومية .. واذا به ينطلق من نفس الأسئلة التي طرحها سابقا على أساس من المنهج ليصل الى كل الثوابت المعروفة : فعبد الناصر كما يقول ، يؤمن بالإنسان ، وبالتالي على الناصريين أن يحددوا من هو هذا الإنسان ؟ هل هو الإنسان المصري ، أم الإفريقي أم الاسوي ... أم العربي ..؟ لكن هذه الأسئلة ليست معلقة لأن إجابة عبد الناصر قد سبقت في الممارسة أي تنظير .. وهكذا .. من تحديد الإنسان ، يتحدّد مجتمعه .. فتتحدّد مشكلاته .. وحلولها .. وهي حلول قد سبق لعبد الناصر أن صاغها في شعارات معروفة : "الحرية والاشتراكية والوحدة" .. وهذ الشعارات قد أصبحت مضامين ثابتة للهوية القومية ، على الناصريين أن يعملوا على تأملها وصياغتها في نظريتهم الناصرية ..

ثم ان عبد الناصر ، ومن خلال تجاربه الوحدوية وسعيه لتحقيق الوحدة – قد توصل الى معرفة الأسلوب العلمي لتحقيقها : "الحركة العربية الواحدة" فدعا القوى الوحدوية العربية الى تحمل مسؤولياتها في  بنائها منذ بداية الستينات .. فضلا عن الديمقراطية الاجتماعية وغيرها من القضايا المتصلة بتلك الثوابت وقد تعرّض لها في فصل سابق .. الخ ..

وهذا باختصار ما يمثل ثوابت المشروع الناصري في نظر عصمت سيف الدولة حتى يكون الناصريون متميزين عن غيرهم بنظريتهم القومية حتى لو كان غيرهم من الوحدويين أو العروبيين ..

وهل قلنا  منذ بداية الحديث غير الذي وجدناه في هذه الوثائق الثلاث التي وضعها الدكتور عصمت سيف الدولة ، وتعمّد في صياغتها ذلك الأسلوب المختصر ؟

أبدا .. فقد قلنا ان المشروع القومي للدكتور عصمت سيف الدولة يقوم على قاعدتين أساسيتين :

1 - قاعدة فكرية (نظرية) عامة وحاسمة تتطلب قولا محكما وهي بمثابة المبادئ والعقيدة القومية المعروفة بالثوابت (المنطلق القومي ، والأهداف القومية ، والطريق القومي الى دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية) ..

- فها هو الدكتور عصمت سيف الدولة يسبقها بوضع وثيقة للاعداد تقوم على تلك الخطوط العامة سمّاها في " البيان" بـ"الخط الفكري العام" .. وها هو يضع وثيقة ثانية تحوصل كل المجهود الفكري في "معطيات مبدئية" لا يمكن الالتقاء حولها لتؤدي وظيفتها الا بعد فترة من الإعداد الفكري وفرز الصفوف على أساس تلك المبادئ التي تسمّى بـ"المسلمات" ..

- وها هو يضع في وثيقة ثالثة محدّدات موضوعية لضبط المشروع الذي ظل يؤيده لأكثر من عقدين في مصر يسمّيها بـ"الثوابت" ويميّزها عما يمكن أن يختلط بها من "المتغيرات" الظرفية حتى تكون جامعة ومحققة لغايتها الإستراتيجية الأولى : قيام التنظيم الناصري .. الذي سيتولى بنفسه تحقيق غاياته ..

2 - وقاعدة حركية (عملية) يواجه من خلالها القوميون واقعهم بالممكن على أساس الموقف القومي ، وصولا الى ما يجب ان يكون حينما تتوفر الأداة القادرة على تحقيقه .. فها هو يضمّن كل المسلمات والثوابت جوانب عملية تتفرّع الى نوعين من المهام المطروحة : المهام المرحلية بأسلوبها الممكن ، والمهام الإستراتيجية التي لم يذكر تفاصيلها ، مؤكدا أنها من مهام التنظيم وحده .. وهذا تقريبا ما خلصنا اليه بشكل عام من خلال تتبع مواقفه واجتهاداته وأسلوبه الحركي في التعامل مع الواقع طوال حياته ..

بل لعل الدكتور قد عاين الكثير من التجاوزات والانحرافات في تجربة الأنصار - كما يُفهم من الرسالة لـ"أبي محمود" - ممّا دفعه الى القول الحاسم للجدل نهائيا في جمل واضحة ومختصرة قد تصل الى درجة الخروج عن كل القواعد السابقة ، قائلا لهؤلاء المغالين بأن : "كل من يقف مع دعوة التنظيم القومي كهدف مستقبلي . ويسعى لتحقيقه طبقاً للأسلوب المحدد الذي جاء في بيان طارق .. هو من أنصار الطليعة العربية والتنظيم القومي ، سواء أسمى نفسه كذلك ، أو حمل اسما آخر، أو لم يحمل اسما بالمرة . وسواء اتخذ هذا الموقف نتيجة اطلاعه على بيان طارق أو نتيجة وعيه الذاتي بضرورة أن يقوم تنظيم قومي بشكل ديمقراطي من القاعدة إلى القمة . وأن تسبقه مرحلة تحضير حقيقي تشارك فيه أوسع القواعد والأفراد المنظمين وغير المنظمين من الشباب القومي التقدمي " .. ولعل الأكثر من ذلك أن المسألة لا تتوقف على الانتماء للتنظيم الإعدادي ، بل تتعدّاه أيضا الى التنظيم القومي حيث يكون بابه مفتوحا لكل التقدميين كما قال في الفصل الخاص بالطليعة العربية من نظرية الثورة العربية : " أما التقدميون فإن الطليعة العربية مفتوحة الأبواب لكل طليعي منهم".. وقد عرفنا مفهومه للتقدمية تحديدا .. 

الفرز إذن عند الدكتور عصمت سيف الدولة ليس مهمّة أفراد يتخذونه حجّة على غيرهم بناء على مواقف انفعالية متسرّعة ، أو بناء على أحداث جارية  ومتغيرة ، وليس هو غاية في حد ذاته ، بل هو آلية من آليات البناء الجماعي القائمة على أسس موضوعية وعلمية  لتحقيق غاية مدروسة .. وهو فرز واحد متأني يُبنى على قاعدتين متصلتين ، قاعدته الأساسية الأولى أن يؤدي فكريا على المدى الاستراتيجي للحركة القومية الى ترسيخ المنطلق القومي عقيدة والطريق القومي أسلوبا وصولا لبناء آداة الثورة العربية (المرحلة الأولى للأهداف الإستراتيجية القومية) .. وتحقيقا  لأقصى غاياته : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية (المرحلة الأخيرة للأهداف الإستراتيجية القومية) ، وفيها قول فصل .. وقاعدته الأساسية الثانية أن يؤدي على المستوى العملي الى بناء ممارسة نضالية سليمة خلال كل مرحلة من مراحل النضال حتى الوصول الى تلك الغاية بأكبر قدر من النجاح ، وفيها مجالات واسعة لسعة الاجتهاد كما تقتضيه شروط  أي نجاح مطلوب .. وغايته الأولى خلال هذه المرحلة : تهيئة كل الظروف الملائمة لبناء التنظيم ..

فهل هناك من يطلب المزيد من الحديث عن الفرز ؟ .

سنرى لاحقا كيف انه يشمل به الماركسيين أيضا ..!!

(القدس - م .ع / فيفري 2018). 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق